والفجوات في هذه الصورة بيّـنة، ولا تحتاج في إثباتها إلى بيّنة، فبعد طيّ كثير من الكلام في الكتمان، نقرأ لأوّل مرّة قول المرأة ويحكم عهد رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم). فيا ترى مَن هي هذه الّتي أنكرت على القوم لغطهم؟ ويكفينا من هذه الصورة معرفة عظم الرزية - كما يقول ابن عباس - حتى تدخـّل العنصر النسوي في المعركة الكلامية. وسيأتي ما يوضح المستبهم فيها.
الصورة الخامسة عشرة:
ما رواه أبو حمزة عن ليث عن طاووس، أخرج حديثه الطبراني في معجمه الكبير بسنده فقال: «حدّثنا محمّد بن يحيى بن مالك الضبي الأصبهاني، ثنا محمّد بن عبد العزيز بن أبي رزمة، ثنا عليّ بن الحسن بن شقيق عن أبي حمزة عن ليث عن طاووس عن ابن عباس قال: دعا رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) بكتف فقال: (أئتوني بكتف أكتب لكم كتاباً لا تختلفون بعدي أبداً)، فأخذ من عنده من الناس في لغط، فقالت امرأة ممّن حضر: ويحكم عهد رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) إليكم، فقال بعض القوم: اسكتي فإنّه لا عقل لكِ، فقال النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (أنتم لا أحلام لكم)... ا هـ»(2).
أقول: وأخرج هذا الحديث الهيثمي في مجمع الزوائد وعقب عليه بقوله: «قلت: في الصحيح طرف من أوّله، رواه الطبراني، وفيه ليث بن أبي سليم وهو مدلّس وبقية رجاله ثقات»(3).
____________
(1) مسند أحمد 1/293.
(2) المعجم الكبير 11/30.
(3) مجمع الزوائد 4/215.
الصورة السادسة عشرة:
ما رواه هلال بن مقلاص عن ليث عن طاووس أخرج حديثه الطبراني في معجمه الكبير بسنده فقال: «حدّثنا الحسين بن اسحاق التستري، ثنا عثمان بن أبي شيبة، ثنا يحيى بن زكريا بن إبراهيم بن سويد النخعي، ثنا هلال بن مقلاص عن ليث عن طاووس عن ابن عباس قال قال رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم): (أئتوني بكتف ودواة أكتب لكم كتاباً لا يختلف فيه رجلان)، قال: فأبطأوا بالكتف والدواة، فقبضه الله»(1).
الصورة السابعة عشرة:
ما رواه داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس، وأخرج حديثه ابن سعد في الطبقات بسنده فقال: «أخبرنا محمّد بن عمر، حدّثني إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس: إنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال في مرضه الّذي مات فيه: (أئتوني بدواة وصحيفة أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده أبداً). فقال عمر بن الخطاب: من لفلانة وفلانة - مدائن الروم - إنّ رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) ليس بميت حتى نفتتحها، ولو مات لانتظرناه كما انتظرت بنو إسرائيل موسى، فقالت زينب زوج (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ألا تسمعون النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يعهد إليكم فلغطوا، فقال: (قوموا)، فلمّا قاموا قبض النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) مكانه... ا هـ»(2).
في هذه الصورة جديد من الكشف لم يسبق إليه تشويه الرواة، وذلك هو مقالة عمر وهي نحو الّتي قالها بعد وفاة النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فأرعد وتوعّد منتظراً مجيء
____________
(1) المعجم الكبير 11/30.
(2) طبقات ابن سعد 2 ق 2/38.
الصورة الثامنة عشرة:
ما رواه عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس، وأخرج حديثه أبو محمّد عبد السلام بن محمّد الخوارزمي في كتابه سير الصحابة والزهاد، عند استعراضه لموارد خلاف الصحابة فقال: «والخلف الثاني في بيت النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فيما أخبر به محمّد بن أبي عمر قال حدّثني سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن عكرمة قال سمعت عبد الله بن عباس يقول: يوم الاثنين وما يوم الاثنين وهملت عيناه، فقيل له يابن عباس وما يوم الاثنين؟ قال: كان رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) في غمرات الموت فقال: (أئتوني بصحيفة ودواة أكتب لكم كتاباً لا تضلون بعدي أبداً)، فتنازعوا عند رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) ولم يجز عنده التنازع، وقال رجل من القوم: إن الرجل ليهجر، فغضب رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأمر بإخراجه وإخراج صاحبه، ثمّ أتوه بالصحيفة والدواة، فقال: (بعد ما قال قائلكم ما قال، ثمّ قال: ما أنا فيه خير ممّا تدعوني إليه)... ا هـ»(1).
أقول: وفي هذه الصورة أيضاً كشف جديد أتانا من عكرمة ـ هو تألم ابن عباس من يوم الاثنين وانّه اليوم الّذي دعا فيه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بالدواة والصحيفة، بينما في كثير ما مرّ من الصور وما سيأتي ذكر فيه يوم الخميس، أوليس ترى أنّ دعوة
____________
(1) أنظر غاية المرام /597 ط حجرية سنة 1272.
الصورة التاسعة عشرة:
ما رواه الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس، وأخرج حديثه أبو محمّد عبد السلام بن محمّد الخوارزمي في سير الصحابة والزهاد بسنده فقال: «حدّثنا عاصم بن عامر عن الحسين بن عيسى عن الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس قال: قال النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في مرضه الّذي قـُبض فيه: (أئتوني بكتاب أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده أبداً)، فقال المعذول: أنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يهجر كما يهجر المريض، فغضب النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ثمّ قال النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (أنتم لا أحلام لكم)، قال: إنّما قلت من الورَم، قال: (أنّكم قوم تجهلون بهذا أخبرني أخي جبرئيل عن ربيY، فأخرِجوه) فأخرجناه والله لقد مضى في الحال إلى أبي بكر فأخرجه إلى السقيفة وجمع فيها من جمع، وبايع على ما بايع»(1).
وفي هذه الصورة أيضاً كشف جديد هو أعتذار المعذول - كما سمته الرواية وهو من العَذَل بمعنى اللوم والتأنيب - بأنّه إنّما قال الّذي قاله من الوَرَم؟ ولا ندري أي وَرَم ذلك، هل كان النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) متورّماً في بدنه؟ وهذا لم ينقله أحد من الرواة، وإذا كان فهل ثمة ملازمة بين الورم وبين ما قاله المعذول؟ ولعل الوَرَم الّذي يعنيه فدفعه إلى القول هو ما كان في نفسه هو من غضب، من قولهم: فلان ورم أنفه إذا غضب وحنق.
____________
(1) نفس المصدر /598.
الصورة العشرون:
ما رواه عبد الله بن محمّد عن عكرمة عن ابن عباس، وأخرج حديثه أبو محمّد عبد السلام بن محمّد الخوارزمي في سير الصحابة والزهاد بسنده فقال: «حدّثنا محمّد بن عليّ، قال حدّثني أبو اسحاق بن يزيد عن فضل بن يسار عن عبد الله بن محمّد قال: سمعت عكرمة يقول عن ابن عباس قال: انّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال: (إئتوني بكتف ودواة أكتب لكم كتاباً لا تضلون بعدي)، فمنعه رجل، فقلت لعكرمة من الرجل؟ فقال: أنكم لتعرفونه مثلي، هو والله المعذول»(1).
وفي هذه الرواية لم يشأ عكرمة أن يحرم القراء لحديثه من فائدة، كما هو ديدنه في أحاديثه في الصور الثلاث السابقة، أمّا في هذه الصورة فقد أفادنا أنّه كان ممّن يرى التقية وقد استعملها فعلاً في جواب سائله عن الرجل الّذي منع النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عن موافاته بالكتف والدواة، فقال: إنكم لتعرفونه مثلي، هو والله المعذول. ويعني به عمر فإنه صاحب المقولة النابية.
الصورة الحادية والعشرون:
ما رواه أبان بن عثمان عن بعض أصحابه، وقد أخرج حديثه أبو محمّد عبد السلام بن محمّد الخوارزمي في سير الصحابة والزهاد بسنده فقال: وحدّثني محمّد بن مروان قال: «حدّثنا زيد بن معدل عن أبان بن عثمان عن بعض
____________
(1) نفس المصدر /598.
أقول: قد يزعم متنطع أنّ في نهاية السند إرسال أو انقطاع وبالتالي ضعف السند (لجهالة بعض أصحابه) ولكن ذلك ليس بضائر بعد أن عرفنا وألفنا الكتمان في أسماء رموز المعارضة في هذا الحديث، ولتكن هذه الصورة من المؤيدات لما سبقها من الصور، على نحو ما يأتي من مرسلات، نأتي على ذكر بعضها.
الصورة الثانية والعشرون:
أخرجها أبو عبيد البكري في كتابه فصل المقال في شرح كتاب الأمثال بلفظ: «وقال ابن عباس: اشتد برسول الله عليه الصلاة والسلام وجعه فقال: (إئتوني بكتاب أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعدي)، فقالوا: ما شأنه أهجر؟...اهـ»(2).
أقول: من المضحك - وشرّ البلية ما يضحك - أن تطبع الكتاب دار الأمانة، ومؤلف الكتاب في روايته الحديث تعوزه الأمانة.
____________
(1) نفس المصدر /598.
(2) فصل المقال في شرح كتاب الأمثال /28 ط بيروت دار الأمانة.
الصورة الثالثة والعشرون:
أخرجها الذهبي في المنتقى من أخبار المصطفى قال: «عن ابن عباس قال: اشتد برسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) وجعه يوم الخميس، وأوصى عند موته بثلاث: أخرجوا المشركين من جزيرة العرب، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم، ونسيت الثالثة...اهـ»(1) فعقب الذهبي عليه بقوله: متفق عليه، والشك من سليمان الأحول.
أقول: وأخرج هذه الصورة أيضاً الشوكاني في نيل الأوطار(2)، الّذي هو شرح لكتاب المنتقى المتقدم ذكره ـ. ومن الطبيعي أن لا يزيد شيئاً في حيثيات الحديث، ولا في ذكر ما تعمد الذهبي إغفاله من فقرات الحديث فمر عليه عابراً، ولم يعنه من أمره إلاّ شرح جزيرة العرب، وقال في شرح (ونسيت الثالثة) قيل هي تجهيز أسامة، وقيل يحتمل أنّها قوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لا تتخذوا قبري وثناً. وفي الموطأ ما يشير إلى ذلك...ا هـ.
الصورة الرابعة والعشرون:
أخرجها ابن حزم في كتابه الإحكام في أصول الأحكام قال: «بعد أن أخرج الحديث الّذي الّذي أخرجه البخاري على نحو ما مرّ في الصورة الثانية عشرة، وحدثناه عبد الله بن ربيع ثنا محمّد بن معاوية ثنا أحمد بن شعيب ثنا محمّد بن منصور عن سفيان الثوري سمعت سليمان - هو الأحول - عن سعيد
____________
(1) المنتقى من أخبار المصطفى /304 ط الهند سنة 1296 هـ.
(2) نيل الأوطار 8/64.
أقول: حيث سبق لابن حزم أن ذكر حديث البخاري المروي في صحيحه في كتاب العلم باب كتابة العلم(2) - قد مرّ في الصورة الثانية عشرة كما أشرنا آنفاً - فهو الآن يشير إليه بقوله: وحدّثناه عبد الله بن ربيع إلى آخر السند... عن سفيان الثوري، وما ذكره بهذا السند يختلف متناً عما مرّ ولا مؤاخذة عليه لأنّه بسند آخر. ولكن المؤاخذة فيما وقع في السند من وهم خفيّ - لم يتنبّه له حتى محقـّق الكتاب - الشيخ أحمد محمّد شاكر - وذلك أنّ سند ابن حزم هذا ينتهي إلى سفيان الثوري، ولم يذكر أحد غيره ذلك، بل إنّ الأسانيد المنتهية إلى سفيان كلّها تنتهي إلى سفيان بن عيينة - كما مرّت في الصورة التاسعة، ولم نقف على رواية سفيان الثوري للحديث إلاّ عند ابن حزم في هذا المقام، كما لم نقف على راوِ عن الثوري أو ابن عيينة اسمه محمّد بن منصور، نعم ذكر ابن حجر في التقريب رجلين بهذا الاسم توفي أحدهما سنة 252 والثاني سنة 4 - 256. ولم يذكر أنّهما من الرواة عن أحد السفيانَين. لكن الذهبي ذكرهما في الكاشف(3) فلعله أحدهما أو كلاهما يروي عن ابن عيينة فيما ذكر. ثمّ لا يبعد - والله العالم- وقوع التصحيف في اسم هذا الراوي، وانّ الصحيح في اسمه هو سعيد بن منصور وهو صاحب السنن، وقد مرّ في الصورة التاسعة أنّه أحد رواة الحديث عن سفيان ابن عيينة. وعلى ذلك يكون احتمال تصحيف اسم (سعيد) بـ (محمّد) من سهو
____________
(1) الإحكام في اُصول الأحكام 7/122 تحـ أحمد محمّد شاكر.
(2) صحيح البخاري 1/39 ط بولاق.
(3) الكاشف 3/9 - 100.
الصورة الخامسة والعشرون:
أخرجها المقريزي في كتابه إمتاع الأسماع قال: «وأشتدّّ به (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وجعه يوم الخميس فقال: (إئتوني بدواة وصحيفة أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده أبداً)، فتنازعوا فقال بعضهم: ما له؟ أهجر؟ أستعيدوه! وقالت زينب بنت جحش وصواحبُها: إئتوا رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) بحاجته، فقال عمر: وقد غلبه الوجع وعندكم القرآن! حسبنا كتاب الله، من لفلانة وفلانة؟ - يعني مدائن الروم - إنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ليس بميت حتى يفتحها، ولو مات لانتظرته كما انتظرت بنو إسرائيل موسى!! فلمّا لغطوا عنده قال: (دعوني فما أنا فيه خير ممّا تسألوني)! ثمّ أوصاهم بثلاث: (أخرجوا المشركين من جزيرة العرب، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنتم تروني أجيزهم، وأنفذوا جيش أسامة)، قوموا»(1).
تعقيب عرض الصور وحصيلة ذلك:
هذه هي الصور الّتي وقفت عليها، ولا شك أنّه فاتني كثيرٌ غيرُها، ومهما يكن ما فات فإنّه لا يعدو حصيلة الحاصل ممّا ذكرت. وهي تكفي في أعطاء الصورة القريبة من الصدق أو هي الصدق بعينه، لكنه منبثّ في سطور الصور المتفرقة، تلك الحصيلة - تلميحية وتصريحية - تكاد تسمعها تجأر بلوعة الرزية كلّ الرزية، الّتي كان ابن عباس حبر الأمة يبكي منها لشدة وقعها حتى يبلّ دمعه
____________
(1) إمتاع الأسماع /545 تحـ محمود محمّد شاكر.
كما تقرأ في حروف تلك الحصيلة حقيقة حيّة حسية ليست قابلة للإنكار، وهي أنّ رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) أراد الخير لأمته بأن يكتب لهم كتاباً لن يضلوا بعده أبداً، وأنّ عمر لم يرد ذلك فمنع منه.
ولا تفسير لذلك الحدث المشؤم في ذلك اليوم الكالح العبوس، غير ما رسمته تلكم الروايات بشتى صورها، وتعدد رواتها، واختلاف أصحابها وكتـّابها. وإن كان ما أحيط بها من ضباب كثيف في التضليل على واقع الحدث والحديث شخوصاً، وزماناً ومكاناً، شوّش على السذّج من القرآء، فساءت عندهم الرؤية لبعدهم عنها زماناً ومكاناً أيضاً. فكادت غياهب المتاهات تلفـّهم، وشكوك الإرتياب تتقاذفهم. لكن من أوتي حظاً من النباهة والفطنة، لا يشوّشه ذلك بل يدهشه، ويبقى خائراً حائراً بين عظمة الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وعصمته، وبين مجابهة عمر وشدّته.
وبالتالي يبقى مفكراً في اختلاف مواقف الحضور من أهل البيت ومن الصحابة، كيف انقسموا على أنفسهم، ونبيّهم بعدُ بين ظهرانيّهم، فمنهم أنصار ومنهم معارضة؟
مع شدّة الجرأة على النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بإعلان ردّ أمره وهو في تلك الحال الّتي سيفارقهم عليها عما قريب.
أما كانت اللياقة تقضي أن يُمتثل أمره ويُسارع في تنفيذه! لكنّهم - المعارضة - أكثروا اللغط والاختلاف، فطردهم من بيته ساخطاً عليهم.
ولا خلاف بين المسلمين أنّ الله سبحانه قال في كتابه:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النبيّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ}(1).
ولا خلاف بين المسلمين أنّ الله سبحانه قال في كتابه:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إذا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إليه تُحْشَرُونَ * وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}(2).
ومهما كان حسن النيّة وسلامة الطويّة عند بعضهم، فهو ما دام ضالعاً مع المعارضة، يعني أنّه رادّ على رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) أمره، ومشاقق له في دعوته عن سبق إصرار وعمد، فهل ذلك إلاّ التردي في ضلالة الهوى، ومردٍ لغيره فيها أيضاً.
ويبقى العجب آخذاً بالألباب كيف يكون عمر هو رأس المعارضة، ومنه تبدر جفوة الكلمة، ويبقى هو المسيطر على الموقف المعلـَن!؟ وهو هو في صحبته وسابقته، وهو هو الّذي كان إلى الأمس القريب يقول للنبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «رضيت بالله ربّاً وبالإسلام ديناً، وبك رسولاً»(3).
فقد أخرج أبويعلى وغيره عن عمر وغيره: «قال عمر: انطلقت أنا فانتسخت كتاباً من أهل الكتاب ثمّ جئت به في أديم - جلد - فقال لي رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم):
____________
(1) الحجرات /2.
(2) الأنفال /24 ـ 25.
(3) مجمع الزوائد 1/173، وستأتي مصادر أخرى.
قال عمر: فقمت فقلت: رضيت بالله رباً، وبالأسلام ديناً، وبك رسولاً، ثمّ نزل رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) »(2).
ثمّ العجب كلّ العجب من عمر وهو الّذي كان يقول نادماً على ما بدر منه يوم صلح الحديبية: «ما زلت
____________
(1) المتهوّكون: المتحيّرون، والتهوّك أيضاً مثل التهوّر، وهو الوقوع في الشيء بقلّة مبالاة، قاله الجوهري.
(2) كذا في مجمع الزوائد للهيثمي 1/173 و 181، وراجع أيضاً جمع الفوائد 1/30، والمصنّف لابن أبي شيبة 10/313 و 11/115، والمعجم الكبير للطبراني برقم 1063ـ 1065، والأسماء المبهمة للخطيب البغدادي 188ـ 189. فستجد عدة محاولات بُذلت لتضييع اسم عمر من صحيفته الّتي أتى بها، على نحو ما بذل من تعتيم وتضبيب حول تضييع أسمه من منعه صحيفة النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم).
فمن كان بهذه المثابة من الخوف والوجل من كلمة صدرت منه ظاهرها حميّـته للدين، كيف غاب عنه ذلك الشعور بالخوف حتى قال كلمة غمّ على رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) منها لشدة وقعها على قلبه؟
فما بال أبي حفص تتباين مواقفه من أوامر الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فيناقض نفسه بنفسه؟ فأين الرضا؟ وأين التسليم؟ الّذي قاله يوم جاء هو بالصحيفة، من هذا العناد والاصرار على الخلاف يوم دعا النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بالدواة والصحيفة، ولماذا ذهب به الأشتطاط فلم يخش ما خشيه من كلمته يوم صلح الحديبية؟ وهي الّتي كانت أخف لهجة وأهون وقعاً، وأقل تأثيراً. مواقف ما كانت لتأخذ الألباب بالحيرة لو صدرت عن غير عمر، من غير أولي السابقة والصحبة والمصاهرة من الأعراب أولي الضرر، أو البداة من أهل الشعر والوبر.
يقول الدكتور صبحي الصالح - اُستاذ الإسلاميات وفقه اللغة في كلية الآداب بالجامعة اللبنانية -: «وتحليلاً لهذه الحادثة التاريخية الخطيرة، لابدّ لنا من رَجع النظر فيها لنستقي منها بعض العبر، ولابدّ لنا من الاعتراف بأنّه لم يكن من المنتظر أن يقف من بين الصحابة مثل عمر ليقول ما قال، حتى أكبَرَ عبد الله ابن عباس، وهو حبر الأمة الإسلامية هذا الأمر، وعدّه أكبرَ رزيّةٍ أصابت المؤمنين، ولم يكن من المتوقـّع إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يختار المؤمنون غير
____________
(1) أنظر تاريخ الطبري 2/280 ط الاستقامة بمصر، وسيرة ابن هشام 3/331 ط الحلبي بمصر.
ومع ذلك يطلب منهم دواة وقرطاساً ليملي عليهم كتاباً لن يضلّوا بعده، فكان المفروض أن يستنتجوا من ذكره هذا الكتاب أشياء غير الجوانب التشريعية والعقدية الّتي ما أنفكّ القرآن يتنزل بها حتى آخر لحظة من حياة النبيّ (عليه السلام)، وأن يرجحوا أنّ هذا الكتاب سيحتوي مسائل حساسة تتعلق بتصرّفهم الإجتماعي. لقد رأى الرسول (عليه السلام) أنّ منيّـته قد دنت، فأراد ألاّ يفسح أمام المسلمين مجالاً كي يتنازعوا بالقرآن على القرآن، وبالسنّة على السنّة، وبالتشريع على التشريع، وبالقانون على القانون.
لذلك ودّ لو يضع لهم الخطـّة الدائمة ليتمسكوا بأمر الله لأنّه أمر الله! ولولا هذا لما قال رجل كابن عباس: «انّ هذه كانت أكبر رزية حاقت بالمسلمين»(1)!
رواة الحديث ومصادره:
إنّ استقصاء جميع ما ورد في كتب الحديث والسنّة، والتاريخ والسيرة، واللغة والأدب، ممّا يتعلق بالحديث لأمرٌ شاق، يصعب معه على الباحث المجدّ في تحقيقه، والوقوف عليه باستقراء واستيعاب، غير أنّ ما وقفت عليه - ولا شكّ قد فاتني الكثير الكثير - يكفي في التدليل على صحة الحديث وتواتره، بالرغم من محاولات بائسة يائسة في التمويه عليه، حرصاً على رموز المعارضة كما سيأتي في كلام أعلام المحدّثين في ذلك.
____________
(1) النظم الإسلامية نشأتها وتطورها /78 - 79 تأليف الدكتور صبحي الصالح اُستاذ الإسلاميات وفقه اللغة في كلية الآداب بالجامعة اللبنانية ط دار العلم للملايين بيروت، الطبعة الأولى سنة 1385هـ سنة1965م.
ولا نستبق رجال الصحاح وغيرهم في الخوض حول الكيفية وما لها وما عليها، إذ سيأتي ذلك مفصلاً ولكنا سنعرض أمام القارئ جانباً من أسماء الرواة بدءاً من يوم الحَدَث، وانتهاء بمَن أودع الحديث كتابه. ليكون على بيّنة من أمره أزاء ما ألمّ بالمسلمين من تشرذم، سببّه ذلك الحدَث في ذلك الحديث.
القرن الأوّل:
1- الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)، روى الحديث عنه الحسن بن أبي الحسن البصري، وأخرجه أبو محمّد عبد السلام الخوارزمي في سير الصحابة والزهاد راجع (الصورة 2)، وروى عنه أيضاً نعيم بن يزيد بصورة مهلهلة وحديثه في مسند أحمد(1)، وطبقات ابن سعد كما مرّ في (الصورة 1).
2- الخليفة عمر بن الخطاب، روى الحديث بنفسه، وعنه أسلم وغيره (راجع الصورة 3 و4)، كما اعترف به أيضاً بعد ذلك في حديث له مع ابن عباس، وهو من جملة احتجاج ابن عباس عليه كما سيأتي.
____________
(1) مسند أحمد 1/90.
4- الصحابي الجليل جابر بن عبد الله روى الحديث عنه أبو الزبير كما في (الصورة 5).
5- التابعي الجليل سعيد بن جبير تلميذ ابن عباس وقائده قتله الحجاج ظلماً وعدواناً سنة 95، روى الحديث عن ابن عباس وعنه ثابت كما في (الصورة 7)، وعبيد الله بن عبد الله كـما في (الصورة 8)، وسليمان الأحـول كـما فـي (الصورة 9)، وطلحة بن مصرّف كما في (الصورة 10)، وقد مرّت أحاديثهم عنه في الصور المشار إليها مع مصادرها، فراجع.
6- التابعي الجليل عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود الهذلي، أحد الفقهاء السبعة، وكان أعمى وهو معلم عمر بن عبد العزيز توفي سنة 4 - 5 - 8 - 99، روى الحديث عن ابن عباس، وعنه محمّد بن مسلم الزهري كما في (الصورة 12).
7- التابعي أسلم العدوي مولاهم أبو زيد مولى عمر بن الخطاب مات سنة 70هـ أو80هـ عدّه الذهبي من كبار التابعين روى الحديث عن عمر، وعنه ابنه زيد ابن أسلم كما في (الصورة 3).
القرن الثاني:
1- عكرمة مولى ابن عباس توفي سنة 105هـ روى الحديث عن مولاه، وعنه داود بن الحصين كما في (الصورة 17) وعمرو بن دينار كما في (الصورة 18) والحكم بن أبان كما في (الصورة 19) وعبد الله بن محمّد كما في (الصورة 20).
2- طاووس اليماني توفي سنة 106هـ روى الحديث عن ابن عباس، وعنه الليث بن سعد كما في (الصور 14و 15و 16).
3- عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود توفي سنة 108هـ روى الحديث عن ابن عباس، وعنه الزهري كما في (الصورة 12).
4- الحسن البصري توفي سنة 110هـ روى الحديث عن الإمام عليّ وعن عبد الله بن عباس، وعنه أبان بن أبي عياش كما في (الصورتين 2 و 13).
5- طلحة بن مصرف اليمامي توفي سنة 112هـ روى الحديث عن سعيد بن جبير، وعنه مالك بن مغول كما في (الصورة 10).
6- عليّ بن عبد الله بن عباس المتوفى سنة 118هـ روى الحديث عن أبيه وعنه الزهري كما في (الصورة 6).
7- محمّد بن مسلم بن شهاب الزهري المتوفى سنة 124هـ روى الحديث عن عليّ بن عبد الله بن عباس كما في (الصورة 6) وعن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة كما في (الصورة 12).
9- عمرو بن دينار المتوفى سنة 126هـ روى الحديث عن عكرمة وعنه سفيان بن عيينة كما في (الصورة 18).
10- سليمان الأحول من صغار التابعين روى الحديث عن سعيد بن جبير وعنه سفيان بن عيينة وشبل كما في (الصورة 9).
11- أبو الزبير المكي المتوفى سنة 128هـ روى الحديث عن جابر وعنه إبراهيم بن يزيد وابن لهيعة وقرة بن خالد كما في (الصورة 5).
12- داود بن الحصين الأموي مولاهم توفي سنة 135هـ روى الحديث عن عكرمة، وعنه إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة كما في (الصورة 17).
13- زيد بن أسلم توفي سنة 136هـ روى الحديث عن أبيه أسلم، وعنه هشام بن سعد كما في (الصورة 3).
14- يحيى بن سليمان توفي سنة 7 - 8 - 139، روى الحديث عن ابن وهب وعنه البخاري في صحيحه كما في (الصورة 12).
15- أبان بن أبي عياش توفي بعد سنة140هـ روى الحديث عن الحسن البصري وعنه الصّباح المزني كما في (الصورة 2).
16- الفضيل بن يسار توفي قبل سنة 148هـ روى الحديث عن عبد الله بن محمّد، وعنه أبو إسحاق بن يزيد كما في (الصورة 20).
17- سليمان بن مهران الأعمش الثقة الحافظ الورع مات سنة 7 - 148هـ روى الحديث عن عبد الله بن عبيد الله بن عتبة، وعنه أبو عوانة الوضاح اليشكري كما في (الصورة 11).