قراءة في حديث المنزلة
حديث المنزلة من الأحاديث التي أجمع علماء الإسلام حفاظا ومؤرخين ومفسرين وفقهاء على صحته وسلامة وروده عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ناهيك على من قال بتواتره كالزبيدي والكتاني وابن عساكر والسيوطي وغيرهم، لكن الذي يدعو للغرابة والتعجب أن سوادهم مر عليه مرور الكرام، غافلين أو متغافلين عن معانيه ومقاصده، بل منهم من سعى إلى إفراغ الحديث من حقيقة معناه، ففسره بهواه تفسيرا أعرج مواكبا للسياق التاريخي للخلافة كالنووي في هامش مسلم حيث قال: والمستدل بهذا الحديث على أن الخلافة له (أي لعلي عليه السلام) بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) زائغ عن الصواب، فإن الخلافة في الأهل في حياته لا تختص الخلافة في الأمة بعد مماته (مسلم ج 7ص 120 باب فضائل الإمام علي)
الحديث:
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعلي: " أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسي إلا أنه لا نبي بعدي"(1)
الحديث في نظري وعند من لم تؤثر على عقله وفؤاده لوثة الهوى، وعمى حب الدنيا، لا يحتاج إلى بيان وتوضيح، بقدر ما يستوجب إلى إشارة وتلميح، فيكفيك أن ترجع إلى القرآن الكريم لتعلم منزلة هارون من موسى، فتدرك بها مقام علي عليه السلام من رسول الله (ص).
ماذا يقول الباري تعالى عن تلك المنزلة؟
تناولت منزلة هارون من موسى آيتان قرآنيتان هما:
1- قوله تعالى: " واجعل لي وزيرا من أهلي هارون أخي أشدد به أزري واشركه في أمري كي نسبحك كثيرا ونذكرك كثيرا إنك كنت بنا بصيرا "(2).
منازل هارون من موسى حسب ما جاء في الآية الكريمة:
أ - النسب والقرابة (هارون أخي)
ب - الوزارة (شد الازر والاشراك في الامر)
2- قوله تعالى: " إذ قال موسى لأخيه هارون أخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين "(3)
الولاية على القوم (هي ولاية صلاح هداية لا افساد وغواية)
و الولاية كما ذكرها الله تعالى في كتابه عامل هداية وإقامة للحق والعدل في مواجهة قوى الغواية والشر والإفساد في الأرض.
حديث المنزلة وتطابقه مع الإمام علي عليه السلام
إن المتأمل في سيرة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام يدرك دون عناء مدى تطابق شخصية الإمام وسيرته بحديث المنزلة، فطهارته وعلمه وشجاعته وتقواه وحلمه وزهده وتواضعه وصبره وقوته، صفات وعلامات رسمت حياته، وسجلت كل حركاته وسكناته.
كان أول من أسلم وصدق وأول من جاهد. شهد المشاهد كلها، وبذل مهجته في سبيل الله ودفاعا ونصرة لدينه ورسوله (ص) حتى أثار التساءل والعجب قاسم المسلمين قتلى المشركين في بدر حتى نادى جبريل عليه السلام في بدر: " لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي(4) ونصر دين الله في بقية الغزوات نصرا مؤزرا فماذا أقدم؟ أبدرا أم أأحد أم الخندق أم خيبر أم ذات السلاسل....
وماذا أقول فيمن أرعب اليهود وفتح وحده حصنهم الأكبر الذي إنهزم أمامه بقية الصحابة- وقد صدع بالحقيقة غير واحد من المؤرخين كابن الأثير في تاريخه- وكان له فيه ما أذهل الناس وحير عقولهم
لقد كان الإمام علي عليه السلام الوحيد الذي كان يقود الناس بحضور النبي (ص) ولم يقده أحد غير النبي (ص) وهو الوحيد الذي كان يقضي بحضور رسول الله (ص) حتى قال فيه (ص) " أقضاكم علي "(5) وهو الوحيد الذي قال فيه رسول الله " أنت مني وأنا منك "(8).
و جاء القرآن مؤيدا لذلك فقال تعالى: "... فقل تعالوا ندعوا أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم..."(9)
فكان رسول الله صلى الله عليه وآله وعلي عليه السلام نفس واحدة بمنطوق الآية.
و هو الوحيد الذي قال: سلوني قبل أن تفقدوني، وهو الوحيد الذي قيل له " لولاك لافتضحنا" وهو الوحيد الذي طلق الدنيا ثلاثا وقال: " غري غيري" وهو الوحيد الذي لم تهمه نفسه أبدا وكان همه دائما إقامة الدين والدفاع عن المظلومين والوقوف إلى جانبهم فكان مأواهم وموضع سرهم ونصرتهم.
هو صاحب عمار بن ياسر وهو صاحب أبي ذر الغفاري وهو صاحب سلمان الفارسي وهو صاحب المقداد بن الأسود الكندي وحجر بن عدي وكميل بن زياد النخعي وحذيفة بن اليمان وميثم التمار..
ومختصرا هو صاحب كل أولئك المستضعفين من مؤمني الصدر الأول من الإسلام. الذين هاجر أغلبهم هجرة واحدة كان هو قائدها ونزلت فيهم الآية العظيمة: " إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار ربنا انك من تدخل النار فقد أخزيته وما للظالمين من أنصار ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وفتوفنا مع الأبرار ربنا وآتتا ما وعدتنا على رسلك ولا تخزنا يوم القيامة انك لا تخلف الميعاد. فاستجاب لهم ربهم اني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر وأنثى بعضكم من بعض فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا لأكفرن عنهم سيئاتهم ولأدخلنهم جنات تجري م تحتها الأنهار ثوابا من عند الله والله عنده حسن الثواب" وكما حاول الطغاة والظالمون عبر التاريخ، الحط من مقامه وتغييبه عليه السلام، سعوا بالتوازي مع ذلك لطمس شخصيات أصحابه ونجبائه، الذين كانوا يدركون ما هو الإمام علي؟ وما مقامه من رسول الله صلى لله عليه وآله؟ وما قيمته عند الله تعالى؟ فكانوا تبعا له محل سخط وتتبع، لذلك فان مؤرخي السلاطين تبعا لحكامهم أهملوا شخصيات فذة، وصرفوا النظر عن قمم رواسي، لا يدرك علو هممها إلا من عرف معنى الولاية الشرعية في الإسلام الحق.
لقد كان الإمام علي عليه السلام المرجع الوحيد، والملاذ الذي عنده الخبر اليقين عن كل ما كان يلتبس على معاصريه من صحابة وتابعين، فاليه رجعت علوم الدين والدنيا، وهو الوحيد الذي نزل فيه من القرآن ما نزل كآية الولاية الأولى: "إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون".(10)
ذكر عدد من المفسرين ممن صدع بالحق، أن عليا تصدق بخاتمه في المسجد وهو راكع، خشية أن تفوته تلك الحركة النبيلة التي كان دؤوبا عليها، فنزلت فيه، وكم كانت فرحة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله عندما جاءه الوحي مزكيا ومباركا عمل علي عليه السلام، وقد منحه الباري تعالى رتبة الولاية، كما كان قد منحها لرسوله من قبل.
وهو من شملته آية التطهير وهي: " إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل لبيت ويطهركم تطهيرا".(11)
وقد أجمع الحفاظ والمفسرون والرواة إلا من شذ منهم والشاذ لا يقاس عليه، حتى أعدى أعداء الشيعة ابن تيمية صرح بأن عليا هو واحد ممن شملتهم آية التطهير.
وهو أيضا من أهل البيت الذين نزلت فيهم الآيات التالية: " إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا عينا يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا يوفون بالنذر ويخافون يوما كان شره مستطيرا * ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا * إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا * إنا نخاف من ربنا يوما عبوسا قمطريرا * فوقاهم الله شر ذلك اليوم ولقاهم نضرة وسرورا * وجزاهم بما صبروا جنة وحريرا.(12) وقصة الإطعام معروفة عند الخاص والعام.
وهو عليه السلام من الصادقين الذين أمرنا بأن نكون معهم.: "يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين"(13) وهو ممن أمرنا بالرجوع إليهم فقال: "فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون".(14)
وهو من أولي الأمر الذين أمرنا بالرد إليهم حيرتنا ولبسنا وجهلنا، فقال: "وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول والى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم.(15) فهو عليه السلام من هداة الأمة ومستحفظي دينها ولم يقل أحد سلوني قبل أن تفقدوني غيره.
وهو الوحيد الذي جرت على يديه كرامات عظيمة وظهرت منه آيات جليلة.
ولعل أروع ما قيل فيه، ما نقل عن الخليل بن أحمد الفراهيدي عندما سئل ما الدليل على إمامة أمير المؤمنين علي عليه السلام فقال: "احتياج الكل إليه واستغناؤه عن الكل دليل على إمامته". وما أروعه من استدلال لمن يدرك للحق معنى.
علي عليه السلام يتحدث عن علاقته برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
يقول الإمام علي عليه السلام في إحدى خطبة في نهج البلاغة:
ولقد علمتم موضعي من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، بالقرابة القريبة، والمنزلة الخصيصة، وضعني في حجره وأنا ولد يضمني إلى صدره، ويكنفني إلى فراشه ويمسني جسده ويشمني عرفه، وكان يمضغ الشيء ثم يلقمنيه، وما وجد لي كذبة في قول، ولا خطلة في فعل ولقد قرن الله به صلى الله عيه وآله وسلم من لدن أن كان فطيما أعظم ملك من ملائكته يسلك به طريق المكارم ومحاسن أخلاق العالم ليله ونهاره.
و لقد كنت أتبعه اتباع الفصيل أثر أمه، يرفع لي في كل يوم من أخلاقه علما، ويأمرني بالاقتداء به.
ولقد كان يجاور في كل سنة بحراء فأراه ولا يراه غيري، ولم يجمع بيت واحد يومئذ في الإسلام غير رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وخديجة وأنا ثالثهما، أرى نور الوحي والرسالة وأشم ريح النبوة، ولقد سمعت رنة الشيطان حين نزل الوحي عليه (ص) فقلت يا رسول الله ما هذه الرنة؟
فقال ذاك الشيطان أيس من عبادته، إنك تسمع ما أسمع وترى ما أرى، إلا أنك لست بنبي ولكنك وزير وانك لعلى خير.(17)
بقدر ما يتساءل المسلم منا ويستغرب عن سبب تجاهل الأمة لحديث المنزلة، وهو من الأدلة القطعية، والبراهين اليقينية لإمامة علي عليه السلام، بقدر ما يستنكر ما جاء من تآويل تافهة ومفضوحة تدفع الحق الصارخ مدافعة المجنون.
وأذكر هنا على سبيل المثال لا الحصر تأويل النووي في شرح مسلم حيث يقول: إن خلافة علي عليه السلام التي نص عليها حديث المنزلة هي في الأهل فقط(18).
و ليت شعري من أين جاء بهذه الفكرة التي هي وسوسة شيطان يريد صد الناس عن الحق، وهل تحتاج خلافة علي على الزهراء وبنيها إلى نص؟ وهل لرسول الله (ص) أهل غير الذين حددهم القرآن الكريم في آية المباهلة وآية التطهير، وكلف رسوله باظهارهم للناس، فكان يأتي باب علي وفاطمة عند كل صلاة فيناديهم للصلاة، قائلا: " الصلاة، إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا". تسعة أشهر كما في رواية أبي الحمراء، ليعلم الناس مقامهم عند الله ورسوله (ص)؟، وعملية سد الأبواب التي كانت تفتح على المسجد إلا باب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وباب علي عليه السلام.
هؤلاء فقط هم أهل البيت عليهم السلام الذين أصطفاهم الخالق تعالى واختارهم على غيرهم من قراية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والناس أجمعين.
ومن لم يعجبه ذلك وقدر أن يفعل فليعترض على من أعطاهم ذلك الحق، وميزهم بتلك الميزة وخصهم بما لم يخص به أحدا من الأمة.
الخلافة المقصود بها في منزلة علي من رسول الله (ص) هي عينها المقصود بها في منزلة هارون من موسى الخلافة في القوم، وليس في الأهل كما يرجفون، لأن الخلافة في الأهل بديهية وطبيعية لا يحتاج إلى نص.
تظلم علي عليه السلام من غصب الناس لحقه
إن المتأمل في كلام علي عليه السلام بخصوص الحكومة الإسلامية بعد الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم، يرى فيها كلام صريحا، وتظلما فصيحا وإثباتا يدفع الشك أنه صاحب حق، ولم تكن أقواله غير تثبيت ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، من أن أمر الحكومة بعده لا يعدو الأئمة من أهل بيته، وصية من الله كما هو شأن حكومات الشرائع السابقة.
يقول عليه السلام في إحدى خطبه:
"أما بعد فإن الله سبحانه بعث محمدا (ص) نذيرا للعالمين ومهيمنا على المرسلين فلما مضى عليه السلام تنازع المسلمون الأمر من بعده فوالله ما كان يلقى في روعي ولا يخطر ببالي أن العرب تزعج هذا الأمر من بعده صلى الله عليه وآله وسلم عن أهل بيته، ولا أنهم منحوه عني من بعده، فما راعني إلا إنثيال الناس على فلان يبايعونه فأمسكت يدي حتى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام يدعون إلى محق دين محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فخشيت إن لم أنصر الإسلام وأهله، أن أرى فيه ثلما، أو هدما تكون المصيبة به علي أعظم من فوت ولايتكم التي هي متاع أيام قلائل، يزول منها ما كان، كما يزول السراب أو كما يتقشع السحاب "(19)
و يقول في خطبة أخرى: " حتى إذا قبض الله رسوله (ص) رجع فريق على الأعقاب، وغالبتهم السبل، واتكلوا على الولائج ووصلوا غير الرحم، وهجروا السبب الذي أمروا بمودته، ونقلوا البناء عن أساسه فبنوه في غير موضعه، معادن كل خطيئة وأبواب كل ضارب في غمرة، قد ماروا في الحيرة وذهلوا في السكرة، على سنة من آل فرعون، من منقطع إلى الدنيا راكن، أو مفارق للدين مباين.(20)
وقال أيضا: " أما والله لقد تقمصها ابن أبي قحافة وإنه ليعلم أن محلي منها محل القطب من الرحى ينحدر عنى السيل ولا يرقى إلي الطير فسدلت دونها ثوبا وطويت عنها كشحا وطفقت أرتاي بين أن أصول بيد جذاء، أو أصبر على طخية عمياء، يهرم فيها الكبير ويشيب فيها الصغير، ويكدح فيها مؤمن حتى يلقى ربه، فرأيت أن الصبر على هاتا أحجي، فصبرت وفي العين قذى وفي الحلق شجى أرى تراثي نهبا.(21)
و يقول في أخرى: " وقال قائل إنك على هذا الأمر يا ابن أبي طالب لحريص، فقلت بل أنتم والله لأحرص وأبعد، وأنا أخص وأقرب وإنما طلبت حقا لي، أنتم تحولون بيني وبينه، وتضربون وجهي دونه، فلما قرعت بالحجة في الملا الحاضرين هب لا يدري ما يجيبني به.
اللهم إني أستعينك على قريش ومن أعانهم، فانهم قطعوا رحمي، وصغروا عظيم منزلتي، وأجمعوا على منازعتي أمرا هو لي".(22)
لقد أظهر حديث المنزلة بما لا يدع مجالا للشك والتأويل، أن مسألة الولاية العظمى التي كان رسول الله متقلدها في حياته غير منتهية بوفاته، وإنما هي مستمرة باستمرار الشريعة والدين.
وليس هناك شيء أصلح لأحكام الله تعالى من تواجد قائم عليها يقوم مقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الحفظ والهداية وإقامة معالم الدين، وتلك سنة إلهية قديمة قدم رسالات السماء.
غير أنه قد يبادر إلى الذهن سؤال يقول: طالما أن الاستخلاف يندرج ضمن إطار الاصطفاء الإلهي لماذا ينكره عامة المسلمين؟ ويتشبثون بعدم وقوعه؟ وما الفائدة منه الآن؟ ألا تسهم إثارة هذه المسألة في تشتيت المسلمين في وقت نحن في أمس الحاجة إلى الوحدة والألفة ورص الصفوف؟
و للجواب على ذلك نقول إن عامة المسلمين لم ينكروا نصوص الاصطفاء التي ذكرها الوحي بخصوص إمامة الأئمة من أهل البيت عليهم السلام فهي موجودة في أمهات كتبهم ورؤوس مراجعهم، إنما المشكلة الواقعة تتمثل في تأويل الأحاديث والنصوص، تأويلا يصب في إطار تحويل مسار الحكومة الإسلامية المقامة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، ولو أنهم أقروا بشروط الإمامة كما جاءت في كتاب الله تعالى، وأحاديث رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وكما أذعن لها شيعة أهل البيت عليهم السلام، لوجب عليهم إعادة الحق إلى أهله والرجوع من مسار السقيفة إلى إمامة الهداة.
قال تعالى: " إنما أنت منذر ولكل قوم هاد"
لما نزلت هذه الآية قال من حضر مجلس رسول الله صلى الله عيه وآله وسلم، قد علمنا المنذر يا رسول الله فمن الهادي؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم، أنا المنذر وعلى الهادي، وبك يا علي يهتدي المهتدون".(23)
أما وجه الفائدة من معرفة أئمة الحق موالاتهم؟ فلأن المسألة متعلقة بالله تعالى لأن الإمامة وسيلة الخلق إلى الله تعالى، وجنة من الزيغ والضلال، هي السراط المستقيم وحبل الله المتين وعروته الوثقى التي لا انفصام لها، قيمومة على الدين وحاكمة بالعدل والقسط، لها مرتبة الشهادة على الأمة يوم القيامة.
قال تعالى: " يوم ندعوا كل أناس بإمامهم". واتصالها بعالم لغيب متحقق لحاجة الخلق دائما إلى المدد الغيبي.
قال تعالى: "تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر..." وعليه فان الفائدة من الإمام باقية ببقاء هذا الدين متجاوزة عالم الفناء إلى عالم البقاء.
هكذا إذا نخلص إلى القول بأن مسألة الحاكمية بعد النبي صلى الله عليه وآله لم تترك للناس تفويضا ولا تخييرا لاعتبارات عديدة منها ما هو متعلق بالناس كحداثة عهد أكثرهم بالدين وعدم استيعاب القدماء له فضلا عن المستجدين، ومنها ما هو متعلق بالشريعة لتمامها وكمالها، وهما صفتان غير متحققتان في حال خلو مقام الحاكمية من صاحبه.
فكان حديث المنزلة استخلافا صريحا، ونصا لا يشوبه شك في أن الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم قد نصب عليا إماما هاديا للناس بعد أن أعده لتلك المهمة فشمله برعايته الخاصة وتعليمه الدائم وأعطاه من الاهتمام والعناية ما لم يعطه أحدا، وكل ذلك كان بأمر الله تعالى وتأييد منه.
لذلك لم يكن حديث المنزلة الذي صدع به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلا نتيجة نهائية لاعداده وشهادة لا يضاهيها شيئ لمقام لا يدركه إلا من صفى قلبه وطابت سريرته.
ومنزلة علي عليه السلام من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، هي حصيلة صنعها ذلك آلاما الفذ العظيم، وعقد لواءها بقلبه وعقله وسقاها بعرق جهاده ودموع خشيته من الله تعالى وعمله الصالح فإن لم يقبله المستكبرون فقد اعتنقه المؤمنون والمستضعفون، علي هو الولي المرتضى من بعد أخيه المصطفى مثلما كان هارون لموسى، ولا التفات لمن يريد طمس هذه المسألة لأنه لا يرهان لديه سوى التأويل الخائب، الذي لا تقوم له حجة والسلام على من إتبع الهدى الذي لا تكون إلا من الإمام المفترض الطاعة من الله تعالى.
ودعهم يلوذون بأن للولاية معان عدة فيتيهون في أرجائها دفعا للحق.. وليس بعد الحق إلا الضلال.
و بعد إستعرضنا لحديث المنزلة يحق لنا أن نطرح سؤالا يقول هل للدين الإسلامي نظام حكم؟ وإذا كان كذلك فكيف يكون؟ "
و للإجابة نقول، إن شريعة الباري سبحانه وتعالى بشقيها الأساسين (الكتاب والسنة) لم يهملا مسألة الحكومة، بل أولياها حيزا من تشريعاتهما، ففي الكتاب العزيز توالت الآيات الكريمة التي تحدث عن الحكم مصدرا ومآلا، حاثة على العمل بها والأخذ بمضامينها، ولم يكن غائبا عن أذهان الناس وقتها أن يسألوا عن نمط الحكم في الإسلام، ولا كان ذلك خارجا عن تبليغ النبي الأعظم صلى الله عليه وآله، وكما كان صلى الله عليه وآله وسلم مكلفا ببيان كيفية العبادات، من طهارة وصلاة وزكاة وصوم وحج لاجمال ورود الآيات بخصوصها، كان كذلك مكلفا ببيان شكل الحكومة ونوعية الحكم قانونا وتأهيلا وتربية.
إن نظام الحكم في الإسلام يعود بالأساس إلى الله تعالى لأنه مصدر الوجود والنظام، وإليه يرجع تجديد صيغته وأحكامه قال تعالى: " إن الحكم إلا لله " وقال أيضا: ألا له الحكم "
و باعتبار المولى سبحانه وتعالى مرجع التشريع، فان الرسول الأعظم (ص) مناط بمرجعية التبليغ والبيان والتأسيس، وأولوا الأمر موكولون بمرجعية الحفظ والتثبيت.
إن نظام الحكم الإلهي غير قابل للتغيير في أسسه، على مر الأزمنة والعصور، سنة الله في الذين خلوا من قبل..."
قد تتغير الأسماء دون الوظيفة، كما في الآية التالية: "إنا نحن نزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيبون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما أستحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء".(25)
وعلى ذلك تكون أدوار الحاكمية مرتبة حسب ورودها في الآية ثلاثة أدوار:
الدور الأول:
الأنبياء والرسل أئمة عصورهم زيادة على دور النبوة كما في قوله تعالى لإبراهيم: "اني جاعلك للناس إماما". يمارسون في نفس الوقت دور التبليغ ودور الحكم.
الدور الثاني:
الأئمة الهداة بأمر الله تعالى، يمارسون دور الحفظ والحكومة والشهادة في الآخرة: "بما أستحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء". "ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا".
الدور الثالث:
العلماء وهم الأمناء من بعد الأئمة، على تواصل الحاكمية الإلهية بما اكتسبوه من علوم إلهية صحيحة، ومارسوها وعيا وتطبيقا.
هذا من الوجهة التشريعية أما من الوجهة العقلية فان المنطق يقول باستحالة إهمال مسألة الحكومة وتركها للناس يفعلون بها ما يريدون لأسباب هي:
1- إن إهمال أمر لحكومة من قبل الباري تعالى هو تفريط في جزء تشريعي هام يتوقف عليه مصير الشريعة كلها.
2- اللطف الإلهي الواجب على الله تعالى في بيان كل ما من شأنه حسم مدة الخلاف والنزاع، وعلمه تعالى ببواطن الناس مدعاة إلى اختيار الأصلح للقيام على أمر دينه.
3- حرص النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ورأفته بالأمة يدعوانه إلى النصح لها فوق ما كان يقدمه من بيانات وإيضاحات.
4- دأب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، على تعيين من يقوم مقامه عند خروجه للغزو، وذلك التعيين لم يكن بمنآ ى عن الوحي فالتعيين في جزء زمني، يقتضي التعيين في جزء اكبر.
5- إن الاختيار الإلهي لمنصب الإمامة لا يمكن مقارنته باختيارات الناس، ولا يمكن اعتباره ملكا بالمعنى السائد الآن، لأن الله تعالى لا يفعل إلا الأصلح بينما تكون غالب اختيارات الناس خاطئة لقصورها عن إدراك حقائق بعضها وخباياها الباطنة التي لا يعلمها إلا الله والدليل ما نحن فيه الآن من انحراف للبشرية عن المسار الصحيح للحاكمية قد أدي إلى حيرة وتيه في إدراك النمط الأمثل لبلوغ العدل ونشر السلم والتقوى بين الناس.
6- الحكومة لابد أن تكون من جنس التشريع، وعدمها نقص والنقص غير وارد، لان الدين كامل بالنص القرآني.
7- جريان سنة الاختيار الإلهي في الشرائع السابقة ينسحب على الشريعة لخاتمة.
8- إصرار أتباع مدرسة السقيفة على عدم وجود نص رغم تظافر عدد منها، وحملهم لمعاني المنزلة والمولى على غير محملهما يؤكدان على مراء لا طائل من ورائه واستماتة في مواجهة الحق، بضنون وتأويلات لا تقوى على الوقوف أمام الحجج الدامغة، والبراهين التي لا يرقى إليها شك. متابعة لمواقف الظالمين والطغاة الذين كان دأبهم تظليل الناس وابعادهم عن الإسلام الحق، لانه لا يمكن أن يكون الطاغية والظالم على الحق، مدافعا عن تشريع يستهدفه بالذات.
9- إن معالم الحكومة الإلهية لابد أن تكون مبينة ومحددة بشروط لان الشورى وحدها غير كافية في تحديد الأصلح.
10- إن مبدأ الشورى الذي رفعه المعارضون للنص لا يمكن اعتماده لمخالفته النصوص القرآنية والروائية من جهة، ولبطلان الشورى مضمونا لعدم قيامها على مدى عام وشامل، ولو حضر الغائبون عنها بحكم الواجب الأكيد في تجهيز رسول الله صلى اله عليه وآله وسلم ودفنه، لما عدلوا بها إلى غيرهم.
____________
5– فتح الباري في شرح صحيح البخاري
6- فتح الباري في شرح (صحيح) البخاري لابن حجر
7– سورة آل عمران الآية61
8– نهج البلاغة للإمام علي عليه السلام.
12– سورة الدهر أو الإنسان الآية 5 /22
14- سورة النحل الآية 43 والأنبياء الآية 7
16– نهج البلاغة للإمام علي عليه السلام.
17- نهج البلاغة للإمام علي عليه السلام.
18– النووي بهامش مسلم باب فضائل الإمام علي عليه السلام
19– تفسير ابن كثير الآية – تفسير الطبري الآية.
24- نهج البلاغة الخطبة الشقشقية (الثالثة) ج1 ص25
26– ت. الطبري ج13 ص108 /ت. الرازي ج5ص270 /ت. ابن كثير ج2 ص502 /ت. الشوكاني ج 3 ص 70 /مستدرك الحاكم ج3 ص 129.
27– سورة الإسراء الآية 71
28– سورة القدر الآية 4
29– سورة الأنعام الآية 57 يوسف الآية 40 –سورة الأنعام الآية63
30– سورة المائدة الآية44
31– سورة البقرة الآية 124
32– سورة فاطر الآية 32