وهل ما حصل من خلاف ونشوء المذاهب والفتن إلاّ من خلاف الصحابة وتحاربهم وسبّهم لبعضهم البعض، وكتب التاريخ والسيَر مليئة بذلك.
وقد نسوا أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: "ألا وإنّه سيجاء برجال من أُمّتي فيؤخذ بهم ذات الشمال (إلى النار) فأقول: يا ربِّ أصحابي، فيقال: إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك... إنّهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم"(1).
ـ وعن عمّار بن ياسر قال: قال حذيفة: أخبرني عن النبيّ (صلى الله عليه وآله)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): "في أصحابي اثنا عشر منافقاً فيهم ثمانية لا يدخلون الجنّة حتى يلج الجمل في سمّ الخياط; ثمانية منهم تكفكيهم الدبيلة (داء في الجوف)، وأربعة لم أحفظ ما قال فيهم"(2).
فإذا كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد وصف بعض أصحابه بالمنافقين وعلى الأقل اثنا عشر منهم، وإنّهم سوف يدخلون النار لأنّهم ارتدّوا من
____________
1- صحيح البخاري 4: 110 و 5: 192، كتاب بدء الخلق، كتاب تفسير القرآن، باب وكنت عليهم شهيداً، صحيح مسلم 8: 157، كتاب الجنّة، باب صفة يوم القيامة، سنن الترمذي 5: 4، سنن النسائي 4: 117.
2- مسند أحمد 4: 320، صحيح مسلم 8: 122، كتاب صفات المنافقين.
وإن كنتم تنكرون ذلك فهذا من صحاحكم وليس من عند غيركم فلوموا أنفسكم.
ومن المضحك المبكي ـ في نفس الوقت ـ ظهور بعض من يدّعي المشيخة والإفتاء على شاشة القناة الفضائية السعودية وهو يفتي ويحلل ويحرم، فيسأله أحد المتّصلين قائلا: إنّ البعض يروي لنا أحاديث في فضائل سيّدنا علي ـ كرم الله وجهه ـ وهي كثيرة، ونجدها في كتب الصحاح فما رأيك يا سيّدي؟
فيجيبه قائلا:
إنّ كلّ ما جاء في الصحيح صحيح إلاّ ما جاء في تفضيل علي على باقي الصحابة.
ونحن نقول لك: يا حفيد معاوية ويزيد، إن أكثر ما في الصحاح عندكم موضوع ويكفيك دليلاً على ذلك رضاعة الكبير، والقول بنقص القرآن الكريم، وفضائل الصحابة، وتشبيه الله بمخلوقاته..الخ.
وأمّا ما جاء في تفضيل الإمام علي (عليه السلام)، فهو نزر يسير ممّا قد سلم من بين أيدي الأمويين والعباسيين وأتباعهم وأحفادهم، أمثالك اليوم، وها أنتم الآن تحاولون أن تحذفوا الكثير من هذه الفضائل
وإن الكثير من كتب الحديث الصحاح ـ كما يسمّونها ـ قد طبعت الآن، وحذف منها كثيرٌ من فضائل أهل البيت (عليهم السلام) والكثير من مثالب الصحابة، وهذه الأعمال تشرف عليها بعض الهيئات من السعودية، وهي تدعم طباعة مختصرات الصحاح لكي يتمّ حذف ما يريدون.
سئل الإمام الشافعي عن الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) فقال: ماذا أقول برجل أنكر أعداؤه فضله حسداً وطمعاً، وكتم أحباؤه فضله خوفاً وفرقاً، وفاض ما بين هذين ما طبق الخافقين.
وأمّا ما يقوله أهل الخلاف من أنّهم يحبّون عليّاً وأهل البيت (عليهم السلام) أكثر من الشيعة، وأنّهم لا يبغضون أحداً من أهل البيت.
فهو قول بلا دليل، وترى عكس ما يقولون من تغافل علمائهم وأُدبائهم عن ذكر فضائل أهل البيت (عليهم السلام)، وقولهم بأنّهم يذكرونهم بكلّ خطبة من خطب الجمعة بقولهم:
اللهم ارض عن الأربعة الخلفاء السادة الحنفاء ذوي القدر العلي والفخر الجلي أبي بكر وعمر وعثمان وعلي.
فإنّما هو ذكر لترتيبهم حسب الخلافة لا أكثر، وإنّ أوّل من قال بالتربيع ـ أي ذكر الإمام علي رابعاً ـ هو أحمد بن حنبل، وإلاّ كانوا من قبل لا يذكرون إلاّ الثلاثة الذين سبقوه.
عرينة الشام، غنّي يوم طلـّته | وسبّحي الله في ذكرى ولادتـه |
يطلُّ كالضوء من ضوء (1) وينشره | كالبدر يعكس الشمس وهج جبهته |
هو الإمام "حسام الدين" فارسه | ما زغرد السيف إلاّ بين قبضته |
يدُ النبوّة شدّت عزم ساعده | وأطلقتهُ إماماً من طفولته |
فكان ظلّ رسول الله، "كاتبه" | وأوّل القوم إيماناً بدعوته |
سيد البيان، وباب العلم (2) مشترعاً | والفقه مذ كان (3)، نهجٌ من بلاغته |
هو الفتى، أم هو المفتىُّ قاصعةٌ (4) | وقفاتُ منبره في شقشقيته (5) |
محجّةُ الشرع، أقضاكم (6) وإن سلفت | خلافةٌ، هلــكتْ (7) من دون حكمته |
يُعبُّ من منهل القرآن، يحفظه | والنهج (8) كالبحر فاغرف من غزارته |
يغوص في موجه القرصان، إن لمستْ | يداه دُرّاً، هوى في قعر لجّته |
أعماقه قُللٌ، أغواره قممٌ | إلى مدى الله، توقٌ نحو رحمته |
أنّى التفتَّ نهىً أنّى اتجهت هدىً | وحيث أبحرت ضوء من منارته |
هو الفتى، نبوىُّ العبْقِ، محتدهُ | كالملح في الأرض (9) فاذكر بعض قصته |
أيام بدر، حنين خندق، أحد | والبيدُ والصيدُ تحكي عن بطولته |
ويوم خيبرَ في حصن اليهود دوى | لذي الفقار صليلٌ قبل صولته |
تزعزع الحصن من هول الدوىّ وما | جادت بثانية نجلاء ضربته |
على يديه يتم الفتح (10)، كم خفقت | سيوف ربك (11) ظلا فوق جنته! |
يذود عن حُرمات الحوض، يحرسها | والحمد والحُلم بعضٌ من طهارته |
ما كفّ إلاّ مع التكبير ساعِدُه | وللصلاة انحنت هيفاء قامته |
هذا الإمام، فتى الإسلام، مـلحمةٌ | أيامه الغرُّ، ماذا عن خلافته؟ |
يوم الغدير وقل من قبل، كم طربتْ | أذنُ النبيّ، وزفّتْ همْسَ عزته؟ |
أنذر عشيرتك القربى (12) فأنذرها | فأطرقَ القومُ إلاّ زوجُ ابنته |
وزيره في حديث الدار وارثه | وصيُّه، وولىُّ بعد غربته |
كمثل، هارون من موسى بمنزلة | إلاّ النبوّة تبقى رهن ساعته (13) |
هلّ الغدير بأسراب الحجيج، وما | تباطأ الركبُ، يشدو في مسيرتـه |
في صوته نغمات الحزن يخنقها | رجْعُ التشهد، إذعاناً لسنَّته |
دنا الوداع، كما الروح الأمين دنا | ينزّل الآيَ مغموراً بفرحته |
هو العلىُّ، وصىُّ الإرث، فابتهجوا | ووزّعوا البُشْر، واحكوا عن ولايته: |
ولي من كنتُ مولاهُ (14) وسيدهُ | يا أيها القومُ سيروا تحت رايته |
يحبّه من أحب الله (15) يبغضه | من أبغض الله، يقضي في ضلالته |
اليومَ أكملت، يا إسلام، دينكم | فسبِّحوا الله في إتمام نعمته (16) |
ما بالُ حزب قريش قام منتفضاً | يوم "السقيفة" في إثبات حجّته؟ |
إن يجهل الناس، والتنزيل مرتسمٌ | قمْ يا رسولُ وبلّغ وحي آيته (17) |
ما ثار في سيّد الزهّاد ثائرة | سلامة الدين أشهى (18) من إمارته |
أعطاه كل نفيس، كل تضحية | وروحه لازمت أهوال راحته |
حباهُ فلذته، والفلذتين وما | عزّت عطاءاته من أجل أمته |
وسار في دربه السبطان (19) ما اخـ | ـتلفت معالم الدرب، حتى في شهادته |
كأنّها درب عيسى (20) طبتَ من مثل | والجود بالروح قسطٌ من رسالته |
من أجل دينه، لا دنياه، كان فـ | ــدىً والدين أسمى معاني هاشميته |
ليس الإمام فتى الإسلام وحدهُم | وليس وقفاً على أبناء شيعته |
من كان بالشِّيم الغراء معتصـماً | بالبرّ، بالرفق، بالتقوى، بخلته |
بالنبل بالحق، بالأخلاق مكرمـةً | وبالشموخ، فهذا ابن بيعته |
1 ـ قول للإمام علي "أنا من الرسول كالضوء من الضوء".
2 ـ إشارة إلى قول الرسول (صلى الله عليه وآله): "أنا مدينة العلم وعلي بابها".
3 ـ "لا يفتينّ أحد في المدينة وعلي حاضر" عمر بن الخطاب.
4 ـ خطبة للإمام، تضمّنت تكوين الخليقة وتحذير الناس من إبليس وهي تعني: القاطعة.
5 ـ إحدى خطب الإمام جسدت لواعج نفسه، تعني: "هادرة هدرت ثم قرت".
6 ـ قول للرسول (صلى الله عليه وآله): "أقضاكم علي".
7 ـ قول لعمر بن الخطاب: "لولا علي لهلك عمر".
8 ـ أبيات في نهج البلاغة "حتى كأنه دستور الوجود".
9 ـ من وصف للجاحظ في بني هاشم.
10 ـ قال النبيّ يوم خيبر: "لاعطين الراية رجلا يفتح الله على يديه".
11 - من أقوال الرسول (صلى الله عليه وآله): "الجنة تحت ظلال السيوف".
12 ـ {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} سورة الشعراء، "يوم الدار" نزل قوله تعالى {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} وقد جمع النبيّ بني هاشم أنذرهم، ثمّ قال في الإمام علي: "هذا أخي ووصيي ووزيري
13 ـ إشارة إلى قول الرسول (صلى الله عليه وآله) للإمام علي وقد خلّفه في غزوة تبوك: "أما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي".
14 ـ قول للرسول (صلى الله عليه وآله): "من كنت مولاه فعلي مولاه".
15 ـ من قول للرسول (صلى الله عليه وآله): "من أحبّ علياً فقد أحبّني ومن أحبّني فقد أحبّ الله، ومن أبغض علياً فقد أبغضني، ومن أبغضني فقد أبغض الله".
16 ـ أعلن الرسول (صلى الله عليه وآله) ولاية علي فنزلت عليه الآية: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} سورة المائدة: 3.
17 ـ بعد "حجة الوداع" نزل قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} فأخذ النبيّ (صلى الله عليه وآله) بيد علي فرفعها ثم قال: "من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهمّ والِ من والاه وعادِ من عاداه"، ثمّ نزلت الآية {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} وجاء عن الطبراني وابن أبي حاتم عن ابن عباس للسيوطي: إن قوله تعالى {اِنَّما وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا} إنما علي معني بها.
18 ـ وضع علي يده في يد أبي بكر مبايعاً منعاً للفتنة والشقاق بين المسلمين وقال: "سلامة الدين أحبّ إلينا".
20 ـ من قول الرسول (صلى الله عليه وآله) للإمام علي "إنّ فيك مثلا من عيسى، أبغضه اليهود وأحبته النصارى حتى أنزلوه بالمنزل الذي ليس به".
لقد جاء هذا الشاعر بقسم من فضائل الإمام علي، وقد اعترف بفضله وإمامته أكثر من كثير من المسلمين، ومع ذلك لم يتبعه ولو كان اتبعه لكان قد أسلم ودخل في دين الإسلام.
لو كان حبّك صادقاً لأطعته | إنّ المحبّ لمن يحبّ مطيع |
وهذا مصداق قول الله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ}(1).
وهذا يعني أنّ المحبة لا تكفي ولكن يلزمها الاتباع، وهذا ما يفتقر له أهل الخلاف من المسلمين، فإن أهل الخلاف أخذوا أُصول الدين عن مذهب الأشعري والفروع عن المذاهب الأربعة وتركوا آل بيت رسول الله (صلى الله عليه وآله).
واحتجوا بكتب الحديث عندهم بالمارقين وهم الخوارج والفاسقين والناكثين ووثّقوهم، وتركوا أحاديث آل الرسول (صلى الله عليه وآله) وهذه كتبهم تفصح عن ذلك، وعندما تذكر لهم أي حديث في فضائل
____________
1- آل عمران: 31.
وقد حصل معي ومع أحد المشايخ هذه القصة:
دخلت إلى مسجد في مدينة دمشق يوم الجمعة وقد كان الخطيب يفسر سورة النحل ومن ضمن ما قاله:
إنّ الله عندما ضرب لنا مثل النحل، ولم يضرب لنا هذا المثل لكي نعلم أنّ هذه النحلة لها هذه الفوائد الكثيرة فقط، بل كي يعلّمنا كيفية إقامة مجتمع مبني على النظام والمحبة، فإنّ النحلة إذا خرجت ووجدت حقلا للأزهار لا تأكل منه حتى تأتي وتخبر الخلية بأكملها كي تأتي وتأخذ من رحيق هذه الأزهار لكي تصنع العسل، بينما نحن البشر إذا وجد أحدنا كنزاً أو مجالا من مجالات العمل، فإنّه يعتّم عليه ولا يخبر أحداً به حتى وإن لم يستطع أن يستفيد منه، لذلك تفشّى فينا حبّ النفس والتفرق، بينما تبقى خلية النحل متماسكة متراصة ذات مجتمع منظم لكلّ فرد فيه عمل ولا يعتدي أحد على أحد فيه.
وبعد أن أنهى هذا الخطيب خطبته وصلّى بالناس الجمعة وهمّ بالخروج من المسجد لحقت به، وقلت له: يا شيخنا هل لي بسؤال.
قال: تفضل.
قلت له: إن ما قلته وشرحته يحتاج إلى تفصيل.
قلت له: هل النحل هو الذي يختار ملكته أم أنّ الله قد اختار له الملكة؟
فسكت برهة، ثم قال: بل الله هو الذي اختار له.
فقلت له: وهذا بيت القصيد، فإنّ النحل لا يختلف; لأنّ الله قد اختار له زعيمه، ولأنّه ارتضى ما اختاره الله عاش هذه الحياة إلى الآن، وإلى أن يأذن الله بنظام متكامل، بينما نحن قد اختار لنا الله من يكون خليفتنا، ولكن رفضنا ذلك، ولذلك قد وقعنا في المحذور ووقعنا في الضلالة التي لا سبيل لها إلاّ في العودة إلى ما سنّه الله لنا.
قال: وكيف ذلك وما تقصد؟
قلت له: إن الله أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن يولي الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) من بعده على الناس، وقد قام رسول الله (صلى الله عليه وآله) بإعلان ذلك يوم غدير خم، ولكن الناس لم يرتضوا ولم ينصاعوا لأمر الله ورسوله، ونحّو الإمام عن مكانه، ونزوا على أمر ليس لهم وتداولوها فيما بينهم حتى خرجت عن أهلها ووصلنا إلى ما وصلنا إليه، وقد قالت السيّدة الزهراء (عليها السلام) في خطبتها أمام أبي بكر: "ويحهم أنّى زعزعوها (أي الخلافة) عن رواسي الرسالة، وقواعد النبوّة ومهبط الروح الأمين، والطبين بأُمور الدنيا والدين، ألا ذلك الخسران
نقموا والله منه نكير سيفه، وقلّة مبالاته لحتفه، وشدّة وطأته، ونكال وقعته، وتنمّره في ذات الله، وتالله لو تكافؤوا على زمام نبذه إليه رسول الله (صلى الله عليه وآله)، لاعتقله وسار بهم سيراً سمجاً، لا يكلم خشاشه، ولا يتتعتع راكبه، ولأوردهم منهلا رويا فضفاضا، تطفح ضفتاه، ولا يترنم جانباه، ولأصدرهم بطانة، ونصح لهم سراً وإعلانا، غير متحل منهم بطائل إلاّ بعجز الناهل، وردعة سورة الساغب، و لو مالوا عن المحجّة اللائحة، وزالوا عن قبول الحجّة الواضحة، لردّهم إليها وحملهم عليها ولسار بهم سيراً سجحاً، لا يكلم حشاشه، و لا يكل سائره، و لا يمل راكبه، ولأوردهم منهلا نميراً صافياً روياً، تطفح ضفتاه، ولا يترنق جانباه، ولأصدرهم بطانه، ونصح لهم سراً وإعلاناً، ولم يكن يتحلّى من الدنيا بطائل، ولا يحظى منها بنائل، غير ري الناهل، وشبعة الكافل، ولبان لهم الزاهد من الراغب، والصادق من الكاذب. {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكات مِنَ السَّماءِ وَالأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ}"(1).
وهنا قاطعني الشيخ قائلا: هذا كلام الشيعة.
فقلت له: على افتراض أنّه كلام الشيعة، ولكن أليس هذا الكلام
____________
1- أعيان الشيعة للأمين 1: 320.
فقال الشيخ: بل وسنّتي.
فقلت له: ائتني بمصادر هذا الحديث الذي يذكر وسنّتي.
فسكت وقال: لا أحفظها الآن.
فقلت له: ولن تجدها إلاّ في موطأ مالك وهي مرسلة، وأنتم تتمسّكون بها وأنتم تعرفون ضعفها وعللها، بينما حديث الثقلين مروي في كلّ كتب الصحاح.
وأرجو منك أن تراجع مصادر هذا الحديث وتصلح موقفك.
فتركني وهو يهمهم.
نسأل الله له الهداية، وهذا غيض من فيض، وقد حدثت معي عدّة مناقشات بيني وبين بعض المشايخ، ولكنّهم كانوا دائماً عندما تعييهم الحجّة يتركون النقاش ويرفضون المتابعة وتأخذهم العزّة بالإثم.
وإن شاء الله سنفرد لهذه المناقشات كتاباً خاصاً لتعميم الفائدة.
وقد يقول قائل: ما فائدة مثل هذه الكلام الآن، ولماذا النبش والبحث في أُمور تاريخية قد عفا الزمان عنها وهؤلاء الذين
دعونا من الخلاف وتعالوا نتوحّد فإنّ ما يجمعنا أكثر ممّا يفرقنا.
وهذا صحيح لو أنّهم يَصدقون به، ولكن لماذا لا يقبل عامة المسلمين إخوانهم الشيعة على أنّهم مذهب خامس إضافة إلى مذاهبهم الأربعة وينتهي هذا الخلاف، وقال تعالى: {لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ}(2).
وإنّنا نجد أنّ شيعة آل محمّد منذ حوالي 1400 سنة وهم ملاحقون ومهددون، ودائماً متّهمون، ويقفون موقف المدافع عن دينهم وعقائدهم.
ولا ترى الشيعة يقفون لإخوانهم من عامة المسلمين ليقولوا لهم: لماذا تتكتفون بالصلاة مع أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يضع اليمين على اليسرى؟
ولماذا تصلّون على السجاد ورسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يصلّ إلاّ على التراب أو الحصى أو الحصير؟
____________
1- البقرة: 134.
2- غافر: 35.
وعندها يكون من واجب هذا الشيعي أن يعلن لإخوانه، لماذا يصلّي هكذا، ولماذا يفعل هذا، وعندما يتفاجأ أهل الخلاف بحجّة أخيهم الشيعي تراهم يبدأون بأسئلة الغاية منها التجريح والتشهير وليس التعلّم والمعرفة!
والعتب ليس على عوام المسلمين من أهل الخلاف، بل على علمائهم الذين يعلمون الحقّ ويرونه، وإن كان البعض منهم لا يعلمون فإنّ مثل هذه الكتب تميط اللثام عمّا جرى على مسار التاريخ الإسلامي ونشوء المذاهب.
والواجب عليهم إن كانوا يؤمنون بالله واليوم الآخر أن يوجّهوا العوام، ويقولون لهم: إن المذاهب الإسلامية ليست فقط هذه المذاهب الأربعة، وإنّه يوجد مذهب آخر هو مذهب أهل البيت (عليهم السلام)، ويمكنكم أن تقلّدوه، وبذلك يتوحّد المسلمون مثل ما فعل الشيخ محمود شلتوت شيخ الأزهر بإصدار هذه الفتوة:
نص الفتوى
مكتب شيخ جامع الأزهر المسجّل بدار التقريب
نصّ الفتوى التي أصدرها السيّد صاحب الفضيلة الأُستاذ الأكبر الشيخ محمود شلتوت شيخ الجامع الأزهر، في شأن جواز التعبّد بمذهب الشيعة الإماميّة:
قيل لفضيلته:
إنّ بعض الناس يرى: أنّه يجب على المسلم ـ لكي تقع عباداته ومعاملاته على وجه صحيح ـ أن يقلّد أحد المذاهب الأربعة المعروفة، وليس من بينها مذهب الشيعة الإماميّة ولا الشيعة الزيديّة، فهل توافقون فضيلتكم على هذا الرأي على إطلاقه فتمنعون تقليد مذهب الشيعة الإماميّة الإثنا عشرية مثلاً؟
فأجاب فضيلته:
1 ـ إنّ الإسلام لا يوجب على أحد من أتباعه اتباع مذهب معيّن، بل نقول: إنّ لكلّ مسلم الحقّ في أن يقلّد بادئ ذي بدء أي مذهب من المذاهب المنقولة نقلاً صحيحاً والمدوّنة أحكامها في كتبها الخاصّة، ولمن قلّد مذهب من هذه المذاهب أن ينتقل إلى غيره ـ أي مذهب كان ـ ولا حرج عليه في شيء من ذلك.
فينبغي للمسلمين أن يعرفوا ذلك، وأن يتخلّصوا من العصبيّة بغير الحقّ لمذاهب معيّنة، فما كان دين الله وما كانت شريعته بتابعة لمذهب، أو مقصورة على مذهب، فالكلّ مجتهدون مقبولون عند الله تعالى، يجوز لمن ليس أهلا للنظر والاجتهاد تقليدهم والعمل بما يقرّرونه في فقههم، ولا فرق في ذلك بين العبادات والمعاملات.
السيّد صاحب السماحة العلاّمة الجليل الأستاذ محمّد تقي القمّي، السكرتير العام لجماعة التقريب بين المذاهب الإسلامية.
سلام الله عليكم ورحمته.
أما بعد; فيسرّني أن أبعث إلى سماحتكم بصورة موقّع عليها بإمضائي من الفتوى التي أصدرتها في شأن جواز التعبّد بمذهب الشيعة الإمامية، راجياً أن تحفظوها في سجلاّت دار التقريب بين المذاهب الإسلامية التي أسهمنا معكم في تأسيسها، ووفّقنا الله لتحقيق رسالتها.
والسلام عليكم ورحمة الله
شيخ الجامع الأزهر
{يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناس بِإِمامِهِمْ}(1).
{وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ}(2).
عندما يسألهم الله تعالى لماذا اخترتم هذه المذاهب، وهم واقفون من وراء أبي حنيفة إمامهم والمالكي والشافعي وابن حنبل.
وهل عندكم وثيقة لتبرزوها، وعندها سوف يتبرّأ منهم أئمتهم ويقولون نحن لم ندعهم لكي يتبعونا.
فماذا سوف يجيبون الله عزّ وجلّ.
وإن كان عندهم جواب فأرجوا أن يتحفونا به.
وأمّا نحن إذا ما وقفنا بين يدي ربّ العزة يوم القيامة ونحن من وراء سيّد المسلمين وإمام المتقين وقائد الغرّ المحجلين الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)، وسألنا ربّ العزّة لماذا اخترتم مذهب أهل البيت (عليهم السلام)؟
فنقول: يا ربّ لقد سمعنا رسولك الكريم يقول لنا: "تركت فيكم
____________
1- الإسراء: 71.
2- الصافات: 24.
ـ "وأنا مدينة العلم وعلي بابها، ومن أراد المدينة فليأتي من الباب".
ـ "ومن كنت مولاه فهذا علي مولاه، اللهمّ وال من والاه وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله".
ونذكر الكثير من الأحاديث التي أوردناها سابقاً في ولاية أمير المؤمنين والأئمة من ولده (عليهم السلام)، لذلك اتخذنا مذهب أهل البيت وتركنا المذاهب الأُخرى التي لم يأمرنا الله بها ولا رسوله لها، ومعاذ الله أن يأمرنا الله بشيء ثمّ يعاقبنا على فعلنا له، وينهاهم عن أمر ويثيبهم على فعلهم له، إنّ في هذا لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
وقد كتبت هذه الإفادات وأسباب أخذي بمذهب أهل البيت (عليهم السلام) لكي أعلن للناس ما قد أخفاه عنهم التعصّب الأعمى وحقد بعض الكتّاب الذين سلّطوا أقلامهم للنيل من الشيعة، وذلك مرضاة لحكّام الجور الذين اتخذوهم أرباباً من دون الله والذين كانوا هم أوّل من سنّ سبّ الإمام علي (عليه السلام) ومنحوا الجوائز على من يسبّه، ومنعوا العطاء على من شايعه أو من أحبه، حتى ظلّ اللعن سنّة على منابر المسلمين مدّة سبعين عاماً، وتبارى الشعراء والكتاب لكتابة الشعر
{رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا اِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا اِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ}(1).
وآخر دعوانا إن الحمد لله رب العالمين.
دمشق في 15 / 8 / 2000
محمّد سليم عرفة
____________
1- البقرة: 286.