3- مروان بن الحكم، طريد رسول الله وابن طريده ولعينه وابن لعينه كما روت ذلك عائشة وقد مرّ آنفاً، زوّجه عثمان ابنته اُم أبان وأعطاه مائة ألف يوم أعطى أبا سفيان مائتي ألف وذلك كلّه من بيت المال. فجاء زيد بن أرقم صاحب بيت المال بالمفاتيح فوضعها بين يدي عثمان وبكى. فقال عثمان: أتبكي أن وصلت رحمي؟ قال: لا ولكن أبكي لأنّي أظنك أنّك أخذت هذا المال عوضاً عما كنت أنفقته في سبيل الله في حياة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والله لو أعطيت مروان مائة درهم لكان كثيراً. فقال: ألق المفاتيح يا بن أرقم فإنّا سنجد غيرك(2).
روى البلاذري بسنده عن خالد مولى أبان بن عثمان قال: «كان مروان قد ازدرع بالمدينة في خلافة عثمان على ثلاثين جملاً فكان يأمر بالنوى أن يشترى له فيُنادى: ان أمير المؤمنين يريده، وعثمان لايشعر بذلك، فدخل عليه طلحة وكلّمه في امر النوى فحلف أنّه لم يأمر بذلك، فقال طلحة: هذا أعجب أن يُفتات عليك بمثل هذا، فهلاّ صنعت كما صنع ابن حنتمة - يعني عمر بن الخطاب - خرج يرفأ بدرهم يشتري به لحماً فقال للـّحام: إنّي أريده لعمر. فبلغ ذلك عمر فأرسل إلى يرفأ فأتي به وقد برك عمر على ركبتيه وهو يفتل شاربه، فلم أزل أكلّمه فيه حتى سكّنته فقال له: والله لئن عُدت لأجعلنّك نكالاً، أتشتري السلعة ثمّ تقول هي لأمير المؤمنين؟»(3).
____________
(1) شرح النهج لابن أبي الحديد 1/67ط الأولى.
(2) نفس المصدر.
(3) أنساب الأشراف 1ق4/516.
قال أبو الفداء في تاريخه: «وأقطع مروان بن الحكم فدك وهي صدقة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الّتي طلبتها فاطمة ميراثاً فروى أبو بكر عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) نحن معاشر الانبياء لانورّث ماتركناه صدقة. ولم تزل فدك في يد مروان وبنيه إلى أن تولى عمر بن عبد العزيز فانتزعها من أهله وردّها صدقة»(2).
4- سعيد بن العاص، زوجه ابنته أم عمرو فهلكت عنده فتزوج اختها مريم الكبرى(3)، وأعطاه عثمان مائة الف درهم، فأنكر الناس ذلك عليه، فكلّمه عليّ والزبير وطلحة وسعد وعبد الرحمن بن عوف - وهم أهل الشورى - في ذلك، فقال: «إنّ له قرابة ورحماً، قالوا: أفما كان لأبي بكر وعمر قرابة وذو رحم؟ فقال: إنّ أبا بكر وعمر كانا يحتسبان في منع قرابتهما وأنا احتسب في إعطاء قرابتي، قالوا: فهديهما والله أحبّ إلينا من هديك. فقال: لا حول ولا قوة إلاّ بالله»(4) ثمّ ولاّه الكوفة بعد الوليد بن عقبة بن أبي معيط.
5- الحارث بن الحكم بن أبي العاص، صهر عثمان على ابنته عائشة، أعطاه ثلثمائة ألف درهم(5) وقدمت عليه إبل الصدقة فوهبها له(6)، وزاده بأن
____________
(1) أنظر تاريخ الطبري 5/50ط الحسينية بمصر و4/256ط محققة، وتاريخ ابن الأثير 3/38، وطبقات ابن سعد 3ق1/44، وأنساب الأشراف للبلاذري 1ق4/514 تح ـ إحسان عباس، وتاريخ ابن كثير 7/152ط السعادة بمصر، والنجوم الزاهرة ط ليدن 1/80 ط دار الكتب.
(2) تاريخ أبي الفداء 1/168، وقارن المعارف لابن قتيبة /195 ط محققة، والعقد الفريد ط محققة 4/283، وشرح النهج لابن أبي الحديد 1/67، وسنن البيهقي 6/301.
(3) أنساب الأشراف 1ق4/601.
(4) نفس المصدر 1ق4/515.
(5) نفس المصدر1ق4/541.
(6) نفس المصدر 1ق4/515.
قال الحلبي في سيرته: «اعطى الحارث عشر مايباع في السوق»(2).
6- عبد الله بن خالد بن أسيد، طلب منه صلة فأعطاه أربعمائة ألف درهم(3) وزوجه ابنته أم سعيد وأمر له بستمائة ألف درهم وكتب إلى عبد الله بن عامر أن يدفعها إليه من بيت مال البصرة(4)، وقدم عليه مرة وناس غزاة معه فأمر لعبد الله بثلثمائة ألف درهم، ولكل رجل من القوم بمائة ألف درهم، وصكّ بذلك إلى ابن أرقم - خازن بيت المال - فاستكثره ورد الصكّ له - ويقال انّه سأل عثمان أن يكتب عليه به ذكر حقّ فأبى ذلك - فامتنع ابن الأرقم من أن يدفع المال إلى القوم، فقال له عثمان إنما أنت خازن لنا فما حملك على ما فعلت؟ فقال ابن الأرقم: كنت أراني خازناً للمسلمين، وإنما خازنك غلامك والله لا ألي لك بيت المال أبداً، وجاء بالمفاتيح فعلـّقها على المنبر - ويقال بل ألقاها إلى عثمان - فدفعها عثمان إلى نافل مولاه، ثمّ ولى زيد بن ثابت الأنصاري بيت المال وأعطاه المفاتيح - ويقال: انّه ولى بيت المال معيقيب بن أبي فاطمة - وبعث إلى عبد الله ابن الأرقم ثلاثمائة ألف درهم فلم يقبلها(5)، وقال - فيما رواه الواقدي -: ما لي إليه حاجة، وما عملت لأن يثيبني عثمان، والله لئن كان هذا من مال المسلمين ما
____________
(1) المعارف لابن قتيبة /195 ط محققة، والعقد الفريد4/283 ط محققة، شرح النهج لابن أبي الحديد 1/67 ط الاولى، ومحاضرات الراغب 2/212.
(2) السيرة الحلبية 2/82.
(3) المعارف لابن قتيبة /195 ط محققة.
(4) تاريخ اليعقوبي 2/145ط النجف.
(5) انساب الاشراف 1ق4/548 تح ـ احسان عباس.
7- عبد الله بن سعد بن أبي سرح - أخوه من الرضاعة - المرتدّ عن الإسلام وقد أهدر رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) دمه يوم فتح مكة وان وجد متعلقاً بأستار الكعبة، فغيبّه عثمان عنده ثمّ أتى به النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) مستأمناً له، فصمت (صلّى الله عليه وآله وسلّم) طويلاً رجاء أن يقوم إليه من المسلمين من يقتله(2).
فهذا المرتد أعطاه عثمان جميع ما أفاء الله عليه من فتح أفريقية بالمغرب وهي من طرابلس الغرب إلى طنجة من غير أن يشركه فيه أحدٌ من المسلمين كما يقول ابن أبي الحديد المعتزلي(3). قال ابن الأثير: «أعطى عبد الله خمس الغزوة الأولى وأعطى مروان خمس الغزوة الثانية الّتي افتتحت فيها جميع أفريقية»(4).
لئن كان هؤلاء هم القرابة المحظيين بالعطاء والاقطاع فدع عنك حديث الآخرين من بني أمية الذين تملكوا البلاد فساسوا العباد فأكثروا فيها الفساد، أمثال معاوية وعبدالله بن عامر ويعلى بن أمية وعبد الله بن سعد بن أبي سرح وأضرابهم ممن هدموا بناء الإسلام، وبثوا التفرقة بين المسلمين فمزّقوا وحدتهم بسوء أعمالهم، إذ كانوا يحكمون الناس كأمويين حاقدين على الإسلام ونبيّه، فهيّج ذلك حقد الصدور، وهيّأ أسباب الثورة على عثمان، ثمّ هم لم يغنوا عنه شيئاً في حياته، بل استغلّوا دمه وقميصه بعد وفاته.
____________
(1) أنظر الاستيعاب والإصابة في ترجمة عبد الله بن الأرقم.
(2) اُنظر سنن أبي داود 2/220، ومستدرك الحاكم 3/100، وتفسير القرطبي 7/40، وتفسير الشوكاني 2/1134، والاستيعاب والاصابة واُسد الغابة في ترجمته.
(3) شرح النهج لاين أبي الحديد 1/67.
(4) تاريخ ابن الأثير 3/38.
روى الذهبي في سير أعلام النبلاء نقلاً عن ابن سعد بأسانيده الثلاثة إلى المسور بن مخرمة وابن الزبير وابن عباس قالوا: «بعث عثمان المسور بن مخرمة إلى معاوية يُعلمه أنّه محصور، ويأمره أن يجهّز إليه جيشاً سريعاً، فلمّا قدم على معاوية، ركب معاوية لوقته هو ومسلم بن عتبة وابن حديج فساروا من دمشق إلى عثمان عشراً. فدخل معاوية نصف الليل، وقبّل رأس عثمان فقال: أين الجيش؟ قال: ماجئت إلاّ في ثلاثة رهط. فقال عثمان: لا وصل الله رحمك، ولا أعزّ نصرك، ولا جزاك خيراً، فوالله لا أقتل إلاّ فيك، ولا ينقم عليَّ إلاّ من أجلك. فقال: بأبي أنت وأمي لو بعثت إليك جيشاً فسمعوا به عاجلوك فقتلوك. ولكن معي نجائب فاخرج معي فما يشعر بي أحد، فوالله ما هي إلاّ ثلاث حتى نرى معالم الشام، فقال: بئس ما أشرت به، وأبى أن يجيبه. فأسرع معاوية راجعاً. وورد المسور يريد المدينة بذي المروة راجعاً وقدم على عثمان وهو ذامّ لمعاوية غير عاذرٍ له. فلمّا كان حصره الآخر، بعث المسور ثانياً إلى معاوية ليُنجده. فقال: ان عثمان أحسن أحسن الله به، ثمّ غيّر فغيّر الله به، فشددت عليه. فقال: تركتم عثمان حتى إذا كانت نفسه في حنجرته قلتم: اذهب فادفع عنه الموت. وليس ذلك بيدي، ثمّ انزلني في مشربة على رأسه، فما دخل عليّ داخل حتى قتل عثمان»(1).
____________
(1) سير أعلام النبلاء 1- 2/606 ط دار الفكر.
ولقد صدق فيهم قول رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «إنّ فساد اُمتي على يدي غلمة سفهاء من قريش» كما أخرجه البخاري في صحيحه كتاب الفتن باب قول النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (هلاك أمتي على يدي أغيلمة سفهاء)(2).
وصدق ظنّ عمر بعثمان حين قال لابن عباس: «لو وليها عثمان لحمل بني أبي معيط على رقاب الناس ولو فعلها لقتلوه»(3).
وقال طه حسين في الفتنة الكبرى: «والسياسة المالية الّتي اصطنعها عثمان منذ نهض بالخلافة كلّها موضوع النقمة والإنكار من أكثر الذين عاصروا عثمان ومن أكثر الرواة والمؤرخين.
وقال أيضاً: وكذلك دفعت سياسة عثمان المالية هؤلاء الثائرين إلى أن يلحّوا على عثمان في تغيير سياسة عمر نفسها، وما دام عثمان قد ذهب إلى سياسة تنحرف عن سياسة عمر حتى أبعد، وأنشأ طبقة الرأسماليين الذين أسرفوا على أنفسهم في الملك والتوسّع فيه. فليس ما يمنع الثائرين من أن يكفـّوا يد عثمان وعماله عن هذه السياسة وإن اقتضى ذلك الانحراف عن سيرة عمر...
وقال أيضاً: ولو قد سار عثمان في الأموال العامة سيرة عمر فلم ينفق المال إلاّ بحقـّه، لجنـّب نفسه وجنـّب المسلمين شراً عظيماً، ولكان من الممكن أن
____________
(1) مسند أحمد 1/62 ط الاُولى و 1/217 برقم 439 تح ـ أحمد شاكر.
(2) صحيح البخاري 9/46 ط بولاق.
(3) أنساب الأشراف 1ق4/502 تح ـ إحسان عباس.
أقول: وهذا فيما يراه طه حسين ويراه غيره من بني قومه، ولكن الرأي الآخر يقول:
ولو قلّدوا الموصَى إليه أمورهم | لزُمّت بمأمون عن العثرات |
معرفة الساخطين:
تبادل السخط بين الصحابة وبين عثمان:
روى البلاذري بسنده عن سعيد بن المسيّب قال: «لمّا ولي عثمان كره ولايته نفرٌ من أصحاب رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لأن عثمان كان يحب قومه، فولي الناس اثنتي عشرة حجة، وكان كثيراً ما يولي من بني أمية من لم يكن له مع النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) صحبة، فكان يجيء من أمرائه ما ينكره أصحاب محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وكان يُستعتب فيهم فلا يعزلهم، فلمّا كان في الست الأواخر استأثر ببني عمه فولاّهم، وولي عبد الله ابن أبي سرح مصر فمكث عليها سنين فجاء أهل مصر يشكونه ويتظلمون منه، وقد كانت من عثمان قبلُ هنات إلى عبد الله بن مسعود وأبي ذر وعمار بن ياسر فكان في قلوب هذيل وبني زهرة وبني غفار وأحلافها من غضب لأبي ذر ما فيها. وحنقت بنو مخزوم لحال عمّار بن ياسر.
فلمّا جاء أهل مصر يشكون ابن أبي سرح كتب إليه كتاباً يتهدده فيه، فأبى أن ينزع عما نهاه عثمان عنه، وضرب بعض من كان شكاه الى عثمان من أهل مصر حتى قتله. فخرج سبعمائة إلى المدينة فنزلوا المسجد وشكوا ماصنع بهم
____________
(1) الفتنة الكبرى 1/190و 197.
ودخل عليه عليّ بن أبي طالب. وكان متكلم القوم. فقالوا إنما يسألك القوم رجلاً مكان رجل، وقد ادعوا قبله دماً فاعزله عنهم واقض بينهم، فإن وجب عليه حقّ فأنصفهم منه.
فقال لهم: اختاروا رجلاً أولـّيه عليكم مكانه، فأشار الناس عليهم بمحمّد بن أبي بكر الصدّيق، فقالوا: استعمل علينا محمّد بن أبي بكر، فكتب عهده على مصر ووجّه معهم عدة من المهاجرين والأنصار ينظرون فيما بينهم وبين ابن أبي سرح»(1).
وقبل الإنسياق مع مداليل النص، لابدّ من تعريف القارئ بصاحبه لطمأنته بوثاقته في حديثه عند العثمانيين فهو سعيد بن المسيّب من أعيان التابعين، وكان صهراً لأبي هريرة الّذي كان مع عثمان ويحدّث عن دوره في الدفاع عنه، وسيأتي مزيد بيان عن ذلك، ومهما شككننا في مبلغ صدق أبي هريرة، فلا شك في صدق صهره سعيد بن المسيّب فهو أشد ورعاً منه، وبالتالي فغير متهم في قوله على عثمان.
ونعود إلى فحوى مقاله: «فثمّ نفر من الصحابة كرهوا ولاية عثمان، لأنّه كان يحب قومه...» أمّا مَن هم أولئك النفر؟ فلم يفصح عنهم، لماذا؟ ولا يعسر على الباحث والقارئ التعرّف عليهم من خلال الأسماء الذين ذكرهم.
فمنهم ابن مسعود وأبو ذر وعمار. واضطغنت على عثمان عشائر هؤلاء النفر وهم من عليّة الصحابة. ومنهم طلحة ومنهم عائشة. وهما من قبيلة تيم.
____________
(1) أنساب الأشراف 1ق4/512.
فهذه أسماء ستة نفر من أصحاب محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عرفناها وفيهم من كره ولاية عثمان أوّلاً وأخيراً، كعليّ وعمّار وأبي ذر ومنهم من كرهها أخيراً كابن مسعود وطلحة وعائشة، سوى من كان في السبعمائة من أهل مصر من الصحابة. فكل هؤلاء من الساخطين.
ولنكتف بمعرفة مواقف هؤلاء عن معرفة سائر الناس الآخرين الذين ذكرهم ابن المسيب من دون تسمية. ونذكرهم حسب ماذكرهم ابن المسيب في الترتيب:
1ـ عبد الله بن مسعود (رضي الله عنه):
الّذي قال فيه (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (رضيت لأمتي مارضي الله لها وابن أم عبد وسخطت لأمتي ماسخط الله لها وابن اُم عبد)(1)، وفيه وفي عمّار وسلمان نزل قوله تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ}(2).
روى البلاذري في حديثه عن أبي مخنف بإسناده قال: «لمّا قدم الوليد الكوفة ألفى ابن مسعود على بيت المال فاستقرضه مالاً - وقد كانت الولاة تفعل ذلك ثمّ تردّ ما تأخذ - فأقرضه عبد الله ماسأله، ثمّ انّه اقتضاه إياه فكتب الوليد في ذلك إلى عثمان، فكتب عثمان إلى عبد الله بن مسعود: إنّما أنت خازنٌ لنا فلا تعرض للوليد فيما أخذ من المال. فطرح ابن مسعود المفاتيح وقال: كنت أظنّ
____________
(1) مستدرك الحاكم 3/317 - 318، مجمع الزوائد 9/290، الاستيعاب 1/371.
(2) راجع تفاسير الخازن والألوسي والسيوطي وغيرها.
وروى أيضاً في حديثه عن أبي مخنف وعوانة بإسنادهما: «أنّ عبد الله بن مسعود حين القى مفاتيح المال الى الوليد بن عقبة قال: من غيّر غيّر الله ما به، ومن بدّل أسخط الله عليه، وما أرى صاحبكم إلاّ وقد غيّر وبدّل، أيعزل مثل سعد ابن أبي وقاص ويُولي الوليد؟».
وكان يتكلم بكلام لا يدعه وهو: «إن أصدق القول كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمّد صلّى الله عليه (وآله) وسلّم وشرّ الأمور مُحدثاتها، وكلّ مُحدَث بدعة، وكلّ بدعة ضلالة، وكلّ ضلالة في النار».
فكتب الوليد إلى عثمان بذلك وقال: إنّه يعيبك ويطعن عليك، فكتب إليه عثمان يأمره بإشخاصه، وشيّعه أهل الكوفة، فأوصاهم بتقوى الله ولزوم القرآن. فقالوا له: جزيت خيراً، فلقد علـّمتَ جاهلنا، وثبتَّ عالمنا، وأقرأتنا القرآن، وفقهتَنا في الدين، فنعم أخو الإسلام أنت، ونعم الخليل، ثمّ ودّعوه وانصرفوا.
وقدم ابن مسعود المدينة وعثمان يخطب على منبر رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم، فلمّا رآه قال: ألا إنّه قدمت عليكم دُويّبة سوء، من تمشِ على طعامه يقيء ويسلح.
فقال ابن مسعود: لستُ كذلك، ولكني صاحب رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم يوم بدر ويوم بيعة الرضوان(2).
____________
(1) أنساب الاشراف 1ق4/518 تح ـ إحسان عباس، وفي تاريخ الطبري 4/251 - 252 ذكر نحو ذلك بين ابن مسعود وسعد بن أبي وقاص فكان ذلك سبب عزل سعد عن الكوفة وتوليته أخاه الوليد. فراجع.
(2) وهذا تعيير مبطـّن لعثمان إذ كان لم يحضرهما فكان يعاني منهما عقدة النقص حيث كان يعيّر بذلك وسيأتي تعيير عبد الرحمن بن عوف له بذلك أيضا.
ثمّ أمر عثمان به فأخرج من المسجد إخراجاً عنيفاً، وضرب به عبد الله بن زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى بن قصيّ الأرض، ويقال: بل احتمله يحموم غلام عثمان، ورجلاه تختلفان على عنقه حتى ضرب به الأرض فدق ضلعه.
فقال عليّ: ياعثمان أتفعل هذا بصاحب رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم بقول الوليد بن عقبة؟
فقال: ما بقول الوليد فعلتُ هذا، ولكن وجّهت زبيد بن الصلت الكندي إلى الكوفة. فقال له ابن مسعود: إن دم عثمان حلال.
فقال عليّ: أحلتَ من زبيد على غير ثقة (وقال ابن الكلبي: زبيد بن الصلت أخو كثير بن الصلت الكندي)(1).
وقام عليّ بأمر ابن مسعود حتى أتى به منزله، فأقام ابن مسعود بالمدينة لا يأذن له عثمان في الخروج منها الى ناحية من النواحي، وأراد حين برئ الغزو فمنعه من ذلك. وقال له مروان: انّ ابن مسعود أفسد عليك العراق أفتريد أن يفسد عليك الشام؟ فلم يبرح المدينة حتى توفي قبل مقتل عثمان بسنتين. وكان مقيماً بالمدينة ثلاث سنين، وقال قوم: إنّه كان نازلاً على سعد بن أبي وقاص.
ولمّا مرض ابن مسعود مرضه الّذي مات فيه أتاه عثمان عائداً فقال: ما تشتكي؟ قال: ذنوبي قال: فما تشتهي؟ قال: رحمة ربي، قال: ألا أدعو لك طبيباً؟
____________
(1) أحسب أن البلاذري أدرج كلام ابن الكلبي ليعرّف القرّاء بزبيد وانه أخو كثير بن الصلت الّذي كان كاتباً لعبد الملك بن مروان (تهذيب التهذيب ترجمته).
وأوصى أن لا يصلي عليه عثمان، فدفن بالبقيع وعثمان لا يعلم. فلمّا علم غضب وقال: سبقتموني به. فقال له عمّار بن ياسر: إنّه أوصى أن لا تصلي عليه. وقال الزبير:
لأعرفنّك بعد الموت تندبني | وفي حياتي ما زوّدتني زادي |
وكان الزبير وصي ابن مسعود في ماله وولده، وهو كلّم عثمان في عطائه بعد وفاته حتى أخرجه لولده. وأوصى ابن مسعود أن يصلي عليه عمّار بن ياسر.
قال البلاذري وقوم يزعمون: أنّ عمّاراً كان وصيّه. ووصية الزبير أثبت...اهـ(1).
2ـ أبو ذر الغفاري (رضوان الله تعالى عليه):
رابع المسلمين وأوّل من حيا النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بتحية الإسلام فقال: «السلام عليك فقال: وعليك السلام»(2).
روى البلاذري عن رجاله قالوا: «لمّا أعطى عثمان مروان بن الحكم ما أعطاه، وأعطى الحارث بن الحكم بن أبي العاص ثلثمائة ألف درهم، وأعطى زيد بن ثابت الأنصاري مائة ألف درهم، جعل أبو ذر يقول: بشـّر الكانزين
____________
(1) نفس المصدر.
(2) راجع طبقات ابن سعد 4ق1/161، وصحيح مسلم في المناقب، وحلية الأولياء 1/159، والاستيعاب 2/664 ط حيدر آباد.
فأغضب عثمان ذلك وأحفظه»(2).
قال اليعقوبي: «وبلغ عثمان أن أبا ذر يقعد في مجلس رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ويجتمع إليه الناس فيحدّث بما فيه الطعن عليه، وأنه وقف بباب المسجد فقال: أيّها الناس من عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني فأنا أبو ذر الغفاري، أنا جندب ابن جنادة الربذي، {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}(3) محمّد الصفوة من نوح فالأوّل من إبراهيم، والسلالة من إسماعيل، والعترة الهادية من محمّد، إنّه شرف شريفهم واستحقوا الفضل في قوم هم فينا كالسماء المرفوعة، وكالكعبة المستورة، أو كالقبلة المنصوبة، أو كالشمس الضاحية أو كالقمر الساري، أو كالنجوم الهادية، أو كالشجرة الزيتونة أضاء زيتها وبورك زندها. ومحمّد وارث علم آدم وما فضّلت به النبيّون. وعليّ بن أبي طالب وصي محمّد ووارث علمه.
أيتها الاُمة المتحيّرة بعد نبيّها أما لو قدمتم من قدّم الله وأخرتم من أخّر الله، وأقررتم الولاية والوراثة في أهل بيت نبيكم لأكلتم من فوق رؤوسكم ومن تحت أقدامكم، ولمّا عال ولي الله ولاطاش سهم من فرائض الله، ولا اختلف
____________
(1) التوبة /34.
(2) أنساب الأشراف 1ق4/541.
(3) آل عمران/33.
قال البلاذري: «وقال عثمان يوماً: أيجوز للإمام أن يأخذ من المال فإذا أيسر قضى؟ فقال كعب الأحبار: لابأس بذلك فقال أبو ذر: يا بن اليهوديَين أتعلّمنا ديننا؟ فقال عثمان: ما أكثر أذاك لي وأولعك بأصحابي. إلحق بمكتبك. وكان مكتبه بالشام إلاّ انّه كان يقدم حاجاً ويسأل عثمان الإذن له في محاورة قبر رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فيأذن له في ذلك، وإنّما صار مكتبه بالشام لأنّه قال لعثمان حين رأى البناء قد بلغ سلعاً إنّي سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يقول: إذا بلغ البناء سلعاً فالهرب، فاذن لي آت الشام فأغزو هناك فأذن له.
وكان أبو ذر ينكر على معاوية أشياء يفعلها، وبعث إليه معاوية بثلثمائة دينار فقال: ان كانت من عطائي الّذي حرمتمونيه عامي هذا قبلتها، وان كانت صلة فلا حاجة لي فيها. وبعث إليه حبيب بن مسلمة الفهري بمائتي دينار فقال: أما وجدت أهون عليك مني حين تبعث إليَّ بمال؟ وردّها.
وبنى معاوية الخضراء بدمشق فقال يا معاوية إن كانت هذه الدار من مال الله فهي الخيانة وان كانت من مالك فهذا الإسراف، فسكت معاوية.
وكان أبو ذر يقول: والله لقد حدثت أعمال ماأعرفها، والله ماهي في كتاب الله ولاسنّة نبيّه، والله إنّي لأرى حقاً يطفأ، وباطلاً يُحيى، وصادقاً يكذَّب وإثرة بغير تـُقى، وصالحاً مستأثراً عليه»(3).
____________
(1) الشعراء /227.
(2) تاريخ اليعقوبي 2/148 ط الغري.
(3) أنساب الأشراف 1ق4/542.