وورد أنّه قال في ذلك الموقف: "... استأذنته في أن أزور قبرها، فأذن لي، فزوروا القبور فإنّها تذكّر الموت "(1)، بل أكثر من ذلك فقد حثّ(صلى الله عليه وآله وسلم)على زيارة قبره الشريف، حيث قال: " من زار قبري وجبت له شفاعتي "، وقال(صلى الله عليه وآله وسلم)أيضاً: " من حج فزار قبري بعد وفاتي، كان كمن زارني في حياتي "(2)، وهنالك روايات كثيرة وردت عنه(صلى الله عليه وآله وسلم) بألفاظ متعددة بهذا الخصوص.
وأخرج مسلم في صحيحه عن عائشة، أنّها قالت: " قال(صلى الله عليه وآله وسلم): " أتاني جبريل فقال: إنّ ربك يأمرك أن تأتي أهل البقيع فتستغفر لهم "، قالت: قلت: كيف أقول لهم يا رسول الله؟ قال: " قولي السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين ويرحم الله المستقدمين منّا والمستأخرين، وإنا إن شاء الله بكم للاحقون " "(3).
وقد عملت بهذه السنة بضعة المصطفى وسيدة النساء فاطمة الزهراء(عليها السلام)، حيث أخرج البيهقي في سننه، والحاكم في مستدركه: أنّها كانت تزور قبر عمّها حمزة(رضي الله عنه) كل جمعة فتصلي وتبكي عنده(4).
وقال الحاكم أنّ هذا الحديث رواته عن آخرهم ثقات، ثم قال: " وقد استقصيت في البحث عن زيارة القبور تحرّياً للمشاركة في الترغيب، وليعلم الشحيح بذنبه أنّها مسنونة، وصلى الله على محمّد وآله أجمعين ".
____________
1- أنظر: صحيح مسلم: 2 / 671 (976) (باب استئذان النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ربه في زيارة قبر أُمه).
2- أنظر: سنن الدار قطني: 2 / 378 (194)، شعب الإيمان للبيهقي: 3 / 490 (4159)، المعجم الكبير للطبراني: 12 / 406 (13497)، سنن البيهقي: 5 / 403 (10274)، ومن أراد المزيد فلينظر كتاب الغدير للأميني: 5 / 143 ـ 152، وقد ذكر مصادر هذه الأحاديث من أهل العامة.
3- صحيح مسلم: 2 / 370 (974) باب الجنائز.
4- السنن الكبرى للبيهقي: 4 / 131، المستدرك للحاكم: 1 / 1 / 533 (1396).
هذا بالاضافة إلى وقوف الصحابة والتابعين وزوجات النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته(عليهم السلام) على القبور وزيارتها.
قول الأعلام في زيارة القبور:
قد أفتى الكثير من علماء المذاهب الأربعة بجواز زيارة قبر النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)واستحبابه، ومنهم:
1 ـ أبو عبد الله الجرجاني الشافعي، فقد ذكر بعد جملة من تعظيمه للنبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم): " فأمّا اليوم فمن تعظيمه زيارته "(2).
2 ـ أبو الحسن الماوردي، حيث قال: " فإذا عاد ـ ولي الحاج ـ سار بهم على طريق المدينة لزيارة قبر رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) ليجمع لهم بين حج بيت الله عزّوجلّ وزيارة قبر رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، رعايةً لحرمته وقياماً بحقوق طاعته، ولئنّ لم يكن ذلك من فروض الحج فهو من ندب الشرع المستحبة وعادات الحجيج المستحسنة"(3).
3 ـ القاضي عياض المالكي، إذ قال: " وزيارة قبره(صلى الله عليه وآله وسلم) سنة مجمع عليها وفضيلة مرغّب فيها "(4).
____________
1- المدخل لابن الحاج العبدري: 1 / 255.
2- أنظر: المنهاج في شعب الايمان: 2 / 130.
3- أنظر: الأحكام السلطانية للماوردي: 2 / 109.
4- أنظر: الشفا بتعريف حقوق المصطفى للقاضي عيّاض: 2 / 83.
5 ـ ابن هبيرة في كتاب (اتفاق الأئمّة): " اتفق مالك والشافعي وأبو حنيفة وأحمد بن حنبل على أنّ زيارة النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) مستحبة "(2).
6 ـ أبو زكريّا يحيى بن شرف النووي، قال في زيارة قبره(صلى الله عليه وآله وسلم): " إنّها من أعظم القربات، وأفضل المساعي والطلبات، وإذا إنتهى إلى قبره وقف قبالة وجهه ويتشفّع به إلى ربّه... "(3).
هذا فضلا عن كلمات العشرات منهم(4).
كما ذكر عدد منهم استحباب زيارة البقيع:
فقال الغزالي: " يستحب أن يخرج كل يوم إلى البقيع "(5)، وكذا قال النووي والفاخوري، وزاد الأخير: "... يأتي المشاهد والمزارات فيزور العباس ومعه الحسن بن عليّ، وزين العابدين، وابنه محمّد الباقر، وابنه جعفر الصادق، ويزور أميرالمؤمنين سيدنا عثمان وقبر إبراهيم ابن النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)، وجماعة من أزواج (صلى الله عليه وآله وسلم) وعمته صفية وكثيراً من الصحابة والتابعين... ".
بل أكثر من هذا فإنّ المعاصرين من علماء العامة يرون أنّ زيارة القبور مندوبة للاتعاظ وتذكرة بالآخرة...، وينبغي للزائر الاشتغال بالدعاء والتضرّع
____________
1- أنظر: دفع شبه من شبّه وتمرّد للحصني: 81.
2- أنظر: المدخل لابن الحاج العبدري: 1 / 256.
3- أنظر: دفع شبه من شبّه وتمرّد للحصني: 75.
4- أنظر: الغدير للأميني: 5 / 165 ـ 187.
5- احياء علوم الدين: 1 / 387.
ومن هذا كله يتبيّن أنّ زيارة القبور ليست بدعة ـ كما ينعق البعض ـ بل سنة عمل بها الأصحاب والتابعين والمسلمين قاطبةً.
الوصول إلى جادّة الأمان:
يقول الأخ شكيم الفردي: " وجدت أنّ كلمات الأعلام وأهل الاختصاص تجوّز زيارة القبور ـ مع التزام الزائر بالأمور الشرعية التي ترضي الله تعالى وتنفع الميت ـ وقد لمست خلال زيارتي لقبر السيدة زينب إبنة الإمام أمير المؤمنين(عليهما السلام)في سوريا، الجوّ المعنوي المفعم بالروحانيّة، فوقفت أمام ذلك المشهد مستلهماً منه العطاءات التربوية التي منحتني النفحات الإيمانية، وغرست في نفسي الكثير من الوعي والمعرفة، فإنّ المشهد نقلني إلى عالم ملؤوه الإيمان والورع والتقوى، فأثار فطرتي وأزال عن بصيرتي الحجب التي كانت تمنعني من رؤية الحقّ.
فأثّر ذلك المشهد في نفسي أثراً كبيراً، بحيث دفعني للبحث والمطالعة حول مكانة ومنزلة أهل البيت(عليهم السلام) عند الله سبحانه وتعالى، حتى عرفت بعد ذلك مكانتهم، وعرفت أنّهم عدل الكتاب، وسفينة نوح، ونجوم الهداية، فقلت: لا أحيد عنهم ولا أختار إلاّ طريقتهم، إذ لا يسع المؤمن الاعتصام من الضلال إلاّ بالتمسّك بهم والانضواء تحت لوائهم، فاعتنقت مذهبهم عام 2001م ".
(29) صـادق حسين النقوي
(حنفي / كشمير)
ولد عام 1969م بمنطقة " مظفّر آباد " في كشمير الحرّة(1)، نشأ في أوساط عائلة هاشمية النسب تعتنق المذهب الحنفي.
تشرّف باعتناق مذهب أهل البيت(عليهم السلام)عام 1990م في بلاده اثر مناقشات ودراسات مكثفة ومتواصلة.
حقيقة التشيع:
يقول السيد صادق: " كان يقطن في منطقتنا الكثير من السادة المعتنقين للمذهب الحنفي، والعجيب أنّ بعض ممارساتنا وطقوسنا الدينية مشابهة إلى حدّ ما لطقوس الشيعة الإمامية.
____________
1- كشمير: تقع في أقصى غرب شبه القارة الهندية بين الهند وباكستان، تحيط بها الصين من الشمال والشرق، ثلثها يخضع لباكستان وتسمّى " كشمير الحرّة " والباقي للهند، يبلغ عدد سكانها (9) ملايين شخص (6) ملايين في القسم الهندي و (3) في القسم الباكستاني، يشكل المسلمون نسبة 75% والباقي من الهندوس والسيخ.
وبهذه الرؤية وعلى هذا النهج والمعتقد أمضيت سنوات من عمري وأنا أعتبر نفسي سائراً على نهج مذهب أهل البيت(عليهم السلام)، حتى دخلت الجامعة فتعرّفت خلال الدراسة على الشيعة، فأعجبت بهم لوسع ثقافتهم الدينية وارتفاع مستواهم الفكري، وتقرّبت إليهم حتى أصبحت لي علاقة ودّيه مع اثنين منهم، فكنت أجالسهم وأتحدّث معهم في شتى المجالات العلمية والثقافية، حتى دار بيني وبينهم ذات يوم حوار حول مسألة المذاهب والأديان، فأخبرتهما بأنني شيعي ـ باعتباري سيد هاشمي ـ.
فقالا لي: كيف تكون شيعياً ونحن لا نرى ممارساتك العبادية وفق المذهب الجعفري؟!.
فتعجّبت من كلامهما! وقلت: ما هو منهج الشيعة في العبادة غير ماأنا عليه؟
فبدأ زميلاي يحدثاني عن أصول مذهب الشيعة ومعالمه وخطوطه العريضة، وذكرا لي الظروف القاسية والمحن الصعبة التي مر بها هذا المذهب وأتباعه.
فاستغربت من ذلك! وعرفت ذلك الحين مدى غفلتي عن الواقع والحقيقة، وقرّرت بعد ذلك أن أبذل قصارى جهدي للحصول على معتقد يرتكز على الدليل
وطلبت منهما إرفادي بكتب الشيعة العقائدية والفقهية والتاريخية لأتحقق من نفسي، ولأصل إلى ما يوافق كتاب الله وسنة نبيه(صلى الله عليه وآله وسلم) ونهج آله(عليهم السلام)، وأتخذه سبيلاً أسير عليه بعزم وثبات في حياتي، فأرسلا إليّ الكتب، وعكفت على قراءتها ومطالعتها بدقة وإمعان، وكنت أناقش ما كان غامضاً فيها معهما ومع غيرهما، وبعد مضى فترة أدركت أنّ مضامين هذه الكتب متينة الاستدلال سهلة الأسلوب ومستظلة بمظلة القرآن، وموافقه لسنة النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)، وزاخرة بتراث العترة الطاهرة(عليهم السلام)، فكانت هذه الكتب تلامس شغاف قلبي وتفتح أبواب عقلي.
واقعة الطفّ الدامية:
بمرور الزمان توثقت عرى الصداقة بيني وبين هذين الأخوين، فاشتركت معهما في نشاطات تربوية وثقافية مختلفة منها إحياء مراسم عاشوراء، وفي أجواء إحيائنا لواقعة الطفّ الدامية أحببت البحث في هذه المسألة لاستيعابها.
وفي بدء الأمر حاولت الإحاطة بما جرى في يوم عاشوراء على أهل البيت(عليهم السلام) في أرض كربلاء، فقرأت أحداث هذه الواقعة حتى بلغت آخرها في عصر يوم عاشوراء، وذلك حينما بدأت شمس العاشر من محرم عام 61 هـ تجمع أشعتها عن أرض كربلاء المضمخة بالدماء، بدء اللئام ليدونوا في سجل التاريخ فصلاً آخر من فصول جرائمهم البشعة! فداهموا الخيام، وأستباحوا الرحال، وانتبهوا الأموال، وروعوا الأطفال، وأشعلوا النار حتى أخذت تلتهم كل شيء، فدهشت النساء، وارتاعت الصبية، وفروا في البيداء ليكونوا طعمة لسنابك الخيل،
لماذا أخرج الإمام الحسين(عليه السلام) عياله معه؟
إنّ الأحداث الرهيبة التي جرت في واقعة كربلاء جعلتني أتساءل عن الداعي الذي حدا بالإمام الحسين(عليه السلام) لإخراج عياله معه؟
راجعت كتب التاريخ والسير لعلّي أجد السبب في ذلك، فعثرت على إحدى الحقائق الهامّة التي أفصح عنها أبو الفرج الاصفهاني بقوله: " بعد خروج الحسين(عليه السلام) أمر عمرو بن سعيد بن العاص صاحب شرطته على المدينة، أن يهدم دور بني هاشم، وبلغ منهم كل مبلغ!! "(1).
فتبيّن لي عندئذ لؤم ودناءة نفسية الأمويين، وعرفت سبب إخراج الإمام الحسين(عليه السلام) أهل بيته معه، فإنّ بني أميّة إذ عمدوا إلى هدم الدور الخالية للتنكيل ببني هاشم، فما عساهم أن يفعلوا بإخوة وأبناء ونساء الحسين(عليه السلام) لو ظفروا بهم؟! فإنّهم من المؤكد سيكونون عرضة للذبح والانتهاك... ".
وفي الحقيقة أنّ هذه الضغوط من مبتكرات الأمويين وسماتهم التي كانوا يتخذونها لإخضاع المعارضين، وليس بالمستبعد من يزيد بن معاوية أن يبادر إلى قتل واحد من آل الحسين(عليه السلام) في كلّ يوم ما لم يأت الحسين(عليه السلام) ويسلّم نفسه!، وليس هذا الأمر بمستبعد من آل أميّة خصوصاً وأنّ التشفي طبيعة نسجت عليها أوصالهم، وتعامل هند زوجة أبي سفيان مع جسد حمزة بن عبد المطّلب الطاهر في أُحد، بمضغها كبده وتمثيلها بجسده الشريف، خير شاهد على عدم استبعاد ارتكاب هذه الجرائم من هذه الشجرة الخبيثة.
____________
1- أنظر: الأغاني لأبي الفرج الاصفهاني: 5 / 82.
وقد يسأل السائل: فأين إذاً المهاجرون والأنصار وأبناؤهم؟! ألم يكونوا عاهدوا رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) من قبل أنّهم يذودون عنه وعن آله كما يذودون عن أنفسهم!
والجواب يكون ماثلاً وواضحاً عندما يتبيّن للسائل موقف المهاجرين والأنصار في أحداث السقيفة! وأنّ القوم لم يدافعوا عن أمّ الإمام الحسين(عليه السلام)وهي بضعة النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) عندما هجم الأوغاد على دارها، وأحرقوا بابها، ورضوا ضلعها، وهدّدوا بعلها بالقتل أمام مرأى ومسمع الجميع، ولم يتقدّم أحد من المهاجرين والأنصار للدفاع والذب عن حريم رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، فمن الأولى بالإمام الحسين أن لا يأمن على أهله من أتباع يزيد وأن يتركهم في أوساط هؤلاء.
والذي يتأمّل كل هذا يجد من غير المستبعد أن يطيع أهل المدينة يزيد فيمالو كلّفهم بحرق بيت الإمام الحسين(عليه السلام) على من فيه.
من هم قتلة الإمام الحسين(عليه السلام):
يقول السيّد صادق: " بعد انتهاء المراسم التي أحييناها بمناسبة ذكرى مقتل الإمام الحسين(عليه السلام) يوم عاشوراء، جلست وقت غروب ذلك اليوم وحيداً منعزلاً عن جماعتي تحت ظل السماء، وغرقت في التفكير حتى خيّم عليَّ الهمّ والحزن، ورفعت رأسي أنظر إلى غروب الشمس العاشر من المحرّم، فكانت السماء دامية توحي بالحزن والكآبة، ثم تأملت بما قمت به في ذلك اليوم، فرأيت أني طويت يوماً طال أمده بالنسبة لي!.
وبعد مضي ذلك اليوم طفقت أتتبع خطى الحسين(عليه السلام)واسلوبه في النهضة، كي أشفي غليلي من الأسئلة التي تعتلج في صدري، كتشنيع البعض على الشيعة وإتهامهم بقتل الحسين(عليه السلام) لتبرير ساحة بني أميّة من هذه الجريمة النكراء!.
وقد قيض الله تعالى لي مجموعة من الكتب التي فندت هذا الإدعاء بشكل تام، وفهمت منها ومن بعض المحاورات التي كانت تدور بيني وبين الآخرين، إنّه لم يكن في الجيوش الزاحفة لحرب الإمام الحسين(عليه السلام) شيعي واحد! ".
فإنّ الكوفة قد خلت تقريباً ـ في هذه الفترة ـ من الشيعة، حيث تعرضوا لحملات الإبادة والتنكيل والتهجير، فكان شيعة أهل البيت(عليهم السلام) في الكوفة أكثر الناس بلاءً وأشدهم محنة، كما قال ابن أبي الحديد: " فلم يكن البلاء أشدّ ولا أكثر منه بالعراق، ولاسيما بالكوفة، حتى أنّ الرجل من شيعة عليّ(عليه السلام) ليأتيه من يثق به، فيدخل بيته فيلقي إليه سرّه، ويخاف من خادمه ومملوكه، ولايحدثه حتى يأخذ عليه الأيمان الغليظة ليكتمن عليه... فلم يزل الأمر كذلك حتى مات الحسن بن عليّ(عليه السلام)، فازداد البلاء والفتنة، فلم يبق أحد من هذا القبيل إلاّ وهو خائف على
ويصف الإمام محمّد الباقر(عليه السلام) ذلك الوقت قائلاً: " وقتلت شيعتنا بكل بلدة، وقطعت الأيدي والأرجل على الظنّة، وكل من يذكر بحبّنا والانقطاع إلينا سجن أو نهب ماله أو هدمت داره، ثم لم يزل البلاء يشتد ويزداد إلى زمان عبيد الله بن زياد قاتل الحسين(عليه السلام)... "(3).
وبهذه السياسة خلت الكوفة من الشيعة تقريباً، خصوصاً بعد حملات التهجير والنفي التي شنت على أتباع أهل البيت(عليهم السلام) أيام زياد ابن أبيه، حيث أبعد خمسين ألفاً منهم إلى خراسان!، والكوفة كانت شيعية النزعة أيام خلافة الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام)، ولكنّها تغيّرت بعد ذلك فقلّ عددهم فيها.
وقد أكّد القوم الزاحفون لحرب الحسين(عليه السلام) أنّهم ليسوا من الشيعة، بل هم عثمانيون!! عندما قالوا: " ليعطش كما عطش من كان قلبه " إشارة إلى عثمان عندما حاصره الثوار في بيته، وأثبتوا ذلك أيضاً عندما سألهم سيد الشهداء(عليه السلام)بقوله: " ويلكم! أتطلبوني بدم أحد منكم قتلته، أو بمال استملكته، أو بقصاص من جراحات استهلكته؟ "(4)، فقالوا: " نقتلك بغضاً منا لأبيك! "(5)، ولايوجد
____________
1- شرح النهج لابن أبي الحديد: 11 / 44 ـ 46.
2- المصدر نفسه، كتاب سليم بن قيس: 318.
3- أنظر: شرح النهج لابن أبي الحديد: 11 / 43 ـ 44.
4- أنظر: تاريخ الطبري: 5 / 425، ينابيع المودّة للقندوزي: 3 / 64.
5- أنظر: نور العين في مشهد الحسين (عليه السلام) للاسفرايني: 47.
ثم إنّ الإمام الحسين(عليه السلام) قد حدّد انتماءهم بقوله: " يا شيعة آل أبي سفيان، إن لم يكن لكم دين، وكنتم لا تخافون المعاد، فكونوا أحراراً في دنياكم هذه، وارجعوا إلى أحسابكم إن كنتم عرباً كما تزعمون "(1)، فهل بعد كل هذا يقول أحد أنّ الشيعة هم قتلة الإمام الحسين(صلى الله عليه وآله وسلم)!!.
ولعل البعض يحاول جعل من شاركوا في حرب صفين مع الإمام عليّ بن أبي طالب(عليه السلام) كشمر بن ذي الجوشن، وشبث بن ربعي، وقيس بن الأشعث من الشيعة، ولكن هذه مغالطة مكشوفة فإنّ هؤلاء من أبرز الذين تمرّدوا على الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) وخرجوا عليه، في العوبة رفع المصاحف التي دبّرها عمرو بن العاص!، فالقوم خارجون عن الدين مارقون منه، ليس بينهم وبين التشيّع صلة وإنتماء.
الاقتناع التام بأحقيّة التشيّع:
ويقول السيد صادق النقوي: " لقد أراحتني هذه الإجابات، ودفعتني لتصحيح عقائدي الموروثة، فكنت بعد ذلك من الملتزمين بإحياء هذه المراسم.
وجئت ذات يوم إلى أبي وقلت له: أبتاه نحن من سلالة الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)، وأولى الناس بإتباع ذريته الطاهرة التي أبعد الله عنها الرجس، فعلينا أن لا نبتعد عن مسلكهم لأنّهم سفن النجاة، ونجوم الأمان والهداية.
وأخذت أشرح له الحقائق التي عرفتها، فما كان منه إلاّ أن وافقني على ذلك، بل دفعني للالتحاق بمدارس الإمامية لأنهل من علوم العترة الطيبة وأسير بسيرتهم(عليهم السلام) وأكون داعية لمذهبهم ".
____________
1- أنظر: مقتل الحسين للخوارزمي: 2 / 38، وغيره.
(30) عبد الله أحمد العسيري
(زيـدي / اليمن)
ولد عام 1977م بمدينة " المحويت " في اليمن(1)، من أسرة زيدية، كان يميل بشكل كبير للوهابيّة، يواصل الآن دراسته في الطبّ.
تشرّف عام 1997م باعتناق مذهب أهل البيت(عليهم السلام)، بعد حوارات ومناقشات عديدة ودراسة موضوعيّة لعقائد الشيعة وآراء الوهابية.
مرحلة خطيرة من الضياع:
يقول السيّد العسيري: " قرّرت أن أعيش في ظلّ النظريّة الإلهيّة بأن ألتزم بالمبادئ الإسلاميّة لضمان سعادتي في كلا الدارين، فسرت على نهج الوهابية وذلك لإعجابي بهم حتى حضرت معهم حلقات الدرس، وكنت أرمي بعقلي حيثما وجدت مخالفة للعقل ـ على أساس أنّ العقل هوى ويجب القضاء على الهوى ـ، وهكذا بدأت أتعمق في فهم تصوراتهم حتى بلغت إلى الاعتقاد بالتجسيم لله سبحانه وتعالى!.
كشف الغطاء عن الملابسات:
وذات يوم سمعت أنّ أحد أقربائي قد إنتمى إلى التشيّع، فذهبت إليه لعلّي
____________
1- اليمن: أنظر: الترجمة رقم (9).
وكانت البداية هي البحث عن التوحيد باعتباره الأصل الأوّل من المسائل الاعتقادية، فالوهابية تعتقد أنّه تعالى بذاته موجود على العرش، وبعلمه يتواجد في كلّ مكان، ولم يكن لي علم بمصدر هذا التقسيم! لكنني كنت أعلم بأنني موظف باتباع ما يملي عليَّ العلماء من دون مناقشة ذلك، وكان قريبي الشيعي متفتحاً وواعياً لا يقول شيئاً إلاّ عن علم ودراية، فبدأ يسرد لي الآيات التي تنزه الله عزّوجلّ عن ذلك.
فحاولت أن أقيّده ليتمسك بظاهر الألفاظ، وأن لا يتخطي عن دائرة الألفاظ إلى مجال المعاني، فبدأ قريبي يستشهد لدعم تنزيهه جلّ وعلا بالروايات الواردة في هذا الخصوص، ومن هنا دخلنا في موضوع الأحاديث ومصداقية كتب الحديث عند أبناء العامة وحجيتها، فسجّلت نقاط الخلاف بيننا وبين الشيعة، وقرّرت الرجوع إلى أحد الأساتذة الوهابيين لأحصل على إجابة الإشكالات التي ذكرها قريبي.
وبالفعل ذهبت لأحد الأساتذة وشرحت له ما جرى بيني وبين قريبي من حوار حول التوحيد، وقدّمت له الورقة التي دوّنت فيها الإشكالات ونقاط
____________
1- أنظر: صحيح البخاري، باب وقت المغرب، وباب وقت العصر، وقد مر ذلك في هذا الكتاب.
وذهبت إليه في الموعد المحدّد، وإذا به يُسمعني آراء ابن تيميّة حول الشيعة بأنّهم مشركون وضالون وينبغي اجتناب مجالستهم!.
فقلت له: أنا أعلم ذلك، ولكن أريد جواباً لتفنيد إشكالات قريبي؟
فقال لي الأستاذ: إنّ الله عزّوجلّ لو أراد أن يهدي قريبك لهداه، ولكن قلّ من تشيّع ثم هداه الله!.
فلم يرق لي جواب الأستاذ، ووجدت أجابته توحي بعدم قدرته على الردّ.
مع كتيب الخطوط العريضة:
بعد ذلك طلبت من الأستاذ كتاباً حول الشيعة، فأعطاني كتيب (الخطوط العريضة)، فأخذته وطالعته، ثم ذهبت إلى قريبي الشيعي، ورحت أكيل له ولمذهبه التهم التي ذكرها مؤلف الكتيب محب الدين الخطيب.
فكان قريبي صبوراً يسمع تهجمي بهدوء وتأنّي، بعد ذلك بدأ يجيب ماوجهت له من أسئلة وشبهات من دون انفعال، وكانت أوّليات النقاش قد تمحورت حول ما أدّعاه الخطيب بخصوص ما نسب إلى عمر ".
في الحقيقة أنّ ما تقوّل به المؤلف في هذا الكتيب، مجرّد تهمة حاول إلصاقها بعلماء الشيعة، فإنّه حكى عنهم هذه المقالة التافهة في كتاب اسمه (الزهراء)، وهو أمر ليس له أساس من الصحّة، ولو كان صادقاً في إدعائه لأسند نشر هذا الكتاب إلى ناشر معين، ولذكر اسم مؤلفه! ولم يسنده إلى علماء النجف الأشرف ـ فهم من أحوط الناس وأشدّهم رعاية لحرمة الإسلام والمسلمين، ولا تجري أقلامهم وألسنتهم النزيهة إلاّ في مرضاة الله والإصلاح بين المسلمين ـ، ولكن الخطيب لا يريد بذلك سوى الطعن والتجريح وإثارة الفتنة وتفريق الكلمة،
ولو سلّمنا وجود شئ من هذا، فهل يصح نسبته إلى عموم علماء الشيعة؟! وإذا كان مبنى الخطيب على هذا الأساس، فعند ذلك يحق أن تنسب عقائد النواصب ـ الذين أحدثوا في الإسلام الحوادث العجيبة ـ إلى جميع أبناء العامّة.
دراسات الفقه الإسلامي عند الشيعة وأبناء العامة:
حاول الخطيب في كتيّبه هذا أن يعمّق الهوّة ويوسّع الفجوة بين الشيعة وأبناء العامّة، وذلك بقوله: " فالفقه عند أهل السنة وعند الشيعة لا يرجع إلى أصول مسلّمة عند الفريقين، والتشريع الفقهي عند الأئمّة الأربعة من أهل السنة قائم على غير الأُسس التي يقوم عليها التشريع الفقهي عند الشيعة... "(1).
لكن الفقه عند جميع المسلمين من الشيعة وأبناء العامة في الواقع يرجع إلى كتاب الله تعالى وسنة نبيه(صلى الله عليه وآله وسلم)، والشيعة أشدّ الناس تمسكاً بهما، فعلى هذا كيف تكون الأُسس التي قام عليها التشريع الفقهي عند أبناء العامّة مغايرة للأُسس التي قام عليها عند الشيعة، علماً أنّ أئمة المذاهب وتلامذتهم أخذوا عن الإمام جعفرالصادق(عليه السلام)!.
وفي الحقيقة أنّ الفرق بين الطائفتين، إنّ الشيعة لا تجوّز العمل بالقياس والاستحسان والاجتهاد مقابل النصّ كما هو متعارف عند غيرهم.
ثمّ يعرض الخطيب خطاً عريضاً آخر من أُفقه الطائفي الضيق، فيدّعي أنّ الشيعة لا يدخلون الفقه السني في دراساتهم! وينكر على الأزهر دراسة الفقه
____________
1- الخطوط العريضة: 11 ـ 12.
في حين أنّ الأزهر إذا أراد أن يكون حرّاً في دراساته وموضوعياً في نقاشاته، فعليه بدراسة فقه وعقائد وتفسير الشيعة، ليعرف مدى رسوخهم وتأثيرهم في تاريخ الإسلام والمسلمين.
كما أنّ مقولة الخطيب بأنّ الشيعة لا يدرسون الفقه السني، مجرّد إدّعاء ليس له صحّة في الواقع، فإنّ مدارس الشيعة وحوزاتهم لا تتناول الفقه السني فقط، بل تفسير وعقائد وتاريخ أبناء العامّة بكلّ دقّة وأمانة(1)، وتضعه على طاولة البحث ثم تناقشه لتصل إلى النتائج التي يدعمها الدليل والبرهان من القرآن والسنّة.
وهذه مكتباتهم العامّة والخاصّة تعجّ بمئات الكتب السنّيّة لمختلف الكتّاب، ومنابرهم يذكر فيها آراء أبناء العامة جنباً إلى آراء الشيعة، وتُخضع كافة الآراء للنقد والتحليل.
فالشيعة يتناولون في أبحاثهم جميع الآراء بدقة وإمعان، وهم لقوّة ثقتهم بما يذهبون إليه وعدم تعصبهم، لا يخشون على عقائدهم من النقد كما تحاول بعض الطوائف أبعاد أتباعهم عن أفكار وكتب الآخرين.
التقيّة في الفكر الإسلامي:
شنّ الخطيب في كتابه أيضاً حملته المسعورة على الشيعة لعملهم ولإيمانهم بالتقيّة الّتي شرّعها الله تعالى في كتابه العزيز، وقاية للمؤمن ومتعلقاته
____________
1- إنّ الشيعة يدرسون أقوال جميع أئمّة الفقه ورؤساء المذاهب، ويذكرون خلافاتهم، ويبحثون في أدلّة الأقوال، ويأخذون بما هو أوفق للكتاب والسنة، وكتب علمائهم مثل (الخلاف) للشيخ الطوسي، و(التذكرة) للعلاّمة الحلي، وغيرها خير دليل على ذلك.
والتقيّة في الحقيقة هي إظهار الإنسان ما يغاير باطنه المؤمن به والمطمئن إليه لدفع ما يحيق به من شرور، وهي من المفاهيم الإسلاميّة الأصيلة، التي أكّدتها السنة النبويّة المطهّرة، وعمل بها الصحابة والتابعين، كما أنّها موافقة لحكم العقل، فالعقل يأمر صاحبه بتجنّب ما يحتمل فيه الضرر، سواء كان ذلك في أصول العقائد الإسلاميّة أم في الأحكام الشرعيّة، بل وحتى في الآداب والأخلاق العامة.
كما أنّ التقية غير مختصة بمذهب معين، وإنّما كان سبب تميّز الإماميّة بها للمعاناة الطويلة التي مرّوا بها من حكّام الظلم والجور، وهذا لا يعني أنّ غيرهم لم يعمل أو لم يقل بها!
فقد ورد عن أئمة المذاهب الأربعة وفقهائهم أقوالاً في مشروعيّة التقيّة، ومنها:
ذكر الإمام مالك عدم وقوع طلاق المكره على نحو التقيّة(1).
وذكر ابن العربي المالكي أنّ من يكفر تقيّة وقلبه مطمئن بالإيمان لا تجري عليه أحكام المرتد، لعذره في الدنيا... ; كما صرّح بأنّ الإكراه إذا وقع على فروع الشريعة لا يؤاخذ المكره بشيء(2).
وذكر ابن جزي المالكي جواز التلفّظ بكلمة الكفر عند الإكراه عليها... ثمّ قال: " قال مالك: لا يلزم المكره يمين ولا طلاق ولا عتق ولا شئ فيما بينه وبين الله، ويلزمه ما كان من حقوق الناس، ولا تجوز الإجابة إليه كالإكراه على قتل أحّد أو أخذ ماله "(3).
____________
1- أنظر: المدونة الكبرى لمالك بن أنس: 6 / 24، كتاب الايمان بالطلاق وطلاق المريض.
2- أنظر: أحكام القرآن لابن العربي: 3 / 1177 ـ 1182.
3- أنظر: تفسير ابن جزي: 366.
والتقيّة في الفقه الحنفي فواسعة جدّاً! حيث قال السرخسي الحنفي: "يجوز ترك الصلاة الواجبة عند الإكراه على تركها، وكذلك الإفطار في شهر رمضان المبارك... وكما تصحّ التقية في هذه الأمور تصح أيضاً في حالات كثيرة أخرى فيما لو أكره المرء عليها... وإنّ من لم يفعل ذلك وهو يعلم أنه يسعه كان آثماً، وليس له أن يمتنع منه، كما جوّز كلمة الشرك على اللسان تقية عند الإكراه"(2).
أمّا ابن نجيم الحنفي، فقد نصّ على قاعدة هامة توجب على المكره أو المضطرّ الموازنة بين المفسدة الناتجة من الإقدام على الفعل المكره عليه أو المضطر إليه، وبين المفسدة الناتجة من حالة الترك... ثمّ ينقل عن الزيلعي قوله: "الأصل في جنس هذه المسائل أنّ من ابتلى ببليتين، وهما متساويتان، يأخذ بإيّهما شاء، وإن اختلفتا يختار أهونهما، لأنّ مباشرة الحرام لا تجوز إلاّ للضرورة، ولا ضرورة في حقّ الزيادة "(3).
هذا بالاضافة إلى أقوال أخرى في مصادر الأحناف تحدّثت عن التقيّة(4).
____________
1- أنظر: البحر المحيط: 2 / 424.
2- أنظر: المبسوط للسرخسي: 24 / 55، 172، 173.
3- أنظر: الأشباه والنظائر لابن نجيم الحنفي: 89.
4- أنظر: الهداية للمرغياني، كتاب الإكراه: 3 / 275، شرح فتح القدير للسيواسي: 8 / 65، اللباب للميداني: 4 / 107 ـ 114، النتف في الفتاوى للسغدي: 2 / 696 ـ 703.
وقال الكيا الهراسي الشافعي عمن يكفر بالله تعالى مكرهاً وقلبه مطمئن بالإيمان: " إنَّ حكم الردّة لا يلزمه... إنّ المشرّع غفر له لما يدفع به عن نفسه من الضرر... واستدلّ به أصحاب الشافعي على نفي وقوع طلاق المكره وعتاقه وكلّ قوله حُمل عليه بباطل، نظراً لما فيه من حفظ حقه عليه، كما امتنع الحكم بنفوذ ردته حفظاً على دينه "(2).
وذكر ابن حجر العسقلاني الشافعي جواز التقيّة عند الإكراه على تلفّظ كلمة الكفر(3).
ويرى الحنابلة أيضاً جواز العمل بالتقيّة، حيث صرّح ابن قدامة الحنبلي بإباحة التقيّة في حالات الإكراه، وقال: " إنّما أبيح له فعل المكره عليه، دفعاً لما يتوعده به من العقوبة فيما بعد "(4).
ومن التقيّة في الفقه الحنبلي، الإكراه على كلمة الكفر، وقد صرّح بذلك مفسروا الحنابلة كابن الجوزي الذي نصّ على جواز الكفر تقيّة عند الإكراه على الكفر(5).
وقال بهاء الدين عبد الرحمن بن إبراهيم المقدسي: " أجمع العلماء على إباحة الأكل من الميتة للمضطر، وكذلك سائر المحرمات التي لاتزيل العقل "(6).
____________
1- أنظر: أحكام القرآن للإمام الشافعي: 2 / 114 ـ 115.
2- أنظر: أحكام القرآن للكيا الهراسي: 3 / 246 ـ 247.
3- أنظر: فتح الباري لابن حجر العسقلاني، كتاب الإكراه: 12 / 385.
4- أنظر: المغني لابن قدامة: 8 / 261.
5- أنظر: زاد المسير لابن الجوزي: 4 / 363.
6- أنظر: العدة في شرح العمدة للمقدسي الحنبلي: 464.
مسألة تحريف القرآن:
ادّعى الخطيب بأنّ الشيعة يقولون بتحريف القرآن، وهو إفتراءٌ آخر يضاف إلى سلسلة الافتراءات التي حواها هذا الكتيّب.
فالقرآن الكريم يمثّل روح الأُمّة الإسلاميّة التي لا غنى للمسلمين عنها، فهو كيانهم ووجودهم، وقد أجمعوا على أنّ القرآن هو هذا الذي بين الدفتين لم يزاد فيه ولم يعتريه النقصان، وهذا ما يؤمن به الشيعة.
وكملاحظة نلفت النظر إليها، إنّ محدثي الشيعة عنوا منذ القرون الأُولى بجمع الروايات الواصلة إليهم عن الأئمة(عليهم السلام) ـ صوناً لها من الضياع وحفظاً لها من النسيان ـ من غير نظر إلى متونها أو أسانيدها، فالرواية على هذا الأساس أعمّ من الاعتقاد، ولذا لا يجوز نسبة مطلب إلى راو أو محدّث ـ فضلا عن طائفة ـ بمجرد نقله لخبر يدل على ذلك المطلب، فإذا صرّح كاتب بمعتقد ما، فلا يصحّ تعميم اعتقاده على الطائفة بأجمعها، لأنّ مبناه في صحّة تلك الأخبار أو تبنيه لذلك المعتقد قد يكون مخالفاً لمباني الآخرين.
ويؤكد ماذكرناه ـ من أنه رأي شخصي ـ أنّ علماء الشيعة المعاصرين للشيخ حسين النوري الطبرسي، والمتأخرين عنه تناولوا كتابه بالردّ والنقد، كالسيد محمّد حسين الشهرستاني، والشيخ محمود العراقي وغيرهما، وللشيخ
____________
1- أنظر: الاستغاذة في الردّ على البكري لابن تيمية: 2 / 595.
فليس من حقّ الخطيب أن ينسب تهمة التحريف للشيعة ـ لأنّ أحد علمائهم قال به ـ في حين نجده يتعامى عن آراء الفطاحل منهم، ومن له الباع الطويل والقدم الراسخ في حفظ التراث الإسلامي الأصيل من الضياع.
قول الشيعة بعدم تحريف القرآن:
قد صرّح أعلام الإماميّة بعدم تحريف القرآن، ومنهم:
1 ـ الشيخ محمّد بن عليّ ابن بابويه الملقّب بالصدوق(رحمه الله): " اعتقادنا أنّ القرآن الذي أنزله الله تعالى على نبيه محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) هو ما بين الدفتين، وهو ما بين أيدي الناس ليس بأكثر من ذلك، ومبلغ سورهُ عند الناس مائة وأربع عشرة سورة"...، ثمّ يقول: " ومن نسب إلينا أنّا نقول أنّه أكثر من ذلك فهو كاذب "(3).
2 ـ الشيخ أبو جعفر محمّد بن الحسن الطوسي(رحمه الله): " أمّا الكلام في زيادته ونقصانه فمما لا يليق به، لأنّ الزيادة فيه مجمع على بطلانها، وأمّا النقصان منه فالظاهر أيضاً من مذهب المسلمين خلافه، وهو الأليق بالصحيح من مذهبنا "(4).
3 ـ الشيخ أبو عليّ الطبرسي(رحمه الله): " فأمّا الزيادة فيه فمجمع على بطلانه، وأمّا النقصان منه فقد روى جماعة من أصحابنا وقوم من حشوية العامّة أنّ في القرآن تغيّير أو نقصاناً، والصحيح من مذهب أصحابنا خلافه، وهو الذي نصره
____________
1- الآء الرحمن: 1 / 63 ـ 71.
2- أنظر: صيانة القرآن من التحريف لمحمد هادي معرفة: 89 ـ 91، والجدير ذكره هنا ان أغلبي الروايات التي أوردها الشيخ النوري في كتابه من مصادر أهل العامة.
3- أنظر: الاعتقادات للصدوق: 59.
4- أنظر: التبيان في تفسير القرآن للطوسي: 1 / 3.