الصفحة 442
ولا يبعد - كما أرى - أنّ الحديثين كانا في بطن الريب، ولم ينزّلا من ظهر الغيب. ولم يولدا إلاّ بعد حين من الدهر، ولم يكونا من قبل شيئاً مذكوراً، لكنّ صِرار معاوية وتعاون الحاقدين على الإمام معه اختلق كثيراً من نحو ذلك.

محاولات بائسة يائسة:

لقد كان حديث الكتف والدواة واضح الدلالة على المراد كتابته، وهو تأكيد النص - تحريرياً - على خلافة الإمام عليّ (عليه السلام) وهذا هو الّذي فهمه الحاضرون، ومنهم عمر لذلك منع منه، وقد مرّت بنا في أجوبة التساؤلات الأربعة إثبات ذلك فلا حاجة إلى إعادته.

ولمّا كان الحديث المذكور أقضّ مضاجع الكثير من القائلين بخلافة أبي بكر، فبذلوا جهداً جهيداً وأصروا عناداً على التماس مخرج من المأزق الّذي أوقعهم فيه الحديث المذكور. فقالوا وقالوا وقد مرّت بنا نماذج من ذلك في أقوال علماء التبرير.

وأظن انّ القارئ على ذُكر من مقالة ابن حزم الظاهري الّذي ذكر الحديث ثمّ عقـّب قائلاً: «هذه زلة العالم الّتي حذّر منها الناس قديماً، وقد كان في سابق علم الله تعالى أن يكون بيننا الإختلاف وتضل طائفة وتهتدي بهدى الله اُخرى، فلذلك وافق عمر ومن وافقه بما نطقوا به، ممّا كان سبباً إلى حرمان الخير بالكتاب الّذي لو كتبه لم يُضل بعده.

ولم يزل أمر هذا الحديث مهمّاً لنا، وشجى في نفوسنا، وغصة نتألم لها، وكنا على يقين من الله تعالى لايدع الكتاب الّذي أراد نبيّه صلّى الله عليه (وآله)

الصفحة 443
وسلّم أن يكتبه فلن يُضل من بعده دون بيان، ليحيا - كذا - من حيّ عن بيـّنة، إلى أن منّ الله تعالى بأن أوجدناه فانجلت الكربة والله المحمود»(1).

ثمّ ذكر ما انجلت به عنده الكربة وذلك ماروته عائشة وعبد الرحمن ابنا أبي بكر لصالح أبيهماـ وقد مرّ ذكرهما قريباً في التلاعب الرخيص، كما ذكرنا أوجه الخلل فيهما في التعقيب على ما قاله ابن حزم، وفي التلاعب الرخيص، وليس يعنينا ذلك.

لكن هلمّ الخطب فيمن زاد على ابن حزم في حزمته، وأفرغ كلّ ما في جعبته من سهام مسمومة لأسباب معلومة، ذلك هو ابن كثير الشامي الّذي أغرب وأسهب، وشرّق وغرّب فهو ذكر في سيرته حديث الكتف والدواة نقلاً عن البخاري ومسلم ثمّ عقـّب قائلاً: «وهذا الحديث ممّا قد توهم به بعض الأغبياء من أهل البدع من الشيعة وغيرهم، كلٌ مدّعٍ أنّه كان يريد أن يكتب في ذلك الكتاب ما يرمون إليه من مقالاتهم، وهذا هو التمسك بالمتشابه وترك المحكم. وأهل السنّة يأخذون بالمحكم ويردّون المتشابه إليه، وهذه طريقة الراسخين في العلم كما وصفهم الله (عزّ وجل) في كتابه. وهذا الموضع ممّا زلّ فيه أقدام كثير من أهل الضلالات، وأمّا أهل السنّة فليس لهم مذهب إلاّ اتباع الحقّ يدورون معه كيفما دار.

وهذا الّذي كان يريد عليه الصلاة والسلام أن يكتبه قد جاء في الأحاديث الصحيحة بالتصريح بكشف المراد منه.

فإنّه قد قال الإمام أحمد: ثمّ ذكر حديث عائشة»(2).

____________

(1) الإحكام في أصول الأحكام 7/122.

(2) اُنظر البداية والنهاية 4/450 ـ 451.


الصفحة 444

كشف جديد في رواية الحديث عن عكرمة:

لقد مرّ في صور الحديث رواية عكرمة لأربع من صوره، وهي على مابينها من تفاوت الألفاظ الّذي قد تحمّل عبئه الرواة عنه، لكن القاسم المشترك بينها يوحي بأنّ حديث الكتف والدواة، كان يوم الاثنين اليوم الّذي مات فيه رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) (الصورة 17 و 18 و 19 و20).

وهذا كشف جديد لم يسبق إليه غير عكرمة، ولمّا كان احتمال أن يكون النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) دعا بكتابة الكتاب مرتين، مرة في يوم الخميس في مرضه قبل وفاته بأربعة أيام، ومرة أخرى في يوم الاثنين يوم وفاته، احتمال مستبعد جداً، لأنّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لمّا كان في دعوته يوم الخميس لم يلق استجابة مُرضية، بل سمع كلمة نابية جافية، لماذا يكرر الطلب ثانياً وهو القائل لمن سأله في يوم الخميس بعد طرد المنازعين: أنأتيك بالّذي طلبت فقال أو بعد ماذا؟ (الصورة 18).

وفي رواية عكرمة (الصورة 18): ثمّ أتوه بالصحيفة والدواة فقال: (بعد ما قال قائلكم ما قال؟) فمن أبى أن يكتب بعد الّذي سمعه من عمر، كيف يستدعي مرة اخرى باحضار الدواة والكتف ليسمع عين الجواب الأوّل منه أيضاً؟

فما ورد في روايات عكرمة في المقام لايخلو من نظر، خصوصاً وان عكرمة كان كذاباً وقد كذب على ابن عباس حتى حبسه عليّ بن عبد الله بن عباس على باب الكنيف فقيل له فيه: فقال: «أنّه يكذب على أبي»(1)، وأمره في الكذب مشهور، حتى أنّ ابن عمر قال لمولاه سالم: «اياك أن تكذب عليّ كما كذب عكرمة على ابن عباس»(2).

____________

(1) سير أعلام النبلاء 5/512 ط دار الفكر.

(2) نفس المصدر.


الصفحة 445
فالصحيح ما عليه بقية الرواة عن ابن عباس (رضي الله عنه) من انّ الحديث كان يوم الخميس.

ما هي الوصية الثالثة؟

سؤال فرضته صورة الحديث التاسعة، المروية عن طريق سفيان بن عيينة عن سليمان الأحول عن سعيد بن جبير عن ابن عباس (رضي الله عنه) بأشكالها المختلفة.

ولمّا كانت تلك الصورة - كما قلنا عندها - تكاد ينعدم عندها وضوح الرؤية، لاختلاف الرواة عن سفيان إلى نحو من خمس عشرة رواية، يمكن أن تكون كلّ رواية صورة بحد ذاتها. ومهما كان الاختلاف بين الرواة عن سفيان، فثمة أمر بالغ الأهمية يرويه سفيان عن سليمان الأحول عن سعيد بن جبير عن ابن عباس. وذلك انّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بعد أن طرد المنازعين له المشاقـّين أمره: قال أوصيكم بثلاث: أخرجوا المشركين من جزيرة العرب، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم. وسكت عن الثالثة عمداً أو قال: فنسيتها؟

هذه الوصايا الثلاث لم ترد مسندة عن غير طريق سفيان بن عيينة، وإن وردت مرسلة كما في الصورتين (21 - 23).

ثمّ ما ورد عن طريق سفيان فيه غمغمة في تعيين الثالثة، فمن هو الّذي غصّ بريقه فلم يفصح بها، ولابدّ من عرض نماذج لما ورد عسى أن نستشف كنه الوصية الثالثة الّتي شق على الراوي الإفصاح بها لأي غرض كان:

1- أوصى بثلاث: أخرجوا المشركين من جزيرة العرب، وأجيزوا الوفد... وسكت عن الثالثة عمداً، أو قال فنسيتها (وهذا ما رواه يحيى بن آدم وأحمد بن حماد عن سفيان).


الصفحة 446
فيا ترى من هو الّذي سكت عمداً؟ أهو رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) - وحاشاه - لماذا أراد أن يوصي بها؟ ولماذا سكت عنها؟ فإن كان هو لماذا لم يستفهموه عنها؟ أهو ابن عباس؟ فلماذا حدّث بها؟ ولماذا سكت عنها؟ أهو سعيد بن جبير الراوي عنه؟ أهو، أهو؟ سؤال بعد سؤال. يطول بذلك المقام والمقال. والجواب على احتمال أن يكون الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أو من ذكرنا أسماءهم هو الّذي سكت عنها يدفعه ما يأتي من قول سفيان إن هذا من قول سليمان.

إذن لماذا اختلف الرواة في النقل عن سفيان في ذلك، فقد جاء: «ونسيت الثالثة» كما في رواية قبيصة عن سفيان.

وجاء: «والثالثة خير، أمّا أنّه سكت عنها، وامّا ان قال فنسيتها» كما في رواية محمّد بن سلام عن سفيان، وجاء في هذه الرواية قال سفيان هذا من قول سليمان.

وجاء: «فإمّا أن يكون سعيد سكت عن الثالثة عمداً، وإمّا أن يكون قالها فنسيتها» كما في رواية عبد الرزاق عن سفيان أنّه قال الخ...

وجاء: «قال ابن عباس وسكت عن الثالثة أو قال: فأنسيتها» كما في رواية سعيد بن منصور عن سفيان برواية سنن أبي داود في المتن.

وجاء في رواية في هامش سنن أبي داود: «قال الحميدي عن سفيان قال سليمان: لاأدري أذكر سعيد الثالثة فنسيتها أو سكت عنها».

إلى غير ذلك من تهويش وتشويش لتضييع الوصية الثالثة. ولكن الباحث المجدّ والقارئ الواعي لايخفى عليه ما وراء الأكمة، فقد ورد في رواية أبان بن عثمان عن بعض أصحابه - وذكر حديث الدواة والصحيفة - وقد مرّ بلفظه في

الصفحة 447
(الصورة 21) وفيها فدعا العباس بصحيفة ودواة فقال بعض من حضر: «انّ النبيّ يهجر» ثمّ أفاق النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فقال له العباس: «هذه صحيفة ودواة قد اتينا بها يارسول الله» فقال: (بعد ما قال قائلكم ما قال) ثمّ أقبل عليهم وقال: (احفظوني في أهل بيتي، واستوصوا بأهل الذمة خيراً، وأطعموا المساكين، واكثروا من الصلاة، واستوصوا بما ملكت أيمانكم - وجعل يردّد ذلك (صلّى الله عليه وآله وسلّم) - وإني لأعلم إنّ منكم ناقض عهدي، والباغي على أهل بيتي).

فتبيّن أنّ الثالثة هي الوصية بأهل بيته فهي الّتي تغصّ بها النفوس فلا تطيق ذكرها أمّا لنـُصب أو من خوف الحاكمين، وإذا عرفنا انّ الساكت هو سليمان الأحول - وهو صاحب القول: «أو فنسيتها» - عرفنا انّ الرجل كان في أيام الحجاج الّذي كان يطارد سعيد بن جبير حتى القي القبض عليه وهو عائد بمكة، فلعله كان معه بمكة مختفياً، أمّا الوصايا الاُخرى فليس فيها ما يدعو للسكوت عنها أو زعم نسيانها.

ولشراح الحديث حول تفسير «ونسيت الثالثة» تشريق وتغريب، فمنهم من رأى انّها تجهيز جيش أسامة، ومنهم من قال: «يحتمل انّها قوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (لا تتخذوا قبري وثناً) ».

إلى غير ذلك ممّا لا يقره المنطق، فإنّ كلّ ماذكروه ليس فيه ما يستدعي الكتمان، والتحايل عليه، وما ذلك إلاّ استهجان بالعقول الواعية.

والّذي يؤكد ما نذهب إليه شهادة ثلاثة من الصحابة أنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كان آخر ما تكلم به هو الوصية بأهل بيته كما قال ابن عمر:


الصفحة 448
1- فقد ذكر ابن حجر في صواعقه نقلاً عن الطبراني عن ابن عمر: «إنّ آخر ما تكلم به النبيّ صلّى الله عليه (وآله) وسلّم: (اخلفوني في أهل بيتي) »(1).

2، 3- وأخرج التابعي الجليل سليم بن قيس الهلالي في كتابه السقيفة قال: «قلت: لعبد الله بن العباس - وجابر بن عبد الله الأنصاري إلى جنبه -: شهدت النبيّ عند موته؟ قال: نعم، لمّا ثقل رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) جمع كلّ محتلم من بني عبد المطلب وامرأة وصبي قد عقل، فجمعهم جميعاً فلم يدخل معهم غيرهم إلاّ الزبير - فإنّما دخل لمكان صفية - وعمرو بن أبي سلمة(2) واُسامة بن زيد. ثمّ قال(3): إنّما هؤلاء الثلاثة منا أهل البيت، اُسامة مولانا ومنا، وقد كان رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) استعمله على جيش وعقد له ــ وفي ذلك الجيش أبو بكر وعمر، فقال كلّ واحد منهما لا ينتهي أمره - يعني النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فإنّه يستعمل علينا هذا الصبي - فاستأذن اُسامة رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) ليودعه ويسلم عليه، فوافق ذاك اجتماع بني هاشم فدخل معهم، واستأذن أبو بكر وعمر وأسامة ليسلّما على النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فأذن لهما.

فلمّا دخل أسامة معنا - وكان من أوسط بني هاشم، وكان شديد الحبّ لـه - فقال رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) لنسائه: قمن عني فأخلينني وأهل بيتي، فقمن كلهن إلاّ عائشة وحفصة، فنظر إليهما رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) وقال: (أخلياني وأهل بيتي)، فقامت عائشة آخذة بيد حفصة وهي تذمر غضباً وتقول: قد أخليناك وإياهم، فدخلتا بيتاً من خشب.

فقال رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم): (يا أخي أقعدني)، فأقعده عليّ (عليه السلام) وأسنده إلى نحره.

____________

(1) الصواعق المحرقة /89 ـ 90.

(2) أمه أم المؤمنين أم سلمة.

(3) القائل هو ابن عباس.


الصفحة 449
فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال: (يا بني عبد المطلب اتقوا الله واعبدوه، واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا ولا تختلفوا، انّ الإسلام بني على خمس: على الولاية، والصلاة، والزكاة، وصوم رمضان، والحج، فأمّا الولاية: فلّله ولرسوله وللمؤمنين الّذين يؤتون الزكاة وهم راكعون، {وَمَنْ يَتَوَلَّ الله وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ الله هُمْ الْغَالِبُونَ}(1).

قال ابن عباس: فجاء سلمان والمقداد وأبو ذر، فأذن لهم رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) مع بني عبد المطلب فقال سلمان: يارسول الله للمؤمنين عامة؟ أو خاصة لبعضهم؟ يعني الولاية. قال: بل خاصة لبعضهم الّذين قرنهم الله بنفسه ورسوله في غير آية من القرآن. قال: من هم؟ قال: أولهم وأفضلهم وخيرهم هذا أخي عليّ بن أبي طالب - ووضع يده على رأس عليّ (عليه السلام) - ثمّ ابني هذا من بعده - ووضع يده على رأس الحسن بن عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) - ثمّ ابني هذا من بعده - ووضع يده على رأس الحسين (عليه السلام) - والأوصياء تسعة من ولد الحسين واحداً بعد واحد، حبل الله المتين وعروته الوثقى، هم حجة الله على خلقه، وشهداؤه في أرضه، من أطاعهم فقد أطاع الله، ومن عصاهم فقد عصى الله وعصاني، هم مع الكتاب، والكتاب معهم لا يفارقهم ولا يفارقونه حتى يردوا عليَّ الحوض) »(2).

فهؤلاء الثلاثة من الصحابة شهد اثنان منهم - وهما ابن عباس وابن عمر - بالوصية بأهل البيت كانت آخر وصايا النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عند موته وشهادة الثالث - وهو جابر بن عبد الله - كانت بتقريره صحة شهادة ابن عباس (رضي الله عنهما).

____________

(1) المائدة /56.

(2) السقيفة /905 - 906 تحـ الأنصاري نشر الهادي.


الصفحة 450

تدخل العنصر النسوي في النزاع:

لقد مرّت بنا صور الحديث، وقرأنا فيها ما يشجي النفوس، وقرأنا في خمس منها تدخل العنصر النسوي عندما وقع الخلاف على رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) ووقع التنازع بين الصحابة، فمنهم القائل قرّبوا لرسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) يكتب ما أراد، ومنهم القائل القول ما قال عمر.

فقد جاء في (الصورة 14) قال: «فأقبل القوم في لغطهم فقالت المرأة: ويحكم عهد رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم)...»، ولئن كانت هذه الصورة غير واضحة المعالم، فإنّ الّتي بعدها مثلها إلاّ أنّها أشمل لبعض ما جرى.

فقد جاء في (الصورة 15): «فأخذ من عنده من الناس في لغط فقالت امرأة ممّن حضر: ويحكم عهد رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) إليكم، فقال بعض القوم: «اسكتي فإنّه لاعقل لك، فقال النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (أنتم لا أحلام لكم) ».

وأوضح منها ما جاء في (الصورة 17): «فقالت زينب زوج رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم): ألا تسمعون النبيّ يعهد إليكم، فلغطوا. فقال: (قوموا...) ».

وإذا بحثنا في ثنايا تلك الصور نجد فيما رواه عمر نفسه، انّ من استنكر ذلك من النساء أكثر من واحدة فقد جاء عنه كما في (الصورة 3): «فقال النسوة: ائتوا رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) بحاجته، قال عمر فقلت: اسكتنّ فإنكنّ صواحبه إذا مرض عصرتنّ أعينكنّ، وإذا صح أخذتنّ بعنقه، فقال رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم): (هنّ خير منكم) ».

ونحو ذلك جاء في (الصورة 4): «فقال النسوة من وراء الستر: ألا تسمعون ما يقول رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فقلت: إنكن صواحبات (صواحب) يوسف، إذا مرض رسول الله عصرتنّ أعينكنّ، وإذا صح ركبتنّ عنقه، فقال رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم: (دعوهنّ فإنهنّ خير منكم) ».


الصفحة 451
ولئن كان عمر لم يفصح عن أسماء تلكم النساء الّتي دخلن المعركة الكلامية من وراء الستر، فليس يعسر على الباحث معرفتهن، خصوصاً وقد عرفنا اسم واحدة منهنّ وهي أم المؤمنين زينب بنت جحش. ولما كنّ نساء النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حزبين كما في حديث عائشة وقد أخرجه البخاري في صحيحه(1): قالت: ان نساء رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) كنّ حزبين، فحزب فيه عائشة وحفصة وصفية وسودة، والحزب الآخر أم سلمة وسائر نساء رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم)...(2) وإذ لا يعقل أن تكون عائشة وحزبها هنّ اللائي أنكرن الاختلاف.

ولمّا كانت أم المؤمنين زينب بنت جحش من سائر نساء رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) اللاتي لم تذكرهن عائشة باسمائهن عرفنا أنّها هي ومن كان معها من حزبها هن اللائي أنكرن على عمر ومن معه امتناعهم من امتثال أمر النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وفيهنّ ممّن يوالين أهل بيت النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وإلى القارئ أسماؤهن.

1- أم المؤمنين أم سلمة.

2- أم المؤمنين زينب بنت جحش.

3- أم المؤمنين ميمونة بنت الحارث.

4- أم المؤمنين أم حبيبة بنت أبي سفيان.

5- أم ألمؤمنين جويرية بنت الحارث: فهذه هي النسوة اللائي أدركن مايريده النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وهو العهد بالأمر إلى ولي الأمر من بعده لكن عمر يجبههن وينتصر لهن النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فيقول له: (أنتم لا أحلام لكم، دعوهن فإنّهن خير منكم).

____________

(1) أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الهبة باب قبول الهدية 3/156 ط بولاق.

(2) اُنظر معجم الطبراني 23/41 ط الثانية بالموصل.


الصفحة 452

عمر يقول بالغيبة ويقول بالرجعة فماذا يقول العمريون؟

لقد مرّت في بعض صور الحديث لمحات عابرة، ذات دلالة معينة، وهي تكفي لإدانة منكري الغيبة والرجعة، والذين كثر منهم الهرج والمرج على الشيعة لقولهم بالغيبة وبالرجعة، فنسبوا اليهم كلّ قبيح، وأكثروا التشنيع والتبديع، ولسنا في مقام اثبات صحة عقيدة الغيبة والرجعة، وامكان وقوعها، ومن نافلة القول الخوض فيما أثبته الله سبحانه في كتابه بقوله تعالى:{وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا}(1) وليس يعني ذلك الحشر يوم القيامة، لأن ذلك قال فيه:{وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا}(2) فإذن هو حشر خاص(3). كما قال في الغيبة في موسى عليه السلام واستدل بذلك عمر نفسه لقوله تعالى:{ وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ}(4).

____________

(1) النمل /83.

(2) الكهف /47.

(3) يستدل القائلون بالرجعة على إثباتها بآيات من القرآن المجيد مثل قوله تعالى:{قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ} المؤمن /11. وقوله تعالى:{أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ} البقرة /259. وقوله تعالى:{أَلَمْ تَرَ إلى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمْ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ} البقرة /243. وقوله تعالى:{وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمْ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ * ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}. وقوله تعالى في أصحاب الكهف في الآية /25 {وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَمِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا} فقال فيهم {ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا} الكهف /12.

(4) الأعراف /142.


الصفحة 453
ولسنا بصدد البحث عن ذلك، لكن وجدنا لعمر بن الخطاب مقالة على نحو ما قاله يوم وفاة النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حين أوعد وتوعّد من قال مات رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) ومقالته في ذلك اليوم لايخفى غرضه منها فقد كان منتظراً مجيء أبي بكر من السُنح. أمّا يوم حديث الرزية فلماذا قال: «من لفلانة وفلانة - مدائن الروم - إن رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) ليس بميت حتى نفتحها، ولو مات لأنتظرناه، كما انتظرت بنو إسرائيل موسى»؟

وليس من شك انّ ذلك كان لبلبلة الأفكار، وهو في نفس الحال كان تمهيداً لما سيحدث ممّا دُبّر أمره. ومهما يكن الغرض فإنّ عمر قائل بالرجعة فماذا يقول العمريون؟

صور من مسخ الحديث:

لقد جرت على حديث الكتف والدواة عمليات مسخ وتحريف، بل وتقطيع أوصال، كلّ ذلك لتضييع معالم الحقّ وتشويه الحقيقة.

وإلى القارئ بعض النماذج من تلك الصوَر:

1- فمنها ما أخرجه البخاري بسنده إلى نعيم بن زيد قال: «حدّثنا عليّ بن أبي طالب صلوات الله عليه أنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم): لمّا ثقل قال: (ياعليّ إئتني بطبق أكتب فيه ما لاتضل أمتي)، فخشيت أن يسبقني فقلت: إني لاحفظ من ذراعي الصحيفة، وكان رأسه بين ذراعي وعضدي، يوصي بالصلاة وبالزكاة وما ملكت

الصفحة 454
أيمانكم، وقال: كذلك حتى فاضت نفسه، وأمره بشهادة أن لا إله إلاّ الله وان محمّداً عبده ورسوله من شهد بها حرّم على النار... ا هـ»(1).

فهذا الحديث الّذي رواه البخاري صريح في أنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أوصى عليّاً والمسلمين بالصلاة والزكاة وما ملكت أيمانهم، حتى فاضت نفسه بين ذراع عليّ وعضده.

بينما روى البخاري نفسه في صحيحه «عن عائشة: انّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) مات بين سحرها ونحرها وقالت: متى أوصى إليه»(2).

فيا تـُرى أيّ الحديثين أولى بالاعتبار؟ على أنّه قد ورد في صحاح الآثار والأخبار ما يدل على وصاية عليّ (عليه السلام) عنه (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، كما ورد أيضاً ما يدل على موته (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وهو مستند إلى صدر عليّ (عليه السلام) (3).

لكن الّذي يستريب الباحث فيه هو ما ورد في حديث البخاري في الأدب المفرد من تقاعس الإمام عن إحضار الطبَقَ، وبذلك يكون شأنه شأن من لم يحضر الدواة والكتف، فالكلّ لم يمتثل أمر النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وإن كان في حديث البخاري في الأدب المفرد ما ينمّ عن جهل واضعه حين ذكر الطبَقَ، ولم يعهد الكتابة عليه ولم يرد في شيء من النصوص ما يدل على انّ الطبَقَ من الأدوات الكتابية، ودون القارئ المعاجم اللغوية ليرى معاني الطبق فليس بينها ما يشير إلى ذلك.

____________

(1) الأدب المفرد /50 تحقـ محمّد فؤاد عبد الباقي المطبعة السلفية سنة 1375 هـ، ولقد مرّ هذا في الصورة الاُولى من صور الحديث مروياً عن ابن سعد في الطبقات وأحمد بن حنبل في المسند. فراجع.

(2) راجع كتاب الوصايا من صحيح البخاري 4/3، وصحيح مسلم 5/75.

(3) أنظر ما رواه ابن سعد في الطبقات 2 ق 2/51.


الصفحة 455
2- ومنها ماجاء من تزيّد فاضح لراويه، وذلك نحو ما قاله ابن أبي الحديد المعتزلي معقباً على ما رواه عن أبي بكر أحمد بن عبد العزيز الجوهري في كتاب السقيفة من حديث الكتف والدواة فقال: «هذا الحديث قد خرّجه الشيخان محمّد بن إسماعيل ومسلم بن الحجاج القشيري في صحيحهما. واتفق المحدّثون كافة على روايته».

ولدى مقابلة ما رواه عن الجوهري بما خرّجه الشيخان وغيرهما نجد حشواً زائداً فيه وهو قول الراوي: «فمات رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم في ذلك اليوم» وهذا مثل ما قد مرّ في (الصورة 16) من صور الحديث رواية هلال ابن مقلاص وفي آخرها: «فأبطأوا بالكتف والدواة فقبضه الله». وهذا أيضاً من التزيد الفاضح إذ ليست هذه الزيادة جزءاً من الحديث، ولا يصح أن تكون جزءاً، لأنّ الحديث كان يوم الخميس كما هو صريح قول ابن عباس (رضي الله عنه) حين كان يقول: «يوم الخميس وما يوم الخميس». ومن المعلوم والمتيقن انّ وفاة الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كانت يوم الاثنين، فتكون وفاته بعد يوم الحديث بأربعة أيام، فكيف يصح قول الراوي: «فمات رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) في ذلك اليوم». وقد صرّح شرّاح الصحيحين وغيرهم بذلك(1).

3- ومنها النقص الواضح من أصل الحديث. كما صنع السمهودي في كتابه وفاء الوفا فإنّه ذكر الحديث من آخره ولم يذكر أوله تحاشياً من ذكر ما جرى من عمر ومن شايعه في ذلك اليوم(2).

____________

(1) راجع فتح الباري لابن حجر 1/168، والأحكام لابن حزم 7/124.

(2) اُنظر وفاء الوفا 1/227 - 228.


الصفحة 456
4- ومنها ما هو أقبح فعلاً من صورتي التزيد السابق والتنقص اللاحق في الحديث، وذلك كما أجهز عليه جماعة، فألغوا حديث الكتف الدواة جملة وتفصيلاً، ولم يذكروا منه سوى وصايا النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في آخره كما مرّ في رواية أبي داود في سننه(1) فلا بكاء ابن عباس وتلهفه وأسفه على ما فات الأمة من الخير في الأمن من الضلالة. ولا دعوة النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بالدواة والكتف. ولا قول عمر: «إنّ النبيّ ليهجر». ولا قوله: «حسبنا كتاب الله». ولا وقوع النزاع والتخاصم بين الحاضرين. ولا طرد النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لمن شاقـّه في أمره وقوله: (لا ينبغي عندي تنازع).

5- ومنها ما صنعه كثيرون ممّن كتبوا في السيرة النبوية من الغاء الحديث من صفحة السيرة بالمرّة حتى ولم يشيروا إليه بأدنى إشارة، كما صنع محمّد بن عبد الوهاب. إمام الوهابيةـ في كتاب مختصر سيرة الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وكما فعل مثل ذلك أمين الدويدار في كتابه صور من حياة الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم). إلى غيرهما من الكتـّاب المحدَثين.

فهكذا تعرّض الحديث لعمليات كثيرة من ابتزاز إلى تحريف إلى إجهاز عليه وإلى إهمال. كلّ ذلك إخفاء للحقيقة، وفات المغرضون أنّ الحقّ أقوى منهم، ولا يقهر بتلك الأساليب، ولا تخفى الشمس وإن جلـّلها السحاب، أو لفـّها الضباب.

كيف؟ وأنّى؟ والحديث - كما يقول المثل - سارت بذكره الركبان، فتناقله الرواة قرناً بعد قرن - كما مرّ عليك - وأخرجه الحفاظ وأئمّة الحديث من أصحاب الصحاح والسنن والمسانيد ومعاجم اللغة وأسفار التاريخ والسيرة فراجع ما مرّ من ذكر مصادر الحديث.

____________

(1) راجع الصورة (9) من صور الحديث.


الصفحة 457

الحديث في الشعر العربي:

لم أبحث كثيراً عن الشعراء الّذي أشاروا إلى الحديث، وليس ذلك من غرض كتابي هذا، ولكني وقفت على شعر شاعر مؤمن ممّن لم يتبع الغاوين، لهج به فنظم مشيراً إليه بقوله:


وصـىّ النبيّ فـقـال قائـلهمقـد ظـل يهـجر سيد البـشر
ورووا أبـا بـكر أصـاب ولـميهجـر وقد وصّى إلى عـمر(1)

ومن النظم في ذلك قول الشاعر:


ومـا رأيـت مـن الآيـات معتبـراإن كنـت مِـدّكـرا أو كنـت معتبـرا
أوصى النبيّ أميـر النحـل دونهمـاوخـالفـاه لأمـر عـنـده اشـتـورا
وقـال هاتـوا كتابـاً لا تضـلوا بـهبعـدي فقالـوا رسول الله قـد هجـرا
تعصـباً لأبـي بكـر فحيـن ثـوىوفـّى فوصـّى بـه من بعـده عمـرا
تحمـّل العـبء فيـها ميـتاً عجـباوقال حـيـاً أقيلـونـي بـها ضَجـِرا
إن قـال ان رسـول الله غـادرهـاشـورى فهـلا اقتفى من بعـده الأثرا
أو قال أوصـى فلـم تقبـل وصيتـهيوم الغـدير فلا تعجـل فـسوف ترى(2)

____________

(1) مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب 1/202، وكشف الغمة للأربلي 1/165 منشورات الشريف الرضي، والصراط المستقيم للبياضي 3/7.

(2) اثبات الهداة للحر العاملي 4/424، والصراط المسقيم للبياضي 3/7. ووردت هذه الأبيات في أوّل الحجة الخامسة من كتاب الوصية لأحد معاصري الشيخ الصدوق المتوفى سنة 381 هـ. والكتاب في مجموعة برقم /13مجاميع خطية بمكتبة المرحوم الحجة المغفور له الشيخ محمّد الحسين آل كاشف الغطاء.