ماذا عن صلاة أبي بكر؟
تكاد تكون المسألة من المتسالم عليها أنّ أبا بكر صلّى بالمسلمين في مرض النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم).
ولكن الخلاف نشأ في متداعياتها، وبدا التناقض في مرويات من رواها فأثار ذلك كثيراً من الشكوك والتساؤلات، وإليك بعضاً منها:
1- هل صحيح أنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أمر أحداً بعينه - سواء أبا بكر أو غيره - ليؤم المسلمين في صلاتهم في مرضه؟ والجواب نقرؤه في رواية عبد الله بن زمعة بن الأسود يقول: «عدتُ رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم في مرضه الّذي توفـّي فيه، فجاء بلال يؤذنه بالصلاة فقال لي رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم: (مرّ الناس فليصلوا).
قال عبد الله: فخرجت فلقيت ناساً لا اُكلمهم، فلمّا لقيت عمر بن الخطاب لم أبغ مَن وراءه وكان أبو بكر غائباً، فقلت له: صل بالناس يا عمر، فقام عمر في المقام، وكان عمر رجلاً مُجهراً، فلمّا كبّر سمع رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم صوته، فأخرج رأسه حتى أطلعه الناس من حجرته فقال: لا لا لا، ليصل بهم ابن أبي قحافة، قال: يقول ذلك رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم مغضباً،
قال: فقلت لا ولكني لما رأيتك لم أبغ مَن وراءك، فقال عمر: ما كنت أظن حين أمرتني إلاّ أنّ رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم أمرك بذلك، ولولا ذلك ما صليت بالناس، فقال عبد الله لمّا لم أر أبا بكر رأيتك أحق من غيره بالصلاة.
فظهر من هذه الرواية أنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لم يأمر أحداً بعينه حين آذنه بلال بالصلاة.
وأنّ جميع ما جرى كان من تصرّف عبد الله بن زمعة الشخصي، ولذا عاتبه عمر على ذلك. كما ظهر أنّ الراوي كان هواه مع أبي بكر وعمر، فهو رأى اُناساً غيرهما فلم يكلمهم، لماذا (؟) وهو ما إن رأى عمر فلم يبغ مَن وراءه، لماذا؟ وهو الّذي كشف عن دخيلة هواه حين قال لعمر: لما لم أر أبا بكر رأيتك أحق من غيره بالصلاة، لماذا؟ ولنا أن ندرك ما تزيّده على النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فنسب إليه قوله لما سمع صوت عمر فأخرج رأسه حتى أطلعه الناس من حجرته فقال: لا لا لا ليصل بهم ابن أبي قحافة. يقول ذلك رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم مغضباً. وعبد الله بن زمعة هذا استشهد يوم الدار مع عثمان(1)، فهو غير متهم عند من يحتج بأمثاله في مثل المقام، وقد تبين لنا أنّه لم يكن أمرٌ من النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلى أحد بعينه يقوم مقامه في الصلاة بالمسلمين. وهذا ما سيأتي عن الإمام عليّ (عليه السلام) أيضاً.
____________
(1) تقريب التهذيب لابن حجر 1/416.
أ- في حديث قالت: «أوذن النبيّ صلّى الله عليه (وآله) وسلّم بالصلاة في مرضه فقال: مروا أبا بكر فليصلّ بالناس ثمّ أغمي عليه فلمّا سرّي عنه قال: هل أمرتنّ أبا بكر يصلي بالناس؟ فقلت يا رسول الله إنّ أبا بكر رجل رقيق لا يُسمع الناس، فلو أمرت عمر. قال: إنكن صواحب يوسف، مروا أبا بكر فليصلّ بالناس فربّّ قائل ومتمنّ ويأبى الله والمؤمنون»(1).
ب- وفي حديث آخر عنها: «لمّا كانت ليلة الاثنين بات رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم دنفا، فلم يبق رجل ولا إمرأة إلاّ أصبح في المسجد لوجع رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم فجاء المؤذّن يؤذنه بالصبح فقال: قل لأبي بكر يصلي بالناس، فكبّر أبو بكر في صلاته، فكشف رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم الستر فرأى الناس يصلون، فقال: إن الله جعل قرّة عيني في الصلاة، وأصبح يوم الاثنين مفيقاً فخرج يتوكأ على الفضل بن عباس وعلى ثوبان غلامه حتى دخل المسجد وقد سجد الناس مع أبي بكر سجدة من الصبح وهم قيام في الاُخرى، فلمّا رآه الناس فرحوا به، فجاء حتى قام عند أبي بكر، فاستأخر أبو بكر فأخذ النبيّ صلّى الله عليه (وآله) وسلّم بيده فقدّمه في مصلاّه فصفـّا جميعاً، رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم جالس وأبو بكر قائم على
____________
(1) طبقات ابن سعد 2 ق2/20.
ج- وفي حديث ثالث عنها قالت: «ما مرّت عليَّ ليلة مثل ليلة قال رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم يا عائشة هل طلع الفجر؟ فأقول: لا حتى أذّن بلال بالفجر، ثمّ جاء بلال فقال رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم ما هذا؟ فقلت: هذا بلال، فقال رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم: مري أبا بكر فليصل بالناس»(2). وقال الهيثمي: رواه البزار ورجاله رجال الصحيح.
قال ابن حجر العسقلاني في فتح الباري: «تضافرت الروايات عن عائشة بالجزم بما يدل على أنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كان هو الإمام في تلك الصلاة»(3).
ومع ذلك فقد رووا عنها تارة الإشتراك في الإمامة، كما روى ابن سعد ذلك عنها في الطبقات(4) فجعل أبو بكر يصلي وهو قائم بصلاة النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والناس يصلون بصلاة أبي بكر والنبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قاعد.
وأخرى زادت على المشاطرة فجعلت النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) مأموماً صلّى بصلاة أبي بكر، وهذا أيضاً قد مرّ عن عائشة ورواه عنها ابن سعد في الطبقات(5) فلماذا الإختلاف منها في كيفية صلاة النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)؟
____________
(1) نفس المصدر 2 ق 2/20.
(2) مجمع الزوائد 9/35.
(3) فتح الباري 2/123.
(4) طبقات ابن سعد 2 ق 2/19.
(5) نفس المصدر 2 ق 2/20.
4- لماذا الإختلاف في مدة إمامة أبي بكر في الصلاة فقالوا ثلاثة أيام(4)، وقالوا سبع عشرة صلاة كما رواه ابن سعد(5)، وهي تزيد على ما سبق في مدتها، ولا تكون الوفاة ضحى أو صدر النهار كيفما حسبنا الصلوات، إلاّ أن نتمها فنجعلها أكثر من أربعة أيام، فتبدأ من عشاء يوم الخميس وتنتهي بغداة يوم الاثنين.
5- لماذا الإختلاف في الصلاة الّتي كان خروج النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إليها - بعد أن وجد خفته كما يقولون - فتارة خرج لصلاة الظهر وذلك عن عائشة كما في الطبقات(6)، وتارة أخرى كان خروجه لصلاة العشاء كما في حديثها الآخر ورواه
____________
(1) نفس المصدر 2 ق 2/18و 19.
(2) نفس المصدر 2 ق 2/17.
(3) نفس المصدر 2 ق 2/22.
(4) نفس المصدر 2 ق 2/23 عن عكرمة.
(5) نفس المصدر 2 ق 2/23.
(6) نفس المصدر 2 ق 2/29.
6- لماذا خرج النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بعدما أمر أبا بكر بالصلاة مكانه كما يقولون؟ هل حدث ما يستدعي خروجه وتحمّل العناء حتى خرج يتهادى بين رجلين وهو يجرّ رجليه تخط رجلاه الأرض؟ سؤال أجابوا عنه بأنّه وجد في بدنه خفـّة، وهذا منهم لا يكاد يصدقه ذو مسكة، فمن أين أتته الخفّة مع ذلك المرض؟ وإذا كان - كما يزعمون - وجد خفـّة لماذا توكأ على رجلين ولم يكتف بواحد؟ إذن فجواب الخِفة فيه خِفـّة.
ويبدو أنّ بعضهم أحسّ بخِِفة وزن ذلك الجواب، فأبتدع حديثاً على لسان الفضل بن عباس - وهو أحد الرجلين اللذين توكأ عليهما النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) - قال فيه: «وكان (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ولد يوم الاثنين، وبعث يوم الاثنين، وتوفي يوم الاثنين، فلمّا كان يوم الأحد ثقل في مرضه فأذّن بلال بالأذان، ثمّ وقف بالباب فنادى السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته، أقيم الصلاة؟ فسمع رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) صوت بلال، فقالت فاطمة: يا بلال إنّ رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) اليوم مشغول بنفسه، فدخل بلال المسجد، فلمّا أسفر الصبح قال: والله لا أقيمها أو أستأذن سيدي رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) فخرج بلال فقام بالباب ونادى السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته الصلاة يرحمك الله.
____________
(1) نفس المصدر 2 ق 2/30.
(2) نفس المصدر 2 ق 2/20.
7- وعلى فرض الخِفـّة والغشية يبقى الحديث يحمل أكثر من إشارة وإثارة بأنّه لم يكن (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قد أمر أبا بكر، وهذا ما تنبّه له ابن الإسكافي في كتابه المعيار والموازنة فقال: «متى نظرنا إلى آخر الحديث احتجنا إلى أن نطلب للحديث مَخرجا عن النقص والتقصير، وذلك إنّ آخره: أنّ رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) لمّا وجد إفاقة وأحسّ بقوّة خرج حتى أتى المسجد وتقدم فنحّى أبا بكر عن مقامه وقام في موضعه، فلو كانت إمامة أبي بكر بأمره (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لتركه على إمامته وصلّى خلفه، كما صلّى خلف عبد الرحمن بن عوف»(2).
____________
(1) رواه الهيثمي في مجمع الزوائد 9/28 وقال رواه الطبراني وفيه عبد المنعم بن إدريس وهو كذّاب.
(2) المعيار والموازنة /41 ـ 42 ط الاُولى.
فلماذا دفعه وهو الّذي أمره؟ ولماذا نكص هو الآخر ما دام قد صلّى بأمر منه؟ فهذه هي التنحية الّتي قالها ابن الإسكافي.
8- لماذا أثارت مسألة الصلاة خلافاً وتسابقاً بين الزوجتين عائشة وحفصة؟ فما دام النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) هو صاحب الحقّ في التعيين فليس من حق أيّ إنسان أن يفرض رأيه - ولنقل بتهذيب العبارة - يعرض رأيه عليه حتى يسبّب له ازعاجاً فيقول لهن: «إنكن لصواحب يوسف»(2).
وجاء في شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد في شرح قوله (عليه السلام): ومن كلام له خاطب به أهل البصرة على جهة إقتصاص الملاحم: (فمن استطاع عند ذلك أن يعتقل نفسه على الله فليفعل...، وأمّا فلانة فأدركها رأي النساء وضغنٌ غلا في صدرها كمرجل القينََ، ولو دعيت لتنال من غيري ما أتت إليّ لم تفعل، ولها بعد حرمتها الأولى والحساب على الله).
قال الشارح: «وأمّا الضغن فاعلم انّ هذا الكلام يحتاج إلى شرح وقد كنت قرأته على الشيخ أبي يعقوب يوسف بن إسماعيل اللمعاني (رحمه الله) أيام اشتغالي عليه بعلم الكلام، وسألته عمّا عنده فأجابه بجواب طويل أنا أذكر محصوله بعضه بلفظه وبعضه بلفظي، فقد شذ عني الآن لفظه كلّه بعينه...ثمّ ذكر كلامه إلى أن
____________
(1) طبقات ابن سعد 2 ق 2/22.
(2) أنظر طبقات ابن سعد 2 ق 2/21، وقارن البخاري 1/139 ط بولاق.
وفي حديث أم سلمة كما رواه الحاكم قالت: «والّذي أحلف به إن كان عليّ لأقرب الناس عهداً برسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، عدنا رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) غداة وهو يقول: جاء عليّ؟ جاء عليّ؟ مراراً. فقالت فاطمة (عليها السلام): كأنك بعثته في حاجة قالت: فجاء بعد قالت أم سلمة: فظننت أنّ له إليه حاجة فخرجنا من البيت فقعدنا عند الباب، وكنت من أدناهم إلى الباب فأكبّ عليه رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) وجعل يسارّه ويناجيه، ثمّ قبض رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) من يومه ذلك، فكان عليّ أقرب الناس عهداً»(1). قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وأقره الذهبي في التلخيص على تصحيحه. فقال: صحيح(2).
____________
(1) مستدرك الحاكم 3/138 ـ 139.
(2) وقارن مسند أحمد 6/300 ط أفست دار صادر، ومجمع الزوائد 9/112، والبداية والنهاية 7/397 نقلاً عن ابن أبي شيبة.
وهذه الخطبة لها إضافات قطعها الرواة، ويهمنا منها قوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (أيها الناس سُعرت النار وأقبلت الفتن كقطع الليل المظلم)، وهذا منه نذير بشرٍ مستطير سيحيق بالأمة فحذار لهم ثمّ حذار.
وقوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (وإنّي والله ما تمسكون عليَّ بشيء، إنّي لم أحلّ إلاّ ما أحل الله - القرآن - ولم أحرّم إلاّ ما حرّم الله - القرآن)(2) وهذا يوحي أنّ بين الصحابة من كان يتهم الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في تصرفاته، فهو يقسم لنفي التهمة عن نفسه.
فما هي التهمة؟ ومّن هم أصحابها؟ ولو بحثنا عنها وعنهم فهل نجد ما يكشف عنها وعنهم؟ ربّما نجد ما يشير إليها ولو بعد حين في حوار جرى بين عمر وابن عباس بعد ذلك، فقد قال عمر: «ولقد كان من رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم في أمره - يعني عليّاً - ذرواً من قول، لا يثبت حجة ولا يقطع عذراً، ولقد كان يربع في أمره وقتاً ما، ولقد أراد في مرضه
____________
(1) صحيح البخاري 4/240.
(2) سيرة ابن هشام 4/332، طبقات ابن سعد 2 ق 2/46، وتاريخ الطبري 3/196.
ولقد قال ابن عباس: «ترك رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم الناس يوم توفي على أربعة منازل: مؤمن مهاجر، والأنصار، وأعرابي يؤمن لم يهاجر إن استنصره النبيّ نصره، وإن تركه فهو إذن له، وإن استنصر النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم كان حقاً عليه أن ينصره وذلك قوله تعالى:{وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ}(3)، والرابعة: التابعين بإحسان»(4).
وهذا تقسيم دقيق وهو تقييم للصحابة على ضوء الدين في القرآن المجيد، وفيه استبعاد الإطلاق اللغوي في معنى الصحبة وتقريب لمعناها الشرعي القرآني.
فرحم الله ابن عباس، فقد قطع جهيزة المتنطعين المغالين في أمر الصحبة والصحابة.
وعند قوله هذا فلنقف في ختام هذا الجزء من تاريخ حياته في العهد النبوي الشريف، لنستقبل في الجزء الثاني تاريخه من بعد ذلك العهد الزاهر، ونمرّ بما له وعنده في فترة بين عهدين.
____________
(1) شرح النهج لابن أبي الحديد 3/97 ط مصر الاُولى، كشف الغمة للإربلي 2/46، وكشف اليقين للعلاّمة الحلي/94 ط حجرية.
(2) الكهف /5.
(3) الأنفال /72.
(4) أخرجه ابن المنذر وأبو الشيخ كما في الدر المنثور 3/207 في تفسير الآية 72 من سورة الأنفال.