الصفحة 327
وقال: «المشهور عند الناس أنّ جامع القرآن عثمان وليس كذلك، إنّما حمل عثمان الناس على القراءة بوجه واحد، على اختيار وقع بينه وبين من شهده من المهاجرين والأنصار لمّا خشي الفتنة عند اختلاف أهل العراق والشام في حروف القراآت، فأمّا قبل ذلك فقد كانت المصاحف بوجوه من القراآت المطلقات على الحروف السبعة الّتي أنزل بها القرآن...

ثمّ قال السيوطي: (فصل): الإجماع والنصوص المترافدة على أن ترتيب الآيات توقيفي لا شبهة في ذلك... أمّا الإجماع فنقله غير واحد منهم الزركشي في البرهان وأبو جعفر بن الزبير في مناسبه وعبارته: ترتيب الآيات في سورها واقع بتوقيفه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأمره من غير خلاف في هذا بين المسلمين...اهـ.

وسيأتي من نصوص العلماء ما يدل عليه. ثمّ قال: وأمّا النصوص فمنها... ومنها ما أخرجه...»(1). وذكر الحديث عن ابن عباس كما مرّ.

ويبدو فيما أظن أن الخبر لم يسلم من عبث الرواة، فقد ورد في آخره جواب عثمان، ولم يذكر فيه لابن عباس رأيه في الجواب مقتنعاً أو مفنّداً، وهذا هو مبعث الريبة والشك أوّلاً، وثانياً إنّ ترتيب السور إنّما ثبت بالتواتر، وثالثاً فإنّ ابن عباس سأل الإمام أمير المؤمنين فقال سألته لِمَ لم تكتب في براءة بسم الله الرحمن الرحيم؟ قال: لأنّها أمان، وبراءة نزلت بالسيف(2).

نعم لا شك أنّه كان لابن عباس مصحفه الخاصّ به، وفيه بعض القراءات الّتي تخالف قراءة عثمان كما في آية المتعة بالنساء حيث كان يقرأ {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنّ}(3) وهذه توافق قراءة ابن مسعود أيضاً كما يروى.

____________

(1) الاتقان للسيوطي 1/62 ط حجازي.

(2) نفس المصدر 1/67.

(3) النساء /24.


الصفحة 328
وسيأتي مزيد بيان عن ذلك في الحلقة الثالثة إن شاء الله تعالى. ومن تعجّل فعليه مراجعة كتاب المصاحف لابن أبي داود السجستاني(1).

2- تـحريـق المـصاحـف:

إنّ حرق عثمان للمصاحف الّتي كانت عند الناس أمر أثار السخط والنقمة عليه حتى عُدّ ذلك من جملة أسباب الثورة عليه حتى أودت بحياته. وقد كان حذيفة بن اليمان صاحب السرّ قد ذكر ذلك في نبوءة مستقبلية كما أخرج ابن أبي داود في كتاب المصاحف بسنده عن أبي البختري(2) قال: «قال حذيفة: أرأيتم لو حدثتكم أن أمّكم تخرج في فئة تقاتلكم أكنتم مصدّقي؟

قال: قلنا سبحان الله يا أبا عبد الله ولم تفعل؟

قال: أرأيتم لو قلت لكم تأخذون مصاحفكم فتحرقونها وتلقونها في الحشوش، أكنتم مصدّقي؟

قالوا: سبحان الله ولم نفعل؟

قال: أرأيتم لو حدثتكم أنكم تكسرون قبلتكم أكنتم مصدّقي؟

قالوا: سبحان الله ولم نفعل؟

قال: أرأيتم لو قلت لكم انّه يكون منكم قردة وخنازير أكنتم مصدّقي؟

قال رجل: يكون فينا قردة وخنازير؟

قال: وما يؤمنك لا أمّ لك»(3).

____________

(1) المصاحف /73.

(2) هو سعيد بن فيروز الطائي مولاهم الكوفي ذكره ابن حبان في الثقات وقال العجلي تابعة ثقة فيه تشيّع، ونقل ابن خلفون توثيقه عن ابن نمير، وقال أبو أحمد الحاكم في الكنى: ليس بالقوي عندهم كذا قال وهو سهو كما قاله ابن حجر في تهذيب التهذيب 4/73.

(3) المصاحف /17 ط أفست الرحمانية سنة 355 هـ -1936 تح ـ اثر جفري.


الصفحة 329
فهذا الخبر على ما فيه من نقد لاذع لفعلة التحريق وأفعال أخرى، فيه تحذير من فعل ذلك.

وليس من العجيب أن يقول ذلك حذيفة فقد كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أطلعه على أسماء المنافقين، وكان يقال له صاحب السرّ.

ولكن العجيب أن يكون حذيفة هو الّذي حدا بعثمان على جمع الناس على قراءة واحدة وحذّره مغبة الاختلاف في القراءات. ثمّ يكون عثمان هو الّذي أحرق المصاحف، فصدّق الخبَر.

وأعجب من ذلك ما رواه بن أبي داود في كتاب المصاحف: «قال ابن شهاب: ثمّ أخبرني أنس بن مالك الأنصاري إنّه إجتمع لغزوة أذربيجان وأرمينية أهل الشام وأهل العراق. قال: فتذكروا القرآن فاختلفوا فيه حتى كاد يكون بينهم فتنة، قال: فركب حذيفة بن اليمان لمّا رأى من اختلافهم في القرآن إلى عثمان فقال: انّ الناس قد اختلفوا في القرآن حتى والله لأخشى أن يصيبهم ما أصاب اليهود والنصارى من الاختلاف. قال: ففزع لذلك عثمان فزعاً شديداً، فأرسل إلى حفصة فاستخرج الصحيفة الّتي كان أبو بكر أمر زيداً بجمعها فنسخ منها مصاحف، فبعث بها إلى الآفاق.

فلمّا كان مروان أمير المدينة أرسل إلى حفصة يسألها عن الصحف ليحرقها وخشي أن يخالف بعض الكتـّاب بعضاً فمنعته إياها.

قال ابن شهاب فحدّثني سالم بن عبد الله قال: لمّا توفيت حفصة أرسل إلى عبد الله بعزيمة ليرسلنّ بها، فساعة رجعوا من جنازة حفصة أرسل بها عبد الله بن

الصفحة 330
عمر إلى مروان ففشاها وحرّقها مخافة أن يكون في شيء من ذلك اختلاف لما نسخ عثمان رحمه الله»(1).

فهذا الخبر دلّ على ان عثمان استحضر صحيفة أبي بكر... فنسخ منها مصاحف. ثمّ بعد ذلك طلبها مروان من حفصة فمنعته إياها، لماذا طلبها ليحرقها؟ وحقّ لها لو منعته ما دامت مصاحف الآفاق مأخوذة عنها. فلا معنى لإحراقها ثمّ لمّا ماتت أرسل مروان إلى ابن عمر بعزيمة (؟ وربّما معها ضميمة) فبادر ابن عمر ساعة رجعوا من دفنها فأرسل بها ففشاها مروان وأحرقها...

وهذا لا يعنينا تحقيقه والدوافع الّتي كانت وراء الأخذ والمنع. ولكن الّذي يعنينا هو أمر عثمان بإحراق المصاحف الأخرى، وقد كان بإمكانه تفادي النقمة، إمّا بدفنها، أو بإماثتها بالماء، إن لم يشأ الاحتفاظ بها كنصوص فيها لغات ولهجات يُرجع إليها عند الحاجة.

لكنه لم يصنع شيئاً من ذلك، فأثار النقمة عليه، وقد ندم - فيما يبدو - ولات حين مندم فقد ذكر البلاذري في أنساب الأشراف قال: «وروى أبو مخنف: إنّ المصريين وردوا المدينة فأحاطوا وغيرُهم بدارعثمان في المرة الأولى فأشرف عليهم عثمان فقال: أيها الناس ما الّذي نقمتم عليَّ فإنّي معتبكم ونازل عند محبتكم. فقالوا... أحرقت كتاب الله.

قال: اختلف الناس في القراءة فقال هذا: قرآني خير من قرآنك. وقال هذا: قرآني خير من قرآنك. وكان حذيفة أوّل من أنكر ذلك وأنهاه إليّ فجمعت الناس على القراءة الّتي كتبت بين يدي رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قالوا: فلم حرقت

____________

(1) نفس المصدر /21.


الصفحة 331
المصاحف؟ أما كان فيها ما يوافق هذه القراءة الّتي جمعت الناس عليها؟ أفهلاّ تركت المصاحف بحالها؟

قال: أردت أن لا يبقى إلاّ ما كتب بين يدي رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)... وأنا أستغفر الله...»(1)

قال طه حسين في كتابه الفتنة الكبرى: «وربما تحرّج بعض المسلمين من تحريق ما حرّق عثمان من الصُحف، ولم يقبلوا اعتذاره بحسم الفتنة وقطع الخلاف، ولو قد كانت الحضارة تقدمت بالمسلمين شيئاً لكان من الممكن أن يحتفظ عثمان بهذه الصحف الّتي حرّقها على أنها نصوص محفوظة لا تتاح للعامة، بل تكاد تتاح للخاصة، وانما هي صحف تحفظ ظناً بها على الضياع...

وإذا لم يكن على عثمان جناح فيما فعل لا من جهة الدين ولا من جهة السياسة، فقد يكون لنا أن نأسى لتحريق تلك الصحف، لأنه إن لم يكن قد أضاع على المسلمين شيئاً من دينهم فقد أضاع على العلماء والباحثين كثيراً من العلم بلغات العرب ولهجاتها...»(2).

وهكذا كانت مسألة حرق المصاحف ذات انتقاد من المسلمين قديماً وحديثاً.

قال المغفور له سيّدنا الأستاذ الخوئي (قدّس سرّه): «ولكن الأمر الّذي أنتقد عليه هو إحراقه لبقية المصاحف، وأمره أهالي الأمصار بإحراق ما عندهم من المصاحف، وقد اعترض على عثمان في ذلك جماعة من المسلمين، حتى سمّوه بحرّاق المصاحف»(3).

____________

(1) أنساب الأشراف 1ق4/ 551 تح ـ احسان عباس.

(2) الفتنة الكبرى /183 ط دار المعارف.

(3) البيان للسيد الخوئي /277 ط الثانية سنة 1385.


الصفحة 332
أقول: ولا شك أنّ ثمة مصاحف لبعض الصحابة بقيت عند أصحابها لم يستطع عثمان ولا ولاته من السيطرة عليها فهي لم تحرق، وأحسب انّ اختلاف القراءات إنّما نشأ من تلك المصاحف الّتي بقيت حتى تداول الرواة ما فيها، إمّا عن أصحابها مباشرة أو بالواسطة عنهم كما هو واضح في كتب القراءات. ومن أولئك كان الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) وعبد الله بن عباس وعبد الله بن مسعود وأبو موسى الأشعري وأبيّ بن كعب وأم سلمة وعائشة وحفصة. وفي مصاحفهن خاصة تفاوت في الصلاة الوسطى(1) وربّما آخرون غيرهم كلّ أولئك كانت عندهم مصاحف خاصة بهم، لماذا لم تصبها نار التحريق؟ فهل كانت العملية على نحو الانتقاء؟ وهذا غير مقبول. أم أنّ عثمان لم يقدر عليها؟ وهذا أيضاً غير مقبول ولا أقل في مصحف حفصة الّذي كان عنده برهة أيام الجمع ثمّ أعاده إليها كما يروون وفي مصحفها بعض ما يخالف ما بأيدي المسلمين اليوم.

3- توحيد القراءة:

كانت القراءة موحدّة على عهد الرسول الكريم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ولكن طرأ نحو من التغيير في الأداء عند بعض المسلمين تبعاً إلى لهجاتهم القبلية، وذلك على عهده، فنهى (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عن القراءة بغير ما أنزل عليه وعلـّمهم به، فعن الطبري بسنده عن عبد الله بن مسعود قال: «تمارينا في سورة من القرآن فقلنا: خمس وثلاثون أو ست وثلاثون قال: فأنطلقنا إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) - فوجدنا عليّاً يناجيه - قال فقلنا: إنما اختلفنا في القراءة قال: فاحمرّ وجه رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وقال: (إنّما هلك من كان قبلكم باختلافهم بينهم).

____________

(1) أنظر المصنف لعبد الرزاق 1/578 ـ 579.


الصفحة 333
قال: ثمّ أسرّ إلى عليّ شيئاً، فقال لنا عليّ: إنّ رسول الله يأمركم أن تقرأوا كما عُلـّمتم»(1).

وسيأتي بأوسع من هذا، وهو لا يدل إلاّ على وحدة التنزيل، وعدم جواز الاختلاف في القراءة وهذا يعني (أنّ القرآن واحد، نزل من عند الواحد، ولكن الاختلاف يجيء من قبل الرواة)، ورد ذلك عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام)(2).

وقد سأل الفضيل بن يسار أبا عبد الله (عليه السلام) فقال: «إنّ الناس يقولون: انّ القرآن نزل على سبعة أحرف: فقال أبو عبد الله (عليه السلام): كذبوا أعداء الله، ولكنه نزل على حرف واحد من عند الواحد»(3).

نعم لا شك أنّ عثمان قد جمع الناس على قراءة واحدة وجعلها هي قراءة الإمام وكتب بها المصاحف الإمام الّتي أرسل عنه نسخاً إلى البلدان، وأمر بإحراق المصاحف الأُخرى الّتي تخالف ذلك المصحف الإمام، ونهى عن القراءة بغير ما أمر، وقد مرّت كلمة الحارث المحاسبي في معنى جمع عثمان للقرآن، وانّه ليس كذلك، إنّما حمل عثمان الناس على القراءة بوجه واحد...

أقول: وهذا العمل من عثمان لم ينتقده عليه أحد من المسلمين، وذلك لأنّ الاختلاف في القراءة سيؤدي حتماً إلى الاختلاف بين المسلمين كما مرّ من حكاية عثمان قول: هذا قرآني خير من قرآنك، وقول: هذا قرآني خير من قرآنك

____________

(1) تفسير الطبري 1/12 ط مصر مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر سنة 1373 هـ و 1/23 ط دار المعارف.

(2) أُصول الكافي في كتاب فضل القرآن ـ باب النوادر، الرواية /12.

(3) نفس المصدر، الرواية /13.


الصفحة 334
وبالتالي إلى التنازع وربّما إلى تكفير بعضهم بعضاً. وهذا ما حذّر منه النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بقوله: (ألا لاترجعوا بعدي كفّاراً يضرب بعضكم رقاب بعض)(1).

وقد قال (صلّى الله عليه وآله وسلّم) - كما في حديث ابن مسعود -: «قال أقرأني رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) سورة من الثلاثين من آل حم - يعني الأحقاف - قال: وكانت السورة إذا كانت أكثر من ثلاثين آية سُميت الثلاثين.

قال: فرحت إلى المسجد، فإذا رجل يقرؤها على غير ما أقرأني فقلت: من أقرأك؟ فقال: رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال: فقلت لآخر: إقرأها، فقرأها على غير قراءتي وقراءة صاحبي، فانطلقت بهما إلى النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فقلت يا رسول الله إنّ هذين يخالفاني في القراءة، قال: فغضب وتمعّر وجهه وقال: (إنّما أهلك من كان قبلكم الاختلاف...).

قال: وقال زرّ: وعنده رجل قال فقال الرجل: إنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يأمركم أن يقرأ كلّ رجل منكم كما أقريء، (فإنّما أهلك من كان قبلكم الاختلاف)، قال: وقال عبد الله: فلا أدري أشيئاً أسرّه إليه رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أو علم ما في نفس رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، قال: والرجل هو عليّ بن أبي طالب»(2).

فهذا هو الخبر السابق أوّلاً غير أنّه أوسع تفصيلاً، يبقى علينا أن نعرف الوجه في تعدّد القراءات أو قل بتعبير أوضح وجه الاختلاف بين مصحف ابن عباس ومصحف (الإمام) الّذي جمع عثمان الناس على القراءة بما فيه. وهذا ما سنبحثه في الحلقة الثالثة إن شاء الله تعالى، وقد مرّ بنا في أيام عمر حديث دار

____________

(1) جمع الفوائد 2/446 نقلا عن أبي داود والنسائي عن ابن عمر مرفوعاً.

(2) مسند أحمد 6/35 برقم 3981 ط محققة، وقارن الطبري 1/23 ط محققة ومستدرك الحاكم 2/223/224.


الصفحة 335
بينه وبين ابن عباس حول سبب الاختلاف في الأمة وكتابها واحد، ونبيّها واحد، وقبلتها واحدة، فراجع تجد ذلك بسبب تعدد الآراء في القراءة.

ثالثاً: مواقف شرعية في الأحكام

1- تنبيه ابن عباس لعثمان على الحكم الشرعي فيمن وضعت حملها لستة أشهر.

ذكر ابن عبد البر في الاستيعاب في ترجمة الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) بعض أقضيته في الأحكام فقال: «وقال في المجنونة الّتي أمر برجمها، وفي الّتي وضعت لستة أشهر فأراد عمر رجمها، فقال له عليّ: إنّ الله تعالى يقول: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا}(1) الحديث. وقال له: إنّ الله رفع القلم عن المجنون الحديث، فكان عمر يقول: لولا عليّ لهلك عمر».

ثمّ قال ابن عبد البر: «وقد روي مثل هذه القصة لعثمان مع ابن عباس، وعن عليّ أخذها ابن عباس، والله أعلم»(2).

أقول: روى السيوطي في الدرّ المنثور عن عبد الرزاق وعبد بن حميد عن أبي عبيدة مولى عبد الرحمن بن عوف قال: «رفعت امرأة إلى عثمان (رضي الله عنه) ولدت لستة أشهر فقال عثمان: إنّها قد رُفعت إليّ امرأة ألا جاءت بشرّ. فقال ابن عباس: إذا أكملت الرضاعة كان الحمل ستة أشهر وقرأ {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا}(3) فدرأ عثمان عنها»(4).

____________

(1) الأحقاف /15.

(2) الاستيعاب 2/461 ط حيدر آباد.

(3) الأحقاف /15.

(4) الدر المنثور 6/40.


الصفحة 336
2- استنكار ابن عباس على عثمان في عدم ميراث الأم مع الأخوين:

أخرج الطبري في تفسيره(1)، والحاكم في المستدرك على الصحيحين واللفظ له بسنده: «عن شعبة مولى ابن عباس عن ابن عباس انّه دخل على عثمان بن عفان (رضي الله عنه) فقال: إن الأخوين لا يردّان الأم عن الثلث(؟) قال الله (عزّ وجلّ): {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ}(2) فالأخوان بلسان قومك ليسا بأخوة (؟) فقال عثمان بن عفان: لا أستطيع أن أرد ما كان قبلي ومضى في الأمصار وتوارث به الناس. وفي لفظ الطبري: هل أستطيع نقض أمرٍ كان قبلي وتوارثه الناس...(3).

قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرّجاه»(4)، وتبعه الذهبي في تلخيصه وقال: صح.

أقول: لقد وهم الطبري وغيره من الفقهاء وأئمة الحديث في نسبة مسألة عدم حجب الأخوين الى ابن عباس، حيث ظنوا أنّ الاستفهام كان حقيقياً، بينما كان استفهاماً إنكارياً كما هو ظاهر من لغة ابن عباس ومن جواب عثمان. وهذا ما فهمه جماعة من الفقهاء، كما سيأتي في فقه ابن عباس في (الحلقة الثالثة) إن شاء الله تعالى مزيد بيان.

3- خلافات فقهية بينهما:

لقد كان بين ابن عباس وبين عثمان خلافٌ في بعض الأحكام الشرعية قولاً وعملاً:

____________

(1) تفسير الطبري 4/188.

(2) آل عمران /11.

(3) قارن السنن الكبرى للبيهقي 6/227.

(4) مستدرك الحاكم 4/335.


الصفحة 337
أ- فعثمان توضأ فغسل كفيه ثلاثاً... وغسل وجهه ثلاثاً وذراعيه ثلاثاً ثلاثاً... وغسل قدميه ثلاثاً(1).

بينما ابن عباس توضأ فغسل كلّ عضو منه غسلة واحدة، ثمّ ذكر أنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كان يفعله(2).

ب- وعثمان توضأ فمسح بأذنيه ظاهرهما وباطنهما وقال: «رأيت النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يفعله»(3).

بينما ابن عباس كان يقول: «الأذنان ليستا من الوجه وليستا من الرأس، ولو كانتا من الرأس لكان ينبغي أن يحلق ما عليهما من الشعر، ولو كانتا من الوجه لكان ينبغي أن يغسل ظهورهما وبطونهما مع الوجه»(4).

ج- وعثمان قال في ميراث جد وأم وأخت:«للأم الثلث، وللأخت الثلث، وللجد الثلث»(5).

بينما قال ابن عباس: «للأم الثلث، وما بقي فللجد وليس للأخت شيء»(6).

د- وعثمان كان ينهى عن متعة الحج تبعاً لعمر وكان مصراً على نهيه عنها قولا وعملا، وقد مرّ بعض ما يتعلق بذلك في مخالفات عثمان لأحكام الشريعة ونزيد على ذلك ما أخرجه أحمد في مسنده عن مروان قال: «كنا نسير مع عثمان (رضي الله عنه) فاذا رجل يلبّي بهما جميعاً فقال عثمان (رضي الله عنه): مَن هذا؟ فقالوا: عليّ. فقال:

____________

(1) المصنف 1/41.

(2) نفس المصدر.

(3) نفس المصدر 1/13.

(4) نفس المصدر.

(5) نفس المصدر 10/269.

(6) نفس المصدر 10/270.


الصفحة 338
ألم تعلم أنّي قد نهيتُ عن هذا؟ قال: بلى، ولكن لم أكن لأدع قول رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لقولك»(1).

وفي حديث ابن المسيب قال: «خرج عثمان حاجاً حتى إذا كان ببعض الطريق قيل لعليّ: إنّ عثمان قد نهى أصحابه عن التمتع بالعمرة إلى الحج، فقال عليّ لأصحابه: إذا راح فروحوا، فأهلّ عليّ وأصحابه بعمرة، فلم يكلّمهم عثمان، فقال له عليّ: ألم أخبر أنّك نهيت عن التمتع بالعمرة؟ فقال: بلى، قال: فلم تسمع رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) تمتع؟ قال: بلى»(2).

وفي حديث شعبة عن قتادة عن عبد الله بن شقيق وفيه: «قال عثمان: أجل ولكنّا كنّا خائفين قال شعبة فقلت لقتادة: ما كان خوفهم؟ قال: لا أدري»(3).

أقول: ليس قتادة وحده لا يدري كلا ولا المنجم يدري أيّ خوفٍ كان يوم أمر بها رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في حجة الوداع ومعه مائة ألف أو يزيدون؟ وقد مرت بعض الأحاديث في أسباب السخط فراجع.

أمّا موقف ابن عباس في هذه المسألة فكان هو موقف عليّ (عليه السلام)، فقد أهلّ كما أهلّ بقية أصحاب عليّ (عليه السلام)، وهذا هو الموقف الثابت له، حتى كان يقول لمن يعارضه في ذلك بأبي بكر وعمر: «يُوشك أن يُنزل عليكم حجارة من السماء، أقول: ما قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وتقولون: قال أبو بكر وعمر»(4).

وقد روى عنه سعيد بن جبير: «أنّه قال: تمتـّع رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فقال عروة: نهى أبو بكر وعمر عن المتعة.

____________

(1) مسند أحمد 3/102 برقم 733 تح ـ أحمد محمّد شاكر.

(2) نفس المصدر 1/200 و210.

(3) نفس المصدر 1/213.

(4) زاد المعاد لابن قيم الجوزية 1/215.


الصفحة 339
فقال ابن عباس: أراهم سيهلكون، أقول: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ويقولون أبو بكر وعمر»(1).

وقال لعروة: «يا عريّة سل أمك، أليس قد جاء أبوك مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فأحلّ. وأمّا المتعة فسل أمك إذ نزلت عن بردي عوسجة، فإن أوّل متعة سطع مجمرها لمجمر سطع بين أمك وأبيك»(2).

ولاشتهار فتياه تلك قال له رجل من بلجهيم: «ما هذه الفتيا الّتي تفشغت - انتشرت - في الناس: إنّ من طاف بالبيت فقد حلّ؟

فقال: سنّة نبيّكم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وإن رغمتم»(3).

وستأتي في الحلقة الثالثة في (فقهه) بعض موارد الخلاف بينه وبين عثمان.

رابعاً: مواقف اصلاحية

1- إلزام ابن عباس لعثمان بالحجة:

لقد كان لابن عباس مع عثمان مواقف إصلاحية إلى جانب مواقفه النقدية، وكان عثمان يستجيب له أحياناً إذا لزمته الحجة، فقد روى مصعب الزبيري في نسب قريش قال: وقال أبو الزنّاد: كانت بين حسّان بن ثابت شاعر رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وبين بعض الناس منازعة عند عثمان بن عفان، فقضى عثمان على حسّان، فجاء حسّان إلى عبد الله بن عباس فشكا ذلك إليه. فقال له ابن عباس: الحقّ حقّك ولكن أخطأتََ حجتك، انطلق معي، فخرج به حتى دخلا على عثمان، فاحتج له

____________

(1) مسند أحمد 1/337 ط محققة.

(2) نفس المصدر 4/352 و 5/119.

(3) نفس المصدر 4/176و184، و 5/66.