أقول: لو أنّك وصاحبك أبا بكر وأنتما على منصّة الخلافة جمعتما السنّة النبويّة وحفظتماها في كتاب خاصّ بها لوفّرتم على أنفسكم وعلى الأُمّة الخير العميم، ولما دخل في السنّة النبويّة ما ليس منها، ولما احتجتم إلى الاجتهاد مقابل النصوص الصريحة، ولكان الإسلام بكتابه وسنّته واحداً أُمّة وعقيدة.
وأمّا ما فعلتموه من جمع السنن والأحاديث، وإحراقها ومنع روايتها ونقلها، وحبس من تخافون عدم امتثاله لأمركم، فقد جرّ إلى هذه الأُمّة الويلات والاختلاف.
وإنّ إزاحة أمر الخلافة عن صاحبها، وضربكم بعرض الحائط الآيات والأحاديث الواردة فيه وفي العترة الطاهرة من أهل بيت النبوّة، ومن أجل هذه اضطررتم إلى أن توحّدوا صفوفكم وتتحزّبوا أنتم والطلقاء من قريش ومن بني أُمّية لتبعدوا هذا الأمر عن أهله، ممّا أسس لوصول بني أُميّة إلى سدّة الحكم، وعزل أهل البيت عن هذا الأمر في البداية وقتلهم وتشريدهم بعد ذلك.
____________
1- الطبقات الكبرى لابن سعد 5: 188، تاريخ الإسلام للذهبي 7: 221.
س14 ـ وهل اكتفيتَ بذلك، أم كان لك تصرّف آخر؟
ج ـ لمّا أعيتني الحيلة بالرغم من تهديدي ووعيدي وحرقي لكتب الأحاديث، بقي بعض الصحابة يُحدّثون بما سمعوا من رسول الله عندما يلتقون في أسفارهم خارج المدينة بالناس الذين يسألونهم عمّا سمعوه من رسول الله، فرأيت أن أحبس هؤلاء النفر في المدينة وضربت عليهم حصاراً وإقامة جبريّة(1).
س15 ـ وهل أدّى الحجز ومنع الحديث من كفّ الناس عن التحدّث بحديث رسول الله؟
ج ـ إنّ منعي لرواية الحديث لم يكن ليعطي النتيجة المطلوبة، إلاّ إذا استعضت، عن رواية الحديث بشيء آخر يشغل المسلمين عنه وخاصّة عند اجتماعهم بعد الصلاة، فإنّهم كانوا يتذاكرون ويتحدّثون
____________
1- توضيح: وروى ابن إسحاق عن عبدالرحمن بن عوف قال: "والله ما مات عمر حتى بعث إلى أصحاب رسول الله من الآفاق: عبدالله بن حذيفة وأبي الدرداء وأبي ذر الغفاري وعقبة بن عامر فقال: ما هذه الأحاديث التي أفشيتم عن رسول الله في الآفاق.
قالوا: تنهانا؟
قال: لا، أقيموا عندي، لا والله لا تفارقوني ما عشت" كنز العمال 10: 293، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر 40: 500.
____________
1- تميم بن أوس الداري: كان راهباً نصرانياً، قدم المدينة بعد غزوة تبوك وأظهر الإسلام، وفي عصر الخليفة الثاني عمر قرّبه وألحقه بأهل بدر في العطاء، وخصص له ساعة في كل أسبوع يتحدّث فيها قبل الصلاة من يوم الجمعة بمسجد الرسول، وجعلها عثمان على عهده ساعتين في يومين، وقد بلغ من ثقة الخليفة عمر به أن عيّنه إماماً يصلّي بالناس صلاة التراويح. وبقي تميم الدارمي في المدينة إلى أن قتل عثمان، فانتقل إلى الشام وعاش في كنف معاوية ومات سنة أربعين للهجرة، روى عنه جماعة من الصحابة أمثال: أنس بن مالك، وأبي هريرة، ومعاوية (معالم المدرستين، مرتضى العسكري 2: 48 ـ 49).
2- كعب الأحبار: كان من أحبار اليهود، أظهر الإسلام على عهد الخليفة عمر ابن الخطّاب، وطلب من عمر البقاء في المدينة، وبواسطته وأمثاله تسرّبت إلى الحديث طائفة من أقاصيص اليهود والإسرائيليات، وكان بعض الصحابة يسألونه عن مبدأ الخلق وقضايا المعاد وتفسير القرآن: وروى عنه أنس بن مالك، وأبو هريرة، ومعاوية، وعبدالله بن عمر، وعبدالله بن الزبير، وأسلم مولى عمر، وعطاء بن يسار، وقد روى عنه الترمذي وأبو داوود والنسائي (أضواء على السنّة المحمديّة، محمود أبو رية: 146).
3- وهب بن منبه: كان فارسي الأصل، هاجر جده إلى اليمن، وهناك أخذ آباؤه آداب اليهود وتقاليدهم، وقيل: إنّ والده منبهاً قد أسلم في اليمن، وإنّ ابنه وهباً كان يختلف من بعده إلى بلاده بعد فتحها.
وقال الذهبي في تذكرة الحفاظ: "إنّه عالم أهل اليمن، ولد سنة 34هـ وتوفي بصنعاء سنة 110هـ وقيل سنة 116هـ، أدرك بعض الصحابة وروى عنهم، كما روى عنه كثير من الصحابة منهم: أبو هريرة، وعبدالله بن عمر ومن أقواله: أنّي قرأت من كتب الله 72 كتاباً" أضواء على السنّة المحمديّة، محمود أبو رية: 149 ـ 150.
ج ـ من كان يخرج من المدينة للغزو كنت أوصيه بعدم الحديث عن رسول الله والاكتفاء بكتاب الله.
فمثلا بعثت بعثاً فيه قرظة بن كعب إلى الكوفة، فشيعتهم فمشيت معهم إلى موضع حراء، وقلت لهم: أتدرون لم مشيت معكم؟
قالوا: لحقّ صحبة رسول الله، ولحقّ الأنصار.
فقلت: لكنّي مشيت معكم لحديث أردت أن أحدّثكم به، فأردت أن تحفظوه لممشاي معكم، إنّكم تقدمون على قوم للقرآن في صدورهم أزيز كأزير المرجل، فإذا رأوكم مدّوا إليكم أعناقهم، وقالوا: أصحاب محمّد، فأقلوا الرواية عن رسول الله ثمّ أنا شريككم.
فلما قدم قرظة بن كعب على القوم، قالوا: حدّثنا.
فهذا كان لمن خرج، ومن لم يستطع أن يحفظ لسانه ويطيع أمري أمرته بملازمة المدينة كما ذكرت لك آنفاً.
س17 ـ هل تعلم أنّ ما قمتم به أنت وأبو بكر من إحراق ما كتب من الحديث، ومنع روايته، فبسببه انتشرت بعد ذلك الكثير من الأحاديث الموضوعة المفتعلة على رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وذلك كان له التأثير السلبي على حياة المسلمين في معرفة أحكام دينهم. وقد اضطررتم للاجتهاد مقابل النصوص الصريحة، وبذلك عمّ الخلاف ونشأت الحركات والمذاهب الإسلامية؟!
وقد جمعت لك عدّة اجتهادات مقابل النصوص الصريحة، وقد كنت تجتهد برأيك، ثمّ تجتهد بما يخالفه، فلماذا هذا، وهل كان عن قصد أم ماذا؟
فمن اجتهاداتك:
ـ أنّك أبطلت التيمّم لمن أجنب ولم يجد ماءً(2).
____________
1- سنن ابن ماجه 1: 12، تذكرة الحفاظ للذهبي 1: 7.
2- أخرج مسلم في صحيحه 1: 193، كتاب الحيض، باب التيمم، أنّ رجلا أتى عمر فقال: إنّي أجنبت فلم أجد ماء.
فقال: لا تصلِّ.
فقال عمّار بن ياسر: أما تذكر يا أمير المؤمنين إذ أنا وأنت في سرية فأجنبنا فلم نجد ماءً فأمّا أنت فلم تصل، وأمّا أنا فتمعكت في التراب وصلّيت.
فقال النبيّ (صلى الله عليه وآله): "إنّما كان يكفيك أن تضرب بيديك الأرض ثمّ تمسح بهما وجهك وكفيك".
فقال عمر: اتق الله يا عمّار!
قال عمّار: إن شئت لم أُحدث به.
ولكنّك أبطلت العطاء المفروض في خلافتك واجتهدت مقابل النصّ، وقلت لهم: لا حاجة لنا بكم فقد أعزّ الله الإسلام وأغنى عنكم.
وقد ذكرنا أنّ بعض المؤلّفة قلوبهم أتوا أبا بكر وطالبوه بسهمهم، فكتب لهم أبو بكر، ولكن عندما جاؤوا إليك مزّقت الكتاب، فرجعوا إلى أبي بكر، فقالوا: أأنت الخليفة أم هو؟
فقال: بل هو إن شاء.
____________
1- التوبة: 60.
ـ وقد بدّلت حكم الله في شأن الطلاق برأيك واجتهادك، حيث جعلت الزوجة تحرم على زوجها إذا ذكر لفظ الطلاق ثلاث مرات في موقف واحد، مع أنّه كان على عهد الرسول (صلى الله عليه وآله) وأبي بكر يحسب طلقة واحدة(2).
____________
1- فقه السنّة للسيّد سابق 1: 389، وفي الجوهرة النيرة في الفقه الحنفي 1: 164 نقلا عن الفصول المهمّة للسيّد شرف الدين: 88.
2- جاء في صحيح مسلم 4: 183، كتاب الطلاق باب الطلاق الثلاث، عن ابن عباس قال: "كان الطلاق على عهد رسول الله وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاثة واحدة.
فقال عمر بن الخطاب: إنّ الناس استعجلوا في أمر قد كانت لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم، فأمضاه عليهم".
وقد خالفت أيضاً في المتعتين متعة النساء ومتعة الحج وصلاة التراويح.
صلاة التراويح: وهي نافلة شهر رمضان جماعة، ولا يرتاب أحد في أنّها لم تكن أيام رسول الله (صلى الله عليه وآله) ولا في خلافة أبي بكر، وإنّما سنّها الخليفة الثاني عمر بن الخطاب سنة 14هـ كما نصّ على ذلك البخاري 2: 252، في كتاب صلاة التراويح من صحيحه، قال: إن رسول الله قال: "من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدّم من ذنبه.
قال: فتوفّي رسول الله والأمر على ذلك، ثمّ كان الأمر على ذلك في خلافة أبي بكر وصدراً من خلافة عمر".
=>
____________
<=
وأخرج البخاري 2: 252، كتاب صلاة التراويح أيضاً عن عبدالرحمن بن عبدالقادري، قال: خرجت مع عمر ليلة رمضان إلى المسجد، فإذا الناس أوزاع متفرّقون، فقال عمر: إنّي أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد كان أمثل، ثمّ عزم فجمعهم على أُبي بن كعب.
قال: ثمّ خرجت معه ليلة أُخرى والناس يصلون بصلاة قارئهم.
قال عمر: نعم البدعة هذه"!
قال القسطلاني في إرشاد الساري 4: 656: "سمّاها بدعة; لأنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) لم يسنّ لهم الاجتماع لها، ولا كانت في زمن الصديق، ولا أوّل الليل، ولا كلّ ليلة ولا هذا العدد"!
ـ إسقاط (حيّ على خير العمل) من الأذان: قال الشوكاني: "وقد صح لنا أنّ (حي على خير العمل) كانت على عهد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يؤذّن بها، ولم تطرح إلاّ في زمن عمر"، نيل الأوطار 2: 19.
وقد جعلت كلمة: (الصلاة خير من النوم) في الأذان، جاء في الموطأ لمالك: أنّ المؤذّن جاء عمر بن الخطّاب يؤذنه لصلاة الصبح، فوجده نائماً فقال المؤذن: الصلاة خير من النوم، فأمره عمر أن يجعلها في نداء الصبح" موطأ مالك 1: 72.
وأمّا ما يدّعى من أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) أمر بلالا أن يقول: (الصلاة خير من النوم) في الأذان فليس إلاّ تغطية لما فعله عمر بن الخطّاب من البدعة; لأنّ الذي روى عن بلال ذلك هو عبدالرحمن بن أبي ليلى، وهذا غير صحيح، لأنّ ولادة عبدالرحمن كانت سنة 17هـ، وتوفي سنة 84هـ، ووفاة بلال سنة 20هـ فكيف يصحّ أن يروي عن بلال وعمره ثلاث سنوات؟ تهذيب الأسماء
=>
____________
<=
واللغات للنووي 1: 283.
وادّعى أيضاً أن بلالا أتى النبيّ (صلى الله عليه وآله) فوجده راقداً، فقال: (الصلاة خير من النوم) فقال النبيّ (صلى الله عليه وآله): ما أحسن هذا، أجعله في أذانك، وهذه الدعوة ليست إلاّ تغطية للباطل، لأنّ الراوي هو عبدالرحمن بن زيد بن أسلم المتوفّى سنة 282هـ عن أبيه زيد بن أسلم، وعبدالرحمن ضعيف الحديث لا يعتمد عليه كما نصّ على ذلك أحمد وابن المديني والنسائي وغيرهم. هذا من جهة.
ومن جهة أُخرى، فإنّ زيداً لم يسمع من بلال; لأنّ ولادة زيد كانت سنة 66هـ ووفاته سنة 136هـ.
فكيف يسمع من بلال وهو لم يولد إلاّ بعد وفاة بلال بستّ وأربعين سنة؟ سيرة أعلام النبلاء للذهبي 12: 59، تذكرة الحفاظ للذهبي 1: 133.
فهذه الكلمة كانت في أيام عمر وهي من بدع عمر بن الخطّاب، وبدون شكّ أن الأذان من فصوله: (حيّ على خير العمل...) قد كان بأمر من الله ووحي أنزله على نبيّه.
فقد أسقطها عمر بن الخطاب، وتبعه في إسقاطها عامّة من تأخّر من المسلمين، مع علمهم بأنّ عمر ليس نبيّاً، كي يكون إسقاطه لها بوحي من الله، نعم أتباع أهل البيت جعلوا (حيّ على خير العمل) شعاراً لهم، فهم في الحقيقة أتباع الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله)، حيث لم يرضَ أئمتهم تغيير حكم من أحكام الشريعة الغراء.
ـ متعة الحج والنساء: وقد نهى عمر بن الخطاب عنها بعد أن أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله) بها عن الله عزّ وجلّ، وهي ممّا نصّ الذكر الحكيم.
قال تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ
=>
____________
<=
فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيّام فِي الْحَجِّ...} البقرة: 196.
أمّا صفة التمتّع بالعمرة إلى الحجّ، فهي أن ينشئ المتمتّع بها إحرامه في أشهر الحجّ ـ وهي شوال وذو القعدة وذو الحجّة ـ من الميقات فيأتي مكّة ويطوف بالبيت، ثمّ يسعى بين الصفا والمروة، ثمّ يقصّر ويحلّ من إحرامه فيقيم بعد ذلك حلالا، حتى ينشئ في تلك السنة نفسها إحراماً آخر للحجّ من مكّة، والأفضل من المسجد، ويخرج إلى عرفات، ثمّ يفيض إلى المشعر الحرام، ثمّ يأتي بأعمال الحجّ على ما هو مبيّن في الفقه، وسمّي هذا القسم من الحجّ بحجّ التمتّع، لما فيه من المتعة، أي اللذة بإباحة محظورات الإحرام في المدّة المتخلّلة بين الإحرامين، هذا ما كرهه عمر، وقد أنكر عليه في هذا أهل البيت كافة، ولم يقرّه عليه كثير من أعلام الصحابة، وأخبارهم في ذلك متواترة، وحسبك منها ما أخرجه مسلم في كتاب الحجّ باب جواز التمتّع من الحجّ عن شقيق، قال: "كان عثمان ينهى عن المتعة، وكان عليّ يأمر بها.
قال عليّ: "يا عثمان إنّا تمتّعنا على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) " صحيح مسلم 4: 46، كتاب الحجّ، باب جواز التمتّع.
وحرّم عمر متعة النساء وقد شرّعها الله ورسوله وعمل بها المسلمون على عهده حتى لحق بالرفيق الأعلى، ثمّ تمتّع الصحابة على عهد أبي بكر وصدر من خلافة عمر، ثمّ قام عمر على المنبر وقال: "متعتان كانتا على عهد رسول الله وأنا أنهى عنهما، وأُعاقب عليهما. متعة النساء ومتعة الحجّ" التمهيد لابن عبد البرّ 10: 113، تذكرة الحفاظ للذهبي 1: 366.
وحسبك من الكتاب في إباحة متعة النساء قوله تعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً} النساء: 24.
=>
____________
<=
وقد أجمعت الأُمّة الإسلاميّة على أصل مشروعيّة متعة النساء بالآية المذكورة والسنّة النبويّة، وما قولهم بنسخها إلاّ تغطية لما أحدثه عمر بن الخطاب من البدعة.
ثم أكبر دليل على حليتها هو تحريم عمر لها بقوله:
"متعتان كانتا على عهد رسول الله..." فهو يؤكّد على مشروعيّتها، وأنّها كانت على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وأنّه هو من يحرّمها.
وقد ذكر القوشجي ـ وهو من متكلّمة الأشاعرة ـ نص عمر بن الخطّاب وهو على المنبر: "ثلاثة كنَّ على عهد رسول الله وأنّي أنهى عنهن وأحرمهنّ وأعاقب عليهن: متعة النساء، ومتعة الحجّ وحيّ على خير العمل" شرح تجريد الاعتقاد: 484.
ثمّ اعتذر القوشجي: "بأنّه (أي عمر) قد اجتهد في ذلك"!!
وهذا الاعتذار ليس إلاّ تغطية لبدعة ببدعة مثلها; لأنّ الاجتهاد إنّما هو استنباط الأحكام من الأدلّة الشرعيّة، وليس معنى الاجتهاد تحريم ما هو معلوم الحلّية!!
هذا غيض من فيض من اجتهادات عمر مقابل النصوص.
1- صحيح البخاري 1: 31، كتاب العلم باب التناوب في العلم.
فقلت له: ما حملك على ما صنعت؟
فقال: إنّا كنا نؤمر بذلك.
فقلت له: فائتني على هذا بينة أو لأوجعن ظهرك وبطنك أو تأتي بمن يشهد لك على ذلك، فانطلق إلى مجلس الأنصار، فقالوا: لا يشهد إلاّ أصغرنا.
فقام أبو سعيد الخدري فقال: قد كنّا نؤمر بهذا.
فقلت: خفي عليّ هذا من أمر النبيّ، ألهاني الصفق بالأسواق(1).
حتى إنّي كنت أغيب عن رسول الله في المناسبات الكبرى التي يجتمع فيها المسلمون كافة كيوم الفطر والأضحى، لذلك كنت أسأل الصحابة عمّا كان يقرأ رسول الله في عيد الفطر والأضحى.
فقد سألت مرّة أبا واقد الليثي: ما كان يقرأ رسول الله في الأضحى والفطر؟
____________
1- صحيح مسلم 6: 179، كتاب الآداب، باب الاستئذان.
س18 ـ عرفنا منك أنّك كنت تجهل الكثير من السنّة النبويّة الشريفة بسبب انشغالك بالصفق بالأسواق، لكن يبدو أنّك كنت تخطئ كثيراً في الأحكام الموجودة في القرآن، فما سبب ذلك؟
ج ـ إنّي لم أكن أحفظ من القرآن الكريم إلاّ النزر اليسير، لذلك فقد حكمت في الكلالة التي قضيت فيها بعدّة أحكام متناقضة، رغم نزولها في كتاب الله، وبالرغم ممّا جاء فيها من التفصيل والبيان في السنّة، وقد سألت النبيّ عن ميراث الجدّ مع الإخوة.
فقال لي النبيّ: ما سؤالك عن هذا يا عمر؟ إني أظنك تموت قبل أن تعلمه.
قال سعيد بن المسيب: فمات عمر قبل أن يعلمه(2).
وقد قامت لي مرّة امرأة في المسجد عندما حاولت أن أُحدد المهور وصححت لي، وذكّرتني بآية من كتاب اللّه.
فقلت: كلّ الناس أفقه من عمر حتى ربّات الحجال(3).
____________
1- صحيح مسلم 3: 21 كتاب صلاة العيدين، باب ما يقرأ في صلاة العيدين.
2- كنز العمال للمتقي الهندي 11: 58.
3- مجمع الزوائد للهيثمي 4: 284، كشف الخفاء للعجلوني 1: 269.
وتوجد اجتهادات اتخذتها وهي آنيّة لظرف حصل في وقتي، ولكن الناس قد اتخذوها سنّة من بعدي وليس هذا ذنبي، مثل صلاة التراويح والمتعتين، فقد حرّمت المتعة من أجل قصة معروفة، وهي قصة عمرو بن حريث ولم يكن تحريمي أبدياً أو بنصّ قد علمته وجهله كلّ الصحابة(1).
____________
1- صحيح مسلم 4: 131، كتاب النكاح، باب نكاح المتعة.
بقي أن نقول للذين يجعلون من معارضتك لكتاب الله وسنّة رسوله، يجعلون ذلك من مفاخرك ومناقبك التي يمدحونك لأجلها، والذين يلتمسون لذلك أعذاراً وتأويلات لا يقبلها عقل ولا منطق، وإلاّ كيف تكون معارضتك لكتاب الله وسنّة نبيه (صلى الله عليه وآله) من المجتهدين والله يقول في كتابه الله العزيز:
{وَما كانَ لِمُؤْمِن وَلا مُؤْمِنَة إِذا قَضَى اللّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً} الأحزاب: 36.
فقد ربط الله عزّ وجلّ إرادته بإرادة رسوله وجعلهما واحدة، أي: من يعص
=>
حجر الأساس لبني أُميّة:
س19 ـ من المعروف عنك، أو بمعنى آخر ما وصلنا عنك، أنّك كنت كثيراً ما تغيرّ الولاة، وخاصّة الذين يغتنون أو يبدوا عليهم آثار
____________
<=
الرسول فقد عصى الله. وهذا واضح ولكن {لا تَعْمَى الأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} الحجّ: 46.
قال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ}، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ}، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ} المائدة: 44 ـ 45 ـ 47.
ثمّ كيف يدافعون عنك ويقولون: إنّك قد رأيت مصلحة في مخالفة ما أمر به الرسول وقد جاء في الحديث الذي ذكره البخاري: "ما كان النبيّ يسأل ممّا لم ينزل عليه الوحي فيقول: لا أدري، أو لم يُجب حتى ينزل عليه الوحي" صحيح البخاري 8: 148 كتاب الاعتصام بالكتاب والسنّة، باب ما يذكر من ذمّ الرأي وتكلف القياس.
ولم يقل برأي ولا قياس لقوله تعالى: {بما أراك الله}، وقد قال العلماء قولا واحداً: "إنّه من قال في كتاب الله برأيه فقد كفر" وهذا بديهي من خلال الآيات المحكمات ومن خلال أقوال وأفعال رسول الله (صلى الله عليه وآله) فكيف ننسى هذه القاعدة إذا تعلق الأمر بك أو بأحد الصحابة أو أحد أصحاب المذاهب الأربعة فقط، فيصبح القول بالرأي في معارضة أحكام الله اجتهاداً يؤجر عليه صاحبه أجراً إن أخطأ، وأجران إن أصاب؟!
فهل أن الله قد أنزل ديناً ناقصاً وترك لكم أن تكملوه معاذ الله، فقد قال الله تعالى في سورة المائدة: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً} المائدة: 3.
ج ـ نعم، هذا صحيح فقد كنت أعزل من تأتيني الأخبار عنهم بأنّهم قد خالفوا ما أمرتهم به من خشونة العيش، ولكن من كنت أعزله كان ممّن لا أخاف منه الفتنة وتقليب الأُمور عليَّ، أمّا معاوية فقد كنت أكسب به ولاء بني أُميّة أجمعين، لذلك تركته في مقامه، ولو أنّي وأبا بكر لم ندع ما في أيدي أبي سفيان من الصدقات وجعلنا ابنيه قادة للجيش الذاهب إلى الشام لما استقام لنا الأمر، ولم نفز بهذا التحالف ضدّ عليّ وبنيه، ولمّا استقام لنا الأمر.
س20ـ لقد وصفت بيعة أبي بكر بأنها: "فلتة وقى الله المسلمين شرّها، فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه"(1).
فلماذا قلت هذا الكلام مع أنّ هذا طعن منك في أبي بكر وفي وصيّته لك بالخلافة; لأنّ خلافتك وليدة تلك الفلتة التي تقولها أنت؟
____________
1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 2: 31.
س21 ـ هذا يعني أنّك كنت مصرّاً على عدم عودة هذا الأمر إلى صاحبه الشرعي وإن بايعه الناس، لذلك هدّدت بالقتل كلّ من يحاول إعادة ما فعلتماه! ثمّ افتعلت شوراك التي لم يعهد بمثلها!
فكيف كانت هذه الشورى، وكيف ضمنت إقصاء الخلافة عن عليّ مع وجوده ضمن أصحاب الشورى الذين سمّيتهم؟
شورى عمر
ج ـ لما طعنني أبو لؤلؤة قال لي الناس: استخلف.
____________
1- المصدر السابق، الكامل في التاريخ 2: 326.
وقد رأيت أن أجعلها شورى بينهم على طريقتي، ليختاروا بأنفسهم، ثمّ قلت لهم: أكلكم يطمع في الخلافة بعدي! فوجموا، فقلتها لهم ثانية، فأجابني الزبير وقال: وما الذي يبعدنا منها! وليتها أنت فقمت بها، ولسنا دونك في قريش ولا في السابقة ولا في القرابة.
فغضبت منه; لأنّه ذكّرني بوضعي في قريش سابقاً، وإنّهم أسمى منّي وأقدم مني إسلاماً.
فقلت لهم: أفلا أخبركم عن أنفسكم!
فقال الزبير: قل، فإنّا لو استعفيناك لم تعفنا.
فقلت: أمّا أنت يا زبير فوعق لَقِس ضجر مبرم لا تستقيم على وجه، مؤمن الرضى، كافر الغضب، يوماً إنسان ويوماً شيطان، ولعلّها
ـ ثم أقبلت على طلحة ـ وكنت مبغضاً له منذ قال لأبي بكر يوم وفاته ما قاله عني ـ فقلت: أقول أم أسكت؟
فقال: قل، فإنّك لا تقول من الخير شيئاً.
فقلت: أمّا أنّي أعرفك منذ أصيبت اصبعك يوم أحد والبأو (الكبر والفخر) الذي حدث لك، ولقد مات رسول الله ساخطاً عليك بالكلمة التي قلتها يوم أنزلت آية الحجاب!
فقد قال طلحة بمحضر ممّن نقل عنه إلى رسول الله: ما الذي يغنيه حجابهن اليوم! وسيموت غداً فننكحهن.
ـ ثمّ قلت لعبد الرحمن بن عوف: وأمّا أنت يا عبد الرحمن، فلو وزن نصف إيمان المسلمين بإيمانك لرجح إيمانك به، ولكن ليس يصلح هذا الأمر لمن فيه ضعف كضعفك، وما لزهرة وهذا الأمر!
ـ ثمّ أقبلت على عليّ: فقلت له: لله أنت لولا دعابة فيك! أما والله لئن وليتهم لتحملنهم على الحقّ الواضح، والمحجة البيضاء.
ـ ثمّ أقبلت على عثمان فقلت له: هيهاً إليك! كأنّي بك قد قلدتك
ثمّ قلت: ادعوا إليّ أبا طلحة الأنصاري، فدعوه لي، فقلت له: انظر يا أبا طلحة، إذا عدتم من حفرتي، فكن في خمسين رجلاً من الأنصار حاملي سيوفكم، فخذ هؤلاء النفر بإمضاء الأمر وتعجيله، واجمعهم في بيت، وقف بأصحابك على باب البيت ليتشاوروا ويختاروا واحداً منهم، فإن اتفق خمسة وأبى واحد فاضرب عنقه، وإن اتفق أربعة وأبى اثنان فاضرب أعناقهما، وإن اتفق ثلاثة وخالف ثلاثة فانظر الثلاثة التي فيها عبد الرحمن بن عوف، فارجع إلى ما قد اتفقت عليه، فإن أصرّت الثلاثة الأُخرى على خلافها فاضرب أعناقها، وإن مضت ثلاثة أيام ولم يتفقوا على أمر فاضرب أعناق الستّة ودع المسلمين يختاروا لأنفسهم(1).
وهنا وبهذا الترتيب قد أخرجت عليّاً من الخلافة وضمنتها لعثمان دون أن أذكره بالاسم!
لأنّ طلحة من بني تيم، وبني تيم صار بينها وبين بني هاشم ضغن من عدم مبايعة علي لأبي بكر وطعنه فيه.
وسعد بن أبي وقاص ابن عمّ عثمان، وسوف يقف معه.
____________
1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 8: 187.
ولم يبق مع علي إلاّ الزبير! وحتى لو كان طلحة مع علي فلن يغني عنه شيئاً; لأنّ الغلبة تكون للجهة التي يكون فيها عبد الرحمن بن عوف.
وإن اختلفوا جميعاً ولم يتفقوا قتلوا جميعاً وقتل عليّ ولم تصل له الخلافة، وبذلك تكون الخلافة قد خرجت من بني هاشم أيضاً.
ـ وهكذا تمّ الأمر ووصلت الخلافة إلى عثمان (وبني أُميّة)، لذلك نكتفي بالأسئلة الموجهة لعمر بن الخطاب الخليفة الثاني، ونأتي الآن إلى الخليفة الثالث الذي وصل إلى الخلافة بنصّ من عمر، ولكن بعد أمر دبر بليل كما يقول المثل.