اما اليهود فقد كانوا اكثر وضوحا، حيث اعلن عدد قليل منهم اعتناقه للاسلام، وبقيت الاكثريه الساحقه منهم على دينها، ولم يكرههم النبى على ترك دينهم واعتناق دينه، ولم يغضب منهم او يحقد عليهم، بل كان يامل ان يكونوا اكثر تفهما له، وتعاطفا معه، فهم من نسل اسحاق النبى، ومحمد من نسل اسماعيل النبى، واسحاق واسماعيل اخوه فهما ابنا ابراهيم (عليهم‏السلام)، بمعنى انهم ابناء عمومه، ومن جهه ثانيه فهم اهل كتاب، وقد احيطوا علما باخبار الرسل والانبياء، وقبل اعلان النبوه المحمديه، كان اليهود يستفتحون على المشركين العرب ويوكدون لهم ان نبيا سيظهر، وان هذا النبى هو بشرى انبياء بنى اسرائيل الذين سبقوه.

ولان النبى حيادى وموضوعى، وليس عنده حكم مسبق، فقد كان يتوقع خيرا من اليهود، ويظن انه بوقت يطول او يقصر سيقتنع اليهود به ويدخلون فى دينه، ويستفيد الاسلام من تجارب اليهود الايمانيه السابقه، ومما وسع افق هذا التفاول، ارتباط اليهود بسلسله متماسكه من التحالفات مع بطون الاوس والخزرج، وظهر اليهود بمظهر الموالين لمحمد او الراضين بقيادته، المستبشرين بعهده خيرا.

كل هذه الاسباب الموضوعيه دعت رسول‏اللّه لاعتبار سكان يثرب وما حولها بما فيهم اليهود مع من هاجروا من اهل مكه امه واحده متميزه عن غيرها من الناس، واعتبار المدينه وطنا للجميع بما فيهم اليهود وحمايه هذا الوطن من مسووليه الجميع، واعترف بالتحالفات القبليه السابقه لقدومه، وتركها على حالها، واعط‏ى كافه هذه التشكيلات الحريه باداره شوونها، وعند اختلافها فهو المرجع لحل هذه الخلافات.

واعتبر النبى اعلى سلطه فى البلاد، وقد وضع النبى هذه الترتيبات على شكل دستور، وافق عليه كل سكان المدينه بما فيهم اليهود، او تظاهروا بالموافقه ولم يعترض عليها منهم احد، واخذت هذه الترتيبات صفه التعاقد.

وقد جاء فى هذه الترتيبات ما يلى وبالحرف:

(وان على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم، وان بينهم النصر على من حارب اهل هذه الصحيفه (الدستور)، وان بينهم النصح والنصيحه والبر دون الاثم)، وقد حللنا هذه الصحيفه فيما سبق (516).

ومن الموكد ان اليهود قد فهموا مضمون الصحيفه، ووافقوا عليها، او على الاقل لم يعترضوا.

وليس هنالك ما يمنعهم من الاعتراض عليها، فتحالفاتهم مع البطون ما زالت قائمه، ومعهم كافه المنافقين، ومحمد لم تثبت اقدامه بعد فى يثرب، واليهود اهل مال وقوه، ولهم نفوذ، ومع هذا لم يرو احد بان اليهود قد اعترضوا على هذه الترتيبات، وكلما روى يفيد بانهم قد قبلوا بها او تظاهروا بالقبول.

وقد ذهب المورخون والرواه واصحاب السيره مذهبين:

1- فمنهم من يقول بان اليهود قد عاهدوا النبى وتعاقدوا معه، بان تكون حرب النبى حربهم، وسلمه سلمهم، وعدوه عدوهم، ونصوص الصحيفه او الدستور الذى وضعه النبى لترتيب اوضاع يثرب وما حولها بعد قدومه اليها توكد ذلك، وسير الاحداث التاريخيه يوكد ايضا هذا القول.

2- ومنهم من يرى بان اليهود قد عاهدوا النبى وتعاقدوا معه على التعايش معه، وان لا يعينوا عليه عدوا كائنا من كان.

وسيان اخذنا بهذا القول او ذاك، فان اليهود على اقل تقدير قد التزموا بعدم معاداه النبى وبالتعايش السلمى معه.

نقض العهد والخروج على النبى:

من الموكد ان يهود المدينه وما حولها ذهلوا من سرعه التفاف بطون الاوس والخزرج حول الرسول، ومن قدره الرسول على استقطابهم، ومن حاله الانبهار العام التى دفعت هذه البطون لموالاه محمد او التظاهر بموالاته.

واكتشف اليهود بانهم قد تميزوا او عزلوا عن المجتمع، فراوا ان من الحكمه ان لا يكشفوا انفسهم، فاعلنوا انهم باقون على دينهم، ولكنهم يوالون النبى ويقبلون بقيادته وهم مع الاوس والخزرج، يوالون وليهما ويعادون عدوهما.

ومن الطبيعى ان النبى لا يحاكم على البواطن، فهو يعلم علم اليقين ان هنالك منافقين يظهرون الايمان ويبطنون الكفر والعصيان، ويتشدقون بموالاه النبى وهم عصاه، ولكن حسب مقتضيات العدل الالهى فانه لا سلطان له عليهم ما اظهروا الاسلام ونطقوا بالشهادتين، ولا سلطان له على اليهود الذين احتفظوا بدينهم، واعلنوا قبولهم بقياده النبى، وابطنوا العداوه له، لقد كان النبى يطاولهم ما طاولوه، ويهادنهم ما هادنوه، ولا يبدا بعداوه اى فرد او جماعه، ولا يفتح على اى كان ابواب المواجهه والخصومه، تلك هى طبيعه النبى وطبيعه دينه وهذا منهج النبى فى كل مواجهاته، فقد كان يترك الخصم حتى يبدا بالعدوان، فاذا بدا الخصم بالعدوان يعط‏ى اوامره بالرد وبحجم العدوان.

ومن هذا المنطلق، فان افرادا من اليهود، وجماعات منهم قد نقضوا العهد، وخرجوا على العقد، فجابه الذين نقضوا عهودهم، ولم يتعرض لغيرهم، فاذا خرج خارج جابهه، واذا نقض عهده ناقض تصدى له.

هذه السياسيه الحكيمه جنبته وحده خصومه، وفتتت جبهه اولئك الخصوم، فمن فيض النعمه الالهيه على محمد، ومن عبقريه قيادته، ان خروج اليهود ومواجهتهم له لم يتم على دفعه واحده، ولا بوقت واحد، والا لكان فى ذلك حرج شديد، انما حدثت مواجهه اليهود له على موجات، وباوقات متعدده، وفى كل خروج كان الرسول يواجه من يخرج عليه من اليهود ومن ينقض عهده، ولا يتعرض لغيره لا من قريب ولا من بعيد.

وكان يحرص كل الحرص، على ان يبين لمن يخرج عليه سوء عمله وحقيقته، وان ينصحه بالنزوع عنه، فان ابى استعان النبى عليه باللّه وواجهه، مما اضفى على مواجهاته كلها طابع الشرعيه.

نتائج معركه بدر:

النتائج المذهله التى اسفرت عنها معركه بدر، صعقت كل اولئك الذين كانوا يبطنون الكراهيه والحسد لمحمد ولاله واتباعه، واججت نيران حسدهم للنبى وحقدهم عليه، واخرجتهم عن وقارهم المصطنع، وعن صمتهم الاثم.

ومن هولاء:

اليهود، والمنافقين، ومع انه لا علاقه خاصه لهم ببطون قريش، الا انهم ابدوا تاثرهم البالغ بما اصاب البطون وبكوا قتلى البطون، وشجعوها على الانتقام من محمد وآله.

المواجهه مع بنى قينقاع:

بنو قينقاع احدى الجماعات اليهوديه التى هزتها نتائج معركه بدر، واخرجتها عن صمتها الاثم، ومع انهم قد اعطوا الرسول العهود والمواثيق بان يكونوا معه او لا يظاهروا عليه عدوا، الا انهم نقضوا العهد، وجاهروا بعداوتهم للنبى، فجمعهم النبى، وذكرهم بعهده وعقده ودعاهم الى الاسلام، او التوقف عن اعلان عداوتهم له، فلم يصغوا للنبى، فحذرهم النبى من ان يصيبهم ما اصاب البطون فى بدر، فاجابوا النبى بصلف قائلين:

(يا محمد لا يغرنك من لقيت، انك قهرت قوما اغمارا، وانا واللّه اصحاب الحرب، ولئن قاتلتتنا لتعلمن انك لم تقاتل مثلنا) (517).

ومع هذا تركهم النبى ليقيم الحجه عليهم، وليحملهم مسووليه بدء العدوان عليه، وجاءت امراه مسلمه لتشترى مصاغا من سوقهم، فغافلها يهودى فربط ردائها دون ان تشعر، ولما نهضت المراه انكشفت عورتها، فضج اليهود بالضحك، فقام رجل مسلم فقتل الذى ربط ثوب المراه.

عندئذ، اجتمعت بنو قينقاع وقتلوا الرجل، واعلنوا رسميا نبذهم للعهد وتحصنوا فى حصنهم، واعلنوا الحرب ضمنيا على النبى، عندئذ سار اليهم النبى، وحاصرهم خمس عشره ليله، حتى قذف اللّه فى قلوبهم الرعب، وعرضوا على رسول‏اللّه ان يخرجوا من الحصن، ويجلوا من المدينه، فابى الرسول الا ان ينزلوا على حكمه، وهكذا كان، فربطهم رسول‏اللّه واوثقهم بالحبال فحضر ابن ابى، وتيقن ان النبى سيقتلهم فادخل يده فى جنب درع النبى، وطلب منه ان يحسن لمواليه وتغير وجه النبى، فقال له:

(ارسلنى)، فقال ابن ابى:

(لا ارسلك حتى تحسن فى موالى اربعمئه دارع وثلاثمئه حاسر، تريد ان تحصدهم فى غداه واحده)، فقال الرسول:

(خلوهم لعنهم اللّه ولعنه معهم) وامر بان يجلوا من المدينه.

وحاول ابن ابى ان يبقيهم فى المدينه فابوا، وتم اجلاوهم الى اذرعات، بعد ان اخذ النبى اموالهم (518).

المواجهه مع بنى النضير:

قتل رجل مسلم رجلين من بنى عامر دون ان يعلم ان بينهم وبين رسول‏اللّه امان وعهد، وطلب عامربن الطفيل ديتهما، فسار رسول‏اللّه الى بنى النضير ليستعين بهم على الديه، وكانوا حلفاء بنى عامر، فقال اليهود:

نفعل يا ابا القاسم ما احببت، اجلس حتى نطعمك.

ثم خلا بعضهم الى بعض فقال حيى‏بن اخطب:

(يا معشر اليهود، قد جاءكم محمد فى نفر من اصحابه لا يبلغون العشره، فاطرحوا عليه حجرا من فوق هذا البيت الذى هو تحته فاقتلوه، فلن تجدوا اخلى منه الساعه، فان قتل تفرق اصحابه، فلحق من كان معه من قريش بحرمهم، وبقى من ها هنا من الاوس والخزرج).

فقال عمروبن جحاش:

(انا اظهر على البيت واطرح عليه الصخره!)

فقال سلام‏بن مشكم:

(اطيعونى هذه المره وخالفونى الدهر، واللّه ان فعلتم ليخبرن بانا قد غدرنا به، وان هذا نقض العهد الذى بيننا).

وجاء رسول‏اللّه الخبر من السماء، فنهض كانه يريد حاجه، وترك اصحابه جلوس مع اليهود، واكتشف اليهود ان موامرتهم قد كشفت، ونصحهم ناصح منهم، اسلموا لتنجو من عاقبه موامرتكم عليه، فابوا، فقال لهم حكيمهم، ((اذا فان محمدا سيطلب منكم الخروج فاخرجوا).

ولما وصل رسول‏اللّه الى مامنه ارسل ليهود بنى النضير رسولا لينقل لهم انذارا مختصرا:

(ان اخرجوا من بلادى)، وتبلغوا الانذار فشجعهم ابن ابى على رفض الانذار.

وحاول ابن ابى ان يشكل جبهه من اليهود والمنافقين، وسريعا امر النبى من اطاعه بالتهيو لمقاتله بنى النضير الذين نقضوا عهده، ورفضوا انذاره، ودخلوا حصونهم واستعدوا للقتال، وتخلى عنهم ابن ابى ويهود بنى قريظه.

وبدا المسلمون فى حصارهم، واثناء الحصار نزلت قله منهم، واعلنت اسلامها، وبعد ان استحكم الحصار استسلم بنو النضير، ونزلوا على ان لهم ما حملت الابل الى الحلقه، فاجلاهم رسول‏اللّه عن المدينه، وحملوا على ستمائه بعير، وهكذا ربح المواجهه مع بنى النضير (519).

المواجهه مع بنى قريظه:

بقيت بنو قريظه على عهدها وعقدها مع رسول‏اللّه، وكانت ترى ان خروج بنى قينقاع وبنى النضير على العهد والعقد عمل طائش وغير مصيب، ولم يصدر من بنى قريظه ما يعكر حاله التعايش السلمى بينهم وبين رسول‏اللّه واصحابه، واستمرت الامور على ما يرام، ووصف عقيد بنى قريظه كعب‏بن اسد العلاقات بين محمد وبين بنى قريظه قائلا:

(انى عاقدت محمدا وعاهدته، فلم نر منه الا صدقا، واللّه ما اخفر لنا ذمه، ولا هتك لنا سترا، ولقد احسن جوارنا) (520).

هذا ما قاله عقيد بنى قريظه للوفد الذى جاء ليضم بنى قريظه الى تجمع الاحزاب، الا ان حيى‏بن اخطب ومن معه نجحوا باغواء بنى قريظه، واتفقت بنو قريظه اخيرا على ان تنظم لتجمع الاحزاب، وان تهجم على المسلمين من الخلف عندما تبدا بطون قريش ومن معها من الاحزاب بالهجوم على محمد، وهكذا يواجه الرسول هجومين معا وبان واحد، هجوم من داخل المدينه يشنه 750 مقاتل من بنى قريظه، وهجوم من خارج المدينه تشنه الاحزاب المولفه من بطون قريش ومن تحالف معها من القبائل واليهود وعددهم عشره آلاف مقاتل، وفوجئت الاحزاب بالخندق، وبقتل على‏بن ابى طالب لعمروبن ود اقوى مقاتلى الاحزاب، وهزمت الروح المعنويه لتلك الاحزاب وفشل حصارها للمدينه، فارسل اللّه ريحا وجنودا لم تروها، عندئذ اصدر ابو سفيان بوصفه القائد العام للاحزاب امرا بالانسحاب، فانسحبت الاحزاب دون علم بنى قريظه.

وبالوقت الذى كانت تنتظر فيه بنو قريظه هجوم الاحزاب من الامام لتبدا هجومها من الخلف، اصدر النبى اوامره بالزحف على بنى قريظه.

وعلمت بنو قريظه بانسحاب الاحزاب، وبزحف النبى واصحابه، فرعبت وايقنت بالهلاك، ولكنهم تحصنوا فى حصونهم، على امل ان يحسنوا موقعهم التفاوضى مع النبى، ولما احاط بهم النبى، قالوا:

نكلمك قال الرسول:

نعم.

قالت بنو قريظه:

(ننزل على ما نزلت عليه بنو النضير لك الاموال والحلقه وتحقن دماءنا، ونخرج من بلادكم بالنساء والذرارى، ولنا ما حملت الابل الا الحلقه).

فرفض رسول‏اللّه هذا العرض، فعرضوا عليه قائلين:

(تحقن دماءنا وتسلم لنا النساء والذريه، ولا حاجه لنا فى ما حملت الابل)، ورفض النبى هذا العرض ايضا، وقال لهم:

تنزلون على حكمى، واضطروا بعد حصار شديد ان ينزلوا على حكم النبى، فامر الرسول بربط المقاتلين منهم ووضعهم فى جهه، ووضع النساء والذريه فى جهه اخرى.

ودنت بطون الاوس وقالوا:

يا رسول‏اللّه ان بنى قريظه حلفاونا دون الخزرج، وقد وهبت بنى قينقاع لابن ابى، وقد ندم حلفاونا على ما صنعوا فهبهم لنا، فقال الرسول:

(اما ترضون ان يكون الحكم فيهم الى رجل منكم؟) قالوا:

(بلى)، فقال النبى:

(فذلك الى سعدبن معاذ).

وقبلت اليهود سعدا كحكم، وذهبت الاوس وقالت لسعد:

(يا ابا عمرو ان رسول‏اللّه قد ولاك امر مواليك لتحسن فيهم فاحسن، فقد رايت ابن ابى وما صنع فى حلفائه، مواليك، مواليك، قد منعوك فى المواطن كلها، واختاروك على من سواك، ورجوا عياذك، ولهم جمال وعدد، وقد نصروك يوم البعاث والحدائق والمواطن، ولا تكن شرا من ابن ابى).

وكان سعدبن معاذ ساكتا، ولما اكثروا عليه قال سعد:

(قد آن لسعد ان لا تاخذه فى اللّه لومه لائم)، وقال سعد للاوس:

(اترضون بحكمى لبنى قريظه؟) قالت الاوس:

(نعم قد رضينا حكمك وانت غائب).

فقال سعد:

(لا آلوكم جهدا!)

قالت الاوس:

(ماذا تعنى؟) قال سعد:

(عليكم عهد اللّه وميثاقه ان الحكم فيهم ما حكمت؟) قالت الاوس:

(نعم).

قال سعد:

(وعلى من ها هنا مثل ذلك؟) فقال الرسول ومن معه:

(نعم).

قرار الحكم:

بعد ان راى رسول‏اللّه ان الاوس كلها متعاطفه مع بنى قريظه الذين اضطروا مكرهين ان ينزلوا على حكمه، راى ان يعين سيد الاوس سعدبن معاذ ليحكم فى بنى قريظه، وقبلت الاوس ذلك وارتاحت له.

فاخذ سعدبن معاذ من الاوس عهد اللّه وميثاقه ان يقبلوا بحكمه، واخذ العهد والميثاق من الرسول ومن معه ليقبلوا بحكمه وبعد ذلك اصدر حكمه، وهو:

(فانى احكم فيهم ان يقتل من جرت عليه الموسى، وتسبى النساء والذريه، وتقسم الاموال).

ونفذ الحكم، فسبق السبى الى دار اسامه‏بن زيد، والنساء والذريه الى دار ابنه الحارث، وجمعت الاسلحه والاثاث والمتاع.

ثم نفذ الحكم، وتم قتل المقاتله، ورجته سلمى بنت قيس ان يعفو عن يهودى كان يترد ويتودد الى اخيها سليط، فوهبها رسول‏اللّه ذلك اليهودى وعفا عنه، وعندما راى رسول‏اللّه كراهيه الاوس لقتل بنى قريظه، فرق الاوس، ليتولى رجال الاوس بانفسهم مهمه تنفيذ حكم القتل بحلفائهم السابقين، فيكون القاضى منهم، ومن يتولى الاعدام منهم، وهكذا بالقضاء على بنى قريظه زال الخطر اليهودى عن المدينه، واصبحت مسكنا خالصا للمسلمين والمنافقين معا (521).

المواجهه مع يهود خيبر:

كانت خيبر من اعظم واكبر التجمعات اليهوديه فى الجزيره، حتى انها اصبحت قلعه حقيقيه، ففيها المال وفيها الرجال، وقد تابع يهود خيبر بقلق بالغ انباء مواجهات الرسول مع يهود بنى قينقاع، وبنى النضير، وبنى قريظه وتاثروا بما اصابهم، وتعاطفوا معهم حتى صارت خيبر ملجا للكثير من اليهود، واستقطبت بخيراتها واموالها عواطف الكثير من ابناء القبائل العربيه المحتاجه الطامعه باى شى‏ء مما حولها، ومع الايام تحولت الى قاعده لمن يتربصون الدوائر بالنبى وآله ومن والاه، وصارت اعظم خطر يهدد الاسلام.

وقد ادرك يهود خيبر ومن لجا اليهم وتحالف معهم ان المواجهه مع محمد ومن والاه قدر محتوم لا مفر منه، وقد ارعبتهم مواجهات محمد السابقه مع خصومه، لذلك فهم يخشون فكره شن هجوم عليه، مما فرض عليه فرضا ان يبقوا بحاله ترقب وقلق حتى ياتى محمد ومن والاه لحربهم فيحاربونه حربا دفاعيه، وهم فى حصونهم، واستعدادا لتلك المواجهه الحاسمه رمموا حصونهم واصلحوها، واستوردوا السلاح وصنعوه، ووسعوا دائره تحالفاتهم مع القبائل، خاصه مع قبيله غطفان، وزعيمها عيينه‏بن حصن، ويقال انهم جندوا عشره آلاف مقاتل يتم استعراضهم يوميا، وقدروا انهم بهذه العده والعدد سيكونون اول من يلحق هزيمه ساحقه بمحمد وآله ومن والاه، ومن هنا فقد ايقنوا بان محمدا قادم اليهم لا محاله، وترقبوا كل يوم قدومه ليواجهوه بما لا قبل له به.

وبعد ان فتح اللّه على نبيه فى صلح الحديبيه ذلك الفتح المبين، وحقق انتصاره السياسى، وخلت بطون قريش بينه وبين العرب، واعترفت به وهى عدوته اللدوده، واعترفت بحقه باستقطاب العرب حوله.

عندئذ قدر النبى ان الفرصه ملائمه لمواجهه اخطر واقوى ما تبقى من خصومه، وهم يهود خيبر، وبعد اقل من شهرين من رجوعه من الحديبيه اصدر اوامره بالتهيو لغزو خيبر، وفضل ان يغزو معه الذين خرجوا معه الى الحديبيه، واعلن ان الغايه من غزو خيبر هو الجهاد وليست الغنيمه وبعد اتمام الاستعدادات، وفى شهر صفر من السنه السابعه للهجره زحف النبى نحو خيبر، وفى الطريق علم ان قبائل غطفان الكبيره قد تحالفت مع اليهود على حرب محمد مقابل تمر خيبر لسنه.

ولما استقر الرسول فى معسكره قرب خيبر امر اتباعه ان لا يقاتلوا حتى ياذن لهم النبى بالقتال ونظم اتباعه، واعط‏ى الرايات، فاعط‏ى رايه الى على (عليه‏السلام)، ورايه الى الحباب‏بن منذر، ورايه الى سعدبن عباده، ثم اذن بالقتال، وامر ان يركز على الحصن الذى فيه غطفان، فضغط المسلمون ضغطا شديدا على هذا الحصن، واشيع فى غطفان ان مضاربهم وبيوتهم وذرياتهم قد تعرضوا للغزو، فانسحبت غطفان من التحالف، وذهبت لتحمى ذراريها من الغزو الموهوم، وبانسحاب غطفان تهدمت الروح المعنويه‏لاهل خيبر، ولكنهم قاتلوا بكفاءه، وهجم الرسول على الحصون حصنا حصنا فصمدت امامه، ثم انسحب، واتخذ مقرا لقيادته، ثم اخذ يرسل المسلمين على موجات، موجه تذهب بالرايه وموجه ترجع.

فاعط‏ى رايته الى ابى بكر، وخرج ابو بكر ولكنه رجع ولم يفعل شيئا، ثم اعط‏ى الرايه الى عمر، فخرج عمر ثم رجع ولم يفعل شيئا (522).

وفى كنز العمال ان رسول‏اللّه بعث ابا بكر بالناس فانهزم حتى رجع.

وبعث عمر فانهزم بالناس حتى رجع.

وقال:

اخرج هذا الحديث ابن ابى شيبه، واحمدبن حنبل، وابن ماجه، والبزار، وابن جرير وصححه، والطبرانى فى الاوسط، والحاكم، والبيهقى فى الدلائل، والضياء المقدسى (523).

والى هذا اشار الهيثمى فى مجمعه (524)، وذكره مختصرا وقال:

رواه الطبرانى فى الكبير والاوسط.

اما الواقدى رحمه اللّه فقد اشفق ان يقرن اسم ابى بكر وعمر مع الهزيمه والرجوع دون فعل شى‏ء، لذلك روى الخبر:

(دفع الرسول لواءه الى رجل من اصحابه المهاجرين فرجع ولم يصنع شيئا، ثم دفعه الى آخر فرجع ولم يصنع شيئا) (525).

ولاح له انه بعمله هذا برا ابا بكر وعمر من تهمه الهزيمه، وتقرب الى اللّه باخفاء الحقيقه.

امام تراجع المسلمين سالت كتائب اليهود، ورجحت الكفه لصالحهم، وحض رسول‏اللّه المومنين على القتال، واقبل الليل وحجز بين المتقاتلين، واغتم المسلمون فقال النبى:

(لاعطين الرايه غدا رجلا يحبه اللّه ورسوله، يفتح اللّه على يديه، ليس بفرار...) (526).

وفى الصباح نادى على على بن ابى طالب، وكان ارمدا لا يرى فتفل بعينه واعطاه الرايه (527).

ولا ينكر احد من اهل المله قول الرسول هذا، ولا ينكر واقعه اعطاء النبى الرايه لعلى.

وبالرغم من كراهيه القوم لعلى، وحقدهم عليه، وبراعتهم بتحريف الوقائع التاريخيه الا انهم عجزوا عن اخفاء تلك الحقيقه او تحريفها.

اخذ على الرايه واندفع كالاعصار بقوه ربانيه، كما يقول الفخر الرازى فى تفسيره لقوله تعالى:

(ام حسبت ان اصحاب الكهف) (528).. فتلقاه الحارث اخو مرحب فى ثله من رجاله وهجموا على المسلمين، فانكشف المسلمون وثبت على وحده، وتمكن من قتل الحارث فرجع اصحاب الحارث الى الحصن، وقهر يهود خيبر لاول مره، ودنا الامام من الحصن، فضربه يهودى فطرح ترسه من يده، فتناول الامام بابا وتترس به.

روى الامام احمدبن حنبل فى مسنده (529) ان ثمانيه نفر عجزوا عن قلب ذلك الباب، وروى الخطيب فى تاريخ بغداد ان الباب الذى تترس به الامام، لم يقو اربعون رجلا على حمله (530).

وثبت الامام على، وقاتل بقوه لم يالف مثلها البشر، وحض النبى المسلمين على الجهاد، وسقطت حصون خيبر حصنا بعد حصن، وايقن من تبقى من اليهود بالهلكه وقذف اللّه فى قلوبهم الرعب، ونزل ابن ابى الحقيق وصالح رسول‏اللّه على حقن دماء من فى حصونهم من المقاتله، وترك الذريه لهم، ويخرجون من خيبر وارضها بذراريهم ويخلون بين رسول‏اللّه وما كان لهم من مال او ارض وعلى الصفراء والبيضاء والكراع والحلقه، وعلى البز الا ثوبا على ظهر انسان، وفتحت خيبر واستسلم اليهود وذلوا، وفكرت زينب بنت الحارث بالانتقام من محمد، فجمعت المعلومات حول ما يحب ويشتهى، واخيرا اخذت كتف شاه وذراعها وطبختها ثم حملتها الى النبى وقدمتها له كهديه، فقبل النبى الهديه كعادته وفتح الهديه ودعى من حضر من اصحابها فنهش منها ونهشوا، وبعد ان ازدردوا لقمه منها قال النبى لاصحابه:

كفوا ايديكم، فان هذه الذراع تخبرنى انها مسمومه، ومات الذين اكلوا منها، اما رسول‏اللّه فقد عاش بعدها ثلاث سنين، وجيى‏ء بالمراه فاعترفت فقيل ان الرسول عفا عنها، وقيل انه قتلها.

وجمعت الغنائم، واخذ الرسول الخمس.

وبعد فتح خيبر قدم الدوسيون وفيهم ابو هريره والذى جعلته السلطه فى ما بعد اعظم مرجع.

وعند تقسيم الانفال واعطاء الخمس لذوى القربى من بنى هاشم وبنى المطلب مشى عثمان الى رسول‏اللّه، وقال له:

(نحن وبنى المطلب فى منزله واحده -يعنى ان هاشم وعبد شمس والمطلب ونوفل اخوه- اعطيتهم وتركتنا، فقال الرسول:

ان بنى المطلب لم يفارقونى فى الجاهليه والاسلام، دخلوا معنا الشعب، انما بنو هاشم وبنو المطلب شى‏ء واحد، وشبك رسول‏اللّه بين اصابعه) (531).

وكان حصيله القتلى من المسلمين 15شهيدا وقتل من اليهود 93رجلا (532).

يهود فدك:

ارسل النبى لهم محيصه‏بن مسعود، وفاوضهم حتى صالحوا على ان تكون لهم نصف الارض بتربتها ولرسول‏اللّه نصفها، فاخرهم رسول‏اللّه عن ذلك، فلما كان عمربن الخطاب اجلاهم مع بقيه اليهود الى بلاد الشام.

ولفدك قصه طويله سنذكرها فى باب الانقلاب (533).

المواجهه مع يهود وادى القرى:

اثناء عوده الرسول سلك منطقه برمه حتى وصل الى وادى القرى يريد يهودها، وقد سمع اليهود بمسيره اليهم، واجلبوا معهم بعض العرب ولما اقبل النبى استقبله اليهود بالرمى، فنظم الرسول اصحابه واعط‏ى الرايات.

لسعدبن عباده، والى الحباب‏بن المنذر، وسهيل‏بن حنيف.

وبعد ذلك دعى رسول‏اللّه اليهود الى الاسلام، ليحقنوا دماءهم ويحفظوا اموالهم، فرفضوا عرض الرسول وخرج فرسانهم للمبارزه حتى قتل منهم احد عشر رجلا، ثم استسلموا فى المساء وتم الفتح عنوه، واقام الرسول فى وادى القرى اربعه ايام وقسم الغنائم، وترك النخيل والارض بايديهم وعاملهم عليها (534).

تيماء:

لما علم يهود تيماء بما اصاب فدك وخيبر ووادى القرى صالحوا رسول‏اللّه على الجزيه، واقاموا بايديهم واموالهم (535).

مواجهات فرديه:

الشعر له سلطان فى نفوس العرب، والشاعر بمثابه محطه اذاعه ينتقل ما تبثه عبر امواج الاثير.

وقد ظهرت فى هذا العهد مجموعه من الاشخاص اجادوا الشعر ايما اجاده وآذوا النبى، واساءوا للاسلام، وحاولوا ان يولبوا العرب على محمد، وعلى الاسلام، مثلما فعلت عصماء بنت مروان، ومثل كعب ابن الاشرف اليهودى، وابى عفك اليهودى، وسلام‏بن ابى الحقيق.

وقد ساهم اولئك المجرمون مساهمه فعاله بتاليب العرب وتوحيدهم على حرب النبى، وباشعال الحروب، وبذل النبى جهوده لهدايتهم فرفضوا ذلك رفضا مطلقا بالرغم من ان لرسول‏اللّه عندهم عهدا وميثاقا، وبهذه الحاله من غير المعقول ان يدعهم وشانهم وهم يجهرون بعدائهم الموثر، ويولبون الناس ضده وضد دينه، فاصدر اوامره بملاحقتهم وقتلهم اينما كانوا، وقتلوا بالفعل (536).

الفصل الخامس: المواجهه مع القبائل الطامعه بغزوه لمغنم

الجزء الاكبر من الجزيره العربيه صحارى، والموارد شحيحه لا تكفى سكانها حتى مع السلطه النافذه والعداله بالتوزيع، مما جعل الكثير من القبائل تعتمد بسد الكثير من حاجاتها على الغزو، فيغزوا بعضها البعض.

ولما نجح الرسول بتكوين كيانه السياسى فى المدينه، وهزم خصومه وغنم اموالهم، ولان المدينه واحه وسط صحراء، فقد فكرت الكثير من القبائل المحتاجه بغزوها، لا كراهيه لمحمد او لدينه، ولا انتقاما منه ولكن طمعا بالمغنم وما يسد بعض حاجاتها.

ولقد راودت فكره غزو المدينه اذهان العديد من القبائل والجماعات، وتهيات بالفعل للغزو وشرعت به، ولكن النبى كان لها بالمرصاد واستعمل معها اسلوبا لم تعهده العرب وهو الحرب الوقائيه، فعندما تتوفر لديه المعلومات بان هذه القبيله او تلك تستعد لغزو المدينه كان النبى يسارع ويجهز حمله فيغزوها قبل ان تغزوه.

وبهذا الاسلوب المميز استطاع الرسول ان يربح المواجهه مع القبائل الطامعه فى غزوه، وان ينزع من اذهانها التفكير بغزوه، وان يشعرها بوجوده وبقدرته على ان ينال كل من تسول له نفسه الكيد به.

وهذا ما فعله فى غزوه قرقره الكدر بجمع ثعلبه ومحارب، ومثل حملته على تجمع بنى سليم، وسريته على طليحه، ومسلم‏بن خويلد، ومثل غزوه ذات الرقاع التى قادها الرسول لارهاب جموع انمار وثعلبه، وغزوه دومه الجندل، وغزوه المريسيع على بنى المصطلق من خزاعه، وحملته على القرطاء من بنى بكر، وسريته الى الغمر بجمع بنى محارب وثعلبه، وسريه زيد الى بنى ثعلبه، وسريه على‏بن ابى طالب الى سعدبن بكر بفدك، وسريه عبداللّه بن رواحه لاسيربن زارم فى غطفان، وسريه ابى بكر الى بنى كلاب فى نجد، وسريه الليثى الى بنى عواد وبنى عبدبن ثعلبه، وسريه بشيربن سعد الانصارى الى عين اجبا لتشتيت جمع من غطفان، وسريه ابى العوجا الى بنى سليم، وسريه بنى الملوح، وسريه هوازن، وغزوه ذات السلاسل الى قضاعه، وسريه ابن ابى تقاده‏بن ربعى الى غطفان بمنطقه نجد، وسريه عيينه‏بن حصن الى بنى تميم اذ فاجاهم وشتت شملهم، وسريه قطبه‏بن عامر الى خثعم، وسريه علقمه‏بن مجزر الى الاحباش فى جده، وسريه الضحاك الى كلاب (537).

ومثل مواجهته الاخيره مع بطون قريش يوم نقضت عقده، ولم تف بعهده فجهز جيشا وفتح مكه.

المواجهه مع الخائنين والناكثين لعهده:

هنالك قبائل وجماعات اعطت الرسول العهد والعقد، ثم نقضت عقدها ولم تف بعهدها، فتصدى لها رسول‏اللّه وواجهها جماعه جماعه، والحق بها الهزيمه، كما فعل مع يهود بنى قينقاع، وكما فعل مع يهود النضير، ومع يهود بنى قريظه، ومع قبيله لحيان الذين غدروا باصحابه، وكما فعل مع الذين اعترضوا زيدبن حارثه اثناء سفره الى الشام، ومع النفر الذين قدموا المدينه واسلموا، ثم قتلوا مسلما وفروا، ومثل سريه موته لمعاقبه قتله الحارث‏بن عمير وهم من بنى غسان (538).

المواجهه مع الذين يعتدون عليه:

هنالك فئات اعتدت على النبى، اما تشهيا، او كرده فعل، فتصدى لهم النبى وواجههم، وجعلهم يدفعون ثمن عدوانهم عليه، مثل ذلك يوم قاد بنفسه حمله لمعاقبه كرزبن جابر الفهرى الذى اغار على مسرح المدينه واستاقه، وتعقبه الرسول حتى وادى بدر، ولم يدرك كرز.

ومثل ذلك ابو سفيان الذى حلف ان يثار من محمد قبل ان يغتسل، فجاء المدينه واحرق تبنا وبيوتا، وقتل انصاريا واجيرا له، فتعقبه النبى فى غزوه السويق ولكنه لم يدرك ابا سفيان.

ومثلها غزوه الغايه التى قادها الرسول للانتقام من عيينه‏بن حصن، الذى هاجم ضاحيه الغابه، وقتل ابن ابى ذر، وما زال الرسول يلاحقه حتى قتل منهم اناسا، منهم حبيب‏بن عيينه‏بن حصن، ومثل ذلك سريه غالب‏بن عبداللّه التى ارسلها الى مصاب اصحاب بشيربن سعد فصبحهم (539).

الموادعه:

كما عرف النبى المواجهه وعرفته فقد عرف الموادعه، فوادع القبائل الواقعه بين مكه والمدينه، وحاول بالحسنى هدايتها الى الاسلام كما فعل مع بنى ضمره، اذ اتفق مع سيدهم محشى‏بن عمرو الضمرى ان لا يغزوه، ولا يكثروا عليه جمعا، ولا يعينوا عدوا، وتعهد الرسول بان لا يغزوهم، ومثل سريه عبدالرحمن‏بن عوف الى كلب بدومه الجندل اذ طلب منه موادعتهم وقال له:

ان استجابوا لك فتزوج ابنه ملكهم، فمكث عندهم واسلم منهم عدد كبير، وسريه الخبط بقياده ابى عبيده الى حى من جهينه مما يلى ساحل البحر (540).

الانتصار الاعظم واستسلام بطون قريش:

فى الجاهليه كانت خزاعه حليفه لعبد المطلب جد الرسول، اعطاها عقده وعهده، وبطون مكه كلها تعلم ذلك، ولما جاء الاسلام اعتنقه الكثير من افراد قبيله خزاعه، وتعاطف مسلمهم ومشركهم مع النبى اثناء صراعه مع بطون قريش، وهم الذين اخبروه بمسيره الاحزاب، وعندما تم صلح الحديبيه وخلت البطون بين محمد وبين العرب، فمن شاء دخل فى عهد محمد وحلفه، ومن شاء دخل فى عهد بطون قريش وحلفها، عندئذ قفز الحاضرون من خزاعه واعلنوا دخولهم فى عقد محمد وعهده، وقالوا انهم يفعلون ذلك نيابه عن خزاعه كلها، ودخل من حضر من بنى بكر فى حلف قريش وقالوا:

انهم يفعلون ذلك نيابه عن بنى بكر كلها.

وكان بين خزاعه وبنى بكر عداوات قديمه هدات ولكنها لم تزل.

وجاءت الشراره التى اججت العداوه من جديد يوم هجا انس‏بن زنيم الديلى رسول‏اللّه، فسمعه غلام من خزاعه فضربه وشجه، وذهب انس الى قومه ف‏اراهم شجته، فثاروا واعتقدوا انها الفرصه الملائمه للانتقام من خزاعه وللثار منهم، وكلمت بنو نفاثه قاده البطون بذلك فاستخفوهم، وساعدت البطون بنى بكر بالسلاح والكراع والرجال سرا، وفوجئت خزاعه بالهجوم عليها، وهى لاهيه لا تعرف شيئا، وقتل 23 رجلا من خزاعه كان ذلك على راس اثنين وعشرين شهرا من صلح الحديبيه.

وهكذا نقضت بطون قريش عمليا عهدها وعقدها مع النبى، وبالتالى الغيت الهدنه، ورجعت حاله الحرب بين الطرفين، هكذا قيمت قريش الواقعه، وهكذا قيمها النبى.

وسمع النبى بهذا القدر، ثم خرج عمروبن سالم الخزاعى فى اربعين راكبا من خزاعه ليضعوا النبى بالصوره ويخبرونه بما حدث ويستنصرونه، وقدم عمرو والرسول بين اصحابه فى المسجد وانشده قصيدته المشهوره:

فاللهم انى ناشد محمدا حلف ابينا وابيك الاقلدا فان قريشا اخلفوك الموعدا ونقضوا ميثاقك الموكدا (541) غضب النبى غضبا شديدا مما فعلته البطون، ولكنه كتم غضبه، وقال لعمروبن سالم واصحابه:

(ارجعوا وتفرقوا فى الاوديه)، وقام رسول‏اللّه ودخل بيته، وقد ذكرت السيده عائشه انها سمعته يقول:

(لا نصرت ان لم انصر بنى كعب) (542).

ومن الموكد ان النبى العظيم قد صمم نهائيا ليضع حدا لوجود بطون قريش، وصمم على اجبارها على الاستسلام، ولكن بدون اراقه دماء، لذلك كتم ما فى نفسه، ليفاجئها.

وادركت بطون قريش انها قد نقضت العهد، وان محمدا سيلغى الاتفاق وسيغتنم فرصه حاله الاسترخاء وعدم الاستعداد التى عاشتها البطون خلال فتره الهدنه التى استمرت 23 شهرا، فيتقدم بجيش جرار ويفتح مكه، لذلك اوفدت ابا سفيان الى رسول‏اللّه للاعتذار وللاستمرار بالهدنه، وفشل ابو سفيان بمهمته واجابه الرسول باقتضاب شديد.

وامر رسول‏اللّه اصحابه بالتجهيز للغزو دون ان يعلم احدا الوجهه التى يريدها رسول‏اللّه، ولكن التوقعات اتجهت الى ان رسول‏اللّه يريد المسيره الى مكه، وارسل رسول‏اللّه الى اوليائه من خارج المدينه طالبا منهم الاستعداد للمسيره معه (543).

ثم وزع الرايات فاعط‏ى عليا رايه، والزبير اخرى، وسعدبن ابى وقاص رايه ثالثه، ورايه مع ابى نائله، ورايه مع قتاده‏بن النعمان، ورايه مع ابى برده، ورايه مع جبربن عتيك، ورايه مع ابى لبابه، ورايه مع اسير الساعدى، ورايه مع عبداللّهبن زيد، ورايه مع قطبه‏بن عامر، ورايه مع عماره‏بن حزم، ورايه مع سليطبن قيس.

وكان المهاجرون سبعمائه ومعهم 300فرس، وكانت مزينه الفا معهم 100فرس ومائه درع وثلاثه الويه، وكانت اسلم اربعمائه معهم 30فرسا، وكانت جهينه 800معهم 50 فرسا، وكانت بنو كعب‏بن عمرو خمسمئه.

وبعد ان رتب الرسول اموره، وجهز جيشه المولف من عشره آلاف مقاتل خرج يوم الاربعاء الموافق العاشر من رمضان.

كل ذلك والناس لا يدرون من سيغزو رسول‏اللّه، ولا يزيد على القول عندما يسال.

(حيث يشاء اللّه)، وكلما سار انضم اليه جمع من الاعراب، ولما دنى من مكه راى العباس ابا سفيان ومعه حكيم‏بن حزام وبديل‏بن ورقاء، فجاء بهم الى رسول‏اللّه واسلم حكيم وبديل، وشهد ابو سفيان بوحدانيه اللّه، واعلن ان فى نفسه شى‏ء من كون محمد رسول‏اللّه، ثم اضطر ابو سفيان ان يشهد بان محمدا رسول‏اللّه، وراى جيش الاسلام، ومكانه النبى بين اتباعه، فذهل وقال للعباس:

(ما رايت يا ابا الفضل ملكا هكذا قط لا ملك كسرى ولا ملك بنى الاصفر)!!

وهكذا كيف ابو سفيان النبوه على انها ملك (544).

وسمعت بطون قريش بزحف النبى ورات جيشا ما رات مثله قط ياتمر بامره ويحيط بهم، ورات البطون قائدها ابو سفيان يسير فى ركاب النبى، فاستسلمت وسلمت فاخذ على اللواء الاعظم ودخل به مكه فغرزه عند الركن، ودخل جيش الاسلام مكه من كل الجهات.

وانتهى رسول‏اللّه الى الكعبه فرآها، واستلم الركن وكبر، فكبر المسلمون حتى ارتجت مكه بالتكبير، والمشركون فوق الجبال ينتظرون، ثم طاف حول الكعبه، وامر بالاصنام فكسرت ثم جلس فى ناحيه، ثم نهض واشرف على الناس، ثم قال:

(الحمد للّه الذى صدق وعده ونصر عبده، وهزم الاحزاب وحده، ماذا تقولون وماذا تظنون؟ قالوا:

نقول خيرا ونظن خيرا، اخ كريم وابن اخ كريم، وقد قدرت.

فقال رسول‏اللّه:

فانى اقول كما قال اخى يوسف:

(لا تثريب عليكم يغفر اللّه لكم وهو ارحم الراحمين) والقى كلمه جامعه (545).

واعلن ان مكه قد احلت ساعه من نهار ولا تحل لغيره، وصعد بلال على ظهر الكعبه واذن الظهر.

وعبرت جويريه بنت ابى جهل عن الوضع النفسى للبطون بقولها لما سمعت الاذان:

(قد لعمرى رفع لك ذكرك اما الصلاه فسنصلى، واللّه لا نحب من قتل الاحبه ابدا) (546).

وقال خالد بن اسيد:

(الحمدللّه الذى اكرم ابى فلم يسمع هذا)، وقال الحارث‏بن هشام:

(واثكلاه ليتنى مت قبل هذا اليوم)، وقال الحكم‏بن العاص:

(هذا واللّه الحدث العظيم ان يصيح عبد بنى جمح على بنيه ابى طلحه) وقال ابو سفيان:

(اما انا فلا اقول شيئا لو قلت شيئا لاخبرته هذه الحصباء)، فاتى جبريل فاخبر النبى بما قالوا (547).

وتوافدت زعامه البطون فنطقت بالشهادتين امام رسول‏اللّه.

وقال النبى مخاطبا مكه:

(واللّه انك لخير ارض اللّه، واحب ارض اللّه الى، ولولا انى اخرجت منك ما خرجت) (548).

المواجهه مع هوازن وثقيف فى حنين:

لما فتح النبى مكه اجتمعت هوازن كلها بقياده مالك‏بن عوف، وقسم كبير من ثقيف، ومن اجلبوا معهم، وايقنوا ان محمدا سيسير اليهم ليفتح الطائف كما فتح مكه، لذلك اجمعوا امرهم واتفقوا على ان يسيروا لمواجهه محمد، ومعهم اموالهم ونساوهم وذرياتهم ليقاتلوا دفاعا عن كل شى‏ء.

واخذوا معهم دريدبن الصمه تيمنا به.

وسمع رسول‏اللّه بهذا التجمع وبمسيرته، وخرج من مكه ومعه اثنا عشر الفا من المسلمين، وهو اكبر تجمع فى تاريخ الاسلام، ومعه فى الجمع الطلقاء الذين تلفظوا بالشهادتين يوم الفتح، ومن الموكد ان اعدادا كبيره من هذا التجمع لم تخرج للجهاد، ولا طمعا بالشهاده، او لنصره دين اللّه او النبى، انما خرجوا طمعا بالغنيمه ممن تدور عليه الدائره سواء اكان محمدا او تجمع ثقيف وهوازن وحلفائهم.

ومنهم ابو سفيان‏بن حرب الذى اخرج معه الازلام وسار فى اثر محمد يلتقط ما يسقط منهم من متاع حتى اوقر، والحارث‏بن هشام، وعبداللّهبن ربيعه، ومعاويه ويزيد ابنى ابى سفيان.

وحمل الرايه على‏بن ابى طالب، واعطيت رايات كثيره لغيره، واخذت هوازن مواقعها فى الوادى، وتربصت حتى قدم جيش الاسلام، فانقضت عليه فانكشفت الخيل الاسلاميه وفرت، وكان يقودها خالدبن الوليد، وتبعهم اهل مكه، ثم انهزم الناس فى اثرهم، وتركوا رسول‏اللّه ومعه اهل بيته على والعباس وابو سفيان‏بن الحارث‏بن عبد المطلب وعتبه ومعتبا ابن ابى لهب، ونفر قليل من الانصار كسعدبن عباده والحباب‏بن منذر.

فامر النبى العباس ان يصرخ:

(يا معشر الانصار، يا اصحاب الشجره)، واستمر النبى وعلى والهاشميون ومن ثبت معهم بالقتال وحدهم حتى آب الناس وعادوا بعد الهزيمه، ولما عاد الناس وحمى الوطيس والنبى على بغلته، يدعو ربه قائلا:

(اللهم انى اسالك وعدك، لا ينبغى لهم ان يظهروا)، وطلب من العباس ان يناوله حصيات، فناوله العباس حصيات من الارض، فرمى بها رسول‏اللّه المشركين، وقال:

(انهزموا ورب الكعبه).

فولى تجمع هوازن وثقيف الادبار وانهزموا الى حصونهم، تاركين اموالهم وذراريهم ونساءهم غنيمه لمحمد ومن معه، وتبعهم الرسول وحاصرهم خمسه عشر يوما، ثم قدر ان المحاصرين كالثعلب ان انتظر استخرجه وان تركه خرج بنفسه، فقرر تركهم، موقنا من استسلامهم.

سوال للنبى وجواب النبى عليه:

سالت ام سلمى رسول‏اللّه فقالت:

(ارايت هولاء الذين اسلموك وفروا عنك وخذلوك لا تعف عنهم... ان امكنك اللّه منهم فاقتلهم كما تقتل هولاء المشركين!)

فقال النبى للسائله:

(يا ام سلمى قد كفى اللّه، عافيه اللّه اوسع) (549).

ومن الموكد ان ملائكه قد قاتلت مع النبى، وان حالات من الرعب قد صورها اللّه للمشركين، اذ لو انتصروا لكانت كارثه حقيقيه.

طبيعه بعض الذين كانوا فى جيش النبى:

الجيش الذى قاده النبى الى حنين هو اكثر الجيوش التى قادها عددا حتى ذلك التاريخ لكن الكثير من افراد هذا الجيش وقواده قد خرجوا بالدرجه الاولى للغنيمه وبتعبير ادق لغنيمه المغلوب حتى ولو كان محمدا.

فمن جمله هذا الجيش طلقاء الفتح كابى سفيان ويزيد ومعاويه ابناه، وامثالهم.

صحيح انهم نطقوا بالشهادتين قبل اسبوع من خروجهم، ولكن تلفظهم بالشهاده لا يكفى وحده ليقاتلوا مع النبى.

لقد خرجوا مع النبى ينظرون لمن تكون الدائره فيصيبون من الغنائم، ولا يكرهون ان تكون الصدمه لمحمد واصحابه، وخرج ابو سفيان‏بن حرب فى اثر العسكر كلما مر بترس ساقط او رمح او متاع من متاع النبى (صلى اللّه عليه وسلم) وحمله الازلام فى كنانته حتى اوقر (550)، وخرج معه سادات البطون الذين نطقوا بالشهادتين.

حتى ان بعض سادات البطون تعاهدوا ان يقتلوا محمدا اذا كانت الدائره عليه.

(فشيبه‏بن عثمان‏بن ابى طلحه تعاهد هو وصفوان‏بن اميه اذا رايا على رسول‏اللّه دائره ان يكونا عليه فيقتلانه!!!)(551).

وانت فهمت طبيعه اسلام هولاء القوم يوم سمعوا بلالا يوذن على الكعبه لاول مره بعد الانتصار وفتح مكه.

فجويريه بنت ابى جهل تيقنت ان ذكر النبى قد ارتفع حقا، وعزمت على الصلاه، ولكنها عبرت عن حقيقه مشاعرها ومشاعر سادات البطون عندما قالت:

(اما الصلاه فسنصلى واللّه لا نحب من قتل الاحبه ابدا... وقال خالدبن اسيد:

الحمدللّه الذى اكرم ابى فلم يسمع هذا اليوم!

-اى اكرمه بالقتل على الشرك فلم يسمع الاذان-... وقال الحكم‏بن ابى العاص:

هذا واللّه الحدث العظيم ان يصيح عبد بنى جمح على بنيه ابى طلحه،... وقال ابو سفيان:

-وكان اكثر ذكاء- اما انا فلا اقول شيئا، لو قلت شيئا لاخبرته هذه الحصباء) (552).

ومع هذا فانهم خرجوا مع جيش المسلمين، كمسلمين، وعيينه‏بن حصن احد قاده الجيش الاسلامى يستاذن من الرسول حتى ياتى حصن الطائف لاقناعهم بالاستسلام ومع هذا يدخل الحصن، ويقول للمشركين:

(فداكم ابى وامى، واللّه لقد سرنى ما رايت منكم،...-واللّه ما لاقى محمد مثلكم قط، ولقد مل المقام فاثبتوا فى حصنكم...) (553).

ويعود الى الرسول ليزعم انه حاول اقناع اهل الطائف بالاستسلام فاخفق والرسول ساكت ويعلم ان عيينه كاذب ومنافق.

وعيينه نفسه يعبر عن حقيقه وجوده فيقول:

(واللّه ما جئت معكم اقاتل ثقيفا، ولكنى اردت ان يفتح محمد الطائف فاصيب جاريه من ثقيف فاطاها لعلها تلد لى رجلا) (554).

ورجل من اسلم يقدم للنبى شيئا قائلا انه هديه فيساله النبى:

وممن انت؟ قال الرجل:

من اسلم، فيقول النبى:

انا لا اقبل هديه مشرك، فيقول الرجل لرسول‏اللّه:

انى مومن باللّه وبرسوله، فيقول له الرسول:

حتى نصل، وتبين ان هدف الرجل الحصول على قطيع من الغنم!!(555).

واثناء عودته الى الجعرانه اخذت الاعراب تساله واحاطت به لتوحى له بانها مسلمه، ولتحصل على جزء من الغنيمه، وفكروا ان ياخذوا رداءه.

فانسل الرسول وهو يقول:

(اعطونى ردائى!

اعطونى ردائى!

لو كان لى عدد هذه العضاه نعما لقسمته بينكم، ثم لا تجدونى بخيلا ولا جبانا ولا كذابا) (556).

الغنائم:

وصل النبى الى الجعرانه عائدا من الطائف، ليوزع الغنائم التى كانت محبوسه هنالك، وكانت الاغنام بالالاف فلا يعلم عددها، فقد قيل انها اربعون الف واكثر، وكانت الابل 24-الف، وفضه كثيره حوالى اربعه آلاف اوقيه.

ووضعت الغنائم تحت تصرف الرسول ليقسمها فاعط‏ى المولفه قلوبهم اول الناس حيث طلب ابو سفيان فاعطاه اربعين اوقيه ومائه من الابل، وقال ابو سفيان:

اعط‏ى ابنى يزيد فاعطاه رسول‏اللّه مثل ابيه، ثم قال ابو سفيان:

اعط ابنى معاويه.

فاعطاه الرسول مثل ابيه واخيه فرضى ابو سفيان وقال للنبى:

(انك الكريم فداك ابى وامى ولقد حاربتك فنعم المحارب كنت، ثم سالمتك فنعم المسالم انت) (557).

واعط‏ى بقيه زعماء البطون، كحكيم‏بن حزام وصفوان بن اميه.. وبينما كان الرسول يوزع الغنائم اتاه ذو الخويصره وقال له:

(اعدل يا رسول)، فقال له الرسول:

(ويلك من يعدل اذا لم اعدل)... وعاش ذو الخويصره حتى قاتل على بن ابى طالب (558)...

وفد هوازن:

قدم وفد هوازن الى رسول‏اللّه وقد اوشك على الانتهاء من توزيع الغنائم ورجوه فقال النبى:

(لقد استانيت بكم حتى ظننت انكم لا تقدمون وقد قسم السبى.

فقال ابو صرد زهيربن صرد:

(يا رسول‏اللّه انا اهلك وعشيرتك، وقد اصابنا من البلاء ما لا يخفى عليك، انما فى هذه الحظائر عماتك وخالاتك، وحواضنك... انهن حضنك فى حجورهن وارضعنك بثديهن وانت خير المكفولين)، وارتجل قصيده (559).

فقال النبى:

(ان احسن الحديث اصدقه وعندى من ترون من المسلمين، فابناوكم ونساوكم احب اليكم ام اموالكم؟) قالوا:

(يا رسول‏اللّه خيرتنا بين احسابنا وبين اموالنا، وما كنا نعدل بالاحساب شيئا، فرد علينا ابناءنا ونساءنا).

فقال النبى:

(اما ما لى ولبنى عبد المطلب فهو لكم)، ولما صلى رسول‏اللّه استشفعوا به امام الناس فكرر مقاله، وقال المهاجرون:

(ما كان لنا فهو لرسول‏اللّه)، وقالت الانصار:

مثل ذلك (560).

وقال الاقرع بن حابس:

(اما انا وبنو تميم فلا)، وقال عيينه‏بن حصن:

(اما انا وفزاره فلا)، وقال عباس‏بن مرداس:

(اما انا وبنو سليم فلا) (561).

(واستعمل رسول‏اللّه صلى اللّه عليه وسلم عتاب‏بن اسيد على مكه، وخلف معاذبن جبل وابا موسى الاشعرى يعلمان الناس القرآن والفقه فى الدين) (562)، وعاد الرسول الى المدينه بعد ان حقق هذا الانتصار العظيم، وقد غمره السرور بنصر اللّه والفتح، وما ان استقر قليلا، حتى بدات الوفود تتقاطر عليه، معلنه استسلامها او اسلامها على يديه او متظاهره بذلك، وخلال هذه الفتره كان النبى يتفقد ما بقى من جيوب الشرك، ويرسل سراياه وبعوثه ورسله لتطهيرها وهدايه اهلها.

وارتاحت نفسه الشريفه وهو يرى ان بلاد العرب قد توحدت ولاول مره فى التاريخ، وبكلفه بشريه لا تتجاوز اربعمائه قتيل، وبمده زمنيه لم تتجاوز تسع سنين، واطمان قلبه الطاهر وهو يرى دين الاسلام قد اصبح دينا لكل سكان بلاد العرب وصرح النبى علنا بان الشيطان قد يئس من ان يعبد فى بلاد العرب.

خلق التماس مع الدولتين الاعظم:

لقد اقلقت هذه الانجازات الهائله مضاجع قاده الدولتين الاعظم آنذاك خاصه الاباطره، واشيع بان الروم قد حشدوا جيشا كبيرا على حدود الجزيره، فاستنفر النبى المسلمين وجهز حمله كبرى قوامها 30-الف مقاتل معهم 15-الف بعير وعشره آلاف فرس فى ظروف صعبه، وسار بهذا الجيش قرابه ستمائه كيلومتر ووصل الى تبوك، واخضع دومه الجندل، ووطد سلطان الاسلام بهيبته وسمع الروم بخروجه ولكنهم احجموا عن ملاقاته بعد ان قذف اللّه الرعب فى قلوبهم.

وحققت الغزوه اهدافها النفسيه، واحجم حتى قيصر عن ملاقاه النبى، وكانت الغزوه مليئه بالعبر والاسرار، فقد جمعت غزوه تبوك الاخيار والاشرار فى جيش واحد، وثبت للاخيار بان النبى وآله لو فتحوا اقطار الدنيا وملكوها للمجرمين فلن يرضوا عن محمد وآل محمد، بالوقت الذى يتلفظ فيه اولئك المجرمون بالشهادتين ويدعون الاسلام، واكبر دليل على ذلك الايات القرآنيه النازله فى غزوه تبوك والتى فضحتهم.

والمثير للدهشه حقا انهم بنفس الوقت الذى كانوا يعدون فيه موامره قتل النبى عند عودته من غزوه تبوك، كانوا يبنون مسجدا ويرجون من النبى ان يفتحه لهم تبركا به!!

ولما قيل للنبى:

لما لم تقتلهم؟ فقال النبى:

انى اكره ان يقول الناس ان محمدا لما انقضت الحرب بينه وبين المشركين، وضع يده فى قتل اصحابه!!

فقيل:

يا رسول‏اللّه فهولاء ليسوا باصحاب!

قال الرسول للسائل:

اليس يظهرون ان لا اله الا اللّه؟ قال السائل:

بلى ولا شهاده لهم، قال الرسول:

اليس يظهرون انى رسول‏اللّه؟ قال السائل:

بلى ولا شهاده لهم.

ولم يستوعب السائل.

فقال النبى:

قد نهيت عن قتل اولئك!!

بمعنى ان هذا الصنف من المسلمين يتلفظ بالشهادتين ويمارس كل الاعمال الظاهريه التى تدل ظاهريا على اسلامه، ولكنه بنواياه وقلبه كافر بكل ذلك، ويخرج عن صلاحيه النبى ان يحاكم الناس على ما فى نواياهم وما فى قلوبهم، ولكن الرسول يكشف صفاتهم للمخلصين حتى يحذرهم المسلمون فلا يقعوا فى احابيلهم ولا ينخدعوا بمظاهرهم، لانهم هم العدو الحقيقى.