هذا هو الصراط المستقيم
لما كان الدين مصدره الله تعالى، خالق الكون ومبتدع الحياة، حصل لدينا يقين بأن منشئه قد أنزله كاملا متجانسا ومتناسقا، لا نقص فيه ولاشك في صحة وروده، ولا غبار يحجب عن قاصده الوضوح والإبصار.
قال تعالى: " ما فرطنا في الكتاب من شيء".(1)
وقال أيضا: " ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء".(2)
قال كذلك: "اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا.(3)
وعلى ذلك فإن كل الرسالات الإلهية نزلت إلى البشر كاملة تامة غير منقوصة، ولا محتاجة إلى من يرفدها من المخلوقات يشيئ من الأشياء.
وكل من قال بأن الدين ناقص، أو أنه مخصوص بمجال دون آخر، أو أنه قاصر عن مواكبة تقدم البشر والزمن، أو أن الحكومة ليست من تفاصيله من الناحيتين التنصيصية والشرطية، فقد نسب إلى الله تعالى التقصير وسوء التقدير، وهو بالتالي قد إقتحم باب الكفر والعياذ بالله.
قد يعتقد القارئ عند هذا الحد أنني بصدد الحديث عن أعداء الإسلام والمحاربين له من خارج منظومته وما يكيدون له من مؤامرات، غير أن هذا الإعتقاد ليس طرفا من حديثنا، بقدر ما نحن بصدد تناول بعض الخطوط التي نسبت نفسها للدين الخاتم، وتبوأت داخل أسواره مكانا مرموقا، ما كان لها أن تتبوأه لو انتبه المسلمون إلى محتوى طروحاتها المتصلة بالعقيدة، فعلى سبيل المثال عندما تتبنى تلك الخطوط فكرة فصل الدين عن الحياة، بما روجته من أن النبي لا علم له بكثير من أمور الدنيا، كقصة تأبير النخل التي زخرت بها كتب المؤسسين لفكرة الفصل والتابعين لهم عليها، أو أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم غير معصوم في ما عدا الوحي، بل قد يخطئ أحيانا أثناء تبليغه، والاستدلال بتلك الروايات المدسوسة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لإنفاذ مبدإ الفصل، ندرك خطورة الموقف، وجسامة الأمر، وأن المسألة ليست في مقام الإحصاء والذكر التاريخي، بقدر ما هي عقيدة تحولت من طور الوضع والدس إلى طور التبني والتجذير، وتواصل مدها بتحريك من القوى المعادية للدين الخاتم ودعم مركز على جميع الأصعدة، وقد تكللت جهود أعداء الإسلام بالنجاح عندما أمكنها تأسيس أفكار تشبه الدين لكنها بعيدة عنه ومشوهة له، وزرعها في عقول عملائها، وتقوية شوكتهم، ثم فرضهم على المسلمين بالقوة، مثل العميل البريطاني محمد بن عبد الوهاب صاحب المذهب الملقب به الذي كان كارثة على الحجاز والعراق، وأصبح فكره المشوه والذي اعتنقه عدد من السذج والجهلة، وباء ينخر في جسد الأمة من أقصاها إلى أقصاها، عانت منه وتعاني باكستان وأفغانستان، وقد ظهرت فقاقيع آثاره في ما يسمى بفرسان الصحابة أو جيش الصحابة، وتنظيم القاعدة، الذين والحق يقال أن ما اقترفوه في حق الإسلام والمسلمين والبشرية جمعاء تحت عنوان محاربة الشرك والمشركين، يؤكد أنهم من طينة محترفي القتل المجاني والبارد، ولا علاقة لهم بالإنسانية فضلا عن التدين، وهم إلى صنف الوحوش أقرب منهم إلى الناس، والى العمالة لأعداء الإسلام أميل منهم إلى الدين الخاتم.
الاصطفاء الإلهي مبدأ قرآني ثابت لا يتغير وسمة الصراط المستقيم الكبرى
لقد جاء في عدد من الآيات القرآنية، ما يفيد بأن الله تعالى بحكم علمه بمكنون سر خلقه وإطلاعه على بواطنهم، قد اختار منهم من رأى فيه الكفاءة ليكون حجته على خلقه، فاختار الأنبياء، واصطفى منهم رسلا وفضل بعضهم على بعض، فجعل محمدا صلى الله عليه وآله وسلم أقربهم إليه وأحبهم لديه، فسماه حبيبا بعد أن سمى إبراهيم عليه السلام خليلا.
قال تعالى: " تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات".(4)
وكان لابد من أن يستتبع ذلك الدور من التنزيل والبلاغ، دورا آخر يتعلق بحفظ الشريعة، وضمان استمرار أدائها في الناس وهو متعلق قوله تعالى: " إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون".(5)، فاختار من بيوتات الأنبياء صفوة أخرى للقيام بأمر الحفظ، وجعل دور الإمامة ردءا للنبوة، ومقاما آخر من مقامات اللطف الإلهي أجراه وراثة في الصفوة الطاهرة من عباده قال تعالى: " ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا".(6)
وقال أيضا: "أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما".(7)
ولم يكن ذلك الإختيار الإلهي بأي حال من الأحوال، مقارنا أو موازيا لآراء البشر واختياراتهم، لأن الله تعالى أعلم بمخلوقاته، وأدرى بهم من أنفسهم، والدين دينه وهو المسئول عن كل متعلقاته، واختيار من يقوم مقام الإمام بعد النبي من مشمولاته تعالى، وتماما للشريعة السمحة.
من ذلك كانت مرحلة الإمامة التي عقبت مرحلة النبوة كانت وقاية للشريعة من عبث العابثين من أصحاب المصالح وعباد الدنيا، وميزة اختص بها الصراط المستقيم، وكانت أثرا واضحا وعلامة جلية اتسم بها تراثه، وضمانا لبقاء الأحكام الإلهية في إطار الحفظ الذي هو من مشمولات الباري تعالى كالنبوة، ومقابل ذلك كان الكذب على الله ورسوله منتشرا في بقية الخطوط الأخرى إلى درجة التشويه، وما عقب ذلك من نشوء عدد من الأفكار التي إختلقها أصحابها إعتمادا على تلك المفتريات.
إن منظومة الإسلام شأنها شأن من سبقها من ديانات، جاءت لتشكل نقطة تحول في حياة البشر، وترشدهم إلى طريق الله تعالى، بكل ما فيه من أبعاد مادية ومعنوية، روحية وحسية، إجتماعية وسياسية واقتصادية. وتصحيحا لوجهة الناس في توجههم إلى صراط الله المستقيم.
من الخطإ الاعتقاد بأن الله تعالى قد أوكل مهمة جمع شريعته وحفظها، وتتبع سنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم وتدوينها إلى الناس، من دون قيد ولا شرط، ولا سبيل إلى افتراض وقوع ذلك لأن المانع الذي يمكن للعقلاء تقديمه هو خاتمية الرسالات والمرسلين، يؤكدان على أن سنن الله تعالى في التبليغ والحفظ لشرائعه، لا يتغيران منذ آدم إلى نبينا صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين وعلى آلهم الطاهرين، قال تعالى: "ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له سنة الله في الذين خلوا من قبل وكان أمر الله قدرا مقدورا".(8)
فلا يوجد خلل في منظومته تعالى كلها تنظيرا وتطبيقا، وإنما طرا الخلل من تحريف الناس وعصيانهم وارتدادهم عن دينه ومنهاج أوليائه صلواته عليهم أجمعين، وادعائهم بأن لهم نصيب في القيمومة على الدين، وطرف في الحفظ والتبليغ، فخاضوا في دين الله تعالى أيما خوض، وضربوا عرض الحائط بكثير من أحكامه ترصدا وسفها.
للصراط المستقيم الذي أشار إليه المولى تعالى في كتابه العزيز، علامات تشير عليه ودلالات ترمز إليه، منها ما هو متعلق بالمبدإ العام لذلك الصراط، كالتشريع طال كل أوجه الحياة البشرية، واستمراريته في الظهور والتميز من آثاره التي لا تنمحي أبدا، ومنها ما هو متعلق بالتفاصيل المحتوية عليه، كضرورة وجود مثال يهتدي به الناس فوق ما أعطوا على المستوى النظري، لأن المثال والنموذج يبقى الأقرب للفهم والأقوى في الحجة ن والأصوب في الهداية.
لقد كانت حياة النبي صلى الله عليه وآله متعددة النشاط والاهتمام، فهو في نفس الوقت النبي المرسل، والقائد العسكري الفذ، والإمام القدوة، والمربي والمعلم والفرد المعطاء المبادر إلى كل خير قبل غيره. أعطى من نفسه المثل والنموذج، ومع ذلك لم يفهمه أكثر المحيطين به فجاءت علاقاتهم معه تذروها رياح الشك والريبة وسوء التقدير.
كان على النبي صلى الله عليه وآله أن يتدبر أمر القيادة من بعده لأن الفراغ الذي سيتركه لا يمكن لأي شخص أن يملأه، وما كان ذلك ليكون من تلقاء نفسه، كما تصوره كثير من الصحابة في ذلك العصر، ومنع من كتابة وصيته الهامة والمصيرية للأمة في أواخر حياته، ولقي أهل بيته عليهم السلام بعد وفاته ما لم يلقه أهل الذمة، فقتلوا وشردوا وألقي بهم في سجون رهيبة لا يخرج منها المعتقل حيا، ووضع من وضع منهم في أسطوانات وبني عليهم فماتوا بداخلها جوعا وعطشا وعذابا، وصارت لهم قبورا(9).
كما إن النزعة القبلية المتأصلة في أكثر الناس كان لها دور سلبي في إختيار من يقوم مقامه.
وإعتبارا لاطلاع المولى سبحانه على سرائر مخلوقاته، وجب عليه تعالى أن يسبغ لطفه على الأمة، بزيادة إيضاح المؤهل بالدور بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وإن كان ذلك الشخص ظاهرا غير خفي في الأمة، بما كان يقدمه للإسلام وأهله من تضحيات وأعمال إمتدحها الله ورسوله في غير موضع.
لست في هذه البسطة من الحديث في مقام الاستدلال على أحقية أهل البيت عليهم السلام في إمامة الأمة، واستعراض ما جاء في خصوصهم من آيات بينات وروايات بلغت حد التواتر في صحة ورودها عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، بل إنني سارد لبعض النصوص وواضع نفسي هنا موضع المتسائل عن سبب منطقي يبرر إعراض الأمة عن قيادتها الشرعية، واللائم على تفريط ما كان له أن يكون لولا تقصير الأغلبية في حق الأولى بقيادة الأمة.
هذا والآيات بينات والدلالات واضحات تشيران إلى أن من أعرض عنهم بلغوا منازل الكمال، وتنسموا علياء الرفعة، ورسخت أقدامهم في علوم الدين والحياة، وكان لهم ما لم يتأت لغيرهم، وشهد الشهود من كل جانب على أحقيتهم وتميزهم وعلو قدرهم وعظم شخصياتهم التي كانت تشكل تتابع حلقات الذرية التي بعضها من بعض.
والعجب هنا في أمة أدارت ظهرها للأحق بقيادتها ورضيت قيادة من كانوا تحت لوائه، ولم يكن لهم من ذكر يرفع مقامهم سوى ما أغدقه عليهم حزب النفاق من أكاذيب وتآويل لا تقف مع الحق، مع علمها التام ويقينها بأن لا وجه للمقارنة بين من اختاره الله تعالى وأتم فيه مواصفات وخصائص القيادة، وبين من اختارته حفنة من الناس في مكان لم يكن مؤهلا لذلك الدور.
ولم يكتف المنافقون بما حصلوا عليه من مكاسب على حساب أهل الحق من ثلة المؤمنين، بل نجحوا أيضا في تغييب قائمة المنافقين التي كانت عند حذيفة، وقلب أصحابها فيما بعد إلى مؤمنين صالحين.
وللمعترض على ما نقول نهمس في أذنه: أين أسماء المنافقين الذين حاولوا قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم في العقبة، ولماذا لم يقع تصنيف المبغضين لعلي بن أبي طالب عليه السلام ضمن المنافقين وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قوله لعلي عليه السلام: " لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق".(10) فكان مؤمنوا الصحابة يعرفون المنافقين ببغضهم لعلي عليه السلام.
لم تمر مسألة إختيار الأولى بالقيادة بعد مرحلة النبوة، في الأمم السابقة في الخفاء، وإنما كان لها مجال علني، وإعلام إتسم بحضور الجماهير، ومواكبتها لكل تفاصيل تلك الإعلانات، وفي القرآن شواهد من تلك:
الشواهد القديمة التي تحدثت عن حقيقة التعيين الإلهي
الشاهد الأول: قصة طالوت عليه السلام
قال تعالى: "ألم تر إلى الملإ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم إبعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله قال هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا قالوا ومالنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم والله عليم بالظالمين *وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا قالوا أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال قال إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم والله يؤتي ملكه من يشاء والله واسع عليم *وقال لهم نبيهم إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون تحمله الملائكة إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين".(11)
الشاهد الثاني: قصة آصف عليه السلام
قال تعالى: "قال يا أيها الملأ أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوا مسلمين* قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك وإني عليه لقوي أمين * قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك فلما رءاه مستقرا عنده قال هذا من فضل ربي ليبلوني ءأشكر أم أكفر ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربي غني كريم".(12)
الشاهد الأخير على التعيين الإلهي
قال تعالى: " إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون".(13)
حادثة الغدير:
قال الله تعالى: " يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس".(14)
لئن أخرج أكثر المؤرخين تفاصيل حادثة الغدير كل حسب هواه وفهمه وتمذهبه، فإنهم أجمعوا على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد أوقف الناس في هاجرة من النهار ليخطب فيهم، ويبلغهم أمرا لا يستوجب التأخير في تبليغه، وهو من الجسامة والخطورة بحيث حدثت وقائعه في ذلك المكان والزمان الشديدين، فخطب فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خطبة بليغة قال فيها من جملة ما قال: "من كنت مولاه فهذا علي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وأنصر من نصره وأخذل من خذله وادر الحق معه حيث دار".(15) ثم أمر الناس بمبايعة علي عليه السلام أميرا للمؤمنين وإماما للناس من بعده، ولا تزال كلمات عمر بن الخطاب تتردد بين صفحات كتب التاريخ والسيرة والتفسير عندما أقبل مبايعا: " بخ بخ لك يابن أبي طالب أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة". ولا يزال صداها يتردد في ذلك المكان، شاهدا على النكث والانقلاب والخديعة والمكر(16) ولم تشفع كثرة الحاضرين للحادثة، في انتقال ولاية الأمر إلى علي عليه السلام بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، حيث عد المؤرخون من كانوا معه في منصرفه من حجة الوداع ما بين ثمانين ألفا إلى مائة وعشرين ألفا من المسلمين (وكلهم طبعا من الصحابة)، لأن الترتيبات التي وضعها المتربصون بالسلطة وتعاقدهم عليها، وتحينهم لفرصة موت النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وانشغال أولياءه بتجهيزه، وأخذ البيعة لمغتصب الحكم بالقوة والإكراه، ومحاولة إخفاء جانب من الحقيقة تحت عنوان حروب الردة.
سبب الانحراف عن أمر الله تعالى
ومن تدبر القرآن الكريم أدرك أن مسألة الاختلاف في الدين منشأها الظلم والبغي بين بني البشر، فحصل لديه يقين بأن الأصل والحقيقة يمتلكها خط واحد، وما سواه خليط من حق وباطل مموه.
لقد أخبرنا الله تعالى عن سبب اختلاف من كان قبلنا من أهل الكتب التي نزلت قبل القرآن.
قال تعالى: " وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم.(17)
وحذر من مغبة الانزلاق في منحدر عصيان الأوامر الإلهية، المؤدي بدوره إلى البغي والظلم، فقال جل من قائل: "إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يعملون".(18)
ولما كان البغي والظلم من دعاوى الشيطان وأوليائه فإن من مقدماته الكذب وقلب الحقائق وتحريف الكلم، وهو ما استتبع ظهور موجات من المحرفين من أجل إطفاء نور الله تعالى، حرصا على الرئاسة وطلب السلطة، التي كانت هاجسا يراود عددا من الذين دخلوا الدين طمعا في نيل رتبة أو مقام.
قال تعالى: " أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال".(19)
وحكى القرآن عن هارون كيف أزيح عن الحكومة الإلهية واستضعف حتى كاد أن يقتل: "فقال ابن أم إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني".(20)
رغم أن موسى عليه السلام قد نصبه على الملإ بأمر من ربه، ورغم أن هارون كان أيضا نبيا مع أخيه، فيظهر من خلال ذلك أن الدنيا كانت ولا تزال المعبود الأكبر عند أوليائها، وكثير ما هم في المجتمعات منذ القدم إلى الآن.
ثم دعا جل اسمه إلى الاعتصام بركنه والتمسك بنهجه في عدد من الآيات.
قال تعالى: " واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا".(21)
وقال كذلك: " ومن يتولى الله ورسوله والذين آمنوا فان حزب الله هم الغالبون".(22)
وقال أيضا: " وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون".(23).
لم يكن خافيا على النبي صلى الله عليه وآله ولا غائبا عن أذهان المعاصرين له من صحابته أن يسألوا عن بعض المصطلحات التي جاء بها الوحي، منها الصراط المستقيم، والعروة الوثقى التي لا انفصام لها، وحبل الله المتين، والتي تشكل في مجموعها مقام الولاية ومنزلة القدوة بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
ولم يمضي خاتم الأنبياء والمرسلين حتى بين للناس كل ما يحتاجونه من أمور دينهم ودنياهم، باذلا من أجل ذلك كل وسعه، ومحذرا في نفس الوقت من مغبة إتباع سير من خلوا من قبلنا من الأمم الضالة، فقال صلى الله عليه وآله وسلم تفسيرا وبيانا لما نزل من الوحي في قوله تعالى: " وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل إنقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين".(24)، ومخبرا بجريان حالة الاختلاف في أمة الإسلام وإتباع سنن المحرفين من يهود ونصارى: " لتحذون حذو من خلوا من قبلكم حذو القذة بالقذة والنعل بالنعل حتى إذا لو دخلوا جحر صب لدخلتموه".(25)
وبمعنى آخر جاء حديثه صلى الله عليه وآله وسلم عن الانحراف في عموم الأمة، وابتعادها عن الصراط المستقيم الذي أراده الله تعالى سبيلا وحيدا إلى طاعته ومرضاته، مشيرا إلى أن الانحراف سيطال أغلب الأمة، وأنه لا يمكن أن تستثنى منه غير طائفة منها بقوله: " لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله".(26)
ومظهرا معالم السبيل الواجب إتباعه، في كثير من الأحاديث التي ربى أكثرها على التواتر لولا إصرار أعداء الإمامة الإلهية على منع تدوين الأحاديث للتغطية على جرمهم الخطير المتمثل في غصبهم لمنصب الإمامة.
السير على طريق الهداة من أهل البيت عليهم السلام هو الصراط المستقيم
وعلى الرغم من تصدي عدد من الصحابة لمنع النبي صلى الله عليه وآله يوم الخميس الذي سبق وفاته من كتابة وصيته، فإنه لم يمضي حتى ترك لنا فحواها قبل رحيله، وكان خطابه في حجرته ودعوته بأن يقربوا له دواة وكتفا، ليملي عليهم أمرا مهما ومصيريا بقوله: " هلم أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعدي أبدا".(27) المتأمل في حديث الثقلين يرى فيه تطابقا لما كان النبي صلى الله عليه وآله يريد كتابته للأمة، وإفصاحا عن مستمسك نجاتها، تمثل في أنه خلف في الأمة الثقلين، وهما كتاب الله تعالى وعترته أهل بيته، حيث قال: " تركت فيكم ما إن تمسكتم بهما لن تظلوا بعدي أبدا كتاب الله وعترتي أهل بيتي وانهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض".(28)
كتاب الله تعالى الأداة التشريعية التي تحتوي على كل ما يحتاجه الناس من تفاصيل حياتهم الدنيوية والأخروية، والعترة الطاهرة من أئمة أهل بيت النبوة عليهم الصلاة والسلام، الأداة التنفيذية المكلفة بحفظ التشريع ومواصلة بثه في الناس، والقدوة والمثال الحي المجسد لتفاصيل الشريعة من قيم عليا وأخلاق عظيمة.
وحيث أن الكتاب أيضا لا يفارق العترة الطاهرة عليها السلام ولا يفترق عنها، فإن للحديث إشارة إلى وجوب إتباع أئمة أهل البيت عليهم السلام، هم وحدهم من عندهم علم الكتاب كما أنزل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وغيرهم عيال عليهم وهذا ما أثبته التاريخ رغم كتاباته الأحادية، والتي لا تخلو من ميل مذهبي أو سياسي، حجب كثيرا من الحقائق.
كما إن مسألة تطبيق الأحكام الإلهية، موكلة إلى الصفوة الطاهرة في كل عصر، وتبعا لكل رسالة سبقت رسالة الإسلام، فقد آل الأمر في نهاية المطاف، وخاتمة الرسالات إلى الذين أذهب الله تعالى عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا، لهداية الناس وإرشادهم إلى طريق الله تعالى.
قال تعالى: " أولئك الذين هداهم الله فبهداهم اقتده".(29)
والناظر في سيرة الهداة من أهل البيت عليهم السلام وفق ما دونه عنهم المخالفون لهم قبل الموالين، يقف على حقيقة دور الهداية المناط بهم، والذي تلخصه وظيفة الإمامة المنصوص عليها من الله تعالى ورسوله، ولا عبرة لمن أثقل كاهله بالادعاء أن المنصب متروك للأمة تختار من تشاء، لأن الأمة خليط من أناس غير متجانس ومتفاوت في الفهم والاعتقاد، ويشترك فيه كل من المؤمن والمنافق والذي في قلبه مرض، فلا يصح تبعا لذلك أن تكون في عهدتها مسألة الإمامة إختيارا وتقلدا هذا من ناحية، والتاريخ المكتوب على علاته لم يعطنا انطباعا حسنا عن مسألة الاختيار والشورى المزعومة، لأن كل فصولها إنبنت على الغصب والقمع والغدر، والأمة لم تختر في حقيقة الأمر حاكمها، بل إن فئة من الناس هي التي أجرت إتفاقها مجرى التنفيذ في سقيفة بني ساعدة في غياب أهل الذكر، وفي مكان لم يكن مؤهلا لذلك الدور، ولا جرى من النبي صلى الله عليه وآله وسلم مجرى التربية لمعاصريه من ناحية أخرى.
إن تحامل أعداء نظرية الإمامة الإلهية على مسألة الاختيار الإلهي، ووصفه بالوراثة الغير مقبولة، قد أفضى في نهاية المطاف بالناس إلى القبول والإذعان باختيارات الناس وإمضاء وراثاتهم في الحكم، فبعد الملك الوراثي العضوض نتهيأ في العصر الحديث إلى تجربة فريدة من نوعها تتمثل في استعارة النظم الجمهورية لمبدإ الوراثة في تداول الحكم فيها بحيث قد تعمم الفكرة لتصبح الجمهوريات أيضا ذات نظم وراثية، وقد يطال ذلك مبدأ الانتخاب الذي لم يطح يوما بحاكم عربي، وتدور الأمة في حلقة مفرغة من الفعل وتكون دائما نفس النتيجة انتخب أو لا تنتخب فالحاصل واحد، والى متى الاستنكار على التعيين الإلهي، ونحن نتذوق مرارة شورى وديمقراطية البشر.
جاء في فاتحة الكتاب المسماة بالسبع المثاني، والتي افردها المولى تعالى بالذكر مقابل القرآن العظيم، نظرا لأهميتها الكبرى، قوله تعالى: " إهدنا الصراط المستقيم". ثم عرف ذلك الصراط بقوله جل من قائل: "صراط الذين أنعمت عليهم". ولنا أن نتساءل كما نتوقع تساءل كل من يهمه أمر هذا الدين عن طبيعة ومعنى قوله تعالى؟
لقد كان الوحي في خصوص بعض موارده المتعلقة بالاقتداء والهداية منصرفا إلى تركيز منهاج وأسلوب ييسران على المسلم مسألة الفهم، وتقريب الفكرة بشكل عملي واضح، يضمن عملية التواصل بين مرحلة التبليغ والإرشاد التي تختص بها مرحلة النبوة، وبين مرحلة الهداية والحفظ التي تختص بها مرحلة الإمامة، وتقي الفرد المؤمن مغبة الانحراف والسقوط في مزالق الشيطان، والانغماس في تشعبات طرقه، فلم يكن الكتاب العزيز وحده وسيلة نجاة بالنسبة لمن تعلق به، لأن النقص والخلل فينا نحن وليس في كلمات الله تعالى، وعليه كان لا بد من وجود ناطق عنه، ومبلغ لتفاصيل أحكامه، يكون مثالا يستطيع السالك إلى الله تعالى أن يفهمه بيسر، وفي نفس الوقت يكون المرجع الذي أحصى فيه الله تعالى كل تراث الوحي وميراث النبوة، قدوة يشتمل على كل الكمالات الممكنة، وله كل الإمكانات المتاحة لتنسم دفة قيادة الأمة بكل يسر.
لذلك جعل الله تعالى مسلك أهل بيت نبيه عليهم الصلاة والسلام صراطه المستقيم، وحدد معالمه بأشخاصهم وأمثلتهم ونسبه إليه بكل أبعاده من غير نبذ لشيء فيه، دالا في نفس الوقت على عصمتهم، وتميزهم عاما وعملا، وهو ما توافق على الإقرار به القاصي والداني.
وليس في بيوت الإسلام إذا بيت أفضل من بيت فاطمة وعلي والحسن والحسين والتسعة من أبناء الحسين عليهم الصلاة والسلام، هم من أنعم الله تعالى عليهم بأن أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا، وهم من سبقت لهم منه الحسنى، وهم من سماهم أبرارا، وجازاهم بما صبروا جنة وحريرا، المتأمل في سيرهم العطرة يدرك حقيقتهم، ويعي فلسفة وجودهم، ويقر لله تعالى بلطفه بالأخذ عنهم والرجوع إليهم والتمسك بهم، جزع الظالمون منهم فاستقدموهم إلى عواصم سلطانهم، ليكونوا على مرأى ومسمع، تحت رقابة مشددة، وقد تملكهم هاجس فقدان السلطة، كلما تناهى إلى أسماعهم انصراف المسلمين للأئمة أهل البيت عليهم السلام، فقتل من قتل منهم مسموما، بدافع الخوف من استفاقة المسلمين وصحوتهم من جراء ذلك الإتباع والتسليم. وإجبار الهداة من أهل البيت عليهم السلام على الانتقال بأمر من الخلفاء العباسيين إلى عواصم ملكهم ومحاولة التقرب منهم، وتقوية سلطانهم بالاستعانة بهم عارضين شتى الإغراءات ومن بينها ولاية العهد، غير أن الأئمة الهداة كانوا أبعد تفكيرا وأرجح رأيا فلم يسقطوا في فخ الظالمين وهم من كان دأبهم دائما معارضة الظالمين ومقارعتهم بكل وسيلة وتاريخهم حافل بالمواقف العزة والإباء مقابل الباطل وأهله، ولما يئس أولياء الشيطان في استمالة الصفوة الطاهرة من أهل البيت عليهم السلام، وضعوهم تحت الإقامة الجبرية، وضيقوا عليهم كل سبيل، كل ذلك لا يمكن أن يمر في الخفاء، لأنه في حد ذاته دليل على أحقية هؤلاء الأطهار في قيادة الأمة، وبقاءهم في المدينة المنورة قد يعجل بسقوط الظلم، فكانت بغداد وسامراء وطوس (مشهد حاليا) مثوى خمسة منهم، شاهدة على أن العسف والظلم الذي مورس على ذرية النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم، فاقا كل المقاييس وتجاوزا كل الحدود.
كل من وقف على سيرة الأئمة الأطهار من بيت خاتم الأنبياء صلى الله عليه وآله وسلم ورأى مختصراتها في كتب الرجال عند المخالفين لخط الإمامة الإلهية، عرف بكل يسر ودون عناء أن نور الله تعالى ودينه ومنهاجه واحد لا يتعدد، وتيقن من أن صفة الرجال، وأهل الذكر، ومن عندهم علم الكتاب، وغيرها من الصفات التي وردت في كتاب الله لا تتعداهم إلى غيرهم، ولا تأنس إلا بهم، ولا تحط رحالها إلا في أفنيتهم، ولا تليق حقائق معانيها إلا عليهم.
إدراك الحقيقة في متناولك أيها المسلم يكفي أن تبحث في كتب مذهبك الروائية
الذهبي على سبيل المثال عندما تحدث عن الإمام أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق سادس أئمة أهل البيت عليهم السلام، والمؤسس لجامعة العلوم الإسلامية في مسجد جده صلى الله عليه وآله والتي تخرج منها آلاف الفقهاء والمتكلمين من بينهم مالك بن أنس وأبي حنيفة، يقول عنه: أحد الأئمة الأعلام بر صادق كبير الشأن ن لم يحتج به البخاري، ونقل عن أبي حاتم قوله: لا يسأل عن مثله، وعن يحي بن معين قوله: ثقة مأمون ثم قال: خرج حفص بن غياث إلى عبادان وهو موضع رباط، فاجتمع إليه البصريون فقالوا: لا تحدثنا عن ثلاثة، أشعث بن عبد الملك وعمرو بن عبيد، وجعفر بن محمد.
فقال: أما أشعث فهو لكم وأنا تاركه لكم، وأما عمرو بن عبيد فأنتم أعلم (وكان بصريا معتزليا) وأما جعفر بن محمد فلو كنتم بالكوفة لأخذتم النعال المطرقة. (في إشارة إلى مقام الإمام الصادق العالي في الأمة، وكثرة تردد الناس عليه والأخذ عنه وانتشار حديثه في الآفاق، وكانت الكوفة آنذاك عاصمة العلم والعلماء، فلا تكاد تجد عالما وليس في آخر اسمه نسبته إلى الكوفة.(30)
لم يضر الإمام الصادق عليه السلام أن يتجنبه البخاري وأمثاله ممن جعل لهم الظالمون قدرا بين المسلمين، وهيئ له أدعيائهم مكانا متميزا عن بقية الحفاظ، ليس في حقيقة الأمر أهلا لتقلده، ولا كان ليحلم بمعشار قيمته، بقدر ما أضر البخاري نفسه ووضع كتابه موضع النقد والشبهة لمن أشاح عن وجهه غشاوة التعصب، لأن الساحة الإسلامية زاخرة بالكتب الروائية التي تقوق كتاب البخاري مكانة، ولكنها لم تتفيأ ظلال كتابه، وهنا لا بد لي من أن أنبه كل مؤمن ومؤمنة ممن لم يتوفق بعد لإدراك الحقيقة، أن يكون حذرا في التعامل مع الكتب المسماة بالصحاح لأنها تحتوي على كثير من السموم التي أنهكت الفكر الإسلامي عقيدة وشريعة، وطفحت بروايات إتخذها أعداء الدين مغمزا وطعنا فيه.
وعليه وجبت موازنة الروايات بعرضها على كتاب الله تعالى، ومقارنة ما صح بما لم يصح، وما أجمع عليه المسلمون بما لم يجمعوا عليه والنظر في الشاذ والمخالف للكتاب والعترة الطاهرة التي تمتلك السنة الصحيحة، والعلوم القائمة على أسس سليمة، وترك ما ثبت تأليفه ووضعه من طرف الظالمين وأدعيائهم.
قد يعتقد البعض أنني في إطار استنباط أمر جديد، بل أنا في هذا الخصوص مقر ومعترف بالنصوص التي تضافرت وتكاثرت، بحيث قطعت علي وجهتي، وألزمتني الإقرار بحقيقة عنصر الهداية في الدين، وحجية مقام الولاية الرباني بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهو مسلك الصالحين من قبل، أمثال سلمان الفارسي الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم: " سلمان منا أهل البيت".(31) وعمار بن ياسر الذي قال فيه أيضا وفي أهله: " أبشروا آل ياسر فإن موعدكم الجنة".(32) وأبو ذر الغفاري الذي قال فيه: " ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذر".(33)
والمقداد بن الأسود القائل يوم بدر مقالته التي فرح بها النبي خلاف مقالة الخليفة الأول والثاني اللتين أعرض عنهما غضبا وتأففا من منطق الانهزامية وإكبار الباطل. ومالك الأشتر وحجر بن عدي، وكل من كان لا يخاف في الله لومة لائم، كانوا كلهم أتباع الأئمة الأطهار منذ عهد النبوة، وملتزمون بنهج علي عليه السلام بإرشاد وتشجيع ومباركة وإعداد من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، بأمر من المولى سبحانه وتعالى، فشكلوا بحق نواة الإيمان وفئة حزب الرحمان، جمعنا الله تعالى وإياهم على حوض نبيه يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
علامات الصراط المستقيم
علامات صحة خط الإمامة الذي طرحه أهل البيت عليهم السلام، وتبعه عليه شيعتهم الخلص كثيرة ومتنوعة، منها ما هو متصل بصحة العقيدة، وامتناع اختراقها من طرف أعداء الإسلام من يهود ومنافقين، مقابل هشاشة معتقدات بقية الخطوط المنتسبة الإسلام،
ومنها ما هو متعلق بالشريعة وسلامة بنيانها وتوافق أركانها، مقابل اختلاف وتضارب بقية الخطوط، حتى في المحكمات التي لا تحتمل التأويل، ومنها ما يتصل بالمعاني التي كانت تجري على ألسنة الطاهرين، من أحاديث وأدعية وعلوم، وإجابات لها مضامين عالية التراكيب والمعاني، ومنها ما يرقى إلى أخلاقهم ويتصل بحياتهم العملية، وما نقله الناس عنهم من تجردهم عن الدنيا وهي في أيديهم، فأعطوها للناس إعطاء من لا يخشى الفقر والفوت، ساقوها إليهم، وساقوا أنفسهم إلى الله الواحد القهار، نذروا أنفسهم له وحده، ولم يكن لهم من هم سوى رضاه، ولم يأسفوا على شيء من حطام الدنيا، حتى الحكومة التي غصبت منهم وتلاقفها الأدعياء والطلقاء، كانوا في واقع الأمر ربابنة الأمة الحقيقيون، بما كانوا يفيضونه على الأمة من علوم ومعارف وتوجيهات، عجز الخلفاء آنذاك عنها، ولا تزال اعترافات الخلبفة الثاني تتناقلها الكتب بعد أن تناقلتها الركبان لا أبقاني الله لمعضلة ليس لها أبو الحسن". " لولا علي لهلك عمر" مؤكدة على قوله تعالى: " أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدى فما لكم كيف تحكمون".(34)
ولعل أكبر ما تميز به خط الولاية، هو اعتماده في إثبات صحة مواقفه على الدليل الذي لا يقبل الشك، من كتاب الله تعالى وسنة الطاهرين عليهم السلام، وربط الوظائف والأحكام الإلهية بالنصوص وليس بآراء الناس، فالفقيه عندهم فقيه في الخط لا يخرج عنه، ولا يكون كبقية الخطوط التي تسمت بأسماء مبتدعيها الذين تلتهم موجة من الكذب والتزوير لنصرة هذا المذهب على ذاك، واستمر التعصب للباطل داء يفتت قدرة الأمة على النهوض، ويباعد بين المسلمين ووجهتهم الصحيحة، وهي التمسك بالعترة الطاهرة عليهم السلام، لم ينقطع نفس الاجتهاد ولا سد بابه عندهم، بينما أغلق عند الآخرين وتباعدت الشقة بينهم وبين عصر تحصيل العلم والاجتهاد بحيث لم يعد هناك إمكان لربئ الصدع ورتق الهوة السحيقة التي فصلت زمن التسامح العلمي عن زمن التعصب المذهبي المريض، وبقي الفريقان فريق الإمامة الربانية يتزود من معين الوحي الذي لم يداخله شيء من هوى البشر، وبين فريق الخلافة الذي ركبه الطلقاء والمنافقون بلا تمييز فالمشكلة الكبرى عند معتنقي ذلك الخط هو اعتبارهم لصحة مسار خط الخلافة بما حواه لاعتقادهم بأن سقوطها كان في أوائل القرن العشرين وتحديدا عند سقوط الخلافة العثمانية، وهذا رأي تبناه أكثر المثقفين عندهم كجماعة حزب التحرير النبهاني، كأن متبني هذا الرأي لم يقرا تاريخ ما ظهر من أفعال وسلوك الخلفاء.
ما يميزه التشيع لأهل بيت النبي صلى الله عليه وآله بما في الكلمة من معنى، هو نتيجة الامتثال لجميع الأوامر والنواهي التي جاءت من الله تعالى، وبينها النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وبقيت في عهدة الأئمة الأطهار عليهم السلام. لأن الدين الخاتم الذي جاء به الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم جاء ليتوج مسيرة مائة وأربع وعشرون ألف نبي، وليلخص وينسخ جميع الشرائع ويجعلها في شريعته الخاتمة التي بشر بها هؤلاء جميعا.
ولأن التشيع لأهل البيت عليهم السلام لم يمر في الخفاء طيلة القرون الخمسة عشرة الماضية، فقد كان متوجا دائما بالرفض للباطل، ومقارعته بالسيف واللسان والقلم، حتى لقب الشيعة بالروافض وكانوا دائما عنوان التفاني والإخلاص للإسلام وأهله، قدموا أرواحهم في سبيل الله، وكانت ثوراتهم التي هزت عروش الظلم الأموي، وارتاعت لامتداها أنظمة البغي العباسي، القبس الذي أوصل إلينا الإسلام المحمدي صافيا بلا كدر ونقيا لا تشوبه شائبة، ولولا تضحيات أولئك المؤمنين ولإحاطة الأئمة الهداة بهم، لما قام لدعائم الدين الأصيل قائمة.
لقد كان اتباع الأئمة عليهم السلام مثالا حيا ونموذجا ناطقا عن مخزون المعصومين عليهم السلام، إن نسبتهم إلى الدين وجدتهم رؤوسه، وإن نسبتهم إلى العلوم كانوا تيجانها ودعائمها، منهم وعنهم أخذ الناس زبدتها، وشربوا مروي رحيقها، وتفيئوا ظلال أمنها، وإن نسبتهم إلى الشعراء والمتكلمين والفلاسفة وأهل اللغة، لم تخطئ في نسبتك، وإن أشرت إلى مكارم الأخلاق وحسن المعاشرة لم تخطئ قصد سبيلهم، وإن سألت عن عرفاء التوحيد، وأرباب الورع والتقوى، فلا إجابة تأتيك من غير بيوتهم، ولئن حاول أعداء خط الإمامة والإسلام المحمدي الأصيل الذي لم يخالطه هوى طاغية، ولا رأي ظالم، التكتم على حقيقة هذا الخط، وطبيعة معتنقيه فإنهم عجزوا في النهاية عن كبح جماح الحقيقة من أن تصل بركاتها إلى كل طالب، وينتشر عبقها وعبيرها في بساتين الراجين لقاء الله تعالى، وبقية أهل الورع في كل مكان.
بقي على مر التاريخ هذا الصراط المستقيم سمة أئمة أهل البيت عليهم السلام، ينتج ويعطي الخير لكل الكائنات، في حين كان غيره من السبل لا يفيض على الناس إلا شرا وعجزا وبعدا عن الله تعالى ودينه القويم، وكل إناء بما فيه يرشح. عن شئت تعلقت بسبب من أسباب التمسك به، كان الفوز حليفك حتما، وإن شئت تماديت في التجاهل والاستنكار وإتباع سبل الشيطان وأوليائه، عندها لا تلومن إلا نفسك.
____________
32- الدرجات الرفيعة في طبقات الشيعة ص256