الصفحة 39
مواقفه في تلك الفترة، وان ظهرت آثارها بوضوح أيام عمر حين كان يواجهه - على ما فيه من غلظة وعنجهية خلق - بكلّ صراحة وصرامة، وستأتي صفحات احتجاجاته عليه في أمر الخلافة. وسنقرأ فيها نحو قوله: وأنت وصاحبك - يعني أبا بكر - اللذان انتزعتما الأمر منا دون الناس.

ونحو قوله: في حوار جرى بينهما قال فيه عمر: ما أرى صاحبك إلا مظلوماً - يعني عليّاً - فقال له ابن عباس: أردد إليه ظلامته.

ونحو قوله: حين قال عمر انّه استصغره قومه فقال ابن عباس: والله ما استصغره الله ورسوله حين أمره أن يأخذ براءة من صاحبك.

ونحو قوله:هلا استحدثتم سنه يوم الخندق اذ خرج عمرو بن عبد ودّ وقد كعم عنه الأبطال وتأخرت عنه الأشياخ ويوم بدرٍ اذ كان يقط الأقران قطا؟

ونحو قوله: هلا سبقتموه بالإسلام؟

ويكفي أن يقرأ الباحث حواره مع عمر حين احتج عمر بالاختيار والإجماع على بيعة أبي بكر. فكان جواب ابن عباس له: وأمّا قولك أنّ قريشاً اختارت فأصابت ووُفقت. فإنّ الله يقول: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ}(1) وقد علمت أن الله اختار من خلقه لذلك من اختاره، فلو نظرت قريش من حيث نظر الله لها واختارت لأنفسها من حيث اختار الله لها، لكان الصواب بيدها غير مردود ولا محسود ولوفقت وأصابت.

إلى غير ذلك ممّا ظهرت آثاره وسرت اخباره بعد تلك الفترة. وسنوافي في صفحات احتجاجاته بمزيد من الشواهد على أن آراءُه في احداث تلك الفترة كانت متطابقة تماماً مع آراء أبيه مع قوة الحجة ووضوح البيان وصدق البرهان،

____________

(1) القصص/68.


الصفحة 40
على أنّ من نافلة القول الخوض في تحديد رأي الحبر في موضوع الخلافة، أليس هو الّذي كان يروي وصايا النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) له أو لجماعة خاصة أو للمسلمين عامة، في حق الخليفة الشرعي وقد مرت بنا شواهد على ذلك في عهد النبيّ الكريم (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فراجع.

وممّا فاتنا ذكره في محله حديثه الّذي رواه عنه التابعي الجليل سليم بن قيس الهلالي وأثبته في كتابه السقيفة واليك نصه: قال سليم قلت لعبد الله بن العباس - وجابر بن عبد الله الانصاري إلى جنبه - شهدتَ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عند موته؟ قال: نعم، لمّا ثقل رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) جمع كلّ محتلم من بني عبد المطلب وامرأة وصبي قد عقل، فجمعهم جميعاً فلم يدخل معهم غيرهم إلاّ الزبير - فانما دخل لمكان صفية - وعمر بن أبي سلمة(1) وأسامة بن زيد ثم قال: إنّما هؤلاء الثلاثة منا أهل البيت، أسامة مولانا ومنا وقد كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) استعمله على جيش وعقد له. وفي ذلك الجيش أبو بكر وعمر، فقال كلّ واحد منهما: لا ينتهي أمره، فإنّه - النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) - يستعمل علينا هذا الصبي.

فاستأذن اسامة رسول الله ليودّعه ويسلّم عليه، فوافق ذلك اجتماع بني هاشم فدخل معهم، واستأذن أبو بكر وعمر أسامة ليسلّما على النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فأذن لهما.

فلمّا دخل أسامة معنا وكان من أوسط بني هاشم وكان شديد الحبّ له. فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لنسائه قمن عني فأخلينني وأهل بيتي، فقمن كلهن إلاّ عائشة وحفصة، فنظر إليها رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وقال: أخلياني وأهل بيتي. فقامت عائشة آخذة بيد حفصة وهي تذمر غضباً وتقول: قد أخليناك وإياهم فدخلتا بيتاً من خشب. فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يا أخي اقعدني، فأقعده عليّ (عليه السلام) وأسنده إلى نحره. فحمد الله

____________

(1) وهذا لمكان أمه ام سلمة زوج الرسول الكريم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) واحدى امهات المؤمنين.


الصفحة 41
وأثنى عليه ثم قال: يابني عبد المطلب اتقوا الله واعبدوه واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرّقوا ولا تختلفوا، إن الإسلام بُني على خمس: على الولاية، والصلاة، والزكاة، وصوم رمضان، والحج.

فأمّا الولاية: فللّه ولرسوله وللمؤمنين الذين يؤتون الزكاة وهم راكعون، ومن يتولّ الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون.

قال ابن عباس: فجاء سلمان والمقداد وأبو ذر، فأذن لهم رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) مع بني عبد المطلب فقال سلمان: يا رسول الله للمؤمنين عامة أو خاصة لبعضهم؟ - يعني الولاية -.

قال: بل خاصة لبعضهم الذين قرنهم الله بنفسه ورسوله في غير آية من القرآن.

قال: من هم؟

قال: أولهم وأفضلهم وخيرهم هذا أخي عليّ بن أبي طالب - ووضع يده على رأس عليّ - ثم ابني هذا من بعده - ووضع يده على رأس الحسن بن عليّ ابن أبي طالب - ثم ابني هذا من بعده - ووضع يده على رأس الحسين - والأوصياء تسعة من ولد الحسين واحداً بعد واحد، حبل الله المتين، وعروته الوثقى، هم حجة الله على خلقه، وشهداؤه في ارضه، من اطاعهم فقد أطاع الله، ومن عصاهم فقد عصى الله وعصاني، هم مع الكتاب، والكتاب معهم لا يفارقهم ولا يفارقونه حتى يردوا عليّ الحوض(1).

____________

(1) وصايا النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كثيرة وردت بالفاظ متفاوتة ومناسبات شتى، وأحاديثها مروية عند الفريقين، وحسبك منها حديث الثقلين الّذي قرن فيه بين الكتاب والعترة كما في المتن وحديث الثقلين من الأحاديث المتواترة، اخرجه من ائمة الصحاح والسنن: مسلم والترمذي وابن ماجه والنسائي والحاكم ورزين العبدي والحميدي وابن أبي شيبة وأبو يعلى وابن حبان وأحمد وابن سعد والذهبي والسمعاني والطبراني وابن المغازلي والحمويني وأخطب خوارزم والمحب الطبري والسيوطي والسمهودي وابن حجر وغيرهم وغيرهم وقد جمعت مصادره في بعض ما كتبت فنافت على المائة. وقد كتب فيه غير واحد من الاعلام كتاباً خاصاً وأوفى من استوفى الحجة الكبير صاحب كتاب العقبات فقد خصه بمجلد كبير من مؤلّفه القيّم.


الصفحة 42
وعلى ضوء ذلك كان ابن عباس يصف عليّاً بأنه سيد الأوصياء(1) كما في كلامه مع معاوية بعد موت الامام الحسن (عليه السلام) كما سيأتي.

وعلى ضوء ذلك أيضاًَ كان يقول: «ولقد عاتب الله أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في غير موضع وما ذكر عليّاً إلاّ بخير»(2)، وفي هذا كناية أبلغ من التصريح بأنّ عليّاً هو لا غير الأحق بالأمر دون غيره ممن تولى وسعى فيها سعيها والقرآن المجيد يقول لإبراهيم (عليه السلام): {قال إني جاعلك للناس إماماً قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين}(3).

____________

(1) مروج الذهب 3/8 ط مصر تح ـ محمّد محي الدين عبد الحميد.

(2) تاريخ الخلفاء للسيوطي /171.

(3) البقرة /124.


الصفحة 43

الفصل الثاني:



حبر الأمة في عهد أبي بكر





الصفحة 44

الصفحة 45

حبر الأمة في عهد أبي بكر:

لاشك أنّ ابن عباس وهو الّذي عاش أحداث الفترة بين العهدين - عهد الرسالة وقد غربت شمسه بالأمس عن اُفق المسلمين فأخلفهم حلك الظلام في عهد أبي بكر الّذي كثر فيه الخصام - قد وعى جميع الملابسات الّتي أحاطت بمسألة الخلافة. بدءاً من حديث الرزية ومقولة: «حسبنا كتاب الله» فكانت الصدمة الّتي لم ينسها طيلة حياته، وكان يعبّر عنها بالرزية كلّ الرزية، ويبكي حتى يبل دمعه الحصباء وقد مر بنا تفصيل ذلك. وها هو اليوم في عهد أبي بكر يسمع البيان الخليفي بمنع الحديث عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وطرح مقولة مشابهة لما مرّ وهي قولوا: «بيننا وبينكم كتاب الله» ولئن تمّ هذا فيعني الحصار التام على السنّة النبوية في أطار ما يراه الحاكم. فلابدّ من مواجهة لتلك المعضلة، وهذا ما قام به حبر الأمة بكل جرأة فلنقرأ البيان الخليفي أولاً ثم نقرأ ما قام به هذا الحبر. وبالتالي استبعاد الحديث الّذي عند أهل البيت.

روى الذهبي في تذكرة الحفاظ فقال: «ومن مراسيل ابن أبي ملكية أن الصدّيق جمع الناس بعد وفاة نبيّهم فقال: إنّكم تحدّثون عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أحاديث تختلفون فيها والناس بعدكم أشدّ اختلافاً، فلا تحدّثوا عن رسول الله شيئاً، فمن سألكم فقولوا بيننا وبينكم كتاب الله فاستحلوا حلاله وحرّموا حرامه... أهـ»(1).

____________

(1) تذكرة الحفاظ 1/2 - 3.


الصفحة 46
ثم قال الذهبي: فهذا المرسل يدلّك انّ مراد الصدّيق التثبت في الأخبار والتحرّي، لا سدّ باب الرواية.

ونقول له ولغيره من علماء التبرير: النص المنقول لا يحتمل التأويل (فلا تحدثوا عن رسول الله شيئاً فمن سألكم فقولوا بيننا وبينكم كتاب الله) هذا ما قاله أبو بكر للمسلمين بعد وفاة نبيّهم!

فلنقرأ ما قام به ابن عباس لردّ عادية الحصار:

فقد أخرج ابن سعد في طبقاته وفي ترجمة ابن عباس(1) خبراً بسند قال عنه السلمي: «إسناده صحيح» والخبر عن ابن عباس قال: «لمّا قبض رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم قلت لرجل من الأنصار هلمّ فلنسأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم إنهم اليوم كثير، فقال: واعجباً لك يا بن عباس أترى الناس يفتقرون إليك وفي الناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم من فيهم؟

قال فتركت الرجل ذاك، وأقبلت أسأل أصحاب رسول ألله صلى الله عليه (وآله) وسلم عن الحديث، فإن كان ليبلغني الحديث عن الرجل فآتي بابه وهو قائل(2) فأتوسّد ردائي على بابه تسفي الريح عليّ من التراب، فيخرج فيراني فيقول يا بن عم رسول الله ما جاء بك ألاّ أرسلت إليّ فآتيك.

فأقول: لا أنا أحق أن آتيك، فأسأله عن الحديث.

فعاش ذلك الرجل الأنصاري حتى رآني وقد اجتمع الناس حولي يسألوني، فيقول: هذا الفتى كان أعقل مني»(3).

____________

(1) طبقات ابن سعد 1/137 تح ـ محمّد حامد السُلمي الطبعة الخامسة.

(2) في المعرفة والتاريخ للفسوي 1/541: كان ابن عباس يقول لأخ له من الأنصار اذهب بنا إلى أصحابه... وقائل يعني نائم القيلولة.

(3) طبقات ابن سعد 2 ق 2/121 ط ليدن.


الصفحة 47
وهذا الخبر قبل التعليق عليه ننبّه القارئ إلى أنّه رواه كلّ من أحمد بن حنبل(1)، والفسوي(2)، والحاكم(3) وصححه على شرط الشيخين، وأقره الذهبي في التلخيص، ورواه الهيثمي(4) وقال رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح، والطبراني(5)، والدارمي(6)، والذهبي(7). وغيرهم وغيرهم. فهذا الخبر عنه مرويّ لاشك فيه.

والآن إلى قراءة متأنية في جملاته لنعرف مغزى ذلك منه:

1- تصريحه بأن بداية نشاطه في طلب الحديث كانت بعدما قبض رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وهذا يعني انّه نشط متزامناً مع منع البيان الخليفي من التحديث، فهل يعني ذلك منه عملية تحدٍ وخوف ضياع الحديث لو كمّت الأفواه خوفاً. فنشط لجمع ما يمكنه جمعه؟ ولم لا يكون ذلك كذلك.

2- محاورته الرجل الأنصاري ليشاركه في طلب الحديث وسماعه من أصحاب رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ولابد أن يكون ذلك الرجل من أسنانه من صغار الصحابة(8) فدعاه لما يحييه فأبى عليه ساخراً، فلماذا دعاه؟ ألمجرّد الطلب فحسب؟ أم أنه أراده شريكاً في السماع ليكون معه شاهداً على ذلك في المستقبل المجهول وغير المنظور لو دعت الحاجة إلى الإستشهاد به؟

____________

(1) فضائل الصحابة / رقم 1925.

(2) المعرفة والتاريخ 1/542.

(3) مستدرك الحاكم 3/538.

(4) مجمع الزوائد 9/277.

(5) المعجم الكبير 10/244 ط الثانية بالموصل.

(6) سنن الدارمي 1/141.

(7) سير أعلام النبلاء 4/ 446.

(8) جاء في المعرفة للفسوي 1/541: كان ابن عباس يقول لأخ له من الأنصار: اذهب بنا إلى أصحاب رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ...


الصفحة 48
3- إصراره على المضي في عزمه الّذي لم يثبطه تواني الرجل الأنصاري ولا سخريته، فأقبل وحده يستقريء من أصحاب رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ممن يبلغه عنه الحديث فيأتي بابه، ويتوسد رداءه حتى يخرج إليه، فهل كانت تلك العملية مجرد طلب حديث عند ذلك الصحابي، ومجرّد أدب من ابن عباس فلم يزعجه ويخرجه بل يتوسد رداءه وتسفي عليه الريح بالتراب؟ إنها لسذاجة في التفسير، واستغفال في التفكير، فهو وإن نمّ فعله عن أدب جم وتواضع للعلم، ولكنه لا يخلو من وسيلة إعلامية نقدية للبيان الخليفي المانع من التحديث، فمن يراه على باب الصحابي بتلك الصفة يثير تساءله ماذا يصنع هنا؟ ويكون الجواب: لاشك إنه جاء يطلب الحديث عند صاحب الدار، كيف هذا والخليفة قد جمع الناس ومنعهم من التحديث! إذن فابن عباس وهو في سنّه الفتيّة، وألمعيته الغنيّة قام بدور مناهض للسلطة من دون أن يثير حوله الشكوك المريبة: وهذا منه عمل يستحق الإمعان فيه.

وليس من المرجوّ للباحث في تاريخ تلك الحقبة أن يجد الشيء الكثير ممّا يخص عبد الله بن عباس حبر الأمة خصوصاً وهو بعد في سنّ الشباب الفتية وثمة من أهل بيته من هم أكبر سناً وأكثر فضلاً وشأناً مثل الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) ومثل أبيه العباس بن عبد المطلب الشخصية الثانية بعد الإمام المنظور إليه في أسرته. وهم جميعاً من المعارضة الّتي نقمت تولية أبي بكر ولم تبايعه إلاّ بعد موت السيدة فاطمة (عليها السلام).

وإذا عرّفنا التاريخ أن ثمة نفثات لبعض بني هاشم أعلنوا فيها سخطهم كما مر عن الإمام عليّ (عليه السلام) وعن العباس فليس يعني ذلك أن نجد الكثير لابن عباس وهو في سنّه ممّا يظهر شخصيته، ويثبت لنا استقلاله وذاتيته في ذلك ويكفي أنا

الصفحة 49
عرفنا كما سبق أنّه كان من أبناء العباس الذين لم يبايعوا إلاّ بعد أن بايع أبوهم العباس، وأبوهم العباس لم يبايع إلاّ بعد أن بايع الإمام (عليه السلام)، والإمام لم يبايع إلاّ بعد موت الصديقة فاطمة (عليها السلام)، وبعد أن انصرفت وجوه الناس عنه(1).

إذن ليس من عجب إذا لم نجد لابن عباس كثيراً ممّا يخصه حول تلك الحوادث سوى ما هو معلوم وثابت لسائر أبناء الهاشميين من إتـّباعهم لآبائهم في آرائهم حول الخليفة والخلافة والتي كانت تحظى بتوجيه أو مباركة من الإمام (عليه السلام)، وما نجده لغيره من أولئك الأبناء في بعض المواقف ما يظهر ذاتيتهم الشخصية المستقلّة، كما يروى عن موقف لأخيه الفضل بن العباس حين خرج إلى المسجد بعد بيعة السقيفة وقال: «يا معشر قريش انّه ما حقت لكم الخلافة بالتمويه، ونحن أهلها دونكم، وصاحبنا أولى بها منكم». فهو لم يكن ليتكلم لو لم يأذن له الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)، وكذلك جميع بني هاشم لم يكونوا يتكلمون إلاّ بأمره، ويسكتون عند نهيه.

وإليك ما يؤكد ذلك:

فقد روى الزبير بن بكار عن ابن إسحاق انّ أبا بكر لمّا بويع افتخرت تيم ابن مرة، قال: وكان عامة المهاجرين وجلّ الأنصار لا يشكون انّ عليّاً هو صاحب

____________

(1) روى البخاري ومسلم في صحيحهما عن الزهري عن عروة بن الزبير عن عائشة ـ حديث مطالبة فاطمة الزهراء (عليها السلام) لأبي بكر بميراثها من رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ، إلى أن قالت عائشة: فأبى أبو بكر أن يدفع إلى فاطمة منها شيئاً، فوجدت فاطمة على أبي بكر في ذلك، فهجرته ولم تكلّمه حتى توفيت وعاشت بعد النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ستة أشهر، فلمّا توفيت دفنها زوجها عليّ ليلا ولم يؤذن بها أبا بكر وصلى عليها وكان لعلي من الناس وجه حياة فاطمة، فلمّا توفيت أستنكر عليّ وجوه الناس فالتمس مصالحة أبي بكر ومبايعته... وروى ذلك ابن الديبع الشيباني في تيسير الوصول إلى جامع الأصول 2/55 عن الشيخين وفيه فقال رجل للزهري فلم يبايعه عليّ ستة أشهر؟ فقال: والله ولا أحد من بني هاشم.


الصفحة 50
الأمر بعد رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فقال الفضل بن العباس: يامعشر قريش وخصوصاً يا بني تيم انكم إنّما أخذتم الخلافة بالنبوة ونحن أهلها دونكم، ولو طلبنا هذا الأمر الّذي نحن أهله لكانت كراهية الناس أعظم من كراهتهم لغيرنا، حسداً منهم لنا وحقداً علينا، وانا لنعلم انّ عند صاحبنا عهداً هو ينتهي إليه.

وقال بعض ولد أبي لهب بن عبد المطلب شعراً:


ما كنت احسب أنّ الأمر منصرفعن هاشم ثم منها عن أبي حسن
أليس أول من صلّى لقبلتكموأعلم الناس بالقرآن والسنن
وأقرب الناس عهداً بالنبيّ ومَنجبريل عون له في الغسل والكفن
من فيه ما فيهم لا يمترون بهوليس في القوم ما فيه من الحَسَن
ماذا الذي ردّهم عنه فنعلمهها ان ذا غبن من أعظم الَََغَبن

قال الزبير: فبعث إليه عليّ فنهاه وأمره ان لا يعود وقال: سلامة الدين أحب إلينا(1).

وروى الزبير أيضاً حديث الفتنة الّتي ألقحها عمرو بن العاص بين المهاجرين والأنصار حين نال من الأنصار في المسجد وأفحش القول، ثم رأى الفضل بن العباس فندم على ما قال للخؤولة الّتي بين ولد عبد المطلب وبين الأنصار، ولأنّ الأنصار كانت تعظم عليّاً وتهتف بإسمه حينئذٍ، فقال الفضل: يا عمرو انه ليس لنا أن نكتم ماسمعنا منك، وليس لنا أن نجيبك وأبو الحسن شاهد بالمدينة، إلاّ أن يأمرنا فنفعل(2).

____________

(1) أنظر شرح النهج لابن أبي الحديد 2/8 - 9.

(2) نفس المصدر 2/14، والموفقيات/595- 598.


الصفحة 51
وروى الزبير أيضاً قال: وقال عليّ للفضل يا فضل انصر الأنصار بلسانك ويدك، فإنّهم منك وإنّك منهم، ثم ذكر أشعاراً في مدحهم قالها الفضل، أعجزت حسان بن ثابت أن يتحرى قوافيه فقال وقد طلبوا منه أن يمدح بني هاشم رداً للإحسان: كيف أصنع بجوابه إن لم أتحرّ قوافيه فضحني فرويداً حتى أقفوا أثره في القوافي(1).

وعلى ضوء هذا النمط من الالتزام، وعدم جواز الكلام، إلاّ بموافقة من الإمام. يمكننا تفسير ما نجده عن حبر الأمة عبد الله بن عباس (رضي الله عنهما) من حضور منظور، ومقام ٍ له فيه مقال، ورأي تستتبعه فعال.

وهذا كما يدل على أنّ لعبد الله بن عباس (رضي الله عنهما) كانت مواقف مشهودة وان كانت محدودة فهو يدل على قوة شخصية ذلك الغلام، في ثبات جنانه وقوة إيمانه، ممّا ميّزه على الكثير ممن هم اكبر منه سناً من سائر الصحابة، ويكشف عن جرأة في إسماع كلمة الحق مع ما أوتي من فهم وعلم.

وهلمّ فأقـرأ مـا رواه كـل مـن ابن دريـد(2)، والمـقـري الكبيـر(3)، والـفتـوني العـامـلـي(4)، وابـن شـاذان(5)، والديلمي(6)، والبياضي(7)، والمجلسي(8)، وابن بابويه(9)، والعاصمي(10).

____________

(1) نفس المصدر.

(2) المجتنى /35 ط حيدر اباد.

(3) نفح الطيب 7/212 ط مصر نقلاً عن محاضرات المقري الكبير.

(4) ضياء العالمين للفتوني (نسخة مصورة) بمكتبتي.

(5) الفضائل /122 ط حجرية.

(6) إرشاد القلوب 2/118 ط النجف.

(7) الصراط المستقيم 2/14 مط الحيدري بايران.

(8) بحار الأنوار 8/191 ط الكمباني حجرية?

(9) التوحيد /385 ط الحجرية سنة 1321 بسنده عن الإمام الحسين (عليه السلام) .

(10) زين الفتى للعاصمي بمكتبة المرحوم الشيخ الأميني (قدّس سرّه) .


الصفحة 52
واللفظ للأول برواية أنس بن مالك قال: «أقبل يهودي بعد وفاة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حتى دخل المسجد فقال: أين وصي رسول الله؟ فأشار القوم إلى أبي بكر، فوقف عليه فقال له أريد أن أسألك عن أشياء لا يعلمها إلاّ نبي أو وصي نبي؟

قال أبو بكر: سل عما بدا لك.

قال اليهودي: اخبرني عما ليس لله، وعما ليس عند الله، وعما لا يعلمه الله.

فقال أبو بكر: هذه مسائل الزنادقة يا يهودي، وهمّ أبو بكر والمسلمون (رضي الله عنهم) ? باليهودي.

فقال ابن عباس (رضي الله عنهما): ما أنصفتم الرجل.

فقال أبو بكر: أما سمعت ما تكلّم به؟

فقال ابن عباس: إن كان عندكم جوابه وإلا فاذهبوا به إلى عليّ (رضي الله عنه) يجيبه، فإنّي سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يقول لعليّ بن أبي طالب: اللّهم اهد قلبه، وثبّت لسانه.

قال: فقام أبو بكر ومن حضره حتى أتوا عليّ بن أبي طالب فاستأذنوا عليه. فقال أبو بكر: يا أبا الحسن إنّ هذا اليهودي سألني مسائل الزنادقة. فقال عليّ: ما تقول يا يهودي؟ قال أسألك عن أشياء لا يعلمها إلاّ نبيّ أو وصيّ نبيّ، فقال له: قل، فردّ اليهودي المسائل.

فقال عليّ (رضي الله عنه): أمّا ما لا يعلمه الله، فذلك قولكم يا معشر اليهود: إنّ العزير ابن الله، والله لا يعلم أنّ له ولداً. وأمّا قولك: اخبرني بما ليس عند الله، فليس عنده ظلم للعباد. وأمّا قولك: اخبرني بما ليس لله فليس له شريك.

فقال اليهودي: أشهد أن لا اله إلاّ الله، وأنّ محمداً رسول الله، وأنك وصي رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم). فقال أبو بكر والمسلمون لعليّ (عليه السلام): يا مفرّج الكرب».


الصفحة 53
وممّا يدل على نحو ما سبق أيضاً ما أخرجه الشيخ ابن بابويه الصدوق في كتابه الخصال(1)، والديلمي في الإرشاد(2) واللفظ لهما معاً وباسناد الأوّل عن ابن عباس قال: «قدم يهوديان أخوان من رؤساء اليهود بالمدينة فقالا: يا قوم إنّ نبينا حُدّثنا عنه انه يظهر نبي بتهامة يسفـّه احلام اليهود، ويطعن في دينهم، ونحن نخاف أن يزيلنا عما كان عليه آباؤنا، فأيكم هذا النبيّ؟ فإن يكن الّذي بشّر به داود آمنّا به وأتبعناه، وإن لم يكن وكان يورد الكلام على ائتلافه ويقول الشعر، ويقهرنا بلسانه، جاهدناه بأنفسنا وأموالنا، فأيكم هذا النبيّ؟

فقال المهاجرون والأنصار: إنّ نبيّنا (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قد قبض.

فقالا: الحمد لله، فأيكم وصيّه؟ فما بعث (عزّ وجلّ) نبيّاً إلى قوم إلاّ وله وصيّ يؤدي عنه من بعده، ويحكي عنه ما أمره ربّه.

فأومأ المهاجرون والانصار إلى أبي بكر فقالوا: هو وصيه.

فقالا لأبي بكر: إنا نلقي عليك من المسائل ما يلقى على الأوصياء، ونسألك عما تسأل الأوصياء عنه.

فقال لهما أبو بكر: ألقيا ما شئتما أخبركما بجوابه إن شاء الله.

فقال أحدهما: ما أنا وأنت عند الله (عزّ وجلّ)؟

وما نفس في نفس ليس بينهما رحم ولا قرابة؟

وما قبر سار بصاحبه؟

ومن أين تطلع الشمس وفي أين تغرب؟

وأين طلعت الشمس ثم لم تطلع فيه بعد ذلك؟

____________

(1) الخصال /560 باب الواحد إلى المائة ط الحيدرية.

(2) إرشاد القلوب 2/119 ط الحيدرية ط الاولى.