الأول: الذي بقي متمسكا بما أمر الله تعالى بالتمسك به، والذين صمدوا أمام كل تأثيرات حرب معاوية، صمدوا وثبتوا على إيمانهم والتزامهم وطاعتهم لله ولرسوله، لا يحيدون عن ذلك قيد أنملة ولو كلفهم ذلك أرواحهم وأموالهم، هذا القسم من المسلمين الذين أوفوا بما عاهدوا الله عليه هم الذين سماهم الله ورسوله بالمؤمنين، الذين اتبعوا الرسول وشايعوا عليا عليه السلام فسماهم الله ورسوله بأسماء كثيرة وجليلة، منها أنهم هم المؤمنون وأهمها أنهم خير البرية، وأنهم سيقدمون على الله تعالى راضين مرضيين.
روى السيوطي في الدر المنثور قال، أخرج ابن عدي عن ابن عباس قال، لما نزلت {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية} قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعلي: هو أنت وشيعتك يوم القيامة راضين مرضيين).
وأخرج ابن مردويه عن علي عليه السلام قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ألم تسمع قول الله: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية} أنت وشيعتك وموعدي وموعدكم الحوض، إذا جاءت الأمم للحساب، تُدعون غرا محجلين.
وروى السيوطي وبن عساكر عن جابر بن عبد الله قال كنا عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فأقبل علي، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: والذي نفسي بيده إن هذا وشيعته لهم الفائزون يوم القيامة، ونزلت {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية}، فكان أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا أقبل علي قالوا: جاء خير البرية.
وأما القسم الثاني: وهم معاوية بن أبي سفيان ومن تبعه ووالاه على تغيير الإرادة الإلهية، والذين أطلقوا على أنفسهم أهل السنة والجماعة، الذين قادوا المسلمين في زمنهم وحتى يومنا هذا إلى الإنحراف الكبير والخطير عن خط
سب ولعن أمير المؤمنين بأمر معاوية:
إن من الأعمال الخطيرة التي قام بها معاوية في عهده، ونشرها في بلاد المسلمين، هي إعلان لعن وسب وشتم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، حيث اتخذ المسلمون ذلك سنة متبعة واجبة، يطبقونها في حياتهم وفي خطبهم من على منبر رسول الله صلى الله عليه وآله. حتى صار اللعن والشتم سنة مفروضة وعادة متبعة استمرت أكثر من سبعين عاما، حتى إذا ما نسي أحد الخطباء سب ولعن أمير المؤمنين في خطبته، فإن الحاضرين في المسجد يبدؤون بالصراخ عليه لقد نسيت السنة أي سنة لعن وسب أمير المؤمنين عليه السلام.
ومن المهم أن يعرف المسلمون أن تسمية خط معاوية بن أبي سفيان بأهل السنة والجماعة، أن السنة هي سنة لعن وسب وشتم علي بن أبي طالب أمير المؤمنين عليه السلام، وأما الجماعة فهو اسم أطلقوه على أنفسهم بعدما رفضوا أن يكونوا تحت راية أهل البيت عليهم السلام وبعد أن تنازل الإمام الحسن عليه السلام عن الحكم، فأطلقوا على ذلك العام الذي أقصوا فيه أهل البيت ورفضوا طاعتهم، أطلقوا عليه تسمية عام الجماعة، فهم إذن أهل سنة شتم ولعن وسب علي بن أبي طالب علبه السلام وأهل الجماعة التي اتفقت على
وقد افتخر المسلمون كثيرا وما زالوا بتلك التسمية ويعتبرون كل من يحملها ويدخل تحت مضامينها من الفرقة الناجية، وأما من يخالفهم فهو من الفرقة الضالة.
فهل نسي المسلمون حديث رسول الله صلى الله عليه وآله الموجود في صحيح البخاري وغيره من الصحاح عندما قال لعمار (يا عمار تقتلك الفئة الباغية)؟.
وهل يكون المسلم من الفرقة الناجية عندما يتحدي الإرادة الإلهية والأمر الإلهي ويعمل على فصم الكتاب عن العترة الطاهرة العروة الوثقى التي لا انفصام لها والتي لن تفترق ولن تتفرق؟.
وهل يكون المسلم من الفرقة الناجية عندما يشتم ويلعن الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام الذي من سبه فقد سب الله تعالى؟.
وهل يكون المسلم من الفرقة الناجية عندما يخالف أمر الله ورسوله ويرفض التمسك بالكتاب وأهل البيت عليهم السلام معا، الذي إن تمسك بهما فإنه لن يضل أبدا، وإذا تركهما أو ترك أحدهما فإنه قطعا من الضالين؟.
لقد كان ذلك اللعن والشتم لعلي عليه السلام على مسمع ومرأى كل المسلمين، وكانت تصدر الأوامر من معاوية بن أبي سفيان بتأييد من عدد كبير من الصحابة الذي كانوا من بطانته، مع أنهم كلهم سمعوا أحاديث رسول الله صلى الله عليه وآله التي تحذر من سب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، وسأذكر بعض الروايات التي تؤكد هذا المعنى وأيضا بعض الحوادث التي تؤكد حصول ذلك الأمر الخطير والمشين في زمن معاوية من قبل المسلمين، بل وربما كان يحصل السب والشتم واللعن لعلي عليه السلام قبل مرحلة معاوية بكثير.
روى مسلم وغيره عن عامر بن سعد بن أبي وقاص، عن أبيه، قال) أمر معاوية بن أبي سفيان سعدا فقال: ما منعك أن تسب أبا التراب؟. فقال: أما ذكرت ثلاثا قالهن له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلن أسبه. لأن
لاحظوا الروايات فإن معاوية كان يأمر الناس أن يسبوا أمير المؤمنين عليه السلام، وفي الحديث يأمر معاوية سعدا الصحابي بأن يسب أمير المؤمنين، وهنا دلالة واضحة على أن سب ولعن أمير المؤمنين عليه السلام كان أمرا طبيعيا وكان منتشرا على نطاق واسع، وبدلا من أن يستنكر الناس السب واللعن، فإن معاوية في الحديث المذكور يستنكر عدم استجابة سعد بن أبي وقاص لأمر معاوية.
وروى الحاكم في المستدرك أن المغيرة بن شعبة سب علي بن أبي طالب، فقام إليه زيد بن أرقم. فقال: يا مغيرة، ألم تعلم أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن سب الأموات، فلم تسب عليا وقد مات؟.
هذه الرواية تبين أن الصحابة الذين التفوا حول معاوية، كانوا على رأس المعلنين لسب وشتم ولعن أمير المؤمنين عليه السلام، وكان لا يستطيع أن ينكر عليهم ذلك إلا المنتجبون من الصحابة والناس الذين كانوا يوالون أمير المؤمنين، وإليك أخي المسلم المنصف الرواية التالية.
فقد روى في مجمع الزوائد عن أبي بكر بن خالد بن عرفطة، أنه أتى سعد بن مالك فقال: بلغني أنكم تعرضون علي سب علي بن أبي طالب بالكوفة، فهل سببته؟ قال: معاذ الله، والذي نفس سعد بيده لقد سمعت من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول في علي شيئاً لو وضع المنشار على مفرقي ما سبتته أبداً. ورواه أبويعلى وغيره.
تبين الرواية كيف كان زبانية معاوية يعرضون على الناس سب وشتم أمير المؤمنين، وأن من يعلم فضائل أمير المؤمنين وما قال رسول الله صلى الله عليه وآله فيه فإنه لا يجرؤ على التلفظ بها، كما في الحديث السابق وكما في الحديث الذي قبله عندما قال زيد بن أرقم للمغيرة بن شعبة إن الرجل قد مات فهلا كففت عن سب الأموات.
وروى أحمد في المسند عن عبد الله بن ظالم المازني قال) لما خرج معاوية من الكوفة استعمل المغيرة بن شعبة قال: فأقام خطباء يقعون في علي ....).
وروى الطبري في التاريخ أن معاوية لما استعمل المغيرة بن شعبة على الكوفة سنة إحدى وأربعين وأمّره عليها دعاه وقال له: قد أردت إيصاءك بأشياء كثيرة أنا تاركها اعتماداً على بصرك، ولست تاركاً إيصاءك بخصلة (لا تترك شتم عليّ وذمّه، والترحم على عثمان والاستغفار له، والعيب لأصحاب عليّ والإقصاء لهم، والإطراء لشيعة عثمان والإدناء لهم).
وروى الحاكم في المستدرك والهيثمي في مجمع الزوائد عن أبي عبد الله الجدلي قال: قالت لي أم سلمة: يا أبا عبد الله! أيسب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيكم ثم لا تغيرون؟ قلت: ومن يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: يسب علي ومن يحبه، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبه. وفي روايات أخرى أن أم سلمة قالت (أيسب رسول الله فيكم على المنابر؟.).
وروى أحمد في مسنده عن عطاء بن يسار قال: جاء رجل فوقع في علي وفي عمار رضي الله تعالى عنهما عند عائشة، فقالت أما علي فلست قائلة لك فيه شيئا، وأما عمار فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا يخير بين أمرين إلا اختار أرشدهما.
وروى الحاكم في المستدرك والسيوطي في الدر المنثور عن ابن أبي مليكة قال: جاء رجل من أهل الشام، فسب عليا رضي الله عنه عند ابن عباس رضي الله عنهما، فحصبه ابن عباس رضي الله عنهما وقال: يا عدو الله آذيت رسول الله {إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة}.
وروى أحمد والحاكم وغيرهما كثير عن عمرو بن ميمون قال: إني لجالس عند ابن عباس، إذ أتاه تسعة رهط، فقالوا: يا ابن عباس، إما أن تقوم معنا، وإما أن تخلو بنا من بين هؤلاء. قال: فقال ابن عباس: بل أنا أقوم معكم. قال: وهو
هذا بعض ما أفصحت عنه الروايات في سب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام وما تركته هو أضعاف ما ذكرت.
وأما بالنسبة للأحاديث التي وردت عن رسول الله صلى الله عليه وآله والتي يحذر فيها من سب علي عليه السلام وأن من سب عليا فقد سب الله ورسوله، فإليك بعضا منها.
فقد روى أحمد في مسنده والحاكم في المستدرك والسيوطي في الجامع الصغير عن أم سلمة رضي الله تعالى عنها قالت، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (من سب عليا فقد سبني، ومن سبني فقد سب الله).
وروى الحاكم في المستدرك عن أبي عبد الله الجدلي قال، حججت وأنا غلام، فمررت بالمدينة، وإذا الناس عنق واحد، فاتبعتهم، فدخلوا على أم سلمة زوج النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، فسمعتها تقول: يا شبيب بن ربعي.
فأجابها رجل، جلف، جاف: لبيك يا أمتاه. قالت، يسب رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم في ناديكم. قال: وأنى ذلك؟. قالت: فعلي بن أبي طالب. قال: إنا لنقول أشياء، نريد عرض الدنيا. قالت: فإني سمعت رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم يقول (من سب عليا فقد سبني، ومن سبني فقد سب الله تعالى).
وروى الشبلنجي الشافعي في نور الأبصار وابن المغازلي في المناقب وابن الصباغ المالكي في الفصول المهمة وغيرهم كثير أن النبي صلى الله عليه وآله قال (من سب عليا فقد سبني، ومن سبني فقد سب الله، ومن سب الله أكبه الله على منخريه في النار).
ثم لم يكتف معاوية بفرض اللعن والسب ضد أهل البيت، الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا، بل إنه أصدر مرسوما ونشره في كافة أمصار الدولة
وقبل ذكر تفاصيل ذلك المرسوم أي كتاب معاوية إلى أمصار الدولة، الذي فَرض على المسلمين توجهات جديدة كأنها دين جديد.
فإنني أشدد على أن ذلك الكتاب هو الذي غير مسار حياة المسلمين، وكان بمثابة الضربة القاضية للعقيدة الإسلامية وأحكامها، كما ويجب على كل مسلم أن يعرف أن غالبية أهل السنة والجماعة يُحَكِمونَ ذلك الكتاب والآثار الخطيرة التي انبثقت عنه وترتبت عليه في كل نواحي حياتهم، وإن أغلب ما يستندون إليه من قوانين وتشريعات ومصادر، كانت وما زالت بحسب ذلك الكتاب وما انبثق عنه.
فقد كان الضمان الأكيد لانحراف الأمة الإسلامية عن الخط الإلهي الصحيح، وكان الضمان الأكيد لإبعاد المسلمين عن أهل البيت عليهم السلام، وكان أيضا الضمان الأكيد لفرض شخصيات بدل أهل البيت والأئمة من العترة الطاهرة عليهم السلام، حتى تكون مصدرا شرعيا يستلهم منه المسلمون كافة تشريعاتهم وقوانينهم.
ويستطيع كل منصف صاحب عقل سليم أن يتيقن من ذلك بمجرد نظرة سريعة لصحيح البخاري مثلا، ويقارن عدد روايات أمير المؤمنين علي بن أبي طالب الذي عاش الإسلام منذ نعومة أظفاره وعايش الوحي منذ بداية تنزله على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وحتى آخر لحظات الوحي في حياة رسول الله.
قارن أخي المسلم بين عدد ما يروون عنه عليه السلام، مع روايات أبي هريرة مثلا الذي أسلم قبل وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله بسنة ونصف على الأكثر، فبالمقارنة تجد أن هناك أمرا لا يقبله المنطق ولا العقل السليم النبيه، فأين قضى أمير المؤمنين علي عليه السلام عمره، وهو الذي قال عنه النبي الأكرم صلى الله عليه وآله أنه باب مدينة العلم، وأنه يبين للمسلمين ما يختلفون فيه بعد رسول الله، وهو الذي قال له رسول الله يا علي بك يهتدي
إنني لو أترك للقلم تعداد الأسئلة لما توقف عن ذلك، ولكنني أستطيع أن أختزل جواب كل تلك الأسئلة بجواب واحد، وهو كتاب معاوية إلى الأمصار، وهدفه الرئيسي استكمال عملية فصم الكتاب عن العترة الطاهرة، واستكمال عملية رفع شعار حسبنا كتاب الله التي أسس لها الأوائل من أشياخ قريش من أجل عزل وطمس دور أهل البيت عليهم السلام، أو بالأحرى تحدي الإرادة الإلهية ورفضها والتمرد عليها واستبدالها بإرادة قرشية ذات أبعاد وتوجهات معادية لله ولرسوله ولأهل البيت وشيعتهم، ويا ليتهم صدقوا بتطبيق شعار حسبنا كتاب الله فإنهم رفعوه ليموهوا على الأمة ويضللوها.
وهكذا استمرت مخالفة الكتاب، وعدم السمع والطاعة لرسول الله صلى الله عليه وآله، واستمرت عملية التخطيط والتطبيق منذ العصر الأول، من أجل إزاحة دور أهل البيت عليهم السلام، وعزلهم تماما عن كل نواحي الحياة، ونجحوا في ذلك، ومهدوا وأسسوا لدور معاوية بن أبي سفيان، الذي حكم أمة نسيت قيمها ومبادئها، وضيعت أغلب ما كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله، حتى الصلاة قد ضيعوها كما ذكرنا في البحث عن عدد من الصحابة الذين شهدوا بذلك، فكانت الفرصة مهيأة لمعاوية بن أبي سفيان حتى يصدر كتابه إلى الأمصار بكل سهولة ويسر، ويجد المسلمين كلهم آذان صاغية لأمره.
كتاب معاوية الذي غير الدين:
وإليك كتاب معاوية بن أبي سفيان إلى ولاته وعماله على بلاد المسلمين، وفي محتوياته الأوامر بأخطر عمليات تحريف الدين، والنهج القويم، وللتفريق بين طرفي العروة الوثقى، وتحدي الإرادة الإلهية.
روى بن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة قال روى المدائني قال:
كتب معاوية نسخة واحدة إلى عماله بعد عام الجماعة: أن برئت الذمة ممن روى شيئا من فضل أبي تراب - يعني الإمام علي وأهل بيته - أي أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله.
وكتب معاوية إلى عماله في جميع الآفاق، أن لا يجيزوا لأحد من شيعة على وأهل بيته عليهم السلام شهادة، وأن انظروا من قبلكم من شيعة عثمان ومحبيه وأهل ولايته والذين يروون فضله ومناقبه، فأدنوا مجالسهم، وقربوهم وأكرموهم، واكتبوا لي بما يروي كل رجل منهم واسمه واسم أبيه وعشيرته.
ففعلوا ذلك حتى أكثروا من فضائل عثمان ومناقبه، لما كان يبعثه إليهم معاوية من الصلات والكساء والحباء والقطائع، ويفيضه في العرب منهم والموالي، فكثر ذلك في كل مصر، وتنافسوا في المنازل والدنيا، فليس يجئ أحد من الناس عاملا من عمال معاوية فيروي في عثمان فضيلة أو منقبة، إلا كتب اسمه وقربه وشفعه، فلبثوا بذلك حينا.
وكتب معاوية إلى عماله أن الحديث في عثمان قد كثر، وفشا في كل مصر، وفي كل وجه وناحية، فإذا جاءكم كتابي هذا، فادعوا الناس إلى الرواية في فضائل الصحابة، والخلفاء الأولين (أبي بكر وعمر)، ولا تتركوا خبرا يرويه أحد من المسلمين في أبي تراب إلا وتأتوني بمناقض له في الصحابة، فإن هذا أحب إلي وأقر لعيني وأدحض لحجة أبي تراب (الإمام علي عليه السلام) وشيعته، وأشد عليهم من مناقب عثمان وفضائله.
قرئت كتبه على الناس، فرويت أخبار كثيرة في مناقب الصحابة مفتعلة ولا حقيقة لها، وجد الناس في رواية ما يجري هذا المجرى، حتى أشاروا بذكر ذلك
ثم كتب معاوية نسخة واحدة إلى جميع البلدان: انظروا من قامت عليه البينة أنه يحب عليا وأهل بيته، فامحوه من الديوان، وأسقطوا عطاءه ورزقه.
وشفع ذلك بنسخة أخرى: من اتهمتموه بموالاة هؤلاء القوم، نكلوا به واهدموا داره.
فلم يكن البلاء أشد ولا أكثر منه بالعراق، ولا سيما الكوفة، حتى أن الرجل من شيعة علي عليه السلام ليأتيه من يثق به، فيدخل بيته فيلقي إليه سره، ويخاف من خادمه ومملوكه، ولا يحدثه حتى يأخذ عليه الأيمان الغليظة ليكتمن عليه.
ونتيجة لكتاب معاوية ظهر حديث كثير موضوع، وبهتان منتشر، ومضى على ذلك الفقهاء والقضاة والولاة، وكان أعظم الناس في ذلك بلية القراء المراؤون، والمستضعفون الذين يظهرون الخشوع والنسك، فيفتعلون الأحاديث ليحظوا بذلك عند ولاتهم، ويقربوا مجالسهم، ويصيبوا به الأموال والضياع والمنازل حتى انتقلت تلك الأخبار والأحاديث إلى أيدي الديانين، الذين لا يستحلون الكذب والبهتان فقبلوها ورووها وهم يظنون أنها حق، ولو علموا أنها باطلة لما رووها ولا تدينوا بها ... انتهى.
إنني أعتقد جازما أن هذا الكتاب الخطير يفصح عن نفسه لكل مسلم منصف عاقل، فمن مجرد دراسة سطحية لتفاصيله، وبما يحمله من قواعد أساسية وانحرافات، وما يحتويه من تأسيس لمرحلة الضلال، يتبين بشكل لا يدع مجالا للشك أن عملية نسف قواعد الدين ووضع قواعد جديدة له، قد بدأت بعد أن لقي ذلك الكتاب قبولا واسعا عند المسلمين وبعد أن وجد تطبيقا دقيقا من قبلهم.
فقد بدأ بمرحلة السب والشتم واللعن لأمير المؤمنين عليه السلام، حتى إذا انتشر ذلك وشاع، فإنه بعد ذلك لا يمكن للمسلمين أن يعتقدوا بموقعية إمامهم ودوره
ثم إن في سب وشتم الإمام علي عليه السلام، تجرؤ وتطاول على الذات الإلهية وذلك حسب ما ورد في الأحاديث، فإذا صار الأمر طبيعيا بين الناس، بحيث يتقبله الآمر والشاتم والمستمع برحابة صدر وعن رضى وإقرار، فإنه بعد ذلك يسهل على الآمر وهو معاوية أن يفرض من القواعد والأسس ما شاء، لترسيخ إنهاء دور أهل البيت عليهم السلام نهائيا من الحياة، بل ومن قلوب الناس ومشاعرهم، بل وأكثر من ذلك، حيث صار أهل البيت وشيعتهم هم أعداء الدين والأمة الذين يجب على المسلمين مجاهدتهم وملاحقتهم وقتلهم وتعذيبهم ويستحلون دماءهم وأموالهم وحقوقهم، وهذا ما أتاح كل الفرص لمعاوية وبطانته لبلوغ أبعد مدى في محاربة الدين وأهل البيت عليهم السلام، وفرض دين جديد للناس لا زال المسلمون وحتى اليوم يتعبدون الله تعالى به، معتقدين أن رضى الله تعالى يكون من خلال تطبيقه ومتابعته.
ولست أبالغ فيما أقول فإنه يكفي المسلمين من آثار كتاب معاوية وجود وضاعي الحديث النبوي الشريف، الذين أنشأ معاوية لهم جهازا خاصا في دولته، يشبه المطابخ السياسية في أيامنا هذه، حيث كانوا يضعون الروايات بما يشاء الحكام وبما تشاء أهواؤهم ونفوسهم المريضة، وبحسب ما تقتضيه السياسة، وينسبون ذلك للنبي كذبا وزورا وبهتانا، فيتمسك المسلم بذلك الحديث الذي صُمِمَ خصيصا لإبعاد الناس عن ولاية أهل البيت أو موالاة أعدائهم، أو تحليل حرام أوتحريم حلال، أو بفرض فضائل لأناس كانوا من أشد الأعداء لرسول الله صلى الله عليه وآله، أو بتكفير شخصيات كان لها الدور البارز والكبير في حماية الدعوة الإسلامية وصيانة الدين، أو تبرير أفعال مشينة فعلها الحاكم مخالفا بذلك النصوص الشرعية القطعية، أو بوضع أحاديث تطعن في عصمة رسول الله صلى الله عليه وآله، أو تبين أنه كان يسهو أو يجتهد فيخطئ ويصيب، أو بتحريف
مخالفات معاوية لأحكام الدين بغضا لعلي:
وبتوجيه الناس ضد أهل البيت عليهم السلام، عمل معاوية على إخفاء كل مخازيه وعيوبه ومخالفاته لأحكام الله ورسوله، ووضع له الوضاعون بدلا منها فضائل على شكل أحاديث نسبوها لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولكن الله تعالى لابد وأن يقيم الحجة دائما حتى يتميز الخبيث من الطيب، فقد روت صحاح ومسانيد أهل السنة العشرات من مخالفات معاوية وفسقه ومجونه، تلك الروايات التي طالما أخفاها العلماء عن المسلمين دفاعا عن معاوية حتى تبقى صورته لامعة براقة أمام الناس، وإليك بعض الحقائق على سبيل المثال وليس الحصر.
فقد روى أحمد في المسند عن عبد الله بن بريدة قال (دخلت أنا وأبي على معاوية فأجلسنا على الفرش ثم أتينا بالطعام فأكلنا، ثم أتينا بالشراب فشرب معاوية ثم ناول أبي ثم قال: ما شربته منذ حرمه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم).
وأخرج بن عساكر في تاريخه من طريق عمير بن رفاعة قال (مر على عبادة بن الصامت وهو في الشام قطارة تحمل الخمر فقال: ما هذه؟ أزيت؟ قيل لا، بل: خمر تباع لفلان، فأخذ شفرة من السوق فقام إليها فلم يذر فيها راوية إلا بقرها وأبو هريرة إذ ذاك بالشام، فأرسل فلان إلى أبي هريرة يقول له: أما تمسك عنا أخاك عبادة؟ أما بالغدوات فيغدوا إلى السوق فيفسد على أهل الذمة متاجرهم، وأما بالعشي فيقعد في المسجد ليس له عمل إلا شتم أعراضنا أو عيبنا، فأمسك
أخرج ابن عساكر في تاريخه، وابن سفيان في مسنده، وابن قانع وابن مندة من طريق محمد بن كعب القرظي قال (غزا عبد الرحمن بن سهل الأنصاري في زمن عثمان، ومعاوية أمير على الشام فمرت به روايا خمر لمعاوية، فقام إليها برمحه فبقر كل راوية منها فناوشه الغلمان حتى بلغ شأنه معاوية فقال: دعوه فإنه شيخ قد ذهب عقله. فقال: كلا والله ما ذهب عقلي ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهانا أن ندخل بطوننا وأسقيتنا خمرا، و أحلف بالله لئن بقيت حتى أرى في معاوية ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبقرن بطنه أو لأموتن دونه). ورواه بن حجر في الإصابة وبن الأثير في أسد الغابة.
وروى بن ماجة وبن حبان وغيرهم أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال (شارب الخمر كعابد وثن. وفي لفظ: مدمن خمر كعابد وثن).
وأخرج مالك والنسائي وغيرهما من طريق عطاء بن يسار: أن معاوية باع سقاية من ذهب أو ورق بأكثر من وزنها، فقال له أبو الدرداء (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مثل هذا إلا مثلا بمثل. فقال معاوية: ما أرى بهذا بأسا فقال له أبو الدرداء: من يعذرني من معاوية؟ أنا أخبره عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يخبرني عن رأيه، لا أساكنك بأرض أنت بها).
روى أحمد والطبراني عن عباد بن عبد الله بن الزبير قال: لما قدم علينا معاوية حاجا، قدمنا معه مكة قال: فصلى بنا الظهر ركعتين ثم انصرف إلى دار الندوة، قال: وكان عثمان حين أتم الصلاة فإذا قدم مكة صلى بها الظهر والعصر والعشاء الآخر أربعا أربعا، فإذا خرج إلى منى وعرفات قصر الصلاة، فإذا فرغ من الحج وأقام بمنى أتم الصلاة حتى يخرج من مكة، فلما صلى بنا الظهر ركعتين نهض إليه مروان ابن الحكم وعمرو بن عثمان فقالا له: ما عاب أحد ابن عمك بأقبح ما عبته به، فقال لهما: وما ذاك؟ قال: فقالا له: ألم تعلم أنه أتم الصلاة بمكة، قال: فقال لهما: ويحكما و هل كان غير ما صنعت؟ قد صليتهما مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومع أبي بكر، قالا: فإن ابن عمك قد أتمها وإن خلافك إياه له عيب، قال: فخرج معاوية إلى العصر فصلاها بنا أربعا.
قال الأميني في كتاب من حياة معاوية تعليقا على هذا الحديث (أنظر إلى مبلغ هؤلاء الرجال أبناء بيت أمية من الدين، ولعبهم بطقوس الإسلام، وجرأتهم على الله وتغيير سنته، وإحداثهم في الصلاة، وهي أفضل ما بنيت عليه البيضاء الحنيفية، وانظر إلى ابن هند، حلف الخمر والربا، كيف يترك ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ووجد هو عمله عليه، ووافقه هو مع أبي بكر وعمر، ثم يعدل عنه لمحض أن ابن عمه غير حكم الشريعة فيه، وأن مروان بن الحكم طريد رسول الله وابن طريده، الوزغ ابن الوزغ، اللعين ابن اللعين على لسان النبي العظيم، وصاحبه عمرو بن عثمان ما راقهما إتباعه السنة، فاستهان مخالفتها دون أن يعيب ابن عمه بعمله، فأحيى أحدوثة ذي قرباه، وأمات سنة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، غير مكترث لما سمعته أذن الدنيا عن ابن عمر: الصلاة في السفر ركعتان من خالف السنة فقد كفر فزه به من خليفة للمسلمين وألف زه).
وفي المحلى لابن حزم قال (أحدث بنو أمية تأخير الخروج إلى العيد وتقديم الخطبة قبل الصلاة والأذان والإقامة).
وروى في مروج الذهب (أن رجلا من أهل الكوفة دخل على بعير له إلى دمشق في حال منصرفهم عن صفين، فتعلق به رجل من دمشق، فقال: هذه ناقتي أخذت مني بصفين. فارتفع أمرهما إلى معاوية، وأقام الدمشقي خمسين رجلا بينة يشهدون أنها ناقته، فقضى معاوية على الكوفي وأمره بتسليم البعير إليه، فقال الكوفي: أصلحك الله إنه جمل وليس بناقة، فقال معاوية: هذا حكم قد مضى، ودس إلى الكوفي بعد تفرقهم فأحضره، وسأله عن ثمن بعيره، فدفع إليه ضعفه وبره وأحسن إليه وقال له: أبلغ عليا أني أقابله بمائة ألف ما فيهم من يفرق بين الناقة والجمل. ولقد بلغ من أمرهم في طاعتهم له أنه صلى بهم عند مسيرهم إلى صفين الجمعة في يوم الأربعاء، وأعاروه رؤوسهم عند القتال، وحملوه بها وركنوا إلى قول عمرو بن العاص: أن عليا هو الذي قتل عمار بن ياسر حين أخرجه لنصرته، ثم ارتقى بهم الأمر في طاعته إلى أن جعلوا لعن علي سنة ينشأ عليها الصغير ويهلك عليها الكبير).
وروى الشافعي في كتابه الأم من طريق أنس بن مالك قال (صلى معاوية بالمدينة صلاة فجهر فيها بالقراءة، فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم لأم القرآن ولم يقرأ بها للسورة التي بعدها حتى قضى تلك القراءة، ولم يكبر حين يهوي حتى قضى تلك الصلاة، فلما سلم ناداه من سمع ذلك من المهاجرين من كل مكان: يا معاوية؟ أسرقت الصلاة أم نسيت؟ فلما صلى بعد ذلك قرأ بسم الله الرحمن الرحيم للسورة التي بعد أم القرآن وكبر حين يهوي ساجدا).