الصفحة 281
حاجة إليه.

5 ـ المباح: وهو ما يجوز فعله وتركه وكلاهما على حدٍّ سواء عند الله تعالى.

وكل فعل يصدر من إنسان مسلم لا يخرج عن هذه الخمسة وإذا شك في احدها تسمى الشبهة الحكمية.

الأمر الثاني: هناك ثلاث طرق لمعرفة تلك الأحكام الخمسة وهي:

1 ـ الاجتهاد.

2 ـ التقليد.

3 ـ والاحتياط.

قال في شرح الأربعين ما لفظه الآتي:

إن معرفة الأحكام الشرعية ـ على الوجه الصحيح ـ إنّما يكون باجتهاد أو تقليد أو احتياط ذلك إنّ الإنسان في حياته لا بدّ له إما من اختصاص أو تلمّذ أو حذر، فلا يجوز معالجة المريض إلاّ للطبيب الأخصائي أو من يعمل بإرشاد الطبيب، وفيما إذا فُقد فاللازم الوقاية والاحتياط حتى لا يزداد المريض سوءاً كذلك بالنسبة إلى الأحكام الشرعية، فلابدّ من تحصيلها بإحدى الطّرق الآتية وبدونها يكون العمل باطلا وهي:

1 ـ الاجتهاد: وهو معرفة الأحكام الشرعية عن أدلّتها من القرآن والسُّنَّة والإجماع والعقل، وهذا لا يتيسّر إلاّ لمن اختصّ بالاستنباط.

2 ـ الاحتياط: وهو العمل بما يتيقّن سقوط التكليف الشرعي واليقين بالعمل بالواجب كتكرار الصلاة فيما إذا شكّ بين القصر والتمام وهذا أيضاً لا يتيسّر بل قد يستلزم العسر والحرج.

3 ـ التقليد: وهو تطبيق العمل على رأي المجتهد الواجد لشرائط المرجعيّة وهذا هو المتيسّر لعامة النّاس، فيجب على المشهور تقليد المجتهد الأعلم الحيّ

الصفحة 282
ولا يجوز تقليد الميّت ابتداءً، وقد أباحت روايات أهل البيت(عليهم السلام) التقليد في الافتاء والقضاء منها عن الحجّة(عليه السلام) قوله: (من كان من الفقهاء صائناً لنفسه حافظاً لدينه مخالفاً لهواه مطيعاً لأمر مولاه فللعوام أن يقلّدوه)(1).

الأمر الثالث: حيث ان الاجتهاد عملية تستغرق جهداً كثيراً واضطلاعاً تاماً على كثير من العلوم الإسلامية فيجوز تقليد لمن له الكفاء ويسمى هذا (بالمرجع)، وتعني كلمة المرجع الرجوع إليه في المسائل الشرعية، والمرجع المجتهد يصدر فتواه في كتاب خاص لعمل من يُقلده يسمى (بالرسالة العملية) ليسير عليه مقلدوه في الاستنباط، وأهم الشروط المعتبرة في المرجع أن يكون على قيد الحياة، فلا يجوز تقليد الميت ابتداءً، وان يكون أعلم فلا يجوز تقليد من دونه في العلم، وأن يكون عادلا فلا يجوز تقليد الفاسق والظالم مهما بلغ من العلم.

ويعرف المجتهد باحدى الطرق الثلاث التي يعرف بها الشبهة الموضوعية، وهي العلم الشخصي، أو شهادة عدلين أو الشياع المفيد للعلم، وكل شبهة في غير الأحكام الشرعية تسمى (الشبهة الموضوعية) كالاختلاف على شيء تراه أمامك، ولا يكون من الأحكام الفقهية.

فروع الدين:

وهي الصلاة والصوم والحج والخمس والزكاة والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتولي للنبي وآله والتبري من أعدائهم، وهي أمور يجب الالتزام بها ضمن شروط وحدود وضوابط ذكرت في أبواب الفقه.

ونحن هنا نفصّل بعض الشيء في اثنين منهما وهما التولي والتبري، ونوردهما معاً في موضوع واحد.

____________

1- شرح الأربعين النبوية: 59.


الصفحة 283

تولي أولياء الله والتبرؤ من اعدائهم:

"يجب على كل مسلم ومسلمة تولي ومحبة الله ورسله والأنبياء والأوصياء والصديقة الطاهرة سلام الله عليهم أجمعين ويجب التبري من أعدائهم.

(يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِباً مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَـبَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَآءَ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ )(1).

وقال جلّ جلاله: (يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَتَوَلَّوْاْ قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ)(2).

وقال تبارك وتعالى: (يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ ءَابَآءَكُمْ وَإِخْوَ نَكُمْ أَوْلِيَآءَ إِنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِْيمَـنِ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُوْلَـلـِكَ هُمُ الظَّــلِمُونَ)(3).

وقال الله تعالى: (وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُو وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَــلِبُونَ)(4).

ـ عن أبي جعفر(عليه السلام) قال: قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): "ودُّ المؤمن للمؤمن في الله من أعظم شعب الإيمان، ألا ومن أحبَّ في الله وأبغض في الله وأعطى في الله ومنع في الله فهو من أصفياء الله".

ـ عن أبي جعفر(عليه السلام) في حديث له قال: "يا زياد ويحك وهل الدّين إلاّ الحبُّ؟ ألا ترى إلى قول الله: (إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ)(5) أو لاترى قول الله لمحمّد(صلى الله عليه وآله): (حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الاِْيمَـنَ وَ زَيَّنَهُو فِى

____________

1- المائدة: 57.

2- الممتحنة: 13.

3- التوبة: 23.

4- المائدة: 56.

5- آل عمران: 31.


الصفحة 284
قُلُوبِكُمْ)(1) وقال: (يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ)(2) فقال: الدين هو الحبُّ والحبُّ هو الدِّين".

ـ عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال: "من أحبّ الله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله، فهو ممّن كمل إيمانه".

ـ عن أبي محمّد العسكري(عليه السلام)، عن آبائه(عليهم السلام) قال: قال رسول الله(صلى الله عليه وآله) لبعض أصحابه ذات يوم: "يا عبدالله أحبب في الله، وأبغض في الله، ووال في الله، وعاد في الله، فانّه لا تنال ولاية الله إلاّ بذلك، ولا يجد رجل طعم الإيمان، وإن كثرت صلاته وصيامه حتّى يكون كذلك وقد صارت مواخاة الناس يومكم هذا اكثرها في الدنيا عليها يتوادّون وعليها يتباغضون وذلك لا يغني عنهم من الله شيئاً، فقال له: وكيف لي أن أعلم أنّي قد واليت وعاديت في الله عزَّوجلَّ؟ ومن وليُّ الله عزَّوجلَّ حتّى أُواليه، ومن عدوُّه حتّى أُعاديه فأشار له رسول الله(صلى الله عليه وآله) إلى عليّ(عليه السلام)فقال: أترى هذا؟ فقال: بلى، قال: وليُّ هذا وليُّ الله، فواله، وعدوُّ هذا عدوُّ الله فعاده، وال وليَّ هذا ولو أنه قاتل مالك بن عطيّة".

ـ عن سعيد الأعرج، عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال: "إنّ من أوثق عرى الإيمان أن تحبُّ في الله، وتبغض في الله، وتعطي في الله، وتمنع في الله عزّوجلّ".

ـ عن أبي جعفر(عليه السلام) قال: "إذا أردت أن تعلم أنَّ فيك خيراً فانظر إلى قلبك فان كان يحبُّ أهل طاعة الله عزَّوجلَّ ويبغض أهل معصيته ففيك خير والله يحبّك وإذا كان يبغض أهل طاعة الله ويحبُّ أهل معصيته فليس فيك خيرٌ، والله يبغضك، والمرء مع من أحبَّ"(3).

____________

1- الحجرات: 7.

2- الحشر: 9.

3- بحار الأنوار: 69 / 239.


الصفحة 285
وقال عزّ من قائل: (قُل لاَّ أَسْـَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِى الْقُرْبَى)(1).

لما نزلت هذه الآية قالوا: يا رسول الله من هؤلاء الذين أمرنا الله تعالى بمودتهم؟ قال: "علي وفاطمة وابناهما"(2).

ولما نزلت هذه الآية: (ان الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية)(3) قال لعلي: هو أنت وشيعتك تأتي يوم القيامة أنت وهم راضين مرضيين ويأتي أعداؤك غضاباً مقمحين(4).

قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): "من مات على حب آل محمد مات شهيداً: ألا ومن مات على حب آل محمد مات مغفوراً له.

ألا ومن مات على حب آل محمد مات تائباً.

ألا ومن مات على حب آل محمد مات مؤمناً مستكمل الإيمان.

ألا ومن مات على حب آل محمد بشره ملك الموت بالجنة ثم منكر ونكير.

ألا ومن مات على حب آل محمد يزف إلى الجنة كما تزف العروس إلى بيت زوجها.

ألا ومن مات على حب آل محمد فتح له في قبره بابان إلى الجنة.

ألا ومن مات على حب آل محمد جعل الله قبره مزار ملائكة الرحمة.

ألا ومن مات على حب آل محمد مات على السنّة والجماعة.

ألا ومن مات على بغض آل محمد جاء يوم القيامة مكتوباً بين عينيه آيس

____________

1- الشورى: 23.

2- نور الأبصار للشبلنجي الشافعي: 112 طبع عبدالحميد أحمد حنفي بمصر ورواه الفخر الرازي في التفسير الكبير: 27 / 166، والزمخشري في الكشاف: 4 / 219 هكذا (لما نزلت ـ هذه الآية ـ قيل يا رسول الله من قرابتك هؤلاء الذين وجبت علينا مودتهم؟ فقال: علي وفاطمة وأبناهما).

3- البينة: 7.

4- نور الأبصار: 112.


الصفحة 286
من رحمة الله.

ألا ومن مات على بغض آل محمد مات كافراً.

ألا ومن مات على بغض آل محمد لم يشم رائحة الجنة"(1).

وهكذا عرض الكاتب أسباب تشيعة أو تجعفره، فبالإضافة إلى نسبه الجعفري آمن بالعقيدة الجعفرية الشيعية، وكذلك آمن بالفقه وفق المذهب الجعفري، فصار جعفرياً نسباً وأصلا وعقيدة ومذهباً، والعقيدة والمذهب الجعفري هما الإسلام المحض بعينه، فهنيئاً له.

____________

1- نور الأبصار للشبلنجي: 114، طبع عبدالحميد أحمد حنفي، التفسير الكبير للفخر الرازي: 27 / 165، الكشاف للزمخشري: 4 / 220.


الصفحة 287

(13) محمد عصمت بكر
(سني / مصر)




من مواليد مصر، ترعرع في أجواء غذته بعقيدة أهل السنة، وفرضت عليه بعض الأفكار والرؤى، ولم تسمح له أن يمس تلك العقائد الموروثة، فسار وفق ما تملي عليه الأجواء التي تحيطه. لكنه انطلاقاً من حب الاستطلاع توجّه للبحث عن أدلّة ما يحمله من أفكار ومعتقدات، وأحبّ أن يوفّر لنفسه عقيدة يطمئن إليها قلبه ويجد فيها زاداً لإيمانه ونوراً لبصيرته.

واجه الشيخ محمد عصمت في بداية بحثه عقبة مسألة عدالة الصحابة التي اجمع عليها أهل السنة، في حين أنه وجد من خلال مطالعته لتاريخ الصحابة أنّهم اختلفوا بعد رسول الله(صلى الله عليه وآله)، وقد أدّى بهم هذا الاختلاف إلى الوقوع في البلاء والويلات بحيث تمخّض عنه أن اصبحت الأمة الواحدة فرقاً واحزاباً، كل فرقة ترى أنّ الحق معها فيما تنتهجه من تصوّرات وأساليب وأن الباطل في خلاف ذلك.

فاستدعى هذا الأمر من الشيخ محمد عصمت أن يقوم ببحث موضوعي يبيّن له الأسباب التي دفعت الأمة إلى التمزّق والتناحر عقيب رحلة النبي المصطفى(صلى الله عليه وآله)، كما استهدف الشيخ محمد عصمت من بحثه أن يتعرّف على الفرقة

الصفحة 288
الناجية من بين هذه الفرق.

النتائج التي توصّل إليها خلال البحث:

توصّل الشيخ محمد عصمت خلال بحثه إلى نتائج قلبت عنده الموازين التي كان عليها فيما سبق ومجمل هذه النتائج هي ما يصفها بقوله:

"إن من المسلم به، أن الأمة الاسلامية انقسمت بعد رسول الله(صلى الله عليه وآله) إلى فريقين سياسيين:

قال فريق بأن الخليفة بعد النبي(صلى الله عليه وآله) هو عليّ بن أبي طالب، وذهب الفريق الآخر إلى أنَّ الخليفة بعد رسول الله(صلى الله عليه وآله) هو أبو بكر، وقد جاء اختيارهم له بناءً على أنّ الرسول(صلى الله عليه وآله) لم ينص على أحد من بعده بالخلافة، وإنما جعل أمر سياسة الناس إلى من يختارونه بأنفسهم. ولكن هذا الفريق جعل حقَّ سياسة الناس، في المهاجرين دون الأنصار، وفي قريش دون سائر المهاجرين من القبائل الأخرى، ولم يجعلوا للموالي فيها أي حق، حتى حق الاختيار..

وعلى كل حال فقد سبق الفريق الثاني إلى الحكم، واختاروا أبا بكر خليفة على الناس.

وسكت الفريق الأول الذي ذهب إلى إمامة علي بن أبي طالب(عليه السلام)، اللهم إلاّ ما احتجَّ به بعضهم على صحة ما ذهب إليه، كالإمام علي(عليه السلام) نفسه، والسيدة فاطمة الزهراء(عليها السلام)، والعباس عمّ الرسول الأعظم، والزبير بن العوام، وسلمان الفارسي، وعمار بن ياسر، وأبي ذر الغفاري، وغيرهم ممن أظهروا بعض المعارضة لخلافة أبي بكر، ولكنهم في النهاية سكتوا حفاظاً على بيضة الإسلام، ووحدة المسلمين.

إلاّ أنَّ هذا الخلاف ظلَّ في طي الصدور والكتمان، ولربما ظهر في آنات متفرقة، ومناسبات مختلفة، ولكنه لم يرتفع عن مستوى القيل والقال، حتى الشطر الثاني من خلافة عثمان بن عفان.


الصفحة 289
فبعد أنْ رأى المسلمون منه ما خالف به الإسلام، وتحيزه غير المنصف إلى بني أمية، رأوا عزلهُ، ولكن زمام المبادرة أفلت من أيدي الحكام، فانتهى الأمر إلى قتله، واختاروا على أثره مولانا الإمام علياً(عليه السلام).

هنا ظهر ما كان مكتوماً، وخرج ما كان في الصدور، فأخذ الخلاف السياسي شكلا جديداً لم تعرفه الأمة الإسلامية من قبل، حيث تحول من خلاف في الآراء، إلى نزاع مسلح، أُريقت فيه دماء العديد من المسلمين.

فالذين تجنبوا خلافة أمير المؤمنين(عليه السلام)، لم يجدوا أسباباً في الخروج على إمامته، لأنّهم لا يملكون القدرة على القدح في عدالته، وقدرته على سياسة الناس، فتعلّلوا حينئذ بالمطالبة المسلّحة بدم عثمان بن عفان، وشهروا سيوفهم في وجه خليفة المسلمين الإمام علي(عليه السلام).

واستمر هذا النزاع المسلح بين الطائفتين، طائفة الإمام علي(عليه السلام) بصفته خليفة المسلمين، وبين الطائفة الأخرى، التي لم يكن لها خليفة، ولا راية، وهذه الطائفة الأموية هي التي مثلت بعد ذلك السلطة الحاكمة، والتي وردت الروايات بوسمها بالملك العضوض تارة، والظلم أخرى، والبغي ثالثة، وغير ذلك.

اجماع الأمة على فضل الإمام علي(عليه السلام):

ويضيف الشيخ محمّد:

"وعلى كل حال فقد أجمعت الأمة الإسلامية على فضل الإمام علي(عليه السلام)، وعلو منزلته وعدالته، وصحة خلافته، وأنَّ حكومته هي الحكومة الشرعيّة.

واجمعت الأمة كذلك على خطأ معاوية وظلمه، وعدم مشروعية دولته، إلاّ من شذّ ممن لا وجاهة لهم آنذاك، ولا من العلماء الذين يعتدّ بهم في المجال العلمي والتحقيقي.

ولما استولى الجانب الأموي على السلطة، بعد استشهاد أمير المؤمنين(عليه السلام)،

الصفحة 290
أصبحت أموال المسلمين ورقابهم في أيديهم، وضعف الجانب العلوي، وصار لا يستطيع أنْ يجهر، أو يصرّح برأيه في الأمور السياسية، وأحوال الساسة.

ولما كان ذلك، مالت طائفة من السَّلف إلى الجانب الأموي، وانحازت إليه، وتجنبت الفريق العلوي الذي لم يملك من الدنيا شيئاً، ساعدهم على ذلك الطبيعة الكائنة في كل من الحق والباطل، كما قال الإمام علي(عليه السلام): "الحق ثقيل مرىء، والباطل خفيف وبيء".

وبطبيعة الحال، استغلّ هؤلاء النفر مكانتهم الدينية المرموقة بين المجتمع، فزينوا للناس أعمال الحكام، وبرّروا قبائحهم، وثبطوا الناس عن الثورة عليهم، فحدّثوا بأحاديث عن الرسول الأعظم(صلى الله عليه وآله)، وأدلوا بآرائهم، وأفتوا الناس بلزوم طاعتهم، وتحريم الخروج عليهم.

وهذه الأحاديث إما أنْ تكون صحيحة عن الرسول الأعظم(صلى الله عليه وآله)، واستعملت في غير مقامها، واستُشهد بها في غير محلها.

أو أنْ تكون غير صحيحة عنه(صلى الله عليه وآله)، وكانت وليدة الأحداث، والمتغيرات السياسية في ذلك الوقت، ويمكن أنْ تكون قد وضعت مدحاً وثناءً للسلطة، أو ذماً وطعناً في خصومها، ومن جانبهم رفعت السلطات هذه الروايات، وهؤلاء الرواة، إلى منزلة لا تنالها يد المعارضة، ولا يد النقد، ودأبوا على دعمها وتقويتها عبر التاريخ.

فأصبحت بعد دعمها من قبل السلطة الحاكمة، كقميص عثمان، يستغلها السلاطين، واحداً بعد الآخر، في تقوية سلطانه، وإضعاف معارضيه.

وقد ساروا على ذلك زماناً، حيث صارت تلك الروايات، وهؤلاء الرواة، من القوة، حيث أصبح المؤمنون يتعبدون، ويتقربون بها إلى الله سبحانه وتعالى.

وبذلك رتع السلاطين والحكام في غيّهم، وظلمهم، ونعموا ببطرهم وفسادهم. آمنين من غضبة العلماء الأحرار، دون أنْ ينغصوا عليهم ترفهم، فسعوا في الأرض فساداً، وحلّوا عرى الإسلام عروة عروة، حتى لم يبق منه إلاّ رسمه،

الصفحة 291
إلى أنْ شبّ جيلٌ من الحكام، قاموا بتسليم بلادهم ورعاياهم إلى أعدائهم، فعلوا ذلك وأكثر منه، في ظلّ وحماية تلك الروايات والفتاوى التي أصدرها بعض السلف، لصالح فريقهم الأموي الذي تحيزوا إليه".

اقتطاف ثمار البحث:

وبهذه الصورة التي توصّل إليها الشيخ محمد عبر البحث، بادر إلى تغيير انتمائه المذهبي وتصحيح مفاهيمه الخاطئة والعدول عما كان عليه من أمور عقائدية، وتوجه إلى رحاب أهل البيت(عليهم السلام) لينهل من معينهم المعارف العذبة والعلوم النقية التي لم تمسها ايدي التحريف والتلاعب.

مؤلّفاته:

(1) "عبدالله بن عمر بين السياسة والدين":

صدر عن الدار الاسلامية، بيروت سنة 1413هـ ـ 1993م.

جاء في مقدمة المؤلف: "قصدت من هذا البحث الذي اسميته (السلف بين السياسة والدين) بيان تميز هؤلاء النفر إلى فريق سياسي من الفرق السياسية في ازمانهم، مما أثر ذلك على فتواهم، وعلى رواياتهم سواء كانت هذه الروايات مما يحتمل فيها الوضع، أم محل الاستشهاد بها، إذا كانت صحيحة.

وقد كان من ابرز هؤلاء السلف (عبدالله بن عمر بن الخطاب) ولذلك آثرنا ان نبدأ بالبحث في مواقفه السياسية وبعض رواياته وفتاويه، التي تأثرت بهذا الموقف، واثرت فيما بعد على اجيال الشباب المسلم".

ويحتوي هذا الكتاب على عدة مواضيع منها: قعود عبدالله بن عمر عن بيعة الإمام علي(عليه السلام) وأسباب ذلك، بيعة ابن عمر ليزيد بن معاوية، قبول ابن عمر جوائز الأمراء، وبحث في بعض رواياته.


الصفحة 292

وقفة مع كتابه "عبدالله بن عمر بين السياسة والدين"

عبدالله بن عمر:

يعرف الكتاب هذه الشخصية ويوضّح خصائصها ودورها السياسي والديني في صدر الاسلام باهم المظاهر وهو البيعة، فيقول:

هو عبدالله بن عمر بن الخطاب بن نفيل، القرشي، العدوي.

أمّه: زينب بنت مظعون الجهمية، أُخت عثمان بن مظعون.

وهو أخو حفصة بنت عمر، زوج الرسول الأعظم(صلى الله عليه وآله).

عاش عبدالله بن عمر، ستاً، أو سبعاً وثمانين سنة، ومات على الأشهر سنة أربع وسبعين (74هـ) من الهجرة النبوية الشريفة، وذلك في زمن عبدالملك بن مروان.

عاش عبدالله بن عمر في صدر الإسلام، وعاصر أحداثاً سياسية، واجتماعية، ودينية خطيرة، غيّرت وجه التاريخ، ولا زالت آثار تلك التغيرات تعاني منها الأجيال الإسلامية، جيلا بعد جيل، حتى يومنا هذا الذي نعيشه.

فكل الآلام والمصاعب التي تواجه الأمة الإسلامية هي من نتاج تلك التغيرات والأحداث في ذلك الزمان الذي عاش فيه عبدالله بن عمر، الذي كان له فيه مواقف ظاهرها الحياد، وواقعها الإنحياز إلى طائفة دون طائفة، وإلى حدث دون حدث.

فقد كان له موقف تجاه بيعة أبي بكر، وعمر، وعثمان، ثم كان له موقف آخر مغاير، تجاه بيعة الإمام علي(عليه السلام).


الصفحة 293
وكذلك كانت له مواقف أخرى، يختلف بعضها عن البعض الآخر، مع وحدة الموضوع فيها.

هذه المواقف المنحازة، كان لها الأثر الكبير في فتاواه ورواياته، خاصة التي كانت تتعلق بالمجال السياسي، هذا الأثر كان بشكل ملحوظ، لا يمكن إنكاره، أو تجاهله، لما كان له من تأثير على مسيرة التاريخ الاسلامي.

قعود عبدالله بن عمر عن بيعة الإمام علي(عليه السلام):

من المقطوع به، ومن المسلمات التاريخية، أنَّ عبدالله بن عمر إمتنع عن مبايعة الإمام علي(عليه السلام)، وتخلّف عنها طيلة سنوات حكم أمير المؤمنين(عليه السلام). الذي امتدّ من السنة الخامسة والثلاثين (35هـ) من الهجرة النبوية الشريفة، إلى السنة الأربعين (40هـ)، منها. وهذه طائفة من الروايات الدالة على ذلك:

قال المسعودي في (مروج الذهب):

"وقعد عن بيعته(عليه السلام) جماعة عثمانية، لم يروا إلاّ الخروج عن الأمر، منهم سعد بن أبي وقاص، وعبدالله بن عمر، وبايع يزيد بعد ذلك، والحجاج، لعبد الملك بن مروان، ومنهم قدامة بن مظعون، وأهبان بن صفي، وعبدالله بن سلام، والمغيرة بن شعبة الثقفي.

"وممن اعتزل من الأنصار: كعب بن مالك، وحسان بن ثابت، وكانا شاعرين، وأبو سعيد الخدري، ومحمد بن مسلمة، حليف بني عبدالأشهل، وزيد بن ثابت، ورافع بن خديج، ونعمان بن بشير، وفضالة بن عبيد، وكعب بن عجرة، ومسلمة بن خالد" انتهى.

وقال ابن عبدالبر في كتابه المعروف بـ (الاستيعاب)، في ترجمة عبدالله بن عمر، قال: "وكان رحمه الله لورعه، قد أشكلت عليه حروب علي، وقعد عنه" انتهى.


الصفحة 294
بمعنى أنّه أشكلت عليه حروب علي، فقعد عن بيعته.

وعلى كل حال، فإنَّ تخلف عبدالله بن عمر، عن بيعة أمير المؤمنين(عليه السلام)، ممّا لا خلاف فيها، ولا إنكار لها.

إعتذار ابن عبدالبر عن ابن عمر:

قال ابن عبدالبر في (الاستيعاب)، في ترجمة عبدالله بن عمر:

"وكان رحمه الله لورعه، أشكلت عليه حروب علي وقعد عنه"، الظاهر أنَّ "الواو" في قوله "وقعد عنه" بمعنى "الفاء" حيث لا معنى لحملها على العطف المجرد المسمَّى عند البيانيين ـ أي أهل البلاغة ـ بالوصل. ومراده من قوله "قعد عنه": أي قعد عن بيعة الإمام(عليه السلام) لأنّ الضمير في "عنه" يعود عليه(عليه السلام).

ويكون المعنى حينئذ: "أشكلت عليه حروب علي، فقعد عن بيعته" أي إنَّ سبب قعوده عن البيعة هو استشكاله حروبه(عليه السلام).

والواقع إنَّ صدور مثل هذا الإعتذار من ابن عبدالبر في غاية الغرابة، لأنّ الرجل من العلماء المعتبرين والمعدودين في فنهم. فسعة علمه بالفقه والأصول وخاصة علم الحديث والرجال، لا ينكر.

ولكن المحتمل أنّه كغيره ممن وقعوا في أسر العصبية، لأنّ ما اعتذر به عن ابن عمر، فيه من السذاجة ما لا يقبله صبي دون الحلم، لأنَّ قعوده عن البيعة كان متقدماً على الحروب. فكيف يكون سبب قعوده عن البيعة هو استشكاله حروباً لم تقع أصلا، ولم يتخذ في شأنها قرار في ذلك الوقت الذي تمت فيه البيعة، بل لم يظهر أحد عداءه إلى الإمام(عليه السلام) في ذلك الوقت ولم يشهر أحد سيفه في وجهه. فأي صبيّ يصدق أنَّ النهار يكون سبباً في طلوع الشمس؟!

ومن المسلم أنَّ البيعة شيء، والحروب شيء آخر، فيمكن أنْ يبايع ثم إذا

الصفحة 295
أُشكلت عليه حروبه(عليه السلام)، قعد عن الحروب، وذلك لا يناقض بيعته.

وهناك كثير ممن بايعوا أمير المؤمنين(عليه السلام)، ولم يحاربوا معه، وعلى ذلك فقد قبل بيعتهم، ولم يردها، وهناك كثير ممن استأذنوا أمير المؤمنين في القعود عن الحرب، فأذن لهم، ولم يعنفهم.

فالبيعة لا تستلزم المشاركة في الحروب، وهذه من المسائل التي لا إشكال فيها فقهياً، باستثناء ما إنْ صدر أمر بمشاركة مُعَيّن في الحرب، فامتناع المعين عن المشاركة في الحروب يتنافى مع البيعة، ولكنها لا تعتبر خلعاً لها.

ونضيف إلى هذا أنْ ابن عمر نفسه لم يبرر قعوده بمثل هذا التبرير. حيث لو أشار ابن عمر بمثله، لكانت الطامة أكبر، والمصيبة أعظم، لأنّه استشكل حروب علي(عليه السلام)للناكثين، والقاسطين، والمارقين(1)، فقعد عن بيعته، ولم يستشكل قتل يزيد للإمام الحسين(عليه السلام)، وأولاد الرسول الأعظم(صلى الله عليه وآله)، وسبي نسائه في (كربلاء).

ولم يستشكل استباحته لمدينة الرسول(صلى الله عليه وآله) وفيها بقية المهاجرين والأنصار، وأبناؤهم، واستحيى فيها نساءهم، وذبّح أبناءهم.

ولم يستشكل حرقه للكعبة المشرفة، وتهديمها بالمنجنيق!

فكيف يستشكل حروب علي، ويقعد عنه، ولم يستشكل فظائع، يزيد ويبايعه؟ وأما قوله "كان لورعه...":

الحق إنَّه ليس من الإنصاف في شيء أنْ نسمي القعود عن بيعة الإمام(عليه السلام)،

____________

1- إشارة إلى ما ورد عن رسول الله(صلى الله عليه وآله)، يخبر فيها بقتال أمير المؤمنين(عليه السلام) للناكثين، والقاسطين، والمارقين، كما روى صاحب (أسد الغابة) بسنده عن أبي سعيد الخدري أنّه قال: "أمرنا رسول الله(صلى الله عليه وآله) بقتال الناكثين، والقاسطين، والمارقين، فقلنا: يا رسول الله أمرتنا بقتال هؤلاء فمع من. فقال: مع علي بن أبي طالب، معه يقتل عمار بن ياسر".

وروى بسنده عن مخنف بن سُليم قال: "أتينا أبا أيوب الأنصاري، فقلنا: قاتلت بسيفك المشركين مع رسول الله(صلى الله عليه وآله)، ثم جئت تقاتل المسلمين؟ قال: أمرني رسول الله(صلى الله عليه وآله) بقتال الناكثين، والقاسطين، والمارقين". يراجع (أسد الغابة).


الصفحة 296
والتخلف عنه، ورعاً، خاصة بعد أنْ وردت الروايات المستفيضة والمشهورة بين المسلمين عن الرسول الأعظم(صلى الله عليه وآله) صحيحة، صريحة، بأنَّ الإمام علي(عليه السلام) إمام البررة. وأمير المؤمنين، وإمام المتقين.

وحيث أنّنا لسنا في مقام سردها، إلاّ أنّنا نشير إلى حديث واحد منها بقصد الانسجام مع الموضوع، أو التذكر، أو الإشارة إليها، للرجوع إلى مظانها:

روى الترمذي عن زيد بن أرقم أنَّ رسول الله(صلى الله عليه وآله) قال: "إني تارك فيكم ما إنْ تمسكتم به لن تضلوا بعدي: كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، ولن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما".

وروى مثله النسائي عن جابر بن عبدالله، وكذلك أخرجه كل من أحمد بن حنبل، عن زيد بن ثابت، وكذلك الحاكم في (المستدرك)، وقال: "هذا الحديث صحيح الإسناد، وعلى شرط الشيخين، ولم يخرجاه".

والمعلوم من الدين ضرورة أنّ الإمام علي(عليه السلام) من عترة الرسول الأعظم(صلى الله عليه وآله)وهذا أمر صريح بالتمسك به، وأقلّ ما يمكن أنْ يتمسك به هو البيعة له(عليه السلام).

فلا يصح بحال أنْ تكون مخالفة الرسول(صلى الله عليه وآله) ورعاً، كما قال ابن عبدالبر!

بيعة ابن عمر ليزيد بن معاوية

بايع عبدالله بن عمر يزيد بن معاوية، وتمسك ببيعته إيّاه، أيما تمسّك، وعضّ عليها بالنواجذ.

وحال يزيد بن معاوية لا يخفى على أحد من المسلمين، فقد تربّع على صدور المسلمين ثلاث سنوات.

السنة الأولى منها: قتل الإمام الحسين(عليه السلام)، وأبناءه، وأبناء أخيه الحسن(عليه السلام)، وأخوانه من الإمام علي(عليه السلام)، وسبي بنات رسول الله صلّى الله عليهم أجمعين.


الصفحة 297
وفي السنة الثانية: استباح فيها مدينة رسول الله(صلى الله عليه وآله) وقتل فيها من قتل، واستعبد فيها الأحرار، وقتل الأطفال، وبقر بطون الحبالى، وفضَّ جيشه بكارات العذارى، في وقعة (الحَرَّة) الشهيرة.

وفي السنة الثالثة: حارب عبدالله بن الزبير في الكعبة المشرفة، فأحرقها، وهدمها.

قصة البيعة ليزيد:

قال ابن الأثير في (الكامل)، في أحداث سنة ست وخمسين، من الجزء الثالث قال:

"وفي هذه ـ السنة ـ بايع الناس يزيد بن معاوية بولاية عهد أبيه، وكان ابتداء ذلك وأوّله من المغيرة بن شعبة. فإنَّ معاوية أراد أنْ يعزله عن (الكوفة)، ويستعمل عوضه سعيد بن العاص، فبلغه ذلك، فقال: الرأي أنْ أشخص إلى معاوية، فاستعفيه، فيظهر للناس كراهتي للولاية، فسار إلى معاوية، وقال لأصحابه حين وصل إليه: إنْ لم أكسبكم الآن ولاية وأمارة، لا أفعل ذلك أبداً".

ومضى حتى دخل على يزيد ـ قبل دخوله على معاوية ـ وقال له: إنَّه قد ذهب أعيان أصحاب النبي(صلى الله عليه وآله) وكبراء قريش، وذوو أسنانهم، وإنما بقي أبناؤهم، وأنت من أفضلهم، وأحسنهم رأياً، وأعلمهم، بالسنّة والسياسة، ولا أدري ما يمنع أمير المؤمنين أنْ يعقد لك البيعة! قال ـ يزيد ـ: أوَترى ذلك يتم؟ قال: نعم".

"فدخل يزيد على أبيه، وأخبره بما قال المغيرة، فأحضره وقال له ما يقول يزيد؟ فقال: يا أمير المؤمنين قد رأيت من سفك الدماء، والاختلاف بعد عثمان، وفي يزيد منك خلف، فاعقد له، فإنْ حدث بك حادث كان كهفاً للناس، وخلفاً منك، ولا تكون فتنة! قال: ومن لي بهذا؟".

"قال: أكفيك أهل (الكوفة)، ويكفيك زياد أهل (البصرة)، وليس بعد هذين

الصفحة 298
المصرين أحد يخالفك. قال: فارجع إلى عملك وتحدث مع من تثق إليه في ذلك، وترى ونرى".

"فودّعه ورجع إلى أصحابه فقالوا: مه؟ قال لقد وضعت رجل معاوية في غرز بعيد الغاية على أمة محمد، فتقت عليهم فتقاً لا يرتق أبداً".

واستطرد ابن الأثير قائلا: "وقيل: أرسل ـ المغيرة ـ أربعين رجلا، وجعل عليهم ابنه عروة، فلما دخلوا على معاوية قاموا خطباء فقالوا: إنما أشخصهم إليه النظر لأُمة محمد. وقالوا: يا أمير المؤمنين كبرت سنك، وخفنا انتشار الحبل، فانصب لنا علماً، وحدَّ لنا حدّاً ننتهي إليه! فقال معاوية: أشيروا عَليَّ.

"فقالوا: نشير بيزيد ابن أمير المؤمنين. فقال: أوَ قد رضيتموه؟ فقالوا: نعم. قال: وذلك رأيكم؟ قالوا: نعم ورأي مَن ورائنا. فقال معاوية لعروة سراً عنهم: بكم اشترى أبوك من هؤلاء دينهم؟ا قال: بأربعمائة دينار. قال; لقد وجد دينهم عندهم رخيصاً" (انتهى).

وذكر المسعودي في (مروج الذهب، الجزء الثالث)، في شأن هذه البيعة قال:

"ثم قال رجل من الأزد ـ ارتقى منبر معاوية ـ فأشار إلى معاوية، وقال: أنت أمير المؤمنين، فإذا مِتَّ فأمير المؤمنين يزيد، فمن أبى فهذا وأخذ بقائمة سيفه فسلّه".

"فقال معاوية: أقعد فأنت أخطب الناس".

هذا نزر يسير في كيفية البيعة ليزيد بن معاوية، وقد اكتفينا بذكره حيث أنّ ما فعله معاوية من أجل إتمام هذه البيعة وإمضائها، ليس بالقليل، وليس بالسهل اليسير، ومن أراد الزيادة والوقوف على هذه الأعمال، فليراجع ذلك في محله حتى يرى الأهوال في كيفيّة عقد البيعة، وإتمامها.

هكذا انعقدت البيعة ليزيد بن معاوية، وبهذا الشكل المروِّع، وبهذه الكيفية من شراء الضمائر والأديان، تمّت البيعة له، ووضع على صدور المؤمنين.


الصفحة 299
فمع ذلك، ومع علم ابن عمر به، فقد سارع بالبيعة له من اليوم الأول الذي بلغه فيه هلاك معاوية، والبيعة ليزيد، ولم يتهمّل حتى يرى رأي المسلمين فيها، هل سيرضى كلُّ المسلمين بها فيبايعه، أم إنهم لا يرضون بها كلهم، فيقعد عنها، كما قعد عن بيعة أمير المؤمنين(عليه السلام).

ومن الثوابت التاريخية التي لا مجال للشك فيها أنَّ سادات المسلمين، ومن وعى في الأمة الإسلامية، امتنع عن البيعة ليزيد، ولم يرضوا بها، ومن رضي بها من تلك الأمة، إما لحبه للدنيا، أو إنّه حمل عليها قسراً.

فالإمام الحسين(عليه السلام) وهو من أعالي سادات المسلمين، رفض تلك البيعة، ونقم عليها، وكذلك أهل بيته، وعبدالله بن عباس، وعبدالله بن الزبير، ومن معه من أهل مكة، وكذلك أهل الكوفة، وأهل البصرة، والعقلاء من المدينة، وخلق كثير مما لا يحصيهم إلاّ الله، سبحانه وتعالى.

كلُّ هؤلاء قعدوا عن بيعة يزيد، بل رفضوها أشدّ الرفض، وأعلنوا رفضهم لها، بكل صراحة، ورفعوا أصواتهم بالتنديد بها، وأسلحتهم لمحاربتهم، ولم يبايعه إلاّ من كان مكرهاً على ذلك، أو مغفلا لا يستطيع أنْ يميز بين الحق والباطل. ولا بين الناقة والجمل!

فمع ذلك، لم يتمهل ابن عمر في قبولها، والدفاع عنها، دونما روية منه، قال ابن الأثير في (الكامل، الجزء الثالث)، وكذلك الطبري في (تاريخه) من الجزء الرابع عن الواقدي، قالا ما محصله:

"وقيل إنّ ابن عمر كان هو وابن عباس بمكة، فعادا إلى المدينة، فلقيهما الحسين، وابن الزبير، فسألاهما ما وراؤكما؟ فقالا: موت معاوية وبيعة يزيد. فقال ابن عمر: لا تفرقا جماعة المسلمين!" (انتهى).

فهل يمكن اعتبار القعود عن بيعة يزيد تفريقاً لجماعة المسلمين، والقعود

الصفحة 300
عن بيعة الإمام علي(عليه السلام) غير ذلك؟ سؤال نوجهه إلى ابن عمر في عالم البرزخ، أو نوجهه إلى أصحاب العقول النيّرة ليجيبوا عنه.

قبول ابن عمر جوائز الأمراء:

لا شك في أنَّ ابن عمر كانت له علاقات حميمة مع ملوك وأمراء بني أمية، فكانوا يرسلون إليه الجوائز، والهدايا، وغيرها من أنواع العطايا، في مناسبة، وفي غير مناسبة، وخاصة في المناسبات السياسية الخطيرة، كالتي ذكرناها من قبل.

وهو أنّه قبل جائزة معاوية، لما أراد البيعة ليزيد، وأمثال ذلك، وكان عبدالله يقبلها، ولا يرد منها شيئاً، ثم تنقل عنه الأخبار والآثار التي لو نُظر إليها بإمعان، وبعين الإنصاف، والخلوص من العصبية، لوجدناها تنصب في قالب واحد، وهو خدمة الجانب السياسي الذي انحاز إليه، سواء أكان مدحاً ودفاعاً عنه، أم ذماً في خصومهم، والطعن فيهم.

ومسألة قبول ابن عمر لجوائز الأمراء، بلا تحفّظ، مسألة لا يجهلها أحد لاستفاضة الروايات والأخبار بمضمونها، نذكر منها:

ما رواه ابن سعد في (الطبقات الكبرى) في ترجمته:

"حدثنا حمّاد بن سلمة، عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن مينا: أنَّ عبدالعزيز بن مروان ـ ابن الحكم الأموي ـ بعث إلى ابن عمر بمال في الفتنة فقبلها".

وروى ابن سعد بسندآخر، عن نافع مولى ابن عمر قال: "كان يرسل إلى ابن عمر بالمال فيقبله، عن نافع أيضاً قال: كان المختار ـ ابن عبيد الله الثقفي ـ يبعث بالمال إلى ابن عمر فيقبله، ويقول: لا أسأل أحداً شيئاً، ولا أرد ما رزقني الله!".

وذكرنا قبل ذلك رواية ابن كثير التي ذكر فيها "أنّ معاوية بعث إليه بمائة ألف لمّا أراد أنْ يبايع ليزيد، فما حال عليه الحول، وعنده منها شيء".

وكذلك ما رواه ابن الأثير في الرواية السابقة: "وعزم معاوية على البيعة