الصفحة 95
وقال: «أربع من كنّ فيه فقد ربح: الصدق والحياء وحسن الخلق والشكر»(1).

وقال: «لو قال لي فرعون خيراً لرددت عليه»(2).

وقال: «لو أنّ فرعون مصر أسدى إليّ يداً صالحة لشكرته عليها»(3).

10- وأمّا عن اللين: فقد قال: «لم يمل إلى الغضب إلاّ من أعياه سلطان الحجة»(4).

وقال: «من لم تكن فيه ثلاث خصال فلا توافه: ورع يحجزه عن معاصي الله، وحلم يطرد به فحشه، وخلق يعيش به»(5).

وقال: «من سلّم عليك من خَلق الله فاردد عليه السلام وإن كان مجوسياً، إنّ الله تعالى يقول:{وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا}(6)»(7).

ومهما بلغ صعصعة في صدق تصويره، فلا يبلغ معرفةً بابن عباس معرفته هو بنفسه، وسنختار من كلماته مثلثات أخرى على نمط مثلثات صعصعة كشف فيها جوانب نفسية لا يمكن لصعصعة ولا لغيره الإطلاع عليها، اللّهم إلاّ بعض آثارها الخارجية بقوة الملاحظة ودوام المعاشرة.

____________

(1) المحجة البيضاء 5/213، احياء العلوم 3/103.

(2) نفس المصدر.

(3) العقد الفريد لأبن قتيبة 1/140.

(4) نهاية الإرب للنويري 6/95.

(5) المجتبى لأبن دريد /64 ط حيدر آباد.

(6) النساء /86.

(7) المحجة البيضاء 5/213، احياء علوم الدين 3/103.


الصفحة 96
قال ابن عباس (رضي الله عنه) لرجل شتمه: «إنك لتشتمني وفيَّ ثلاث خصال: إني لأسمع بالحاكم من حكّام المسلمين يعدل في حكمه فأحبّه، ولعلّي لا أقاضي إليه أبداً، وإني لأسمع بالغيث يصيب البلاد من بلدان المسلمين فأفرح به، ومالي بها سائمة ولا راعية، وإني لآتي على آية من كتاب الله فوددت انّ المسلمين كلهم يعلمون منها مثل ما أعلم»(1).

وقال: «ثلاثة لا أكافئهم: رجل بدأني بالسلام، ورجل وسّع لي في المجلس، ورجل أغبرّت قدماه في المشي إلي إرادة التسليم عليّ، أمّا الرابع فلا يكافئه إلاّ الله (عزّ وجل)، قيل: ومن هو؟ قال: رجل نزل به أمر فبات ليلته مفكراً بمن ينزله، ثم رآني أهلاً لحاجته فأنزلها بي»(2).

وقال: «من لم تكن فيه ثلاث خصال فلا توافه: ورع يحجزه عن معاصي الله، وحلم يطرد به فحشه، وخلق يعيش به»(3).

وقال أيضاً: «ما بلغني عن أخٍ لي مكروهٌ قط إلاّ أنزلته إحدى ثلاث منازل: إن كان فوقي عرفت له قدره، وإن كان نظيري تفضّلت عليه، وإن كان دوني لم أحفل به، هذه سيرتي في نفسي فمن رغب عنها فأرض الله واسعة»(4).

وهو الـقائل: «لجليسي على ثلاث: أن أرميه بطرفي إذا أقبل، وأن أوسّع له إذا جلس، وأصغي إليه إذا تحدّث»(5).

____________

(1) البداية والنهاية 8/300، والمعرفة والتاريخ 1/526، ومعجم الطبراني 10/266 ط الثانية بالموصل، ومجمع الزوائد 9/284 وقال: رجاله رجال الصحيح.

(2) عيون الأخبار لأبن قتيبة 3/176.

(3) المجتبى لأبن دريد /64.

(4) صفة الصفوة 1/754.

(5) عيون الأخبار لأبن قتيبة 1/306، رغبة الآمل 2/205، ربيع الأبرار 1/ورقة 200 نسخة السماوي، 1/294 طبع بغداد.


الصفحة 97
وهو القائل: «أكرم الناس عليّ جليسي، وان الذباب يقع على جليسي فيؤذيني، وإني لأستحي من الرجل يطأ بساطي ثلاثاً فلا يُرى عليه أثر من بري»(1).

وبهذه المثلثات الثلاث نكتفي عن الإطناب في سرد ما ورد في وصف أخلاقه، وسوف يصادفنا فيما نقرأ من فصول سيرته شواهد على ذلك كثيرة.

وكيف لا يكون في حسن أخلاقه مثلاً أعلى وهو القائل: «انّ الخلق الحسن يذيب الخطايا كما تذيب الشمس الجليد، وان الخلق السيء يفسد العمل كما يفسد الخل العسل»(2).

وعن طاووس قال: «كنا عند ابن عباس، قال: وكان سعيد بن جبير يكتب، قال: فقيل لابن عباس: إنهم يكتبون، قال: أيكتبون؟ ثم قام، وكان حسن الخُلـُق، قال: ولولا حسن خُلقه لغيّر بأشد من القيام»(3). وأنا مهما شككت في صحة هذا الخبر ودلالته على المنع من التدوين - لأن ابن عباس كان ممن يرى تدوين الحديث وهو نفسه قد كان يحمل معه ألواحه ويجلس على باب الأنصاري ليسمع منه ويكتب عنه. كما سيأتي توثيق ذلك في تاريخه العلمي - فلا اشك في دلالته على حسن خلقه، ولولا حسن خلقه لغيّر بأشد من القيام على حد تعبير طاووس.

قال الجاحظ في رسالة نفي التشبيه: «ولو لم يعرف ذلك إلاّ بعبد الله بن العباس وحده كان ذلك كافياً، وبرهاناً شافياً، فان الأعجوبة فيه أرث على كل

____________

(1) ربيع الأبرار 1/289.

(2) ربيع الأبرار 1/ورقة 150 نسخة السماوي، 1/49 ط بغداد.

(3) المعرفة والتاريخ 1/527.


الصفحة 98
عجب وقطعت كل سبب، وقد رأيتم حاجة عمر إليه، وإستشارته إياه، وتقويمه لعثمان وتغييره عليه، ولو لم يكن للفضيلة من بين أقرانه مستحقاً، وبها مخصوصاً ما خصّه الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بالدعوة المستجابة، ولما خصه بعلم الكتاب والسنة، وهما أرفع العلم، وأشرف الفكر، ويدّلك على تقديمه للغاية، وايثاره للتعلم والاستبانة، قوله حين قيل له في حداثته وقبل البلوغ في سنه: ما الذي آتاك هذا العلم وهذا البيان والفهم؟ قال: قلب عقول ولسان سؤول»(1).

والخلاصة، لقد كان مثالاً لمحاسن الأخلاق وجميل الصفات، مع ما له من مزايا الفضل الأخرى من نفاذ بصيرة قلّ مثيلها حتى شهد باعجاب مربيه ومعلّمه الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) حيث قال: (لله در ابن عباس ان كان لينظر إلى الغيب من ستر رقيق)(2)، وقد رويت كلمة الإمام هذه فيه بألفاظ متفاوتة أحسبها من تساهل نقل الرواة بعد تسالمهم على المعنى فقد رواها ابن عبد ربّه مرة أخرى في كتابه بلفظ: (لله بلاء ابن عباس)(3)، ورواها الديريني في علم القلوب: (كأنه ينظر إلى الغيب من ستور رقيقة)(4)، ورواها الكتاني نقلاً عن الدينوري: (لينظر الي الغيب خلف ستر رقيق لعقله وفطانته)(5).

ومهما يكن فليس ذلك بضائر بعد الدلالة فيها على جودة الرأي ونفاذ البصيرة وكثرة الإصابة فكان كما قال الشاعر:


بصير بأعقاب الاُمور برأيهكأن له في اليوم عيناً على غد

____________

(1) رسائل الجاحظ 1/300 تحـ عبد السلام محمّد هارون.

(2) العقد الفريد 2/128 تحـ أحمد أمين ورفيقيه.

(3) نفس المصدر 2/346.

(4) علم القلوب /24.

(5) التراتيب الادارية 2/414.


الصفحة 99

نشأة حبر الاُمة:

نشأ عبد الله بين أحضان الفضيلة وحجور الكرامة، تحت رعاية أبيه العباس الذي كان يتولى سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام، وكلاهما من المآثر التي ورثها عن آبائه.

ومن الطبيعي أن يكون ابنه عبد الله أدرك في أيام طفولته ما كان يقوم به أبوه في سبيل هاتين المكرمتين. كما أنه من الطبيعي أدرك ما كان يدور في بيوت أهله من حديث الإسلام والمسلمين، ومثابرة الرسول الكريم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في سبيل دعوته، ومناوأة قريش له، لأن تلك هي الظاهرة التي تلفت النظر، ويظهر من شعر أم الفضل حين كانت ترقصه، انها كانت تعقد عليه أملاً كبيراً في المستقبل، وتتوسم فيه أن يكون سيداً كآبائه فهي تقول:


ثكلت نفسي وثكلت بكريإن لم يسد فهراً وغير فهـر
بالحسب العدّ وبذل الوفرحتى يوارى في ضريح القبر(1)

وليس ثمة من تفصيل حول نشأته الأولى في مكة، لكن الذي لا شك فيه أنّه أدرك في صباه ما كان يجري بمكة من خلال أحاديث أهل بيته، وما يقال في الإسلام والمسلمين، ولئن شككنا في إدراكه خروج أبيه العباس مع ابن عمه النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ليلة العقبة (الثانية) لتوكيد العهد على الأنصار، لصغر سنّه يومئذ إذ لم يتجاوز الثالثة من عمره - وإن كان أبوه كان يحدّث عن ذكريات طفولته وهو في مثل ذلك السن، كما سيأتي في ترجمة حديثه عن مولد الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) - لكن الذي لا شك فيه أنه وعى في طفولته ما كان عليه المسلمون بمكة. بعد الهجرة.

____________

(1) محمّد بن حبيب الهاشمي في المنمق /432 ط حيدر آباد، والقالي في الامالي 2/118، وابن ظفر في أنباء نجباء الأبناء /79 ط الأولى بالتقدم بمصر.


الصفحة 100
من إستضعاف قريش لهم، رجالاً ونساءً وولداناً، وكان هو من الولدان الذين لحقهم الأذى حتى روي عنه بعد ذلك في تفسير قوله تعالى:{وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقـُولـُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا}(1).

قال الرازي: «المراد بالمستضعفين من الرجال والنساء والولدان قوم من المسلمين بقوا بمكة وعجزوا عن الهجرة إلى المدينة، وكانوا يلقون من كفار مكة أذىً شديداً»(2).

قال ابن عباس: «كنت أنا وأمي من المستضعفين من النساء والولدان»، ونقل ذلك عنه جملة من المفسرين كالقرطبي في الجامع لأحكام القرآن(3). والسيوطي في الدر المنثور وغيرهما. ورواه البخاري في صحيحه(4)، وغير.

وهذا يعني أنه كان يعاني ربما من أبناء المشركين في مثل سنّه من مضايقات وربّما من آبائهم أيضاً ما خلّف ذلك أثراً في نفسه فحدّث عنه، وسيأتي في ترجمة أمه ما يتصل بهذا.

وأيضاً ممّا لا شك فيه أنه وعى إخراج قريش لأبيه ولأبناء عمومته طالب وعقيل ونوفل- كُرهاً وذلك في حرب بدر. كما وعى ما حدث بعد ذلك من أخبار عن أنتصار النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) على قريش وأسر أبيه وعودته إلى مكة بعد وصول خبر الحرب اليها- وسيأتي طرف منه في ترجمة أمه لبابة، ومن القريب جداً أنّه

____________

(1) النساء /75.

(2) تفسير الرازي 10/182 ط البهية بمصر 1357 هـ.

(3) الجامع لأحكام القرآن 5/279.

(4) صحيح البخاري (كتاب التفسير، سورة النساء) 6/46.


الصفحة 101
قد عرف باستعداد قريش لمحاربة النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) انتقاماً لما أصابهم ببدر من القتل والأسر، وعرف بما كتب به أبوه إلى النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يخبره بذلك.

ولا شك أنه رأى بعض مظاهر قريش عند خروجهم إلى محاربة النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ولا شك أنه حزن لمّا رأى ذلك، كما أنه ازداد حزناً حين جاء الخبر بانتصارهم في موقعة أحد ومقتل عمه الحمزة أسد الله وأسد رسوله، ومن الطبيعي كلما ازداد سنه ازداد وعيه بمجريات الأحداث، فهو يسمع ما تتناقله الأخبار عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وغزواته، ويزداد ابتهاجاً بانتصاراته. فمن غزوة بني النضير إلى ذات الرقاع إلى بني المصطلق إلى غزوة الخندق التي كان نصرها المؤزر على يد بطلها المظفر هو ابن عمه الإمام عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) ولولاه لما قام للأسلام عمود ولا اخضَرَّ له عود وحسبه ما بلغه من قول النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (برز الإيمان كله إلى الشرك كله)، وقوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (ضربة على يوم الخندق تعدل عبادة الثقلين) إلى غزوة بني قريضة إلى غزوة الحديبية، وأظن أنه كان يحلم عند سماعه الخبر برؤية ابن عمه نبي الهدى (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وهو يدخل مكة معتمراً وكاد أن يتحقق ذلك لولا مهادنة قريش له على العام القادم. ولئن اغتم لذلك فقد جاءه ما زاد غمه وهو خبر الحجاج بن علاط السلمي- وهذا هو زوج خالته عزة - الذي دخل مكة بعد غزوة خيبر فأشاع انتصار اليهود على المسلمين واستحث قريشاً على جمع ديونه ليرجع عجلاً فيشتري بعض الغنائم من اليهود. وسمع العباس الخبر وساءه كذلك، فاراد أن يستوثق من الحجاج بنفسه فلقيه وسأله، فاستكتمه إن هو أخبره بالصحيح، فضمن له ذلك فقال له: فاني والله تركت ابن أخيك عروساً على بنت ملكهم. يعني صفية بنت حي بن أخطب. ولقد افتتح خيبر وانتشل ما فيها- أي

الصفحة 102
استخرج- وصارت له ولأصحابه. فأكتم عني فاذا مضت ثلاث فأظهر أمرك فهو والله على ما تحب، ووفى العباس بشرطه.

ولمّا كان اليوم الثالث لبس العباس حلة له وتخلّق وأخذ عصاه ثم خرج فأتى الكعبة فطاف بها، فلمّا رأوه قالوا: يا أبا الفضل هذا والله التجلد لحرّ المصيبة، قال: كلا والله الذي حلفتم به لقد افتتح خيبر وتُرك عروساً على ابنة ملكهم واحرز أموالهم وما فيها فاصبحت له ولأصحابه، قالوا: من جاءك بهذا الخبر؟ قال: الذي جاءكم بما جاءكم به، وهكذا تبدل الغم في الهاشميين جميعاً بل والمسلمين إلى فرح.

ومن الطبيعي أن يشهد ذلك كله حبر الأمة عبد الله بن عباس ويشاركهم أفراحهم، ولعل هذا آخر حَدَث أدركه ووعاه بمكة قبل هجرته مع أبيه إلى المدينة والى هنا ننهي حديثنا عن نشأته في مكة.

ولنبدأ معه مسيرتنا في الحديث عنه من هجرته مع أبيه وأهل بيته، وذلك عام الفتح في السنة الثامنة من الهجرة النبوية، وكان عمره يومئذ إحدى عشرة سنة وسوف نقرأ عنه بعض مشاهداته.

ولكن لا بد لنا قبل ذلك معرفة شيء من تاريخ أبويه. ما دام الولد سر أبيه وفطيم أمه.

وعامل الوراثة له في تكوين الشخصية أبلغ الأثر، فهو يورث الولد الخصائص الروحية كما يورثه الصفات الجسمية، وابن عباس قد ورث من أبويه الخصائص والخصال، فإلى معرفة الأبوين:


الصفحة 103

أولاً: أبوه ــ العباس بن عبد المطلب


ولادة العباس:

ولد قبل عام الفيل بثلاث سنين، فكان أسنّ من النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بثلاث سنين، وسئل مرّة أنت أكبر أم رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم)؟ فقال: «هو أكبر مني وأنا ولدت قبله»(1)، وهذا من كمال الأدب وجميل القول، وفي لفظ آخر: «هو أكبر مني وأنا أسنّ منه، وإني لأعقل انه قيل لأمي: إن آمنة ولدت غلاماً فخرجت بي حين أصبحت آخذة بيدي حتى دخلنا عليها، فكأني أنظر إليه يمصع(2) برجليه في عرصة، وجعل النساء يجبذنني عليه، ويقلن قبّل أخاك».

____________

(1) مستدرك الحاكم 3/320، والمعرفة والتاريخ 1/504، و تاريخ الخميس للديار بكري 1/165، وأنساب الأشراف 1/89، والدرجات الرفيعة /79، والمحاسن والاضداد /17. والخبر في سير أعلام النبلاء 2/71 ـ 72.

(2) يمصع: أي يحرّكهما، من مصعت الدابة بذنبها حرّكته (المنجد).


الصفحة 104
أمه: نتيلة(1) بنت جناب بن كلاب، وهي أول عربية كست البيت الحرام الحرير والديباج وأصناف الكسوة، والسبب فيه: انّ العباس ضاع وهو صغير فنذرت إن وجـدتـه أن تكسو البيت، فوجدته ففعلت(2).

وقيل: انّ الذي ضاع من أولادها هو ضرار إبنها(3) فكاد عقلها أن يذهب جزعاً وولهت ولهاً شديداً، وكانت ذات يسار فنذرت ووفت بنذرها(4).

وجاءت يوماً بابنها العباس إلى أبيه عبد المطلب وقالت له: يا أبا الحارث قل في هذا الغلام مقالة، فأخذه وجعل يرقصه ويقول:

قال البلاذري: قال عبد المطلب في ابنه العباس وكان به معجباً:


ظـني بعبـاس بُنيّ إن كبـرأن يمنع القومَ إذا ضـاع الدبَـر
وينزع السَّجل(5) ذا اليوم اقمطـّرويسقي الحاج إذا الحـاج كثـر
وينحر الكوماء(6) في اليوم الخصرويفصل الخطبة في اليوم الأمـرّ

____________

(1) كذا اسمها في جل المعاجم والتواريخ، إلاّ ان ابن ظفر المكي ذكر في كتابه أنباء نجباء الأبناء/51: ان اسمها (نبيلة)، ولعل ذلك من تصحيف النساخ وهي التي قالت لزوجها عبد المطلب لما دخل عليها عند عودته من اليمن وقد صبغ شعره بالوسمة فكان مثل حنك الغراب ـ يا شيب ما أحسن هذا الصبغ لو دام نعله، فقال عبد المطلب:


لـو دام لـي هـذا السـواد حمدتهفكان بديلاً من شباب قد انصرم
تمتعـت مـنه والحيـاة قصيـرةولا بدّ من موت نتيلةُ أو هـرم
وماذا الذي يجدي على المرءخفضه ونعمته يوماً إذا عرشـه انهدم

(أنساب الأشراف 1/66).

(2) لطائف المعارف /11.

(3) أنساب الاشراف 1/89.

(4) الاستيعاب 2/485، نكت الهميان /175 ـ 176.

(5) الســــجل: الدلو العظيمة فيها ماء قـــلّ أو كثـــر، ونــزع الدلو جذبها أو استقى بها (المنجد).

(6) الكوماء: الناقة الضخمة السنام.


الصفحة 105

ويكسو الريـط اليمـاني والأزرويكشف الكرب إذا ما اليوم هـرّ
أكمل مـن عبد كلال(2)وحُجُر(3)لو جمعا لم يبلغا مـنه العُشُـر(1)

وكان الزبير بن عبد المطلب يزفن- يرقص- العباس أخاه:


إنّ أخي العباس عفّ ذو كرمفيه عن العوراء إن قلّت صمَمَ
يرتاح للمجد ويوفي بالذمـموينحر الكوماء في اليوم الشبم(4)

أكــرم بأعراقــك من خــال وعــــم(5)

نشأة العباس (رضي الله عنه) ومكانته:

نشأ العباس في حجر أبيه عبد المطلب- سيد البطحاء- وتحت رعاية أخوته، وقد ساد وهو غلام، وذلك حين ولّته قريش في أيام الفجار حلوان النفر، فإنها لم تملّك عليها في الجاهلية أحداً، فاذا كانت الحرب أقرعوا بين أهل الرياسة، فاذا حضرت الحرب أجلسوه لا يبالون صغيراً كان أو كبيراً، تيمّّناً به، فلمّا كان أيام الفجار أقرعوا بين بني هاشم فخرج سهم العباس بن عبد المطلب وهو غلام صغير فأجلسوه على ترسٍ- المجن- (6) وفيه يقول ضرار:


فتى قريش وفي البيت الرفيع بهاواري الزناد إذا ما أصلد الناس(7)

____________

(1) عبد كلال: من ملوك التبابعة يقال: انه كان على دين المسيح (عليه السلام).

(2) حجُر: ملك من ملوك كندة وهو والد الشاعر الملك الضليل امريء القيس.

(3) أنساب الاشراف 1/89، وابن ظفر المكي في أنباء نجباء الأبناء /51 بتفاوت في بعض الألفاظ، وأخرج محمّد بن حبيب في كتابه المنمق /432 الشطر الأول والرابع، واخرج الأبيات الاصدري البيت الثالث والرابع ابن عساكر في تاريخه كما في تهذيبه 7/230.

(4) الشَبَم: كنمر، البارد والمراد الشتاء إذا قل الطعام.

(5) المنمق /436 لمحمد بن حبيب ط حيدر آباد.

(6) العقد الفريد 3/315.

(7) طراز المجالس للشهاب الخفاجي /223.


الصفحة 106
ولمّا سرق كفار قريش غزال الكعبة الذي استخرجه عبد المطلب من زمزم لمّا حفرها فوجد فيها سيوفاً قديمة والغزال من ذهب وعيناه من ياقوت فجعل ذلك للكعبة، فكسره اولئك الكفار واقتسموه، وشروا كل خمر بالأبطح، وقرطوا الشنف والقرطين لقينتين لهم تغنّيهما فمكثوا شهراً أو أكثر يشربون، وقريش تطلب السرّآق فلا يدرون من هم؟

إلى أنّ مرّ العباس بن عبد المطلب وهو غلام شاب آخر النهار في حاجة له بدور بني سهم وقد لغط القوم وثملوا وهم يرفعون أصواتهم، فأصغى لهم فسمع بعضهم ينشد شعراً فيه ذكر الغزال، وغنّت القينتان بذلك الشعر، فأقبل العباس إلى أبي طالب فأخبره فأقبل ومعه جماعة حتى وقفوا عليهم، وبسببه وقعت المنافرة بين المطيّبين والاحلاف(1).

وفي حديث جواره لقيس بن نشبة قبل الإسلام ما ينبيء عن مكانته، وقد ذكر ذلك في شعره فقال:


جنال حقـه وذمامـهوأسعطت فيه الرغم من كان راغما
سأنصره ما كنت حياً وإن أمتأحضّ عليه للتناصر هاشما

وقد أشار ابن قيس بن نشبة إلى ذلك في أبيات قالها في مدح عبد الله بن عباس في الإسلام فقال:


أحبكم في الجاهلية والذيوفا الدين كنتم عدتي ورجائيا
فصرت بحبّي منكم غير مبعدلديكم وأصبحت الصديق المصافيا
وآليت لا أنفك أحدو قصيدةتدور بها بزل الجمال الهواديا(2)

____________

(1) أنظر تفصيل ذلك في المنمق لمحمد بن حبيب /54 - 67.

(2) المنمق لمحمد بن حبيب /164 - 165، وربيع الأبرار للزمخشري باب الأنفة والحمية (مخطوطة الرضوية).