الصفحة 152
عثمان- قد ناجاني مراراً بحديثك وناظرني ملايناً ومخاشناً في أمرك، ولم أجد منه عليك إلاّّ مثل ما أجده منك عليه، ولا رأيت منه لك إلاّّ مثل ما رأيت منك له، ولست تؤتي من قلة علم، ولكن من قلة قبول، ومع هذا كله فالرأي الذي أودعك به أن تمسك عنه لسانك ويدك، فإنه لا يبدأك ما لم تبدأه، ولا يجبك عما لم يبلغه، فإن قلتَ كيف هذا وقد جلس مجلساً أنا صاحبه، فقد قاربت، ولكن حديث يوم مرض رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) فات(1)، ثم حرم الكلام فيه حين مات، فعليك الآن بالعزوب عن شيء أرادك له رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) فلم يتم، وتصديت له مرة بعد أخرى فلم يستقم، ومن ساور الدهر غُلِب، ومَن حرص على ممنوع تعب، وعلى ذلك فقد أوصيت عبد الله بطاعتك، وبعثته على متابعتك، وأوجرته محبتك، ووجدت عنده من ظني به لك، لا توتر قوسك إلاّّ بعد الثقة بها، واذا أعجبتك فانظر إلى سيتها(2) ثم لا تفوّق(3) إلاّ بعد العلم، ولا تغرق في النزع(4) إلاّ لتصيب الرميّة.

وأنظر لا بطرف يمينك عينك، ولا تجز شمالك شينك، ودّعني بآيات من آخر سورة الكهف وقم إذا بدا لك»(5).

ثم قال لأبنه عبد الله لمّا حضر أجله: «يا بني والله ما مت موتاً ولكني فنيت فناء، واني موصيك بحب الله وحب طاعته، وخوف الله وخوف معصيته، فإنك إذا

____________

(1) يشير إلى حديث الكتف والدواة الآتي تفصيله عند الحديث عن حياة حبر الأمة في عهد الرسول7.

(2) سية القوس طرفها المنحني (المصباح المنير: سية).

(3) فُوقُ السهم وزان قفل موضع الوتر (المصباح المنير: فوق).

(4) نزع في القوس مدّها (المصباح المنير: نزع).

(5) الدرجات الرفيعة /98.


الصفحة 153
كنت كذلك لم تكره الموت متى أتاك، وإني استودعك الله يا بني، ثم استقبل القبلة فقال: لا اله إلاّ الله، ثم شخص ببصره فمات»(1).

وروى ابن أبي شيبة في المصنف عن مجاهد قال: «أعتق العباس بعض رقيقه في مرضه. فرد ابن عباس منهما اثنين كانوا يُروَن أنهما أولاد زنا»(2).

وتوفي في الثاني عشر من شهر رجب، وقيل من شهر رمضان، وقيل في أول سنة 32هـ، وقيل سنة 34هـ، في خلافة عثمان وهو ابن ثماني وثمانين سنة، وذكر ابن سعد في الطبقات وصف تشييعه العظيم ومن تولى غسله ودفنه(3) وصلى عليه أمير المؤمنين عليّ ومعه عثمان (4) ودفن بالبقيع في بقعة خاصة به، ودفن فيها بعده أربعة من أئمة المسلمين وسادة اهل البيت الطاهرين وهم الأئمة الحسن الزكي وعلي بن الحسين ومحمد الباقر وجعفر الصادق عليهم السلام. وبنى عليهم الخليفة العباسي الناصر لدين الله في سنة610(5) قبة معظمة بقيت حتى هدمها الوهابيون في 8 شوال سنة 1344 هـ بفتوى أحد علمائهم، نسأل الله تعالى أن يهدينا وجميع المسلمين إلى سواء السبيل.

____________

(1) تهذيب ابن عساكر 7/253 ط افست دار السيرة، وتاريخ مدينة دمشق لابن عساكر 26/276 ط دار الفكر.

(2) المصنف لابن أبي شيبة 4 ق 1/60، وفي فضائل الصحابة لأحمد بن حنبل 2/945 الرقم 1825 ط مؤسسة الرسالة بيروت سنة 1403: فرد منهم اثنين قال الراوي: فكنا نرى إنما ردهم انهم كانوا أولاد زنا.

(3) طبقات ابن سعد 4 ق1/21، وراجع سير أعلام النبلاء للذهبي 2/74 ط مصر، و3/413 ط دار الفكر.

(4) نفس المصدر.

(5) لقد قال عنها الذهبي المتوفي 748 في سير أعلام النبلاء 2/71 ط مصر، و 3/412 ط دار الفكر، وعلى قبره اليوم قبة عظيمة من بناء خلفاء آل العباس وقال في ص 73: وله قبة شاهقة على قبره بالبقيع.


الصفحة 154
ولمّا مات العباس جلس ابنه الحبر عبد الله للعزاء، ودخل عليه الناس يعزونه، وكان فيمن دخل عليه أعرابي وضع يده في يده وقال:


اصبر نكن بك صابرين فإنماصبر الرعية بعد صبر الرأس
خير من العباس أجرك بعدهوالله خيـر منـك للعـبـاس

فقال ابن عباس: ما عزاني أحد أحسن من تعزيته(1).

قال ابن قيم الجوزية: «أحجم الناس عن تعزية ولده عبد الله إجلالاً له وتعظيماً، حتى قدم رجل من البادية فأنشده... قال فسرّي عنه واقبل الناس على تعزيته»(2).

وذكر الكتاني في التراتيب الادارية نقلاً عن كتاب رونق التحبير في حكم السياسة والتدبير لمحمد بن أبي العلا بن سماك، والفروق للقرافي: «روي انّ العباس بن عبد المطلب لمّا مات عظم المصاب به على ابنه عبد الله، وكان عبد الله بن عباس عظيماً عند الناس في نفسه لأنه كان ترجمان القرآن وافر العقل جميل المحاسن والجلالة والأوصاف الحميدة فأعظمه الناس على التعزية إجلالاً له ومهابة بسبب عظمته في نفسه وعظمة من أصيب به، فإن العباس عم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبقي بعد وفاته مثل والده... فلمّا مات عظم خطبه وجلت رزيته في صدور الناس وفي صدر ولده عبد الله وأحجم الناس عن تعزيته، فأقاموا على ذلك شهراً كما ذكره المؤرخون، فبعد الشهر قدم أعرابي من البادية فسأل عن عبد الله بن عباس فقال الناس ما تريد؟ قال أريد أن أعزي عبد

____________

(1) احياء علوم الدين للغزالي 4/113.

(2) بدائع الفوائد 4/217.


الصفحة 155
الله بن عباس فقام الناس معه عساه أن يفتح لهم باب التعزية، فلمّا رأى عبد الله بن عباس قال له السلام عليك يا أبا الفضل فرد عليه عبد الله فأنشده:

اصبر نكن بك صابرين... البيتين.

فلمّا سمع الشعر عبد الله زال ما كان به واسترسل الناس في تعزيته...اهـ»(1).

أقول: وأثر الصنعة في تفصيل هذا الخبر ظاهر غير انه لم يكن ذلك من فراغ، والمقبول مجيئ الأعرابي لتعزية ابن عباس وانشاده شعره، وقول ابن عباس ما عزاني أحد أحسن من تعزيته.

أولاد العباس:

وخلف العباس من الأولاد: عشرة ذكور وأربع إناث وهم:

الفضل وهو أكبرهم وبه كان يكنى، وعبد الله - وهو الحبر صاحب كتابنا هذا - وعبيد الله، وقثم وكان من المشبهين بالنبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وكان أبوه العباس يرقصه ويقول:


أيا بُنيّ يا قثمأبا شبيه ذي الكرم(2)

قال النووي: وكان أخا الحسين بن علي من الرضاعة(3).

____________

(1) التراتيب الادارية 2/416 ط افست دار احياء التراث الإسلامي بيروت، والفروق للقرافي 2/195.

(2) المحبر /46.

(3) تهذيب الاسماء واللغات 1/59.


الصفحة 156
وعبد الرحمن توفي بالشام ولم يعقب، ومعبد استشهد بافريقية، وأم حبيب أمهم جميعاً أم الفضل لبابة بنت الحارث الهلالية، وفي ولدها يقول عبد الله بن يزيد الهلالي:


مـا ولـدت نجـيبة من فحل(1)بجبل نعلـمه أو سهـل
كسـتة من بطـن أم الفضـلاكـرم بها من كهلة وكهل
عم النبيّ المصطفى ذي الفضلوخاتم الرسل وخير الرسل(2)

وله أيضاً كثير(3) وتمام وكان من أشد قريش. كما يقول الذهبي. لأم ولد تسمى سباء وهي رومية وقيل حميرية، والحارث أمه من هذيل(4)، وعون، وأمينة، وأم كلثوم، وصفية لأمهات أولاد شتى، فهؤلاء عشرة ذكور وأربع اناث، وكان تمام أصغر بنيه الذكور، وفيه يقول أبوه العباس:


تموا بتمام فصاروا عشرةيا رب فاجلهم كراماً بررة(5)

____________

(1) كانت العرب لا تعد المرأة منجبة لها أقل من ثلاثة بنين أشراف، فام الفضل لها اكثر من ثلاثة لذلك قال الشاعر عنها انها منجبة، لاحظ المحبر لمحمد بن حبيب /455.

(2) سير أعلام النبلاء للذهبي 2/62 ط مصر، و 3/404 ط دار الفكر، ومجمع الزوائد 9/271، والاستيعاب 2/558 ط حيدر آباد، واسد الغابة 5/539.

(3) وهو الذي فيما ذكر البلاذري في أنسابه 1/402 فعل مثل ما فعلته فاطمة الزهراء (عليها السلام) من الاغتسال عند حضور الموت واعداد الكفن وانه كتب على أطراف اكفانه: كثير بن العباس يشهد أن لا اله إلاّ الله. قال الذهبي: وكان فقيها.

(4) في سير أعلام النبلاء 3/404 ط دار الفكر: أمه حجيلة بنت جندب التميمية.

(5) الدرجات الرفيعة /153، ومجمع الزوائد 9/271.


الصفحة 157

أحاديث العباس:

وقد روى الحديث عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، إلاّ أنّه لم يكن مكثراً من الرواية، فلم يخرّج له أصحاب الصحاح والسنن كثيراً وأحاديثه لا تبلغ العشرين، وقد ذكر ابن النديم في الفهرست في مؤلفات إبراهيم الحربي المتوفى سنة 285 (مسند العباس) ولمّا لم يصل إلينا لنعرف ما فيه فنكتفي بذكر ما روي عنه في كتب الحديث(1) وإليك منها: ثلاثة عشر حديثاً على النحو التالي:

____________

(1) لقد ورد له في المسند الجامع - المؤلف حديثاً - 21 حديثاً في 8/122- 137 بينها أحاديث موضوعة على لسانه كما في حديث أبي طالب في ضحضاح من نار المروي في صحيح مسلم، ويكفي في سقوطه سنداً وجود عبد الملك بن عمير اللخمي الذي عاش فترة من حكم معاوية ثم ابنه يزيد ثم بني مروان، وولي القضاء بالكوفة لهم، وهو الذي ذبح عبد الله بن يقطر رسول الحسين عليه السلام إلى أهل الكوفة فقبض عليه وأمر به ابن زياد أن يلقى من أعلى القصر فرمي وتكسرت عظامه وبقي به رمق، فأتاه عبد الملك بن عمير اللخمي فذبحه ولما عيب عليه قال أردت أن أريحه، ثم صار بعد ذلك يروي الحادثة ويكني عن نفسه فيقول ذبحه رجل. وأخيراً فقد ساء حفظه فكان أبو حاتم وابن معين وأحمد يضعفونه - ميزان الاعتدال وفيه كان شعبة لا يرضاه - هذا من ناحية سقوط السند.

وأما من جهة المتن فهو مخالف للكتاب حيث يقول عز من قائل:{كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَة} ٌ - إلى قوله تعالى - {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} ٌ المدثر 38 - 48. فلو قلنا بصحة الحديث لأن مسلماً رواه في صحيحه، فلا شفاعة للنبيّ بحق عمه لأنه مات مشركاً كما يزعم الزاعمون - ولو صدقت الأحلام للزمنا تزييف الحديث لمناقضته لحديث آخر رواه مسلم أيضاً في نفس الموضع عن أبي سعيد الخدري حيث روى (لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة...) بينما في حديث العباس ان النبيّ صلى الله عليه وسلم نفع عمه فأنقذه بشفاعته (هو في ضحضاح من نار ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار) فالحديث كسائر الأحاديث المكذوبة على لسان العباس وغيره الموضوعة في العهد الأموي إيغالاً في بغض الإمام أميرالمؤمنين عليه السلام، وإلاّ أبو طالب ما كان مشركاً بل كان موحداً حنيفاً مسلماً على ملة إبراهيم ولما أتى الإسلام آمن به وصار يكتم إيمانه حفاظاً عليّ سلامة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ودفاعاً عنه، وشعره الطافح بإيمانه في سره وإعلانه، يغني المرء عن بيانه فهو كمؤمن آل فرعون كما ورد في جملة من أحاديثنا عن أهل البيت عليهم السلام، وهم أعرف به من الأرجاس الذين وضعوا الحديث على لسان العباس.


الصفحة 158
1- حديث: (كنت بالبطحاء في عصابة فيهم رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم فمرّت بهم سحابة) أخرجه أبو داود في كتاب السنّة عن محمّد بن الصباح البزاز، وأخرجه الترمذي في التفسير عن عبد بن حميد، وأخرجه ابن ماجة في السنّة عن محمّد بن يحيى.

2- حديث: (لا تزال أمتي على الفطرة ما لم يؤخروا المغرب حتى تشتبك النجوم) أخرجه ابن ماجة في الصلاة عن محمّد بن يحيى.

3- حديث: (إذا سجد العبد سجد معه سبعة آراب وجهه وكفـّاه...) أخرجه كل من مسلم وابي داود والترمذي في الصلاة عن قتيبة، وأخرجه النسائي في الصلاة عن قتيبة وعن محمّد بن عبد الله بن عبد الحكم، وأخرجه ابن ماجة في الصلاة عن يعقوب بن حميد بن كاسب.

4- حديث: (ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً وبالاسلام ديناً وبمحمد رسولاً) أخرجه مسلم في الإيمان عن محمّد بن يحيى بن أبي عمر، وبشر بن الحكم، وأخرجه الترمذي في الإيمان أيضاً عن قتيبة.

5- حديث: (قلت يا رسول الله علّمني شيئاً أسأله الله قال: سل الله العافية) أخرجه الترمذي في الدعوات عن أحمد بن منيع.

6- حديث: (قلت يا رسول الله إن قريشاً جلسوا فتذاكروا أحسابهم) أخرجه الترمذي في المناقب عن يوسف بن موسى القطان البغدادي.

7- حديث: (قال ابن عباس سمعت أبي يقول في الجاهلية: إسقنا كأساً دهاقاً) أخرجه البخاري في أيام الجاهلية عن اسحاق بن إبراهيم.


الصفحة 159
8- حديث: (لمّا نزل رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) مرّ الظهران، قال العباس: قلت والله إن دخل رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) مكة عنوة) أخرجه أبو داود في الخراج عن محمّد بن عمرو الرازي زنيج.

9- حديث: (أنه قال للنبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم): إنا نريد أن نكنس زمزم وإن فيها من هدّة الجنان) أخرجه أبو داود في الأدب عن أحمد بن منيع.

10- حديث: (شهدت النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يوم حنين فلزمته أنا و أبو سفيان بن الحارث فلم نفارقه) أخرجه مسلم في المغازي عن أبي الطاهر أحمد بن عمرو ابن السرح.

11- حديث: (كنا نلقى النفر من قريش وهم يتحدثون فيقطعون حديثهم) أخرجه ابن ماجة في السنّة عن محمّد بن طريف.

12- حديث: (سمعت العباس يقول للزبير: يا أبا عبد الله ها هنا أمرك النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أن تركز الراية يوم فتح مكة) أخرجه البخاري في الجهاد عن أبي كريب.

13- حديث: (لا قود في المأمومة ولا الجائفة ولا المنقلة) أخرجه ابن ماجة في الديات عن أبي كريب.

وأخيراً فقد ذكر له رأي فقهي مع أنّه لم يُعرف مع فقهاء الصحابة، إلاّ أنّ الشيخ الطوسي ذكر رأيه في كتابه الخلاف في مسألة عدم جواز استقبال القبلة واستدبارها ببول أو غائط. فقد قال: وقال الشافعي: لايجوز ذلك في الصحاري دون البنيان، وبه قال العباس بن عبد المطلب.

أقول: وهذا نقله عنه أيضاً غير الطوسي(1).

____________

(1) أنظر نيل الأوطار 1/94، وتحفة الأحوذي 1/56، وعمدة القاري 2/278.


الصفحة 160

مسك الختام بالسلام عليه (عليه السلام):

روى المجلسي في زاد المعاد في أعمال اليوم السابع عشر من شهر ربيع الأول قال: قال الشيخ المفيد والشهيد والسيد ابن طاووس رحمهم الله إذا اردت زيارة النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في ما عدا المدينة الطيبة من البلاد فاغتسل ومثـّل بين يديك شبه القبر واكتب عليه اسمه الشريف ثم قف وتوجه بقلبك إليه ثم ذكروا زيارة طويلة جاء في بعض فقراتها: السلام على عمك حمزة سيد الشهداء السلام على عمك العباس السلام على عمك وكفيلك أبي طالب... الخ.

كما ورد التنويه بذكره في زيارة يوم الغدير المروية عن الإمام الهادي (عليه السلام) باسناد معتبر، حيث جاء قوله: «وعمك العباس ينادي المنهزين يا أصحاب سورة البقرة يا أهل بيعة الشجرة حتى استجاب له قوم...» إلى غير ذلك فسلام الله عليه ورحمة منه وبركاته.


الصفحة 161

ثانياًً: اُمه - لبابة بنت الحارث


هي لبابة بنت الحارث بن حزن بن بجير بن الهُزم بن رويبة بن عبد الله بن هلال بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن، وامها هند بنت عوف بن زهير بن الحارث بن حماطة بن جرش بن حمير. المعروفة بالعجوز الجرشية اكرم الناس أصهاراً(1) وأكرم عجوز في الأرض أصهاراً. فقد كان لها ثمان أو تسع بنات تزوجهن الأشراف من الناس وهن:

1- ميمونة بنت الحارث، وهي أسعد أخواتها، فقد تزوجها رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) زوّجه بها العباس بن عبد المطلب، وأصدقها عنه، وبنى (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بها بسرف(2) سنة سبع من الهجرة وبه توفيت أيضاً سنة 51، 63، 66 ودفنت هناك، وهذا من غريب المصادفات في حياتها، كما انها آخر من تزوج بها النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وآخر أزواجه موتاً عند بعضهم.

____________

(1) التنبيه والاشراف للمسعودي /228، والاصابة 8/277، والاستيعاب 2/758، وثمار القلوب للثعالبي /78.

(2) سرف: موضع على عشرة أميال من مكة، السمط الثمين للمحب الطبري /114- 115.


الصفحة 162
قال ابن قتيبة: وكانت قبله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) تحت أبي سبرة بن أبي رهم العامري.

2- لبابة الكبرى - وهي أم زعيمنا حبر الأمة وصاحب الترجمة-.

3- لبابة الصغرى، واسمها العصماء، وقد تزوجها الوليد بن المغيرة المخزومي، فولدت له خالد بن الوليد.

وهذه الثلاث كلّهن بنات الحارث بن حزن الهلالي. ولهن أخوات أيضاً من أمها، وهن:

1- عزة: وكانت عند الحجاج بن علاط السلمي.

2- سلمى: وقد تزوجها حمزة بن عبد المطلب سيد الشهداء (عليه السلام) فولدت له: أمة الله، وقيل أمامة وقال ابن قتيبة: التي كانت تحته هي زينب بنت عميس، وسلمى تحت شداد بن الهاد.

3- أسماء: وقد تزوجها جعفر بن أبي طالب (عليه السلام) فولدت له: عبد الله وعوناً ومحمداً، ثم خلف عليها أبو بكر بعد مقتل جعفر فولدت له محمداً، ثم خلف عليها الإمام عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) بعد موت أبي بكر فولدت له يحيى وعوناً ولا عقب لهما، ولسلمى وأسماء أخت ثالثة وهي سلامة وهن بنات عميس بن معد بن الحارث بن تيم بن كعب بن مالك بن قحافة بن عامر بن ربيعة من خثعم ابن أنمار.

ولبابة الكبرى من السابقات إلى الإسلام، وقالوا: إنها أول امرأة أسلمت بعد خديجة أم المؤمنين كما ذكر ذلك جماعة من المؤرخين(1)، وقد روى سفيان بن

____________

(1) منهم ابن سعد في الطبقات 8/203، وحكاه عن الواقدي، وابن الأثير في أسد الغابة 5/539، وابن حجر في الاصابة 8/276، وابن عبد البر في الاستيعاب 2/758، والمقريزي في امتاع الاسماع /524، والمحب الطبري في ذخائر العقبى /224، والتقي الفاسي في العقد الثمين 8 /314، والعلاء السكتواري في محاضرة الأوائل /31 وحكاه عن السيوطي، وغيرهم.


الصفحة 163
عينية عن عبيد الله بن أبي يزيد قال: «سمعت ابن عباس يقول: كنت أنا وأمّي من المستضعفين، كانت أمي من النساء وكنت أنا من الصبيان»(1).

وقال ابن عباس: فعذر الله أهل العذر منهم، وأهلك من لا عذر، وقال: وكنت أنا وأمي ممن كان له عذر. وفيما يلي حديث فيه دلالة على جانب من الاستضعاف الذي كان يعانيه المسلمون ومنهم أم الفضل، كما فيه دلالة على قوة العقيدة والإيمان في نفوس المؤمنين ومنهم أم الفضل.

فقد أخرج الطبراني بسنده عن أبي رافع مولى رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال: «كنتُ غلاماً للعباس بن عبد المطلب وكنت قد أسلمت وأسلمت أم الفضل وأسلم العباس، وكان يكتم إسلامه مخافة قومه وكان أبو لهب قد تخلف عن بدر وبعث مكانه العاص بن هشام - وكان اخا أبي جهل وخال عمر بن الخطاب - وكان له عليه دين(2) فقال له: اكفني هذا الغزو وأترك لك ما عليك، ففعل، فلمّا جاء الخبر

____________

(1) أخبار الدولة العباسية /121بتحقيق الدوري والمطلبي، والحديث أخرجه ابن جرير في تفسيره الآية {إِلاّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ} ورواه البخاري في صحيحه في عدة مواضع والبيهقي في سننه 9/13، والطبري في معجمه 11/99 و 217، ولكن ابن حزم في المحلى 2/15حاول - مكابراً - أن يجعل اسلام ابن عباس بعد فتح مكة قبل موت النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بعامين ونصف فقط، وهذا محض هراء بلا امتراء، كيف يصدق على ذلك، والعباس هاجر قبل الفتح ومعه اهله وبنوه ومنهم عبد الله فالتقى الركب النبوي في الطريق كما مر.

(2) روى أبو الفرج الاصفهاني في كتاب الاغاني 4/174 ط دار الكتب المصرية، وعنه النويري في نهاية الارب 17/13 ط دار الكتب المصرية، واللفظ له: عن مصعب بن عبد الله قال: قامر أبو لهب العاص بن هشام في عشرة من الابل فقمره، ثم في عشرة فقمره، ثم في عشرة فقمره، إلى أن خلعه من ماله فلم يبق له شيئاً فقال: إني ارى القداح قد

=>


الصفحة 164
وكبتَ الله أبا لهب، وكنت رجلاً ضعيفاً أنحت هذه الأقداح في حجرة، ومر بي، فوالله اني لجالس في الحجرة أنحت أقداحي وعندي أم الفضل، إذ الفاسق أبو لهب يجر رجليه أراه قال: حتى جلس عند طنب الحجرة، فكان ظهره إلى ظهري، فقال الناس: هذا أبو سفيان بن الحارث، فقال أبو لهب: هلم الي يابن أخي، فجاء أبو سفيان حتى جلس عنده، فجاء الناس فقاموا عليهما، فقال: يابن أخي كيف كان أمر الناس؟ قال: لا شيء والله ما هو إلاّ أن لقيناهم فمنحناهم أكتافنا يقتلوننا كيف شاؤا، ويأسروننا كيف شاؤا، وأيم الله لما لمت الناس، قال: ولم؟ فقال رأيت رجالاً بيضاً على خيل بلق، لا والله ما تليق شيئاً، ولا يقوم لها شيء.

قال: فرفعت طنب الحجرة فقلت: تلك والله الملائكة، فرفع أبو لهب يده فلطم وجهي، وثاورته فاحتملني فضرب بي الأرض حتى نزل عليّ. برك ظ. فقامت أم الفضل فاحتجزت فأخذت عموداً من عُمُد الحجرة فضربته به، ففلقت في رأسه شجةً منكرة وقالت: أي عدو الله استضعفته أن رأيت سيده غائباً عنه، فقام ذليلاً، فوالله ما عاش إلاّ سبع ليال حتى ضربه الله بالعدسة فقتلته فلقد تركاه ابناه ليلتين أو ثلاث ما يدفناه حتى أنتن، فقال رجل من قريش لابنيه: ألا تستحيان؟ إن أباكما قد أنتن في بيته، فقالا: إنا نخشى هذه القرحة. وكانت قريش

____________

<=

حالفتك يابن عبد المطلب فهلم أقامرك يابن عبد المطلب فأيّنا غـُلب كان عبداً لصاحبه، قال افعل ففعل فقمره أبو لهب، فكره أن يسترّقه فتغضب بنو مخزوم فمشى اليهم فقال افتدوه مني بعشرة من الابل فقالوا: لا والله ولا بوبرة، فاسترقـّه فكان يرعى له إبله إلى أن خرج المشركون إلى بدر. قال وقال غير مصعب: فاسترقـّه واحتبسه قيناً يعمل الحديد فلمّا خرج المشركون إلى بدر، أخرجه أبو لهب عنه لأنه كان عليلاً، على إنه إن عاد اعتقه فقبل العاص.


الصفحة 165
يتقون العدسة كما يتقون الطاعون، فقال رجل: انطلقا فانا معكما، قال: فوالله ما غسّلوه إلاّ قذفاً بالماء عليه من بعيد، ثم احتملوه فقذفوه في أعلا مكة إلى جدارٍ وقذفوا عليه الحجارة»(1).

أقول: ورواه الحاكم(2)، والهيثمي في المجمع(3)، وأحمد في مسنده (4)، والبزار(5)، والنويري(6)، وغيرهم.

ومن هذا الحديث يظهر إن استضعاف المشركين للمسلمين كان حتى بعد واقعة بدر وأن ابا رافع كان من المسلمين المستضعفين، كما يدل عليه قول أم الفضل لأبي لهب، كما أنّ ما فعلته بأبي لهب عدو الله وعدو رسوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ليدل على قوة إيمانها وصلابة عقيدتها؟ كما يدل على قوة جنانها وشجاعتها. شكر الله تعالى لها ذلك الموقف البطولي الذي أودت فيه بحياة عدو من ألدّ أعداء الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم).

وقد ذكر المؤرخون: انّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كان يزورها في بيتها، ويقيل - من القيلولة وهي نومة الضحى - عندها أيام كان بمكة(7).

وكانت من فواضل النساء، هاجرت إلى المدينة بهجرة زوجها، وقد روي في حقها وحق أخواتها شهادة من النبيّ الكريم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بإيمانهن.

____________

(1) المعجم الكبير للطبراني 1/308 ط الثانية.

(2) مستدرك الحاكم 3/322.

(3) مجمع الزوائد 6/89.

(4) مسند أحمد 6/9.

(5) مسند البزار /ح 778.

(6) نهاية الارب 17/31.

(7) الاستيعاب 2/758، والعقد الثمين للفاسي 8/315.


الصفحة 166
فقد أخرج ابن حجر في الإصابة عن الزبير بن بكار وغيره انّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال: «الأخوات الأربع مؤمنات: أم الفضل، وميمونة، وأسماء، وسلمى»(1)، وفي رواية البلاذري: «قال (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أحبهنّ لإيمانهنّ»(2).

وأخرج أيضاً عن الواقدي بسنده عن كريب: «ذكرت ميمونة وأم الفضل وأخواتها لبابة - وهي بكر - وعزة، وأسماء، وسلمى فقال رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) إنّ الاخوات مؤمنات»(3).

وهذه الاخوات مع اخت سابعة لهن اسمها حميدة، هن اللواتي ترحم عليهن الإمام أبو جعفر محمّد بن عليّ الباقر (عليه السلام) فيما أخرجه الشيخ الصدوق محمّد بن عليّ بن بابويه في كتابه الخصال بسنده عن أبي بصير - والسند صحيح- قال سمعته - يعني الباقر- يقول: رحم الله الأخوات من أهل الجنة، فسماهنّ: أسماء بنت عميس الخثعمية، وكانت تحت جعفر بن أبي طالب (عليه السلام)، وسلمى بنت عميس الخثعمية، وكانت تحت حمزة بن عبد المطلب، وخمس من بني هلال: ميمونة بنت الحارث، كانت تحت النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وأم الفضل عند العباس- وأمها هند- والعصماء أم خالد، وعزة كانت في ثقيف عند الحجاج بن علاط، وحميدة لم يكن لها عقب(4). وكفى بشهادة النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وشهادة ابنه وحفيده الإمام الباقر (عليه السلام) في حق تلكم الأخوات دليلاً على حسن حالهن، وعلو مقامهنّ، فرحمهنّ الله تعالى برحمته.

____________

(1) الاصابة 8/276.

(2) أنساب الأشراف (ترجمة أبي طالب) /44.

(3) الاصابة لابن حجر 8/276، ومعجم الطبراني 11/327، ومجمع الزوائد 9/260، وقال: رواه الطبراني بإسنادين ورجال أحدهما رجال الصحيح، ورواه الحاكم في المستدرك 4/32 ـ 33 وصححه على شرط مسلم ووافقه الذهبي.

(4) الخصال (باب السبعة) /332 ـ ط الحيدرية.