فإذا كان القرآن وهو كتاب اللّه العزيز يتطلّب من يقاتل في سبيل تفسيره وتوضيحه، لأنّه كتاب صامتٌ لا ينطق، وهو حمّال أوجه متعدّدة، وفيه الظاهر والباطن، فكيف بالأحاديث النبوية؟!
وإذا كان الأمر كذلك في الكتاب والسنّة، فلا يمكنُ للرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يترك لأُمّته ثقلين صامتين أبْكمين لا يتورّع الذين في قلوبهم زيغٌ أن يتأوّلوهما لغرض، ويتّبعوا ما تشابه منهما ابتغاء الفتنة وابتغاء الدنيا، ويكونوا سبباً لضلالة من يأتي بعدهم، لأنّهم أحسنوا الظنّ بهم واعتقدوا بعدالتهم، ويوم القيامة يندمون فيصدق فيهم قوله تعالى:
{ يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَـقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أطَعْنَا اللّهَ وَأطَعْنَا الرَّسُولَ * وَقَالُوا ربَّـنَا إنَّا أطَعْنَا سَادَتَـنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأضَلُّونَا السَّبِيلَ* ربَّـنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ العَذَابِ وَالعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً }(2).
{ كُلَّمَا دَخَلَتْ اُمَّةٌ لَعَنَتْ اُخْتَهَا حَتَّى إذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعاً قَالَتْ اُخْرَاهُمْ لاُولاهُمْ رَبَّـنَا هَؤُلاءِ أضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ قَالَ
____________
1- مضى تخريجه فيما تقدّم.
2- الأحزاب: 66 ـ 68.
وهلْ كانت الضلالة إلاّ من ذلك؟ فليس هناك أُمّة لم يبعث اللّه فيهم رسولاً أوضح لهم السبيل وأنار لهم الطريق، ولكنّهم بعد نبيّهم راحوا يحرّفون ويتأوّلون ويبدّلون كلام اللّه!
فهل يتصوّر عاقل أنّ رسول اللّه عيسى (عليه السلام) قال للنّصارى بأنّه إله؟ حاشا وكلاّ { ما قُلْتُ لَهُمْ إِلاّ ما أَمَرْتَنِي بِهِ }(2) ولكن الأهواء والأطماع وحبّ الدنيا هو الذي جرّ النصارى لذلك، ألم يبشّرهم عيسى بمحمّد ومن قبله موسى كذلك؟ ولكنّهم تأوّلوا اسم محمّد وأحمد "بالمنقذ" وهم حتّى الآن ينتظرونه!
وهل كانت أُمّة محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) على مذاهب وفرق متعدّدة إلى "ثلاث وسبعين كلّها في النار إلاّ فرقة واحدة" إلاّ بسبب التأويل؟! وها نحنُ نعيش اليوم بين هذه الفرق، هل هناك فرقة واحدة تنسبُ لنفْسها الضلاله؟ أو بتعبير آخر: هل هناك فرقة واحدة تدّعي أنّها خالفتْ كتاب اللّه وسنّة رسوله؟ بل بالعكس كلّ فرقة تقول بأنّها هي المستمسكة بالكتاب والسنّة، فما هو الحلّ إذاً؟
أكانَ يغيبُ الحلّ عن رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) أو بالأحرى عن اللّه؟
____________
1- الأعراف: 38.
2- المائدة: 117.
فقول الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بأنّه ترك كتاب اللّه وسنّة نبيّه ليس هو الحلّ المعقول لقضيّتنا، بل يزيدنا تعقيداً وتأويلاً ولا يقطع دابر المشاغبين والمنحرفين، ألا تراهم عندما خرجوا على إمامهم رفعُوا شعار: "ليس الحكم لك ياعليّ وإنّما الحكم للّه" إنّه شعار برّاقٌ يأخذُ بلبّ السامع، فيخالُ القائلُ به حريصاً على تطبيق أحكام اللّه، ورافضاً لأحكام غيره من البشر، ولكنّ الحقيقة ليستْ كذلك.
قال تعالى: { وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ ألَدُّ الخِصَامِ }(1).
نعم، كثيراً ما نغتَرُّ بالشعارات البرّاقة ولا نعرف ماذا تُخفي وراءهَا، ولكن الإمام عليّاً يعرف ذلك لأنّه باب مدينة العلم،
____________
1- البقرة: 204.
نعم، كثيرةٌ هي كلماتُ الحقّ التي يُراد بها الباطل، كيف ذلك؟ عندما يقول الخوارج للإمام عليّ: الحكم للّه ليس لك ياعليّ، فهل سيظهر اللّه على الأرض ويفصل بينهم فيما اختلفوا فيه؟ أم أنّهم يعلمون أنّ حكم اللّه في القرآن، ولكنّ عليّاً تأوّله حسب رأيه؟ فما هي حجّتهم ومن يقول بأنّهم هم الذين تأوّلوا حكم اللّه، والحال أنّه أعلم منهم وأصدق وأسبق للإسلام، وهل الإسلام غيره؟
إذاً هو شعار برّاقٌ ليموّهوا به على بسطاء العقول، فيكسبوا تأييدهم ليستعينوا بهم على حربه وكسب المعركة لصالحهم، كما يقع اليوم، فالزمان زمان، والرجال رجال، والدهاء والمكر لاينقطع بل يزداد وينمو; لأنّ دهاة هذا العصر يستفيدون من تجارب الأوّلين، فكم من كلمة حقّ يراد بها باطل في يومنا هذا؟
شعارات برّاقة كالذي يرفعها الوهابيّون في وجه المسلمين وهو "التوحيد وعدم الشرك" فمن من المسلمين لا يوافق عليه؟ وكتسمية فرقة من المسلمين أنفسهم "بأهل السنّة والجماعة" فَمَنْ من المسلمين لا يوافق أن يكون مع الجماعة التي تتبع سنّة النبي؟ وكشعار البعثيين "أُمّةً عربيةٌ واحدة ذات رسالة خالدة" فمن من
____________
1- نهج البلاغة1: 84، الخطبة 35.
لك اللّه ياعليّ بن أبي طالب، إنّ حكمتك بَقِيتْ وستبقى مدوّيةً على مسمع الدهر، فكم من كلمة حقّ يرادُ بها الباطل. صَعد أحد العلماء إلى منصّة الخطابة وصاح بأعلى صوته: من قالَ بأنني شيعي نقول له: أنتَ كافر، ومن قال بأنّني سنّي نقول له: أنت كافر، نحْنُ لا نريد شيعة ولا سنّة، وإنّما نريد إسلاماً فقط.
إنّها كلمة حقّ يراد بها باطل، فأىّ إسلام يريده هذا العالم، وفي عالمنا اليوم إسلام متعدّد، بل وحتّى في القرن الأول كان الإسلام متعدّداً؟!
فهناك إسلام عليّ وإسلام معاوية، وكلاهما له أتباع ومؤيّدون حتّى وصل الأمر إلى القتال.
وهناك إسلام الحسين وإسلام يزيد الذي قتل أهل البيت باسم الإسلام، وادّعى أنّ الحسين خرج عن الإسلام بخروجه عليه.
وهناك إسلام أئمة أهل البيت وشيعتهم، وإسلام الحكّام وشعوبهم، وعلى مرّ التاريخ نجد اختلافاً بين المسلمين.
وهناك إسلام متسامح كما يسمّيه الغرب; لأنّ أتباعه ألقوا بالمودّة لليهود والنصارى، وأصبحوا يركعون للقوّتين العظيمتين، وهناك
وبعد كلّ هذا لم يبق معنا مجالٌ للتصديق بحديث "كتاب اللّه وسنّتي" للأسباب التي ذُكرتُ.
تبقى الحقيقة ناصعة جليّة في الحديث الثاني الذي أجمع عليه المسلمون وهو: "كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي"; لأنّ هذا الحديث يُحلّ كلّ المشكلات، فلا يبقى اختلاف في تأويل أيّة آية من القرآن أو في تصحيح وتفسير أي حديث نبوي شريف إذا مارجعنا إلى أهل البيت الذين أُمرنا بالرجوع إليهم، وخصوصاً إذا علمنا بأنّ هؤلاء الذين عيّنهم رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) هم أهلٌ لذلك، ولا يشكّ أحدٌ من المسلمين في غزارة علمهم، وفي زهدهم وتقواهم، وقد أذهب اللّه عنهم الرجس وطهّرهم، وأورثهم علم الكتاب، فلا يخالفونه ولا يختلفون فيه، بل لا يفارقونه حتّى قيام الساعة، قال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم):
"إنّي تارك فيكم خليفتين، كتاب اللّه حبل ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي، فإنّهما لم يفترقا حتّى يردَا علىّ الحوض"(1).
____________
1- ولذا قال صاحب الصواعق 2: 442: "وفي أحاديث الحث على التمسك بأهل البيت إشارة إلى عدم انقطاع متأهل منهم للتمسك به إلى يوم القيامة كما أنّ الكتاب العزيز كذلك، ولهذا كانوا أماناً لأهل الأرض..".
وقال المناوي في فيض القدير 3: 20 بعد شرحه لحديث الثقلين: "تنبيه: قال الشريف: هذا الخبر يفهم وجود من يكون أهلا للتمسك به من أهل البيت والعترة الطاهرة في كلّ زمن إلى قيام الساعة، حتى يتوجه الحث المذكور إلى التمسك به، كما أنّ الكتاب كذلك، فلذلك كانوا أماناً لأهل الأرض، فإذا ذهبوا ذهب أهل الأرض".
والحقيقة في هذا البحث هي في جانب الشيعة الذين اتّبعوا وصيّة رسول اللّه في عترته، وقدّموهم على أنفسهم، وجعلوهم أئمتهم يتقرّبونَ، إلى اللّه بحبّهم والاقتداء بهم، فهنيئاً لهم بالفوز في الدنيا وفي الآخرة حيث يُحشر المرء مع من أحبّ، فكيف بمن أحبّهم واقتدى بهديهم.
قال الزمخشري في هذا الصدد:
كثُر الشكّ والاختلاف وكلّ | يدّعي أنّه الصراط السوي |
فتمسّكتُ بلا إله إلاّ اللهُ | وحبّي لأحمد وعلـيّ |
فازَ كلبٌ بحبّ أصحاب كهف | فكيفَ أشقى بحبّ آل النبي(1) |
اللّهم اجعلنا من المتسمكين بحبل ولائهم، والسائرين على
____________
1- ذكرها الشيخ عباس القمي في الكنى والألقاب: 299.
القضاء والقدر
عند أهل السنّة والشيعة
القضاء والقدر عند أهل السنّة
كان موضوع القضاء والقدر لغزاً عويصاً فيما مضى من حياتي، إذ لم أجد فيه تفسيراً شافياً ولا كافياً يريح فكري ويقنع قلبي، وبقيتُ محتاراً بين ما تعلّمته في مدرسة أهل السنّة من أن الإنسان مسيّرٌ في كلّ أفعاله بما يوافق: "كلّ ميسّرُ لما خلقَ له"(1)، وأنّ اللّه سبحانه
____________
1- واتهم صاحب كتاب كشف الجاني: 156 المؤلّف بالافك والافتراء على أهل السنة في هذا الكلام وأنهم لا يقولون بهذا الكلام الذي ذكره، ولكن عند تصفحنا لمصادر أهل السنة نجد أنّ كلام المؤلف تام ولا غبار عليه، وأنّ عقيدة أهل السنّة في القضاء والقدر هي التسيير وليست التخيير، وإليك كلمات بعض علمائهم:
أ ـ قال القسطلاني: "وقال أهل السنّة: إنّ اللّه سبحانه وتعالى قدّر الأشياء، أي علم مقاديرها وأحوالها وأزمانها قبل إيجادها، ثمّ أوجد منها، ما سبقه في علمه، فلا محدث في العالم العلوي والسفلي إلاّ وهو صادر عن علمه تعالى وقدرته وإرادته، وأنّ الخلق ليس لهم فيها إلاّ نوع اكتساب ومحاولة ونسبة وإضافة، وأنّ ذلك كلّه إنّما حصل بتيسير اللّه وبقدرة اللّه والهامه..." هدي الساري 14: 3 (كتاب القدر).
ب ـ وقال في البحر الرائق 8: 331: "وقال (صاحب الحاوي): قال الشيخ الإمام أبو بكر محمّد بن أحمد القاضي: إنّ اللّه تعالى خلق أفعال العباد وأفعالهم بقضاء اللّه تعالى ومشيئته".
جـ ـ وقال ابن حزم في المحلى 1: 37: "مسألة: وجميع أفعال العباد خيرها وشرها كل ذلك مخلوقة، خلقه اللّه عزّ وجلّ".
د ـ وقال البيهقي: "... فثبت أنّ الأفعال كلّها خيرها وشرها صادرة عن خلقه وإحداثه إياها.." الاعتقاد والهداية إلى سبيل الرشاد: 245.
وغيرها من الكلمات الكثيرة التي تنصّ على أنّ اللّه سبحانه وتعالى هو الخالق لأفعال العباد، بل نجد ابن أبي العزّ نفسه يصرّح بذلك، وإن حاول عثمان الخميس نقل عبارته مبتورة حتى لا تنكشف حقيقة عقيدته.
قال ابن أبي العزّ الدمشقي: "وقال أهل الحقّ: أفعال العباد بها صاروا مطيعين وعصاة، وهي مخلوقة للّه تعالى، والحقّ سبحانه وتعالى منفرد بخلق المخلوقات لا خالق لها سواه" شرح العقيدة الطحاوية 2: 640.
وعبارة ابن تيمية التي نقلها صاحب كتاب كشف الجاني متناقضة في نفسها، لأنّ العباد إذا كانوا فاعلين حقيقة فكيف يكون اللّه الخالق لأفعالهم، وإذا كان اللّه هو الخالق لأفعالهم، فما معنى أنّ اللّه خالقهم وخالق قدرتهم وإرادتهم، إذ لا معنى لخلق القدرة والإرادة بعد أن كان خالقاً لأفعالهم؟!
والنتيجة: إنّ عقيدة أهل السنّة مضطربة في القضاء والقدر، والروايات التي رووها وكلمات علمائهم تنصّ على أنّ الإنسان مسيّر في خلقه وأفعاله وليس مخيّراً.
وما ذكره المؤلّف من لغزية موضوع القضاء والقدر عند أهل السنة صحيح لا غبار عليه ولا مجال للطعن عليه بالافك والافتراء والتزوير.
فكنت كغيري من شباب المسلمين أعيش تلك التناقضات الفكرية في تصويري بأنّ اللّه سبحانه هو القويّ الجبار الذي لا يسأل عمّا يفعل وهم يسألون(2)، وهو فعال لما يريد(3)، وقد خلق الخلق وجعل قسماً منهم في الجنة وقسماً آخر في الجحيم، ثمّ هو رحمن رحيم بعباده لا يظلم مثقال ذرة { وَمَا رَبُّكَ بِظَـلام لِلْعَبِيدِ }(4) ـ { إنَّ اللّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلَكِنَّ النَّاسَ أنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ }(5)، ثمّ هو
____________
1- صحيح البخاري6: 53، كتاب التوحيد، باب قوله تعالى: { وَلَـقَدْ يَسَّرْنَا القُرْآنَ لِلذِّكْرِ }).
2- الأنبياء: 23.
3- البروج: 16.
4- فصلت: 46.
5- يونس: 44.
وكثيراً مايتراءى هذا التناقض في فهمي لآيات القرآن الكريم، فمرّة أفهم بأنّ الإنسان على نفسه بصيرة، وهو المسؤول الوحيد عن أعماله: { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّة خَيْراً يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّة شَرّاً يَرَه }(2).
ومرّة أفهم بأنّه مسيّر وليس له حول ولا قوّة، ولا يملك لنفسه نفعاً ولا ضرّاً ولا رزقاً { وَمَا تَشَاؤُونَ إلاّ أنْ يَشَاءَ اللّهُ }(3)، { فَإنَّ اللّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ }(4).
نعم، لستّ وحدي بل أغلب المسلمين يعيش هذه التناقضات الفكرية، ولذلك تجد أغلب الشيوخ والعلماء إذا ما سألتهم عن موضوع القضاء والقدر لا يجدون جواباً يقنعون به أنفسهم قبل إقناع غيرهم، فيقولون: هذا موضوع لا يجب الخوض فيه، وبعضهم يحرّم الخوض فيه ويقول: يجب على المسلم أن يؤمن بالقضاء والقدر
____________
1- صحيح البخاري 7: 75، كتاب الأدب، باب رحمة الولد وتقبيله ومعانقته، الحديث السادس.
2- الزلزلة: 7 ـ 8.
3- الإنسان: 30.
4- فاطر: 8.
وإذا ماسألهم معاند: كيف يجبر اللّه عبده على ارتكاب جريمة ثمّ يزجّ به في نار جهنم؟ اتهموه بالكفر والزندقة والخروج عن الدين إلى غير ذلك من التهم الباردة.
فجمدت العقول وتحجرت، وأصبح الإيمان بأنّ الزواج بالمكتوب، والطلاق بالمكتوب، وحتى الزنا فهو مكتوب، إذ يقولون: مكتوب على كلّ فرج اسم ناكحه، وكذلك شرب الخمر، وقتل النفس، وحتى الأكل والشرب، فلا تأكل ولا تشرب إلاّ ما كتب اللّه لك!
قلت لبعض علمائنا بعد استعراض كلّ هذه المسائل: إنّ القرآن يكذّب هذه المزاعم، ولا يمكن للحديث أن يناقض القرآن! قال تعالى في شأن الزواج: { فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ }(1) فهذا يدلّ على حريّة الاختيار.
وفي شأن الطلاق: { الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوف أوْ تَسْرِيحٌ بِإحْسَان }(2) وهو أيضاً اختيار.
وفي الزنا قال: { وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَا إنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلا }(3)،
____________
1- النساء: 3.
2- البقرة: 229.
3- الإسراء: 32.
وفي الخمر قال: { إنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العَدَاوَةَ وَالبَغْضَاءَ فِي الخَمْرِ وَالمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أنْتُمْ مُنتَهُونَ }(1) وهي أيضاً تنهى بمعنى الاختيار.
أما قتل النفس فقد قال فيها: { وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إلاّ بِالحَقِّ }(2) وقال: { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً }(3)، فهذه أيضاً تفيد الاختيار في القتل.
وحتى بخصوص الأكل والشرب، فقد رسم لنا حدوداً فقال: { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إنَّهُ لا يُحِبُّ المُسْرِفِينَ }(4)، فهذه أيضاً بالاختيار.
فكيف ياسيّدي بعد هذه الأدلّة القرآنية بأنّ كلّ شيء من اللّه، والعبد مسيّر في كلّ أفعاله؟
أجابني: بأنّ اللّه سبحانه هو وحده الذي يتصرّف في الكون،
____________
1- المائدة: 91.
2- الأنعام: 151.
3- النساء: 93.
4- الأعراف: 31.
قلت: لا خلاف بيننا في مشيئة اللّه سبحانه، وإذا شاء اللّه أن يفعل شيئاً فليس بإمكان الإنس والجن ولا سائر المخلوقات أن يعارضوا مشيئته، وإنّما اختلافنا في أفعال العباد هل هي منهم أم من اللّه؟
أجابني: لكم دينكم ولي ديني، وأغلق باب النقاش بذلك.
هذه هي في أغلب الأحيان حجّة علمائنا، وأذكر أنّي رجعت إليه بعد يومين وقلت له: إذا كان اعتقادك أنّ اللّه هو الذي يفعل كلّ شيء وليس للعباد أن يختاروا أيّ شيء، فلماذا لا تقول في الخلافة نفس القول، وإنّ اللّه سبحانه هو الذي يخلق مايشاء ويختار ما كان لهم الخيرة؟
فقال: نعم أقول بذلك; لأنّ اللّه هو الذي اختار أبا بكر، ثمّ عمر، ثمّ عثمان، ثمّ عليّ، ولو شاء اللّه أن يكون علي هو الخليفة الأوّل ما كان الجنّ والإنس بقادرين على منع ذلك.
قلت: الآن وقعت؟
قال: كيف وقعت؟
____________
1- آل عمران: 26.
أجاب: أقول بالثاني { قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ المُلْكِ تُؤْتِي المُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ المُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ... }.
قلت: إذاً فكلّ انحراف وكلّ ضلالة وكلّ جريمة وقعت في الإسلام بسبب الملوك والأُمراء فهي من اللّه; لأنه هو الذي أمّر هؤلاء على رقاب المسلمين؟
أجاب: وهو كذلك، ومن الصالحين من قرأ: { وَإذَا أرَدْنَا أنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أمَرْنَا مُتْرَفِيهَا }(1) أي جعلناهم أمراء.
قلت متعجّباً: إذاً فقتل عليّ على يد ابن ملجم وقتل الحسين بن عليّ أراده اللّه؟
فقال منتصراً: نعم طبعاً، ألم تسمع قول الرسول لعليّ: "أشقى الآخرين الذي يضربك على هذه حتى تبتلّ هذه"، وأشار إلى رأسه ولحيته كرم اللّه وجهه.
وكذلك سيّدنا الحسين قد علم رسول اللّه بمقتله في كربلاء
____________
1- الإسراء: 16.
سكتُّ قليلاً أنظر إليه وهو مزهو بهذا الكلام، وظنّ أنّه أفحمني بالدليل; كيف لي أن أقنعه بأنّ علم اللّه بالشيء لا يفيد حتماً بأنّه هو الذي قدّره وأجبر الناس عليه، وأنا أعلم مسبقا بأنّ فكره لا يستوعب مثل هذه النظرية.
سألته من جديد: إذاً فكلّ الرؤساء والملوك قديماً وحديثاً والذين يحاربون الإسلام والمسلمين نصّبهم اللّه.
قال: نعم وبدون شكّ.
قلت: حتى الاستعمار الفرنسي على تونس والجزائر والمغرب هو من اللّه؟ قال: بلى، لمّا جاء الوقت المعلوم خرجت فرنسا من تلك الأقطار.
قلت: سبحانه اللّه! فكيف كنت تدافع سابقاً عن نظرية أهل السنّة بأنّ رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) مات وترك الأمر شورى بين المسلمين ليختاروا من يشاؤون؟
قال: نعم، ولا زلت على ذلك وسأبقى على ذلك إن شاء اللّه!
قلت: فكيف توفّق بين القولين: اختيار اللّه، واختيار الناس
قال: بما أنّ المسلمين اختاروا أبا بكر فقد اختاره اللّه!
قلت: أنزل عليهم الوحي في السقيفة يدلّهم على اختيار الخليفة؟
قال: أستغفر اللّه، ليس هناك وحي بعد محمّد كما يعتقد الشيعة! (والشيعة كما هو معروف لا يعتقدون بهذا، وإنّما هي تهمة ألصقها بهم أعداؤهم)(1).
____________
1- أتهم صاحب كتاب كشف الجاني: 158 الشيعة بأنّها تؤمن بوجود الوحي بعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأخذ يستهزئ بما ذكره المؤلّف من أنّ الشيعة لا تؤمن بوجود وحي بعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
ولإيضاح المسألة للقارئ نقول: اتفقت الأُمّة الإسلامية بجميع طوائفها شيعة وسنّة على أن رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) خاتم الأنبياء والمرسلين، وأنّ شريعته ودينه خاتم الأديان والشرائع، وأنّه لا وحي بعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
قال الإمام علي (عليه السلام) في نهج البلاغة: الخطبة 129: "أرسله على حين فترة من الرسل وتنازع من الألسن، فقضى به الرسل، وختم به الوحي".
وقال (عليه السلام) كما في خطبته الأُولى من النهج: "إلى أن بعث اللّه محمّداً لإنجاز عدته وإتمام نبوته".
إلى غير ذلك من النصوص الكثيرة المؤكّدة لهذا الأمر.
وهناك أمرٌ آخر لابدّ من بيانه، وهو: إنّ الوحي الذي ينزل بالرسالة السماوية وهو جبرائيل (عليه السلام) يختلف عن رؤية الملائكة أو الموجودات السماوية
=>
____________
<=
الملكوتية، فالوحي بالرسالة لا ينزل ولا يأتي إلاّ للأنبياء المرسلين المأمورين بتبليغ شرائع اللّه، وبما أنّ آخر الأنبياء نبيّنا محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) وقد ختمت رسالته جميع الرسائل، فلا يوجد وحي بعدها ولا تأتي رسالة سماوية أُخرى، ولكن هناك عبادٌ صالحون وأئمة مطهّرون معصومون يرون الملائكة ويحدّثونهم ويتعلّمون منهم، وهذا شيء لا ربط له بالوحي الخاصّ الذي ينزل بالرسالة السماوية، والقرآن شاهد على ذلك، فهذه مريم (عليها السلام) رأت ملكاً يبشّرها بعيسى (عليه السلام) وهي ليست نبيّة، ورأت زوجة إبراهيم (عليه السلام) الملك وبشّرها بإسحاق ويعقوب، ورأت زوجة لوط الملائكة وأخبرت قومها بهم، ورأى السامري الملك وأخذ قبضة من أثره، مع أنّ هؤلاء جميعاً ليسوا أنبياء.
وجاء في صحيح مسلم7: 72، كتاب الفضائل، باب قتال جبريل وميكائيل عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم أحد: "عن سعد بن أبي وقاص قال: رأيت عن يمين رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) وعن شماله يوم أُحد رجلين عليهما ثياب بيض ما رأيتهما قبل ولا بعد، يعني جبرئيل وميكائيل (عليهما السلام) ".
قال النووي: "وفيه فضيلة الثياب البيض، وأنّ رؤية الملائكة لا تختصّ بالأنبياء، بل يراهم الصحابة والأولياء، وفيه منقبة لسعد ابن أبي وقاص الذي رأى الملائكة" 1: 66.
وجاء في صحيح البخاري4:20 كتاب المناقب، باب مناقب عمر عن أبي هريرة قال: "قال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم): لقد كان فيما قبلكم من الأُمم ناس محدّثون، فإن يك في أُمتي أحد فإنّه عمر".
قال ابن حجر في شرحه للرواية: "قوله: محدّثون، بفتح الدال... قالوا
=>
____________
<=
المحدّث بالفتح هو الرجل الصادق الظنّ، وهو من اُلقي في روعه شيء من قبل الملأ الأعلى... وقيل مكلّم، أي تكلّمه الملائكة بغير نبّوة، وهذا ورد في حديث أبي سعيد الخدري... ولفظه: قيل: يارسول اللّه وكيف يحدّث؟ قال: تتكلّم الملائكة على لسانه، رويناه في فوائد الجوهري" فتح الباري 7: 62 كتاب فضائل أصحاب النبي، في مناقب عمر.
وذكر القسطلاني في إرشاد الساري 8: 204 نحوه وقال: "وليس قوله: فإن يكن، للترديد، بل للتأكيد، كقولك: إن يكن لي صديق ففلان، إذ المراد اختصاصه بكمال الصداقة لا نفي الأصدقاء، وإذا ثبت أنّ هذا وجد في غير هذه الأُمّة المفضولة فوجوده في هذه الأُمّة الفاضلة أحرى".
وقال المناوي: 6097: "وقد كان فيما مضى قبلكم من الأُمم... أُناس محدّثون، قال القرطبي: الرواية بفتح الدال اسم مفعول جمع محدّث بالفتح، شيء على وجه الإلهام والمكاشفة من الملأ الأعلى... أو تكلمه الملائكة بلا نبّوة. ومعنى هذا الخبر قد تحقق ووجد في عمر قطعاً، وإن كان النبي لم يجزم بالوقوع، دلّ على وقوعه لعمر أشياء كثيرة" فيض القدير في شرح الجامع الصغير 6: 664.
إلى غير ذلك من الروايات الكثيرة وكلمات علماء السنّة التي تصرّح بأنّ عمر بن الخطاب محدّث، تحدّثه الملائكة، لا أنّه يراها فقط.
فإذا كان هناك روايات عند أهل السنّة تصرّح بذلك، فلا معنى لإلقاء التهم على الشيعة والطعن فيهم والتحامل عليهم بأنُهم لا يؤمنون بانقطاع الوحي، فإن كان تحديث الملائكة لشخص يعني عدم الإيمان بانقطاع الوحي، فهذا مشترك بين السنّة والشيعة ; لأنّه كما توجد روايات عند الشيعة بتحديث الملائكة لأئمة أهل البيت، فكذلك توجد روايات عند أهل السنّة بتحديث الملائكة لعمر، وإن كان تحديث الملائكة لشخص يختلف عن معنى الوحي والرسالة فهذا ما تؤمن به الشيعة أيضاً من أن الوحي والرسالة شيء وهو قد ختم بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، والتحديث شيء آخر يختلف عنه، فلا داعي للتشنيع على الشيعة بأمر هو موجود عند أهل السنّة ومروي في أصح كتبهم، بل تجاوز أهل السنّة الحدّ في ذلك حيث جعلوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) غير عالم بأنّ عمر بن الخطاب محدَّث من قبل الملائكة، ولذا أخبر على نحو التعليق لا الجزم!!