في الربذة:
قال الشيخ المفيد(3): ولمّا توجه أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى البصرة نزل الربذة، فلقيه بها آخر الحاج فاجتمعوا ليسمعوا من كلامه، وهو في خبائه.
قال ابن عباس (رضي الله عنه): فأتيته فوجدته يخصف نعلاً، فقلت له نحن إلى أن تصلح أمرنا أحوج منا إلى ما تصنع، فلم يكلّمني حتى فرغ من نعله ثمّ ضمها إلى صاحبتها وقال لي قوّمهما، فقلت: ليس لهما قيمة، قال على ذاك، قلت: كسر درهم، قال: والله لهما أحبّ إلي من أمركم إلاّ أن أقيم حقاً أو أدفع باطلاً، قلت: أنّ الحاج قد أجتمعوا ليسمعوا من كلامك فتأذن لي أن أتكلم فإن كان حسناً كان منك، وإن كان غير ذلك كان مني، قال: لا أنا أتكلم. ثمّ وضع يده على صدري - وكان شثن الكفين، فآلمني - ثمّ قام فأخذت بثوبه وقلت: نشدتك الله والرحم، قال: لا تنشدني، ثمّ خرج فاجتمعوا عليه فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال: أمّا بعد فإنّ الله تعالى بعث محمّداً (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وليس في العرب أحد يقرأ كتاباً ولا يدعي
____________
(1) الإمامة والسياسة 1/50 ط مصر سنة 1328 هـ.
(2) أنظر سير أعلام النبلاء 1 ـ 2/639 ط دار الفكر.
(3) الإرشاد /132 ط الحيدرية.
أدمتَ لعمري شربَك المحض صابحا | وأكلك بالزبد المقشّرةَ التمرا |
ونحن وهبناك العَلاءَ ولم تكن | عَلياً وحُطنا حولك الجُرد والسُمرا(2) |
قال الطبري في تاريخه: «كان عليّ في همّ من توجه القوم لا يدري إلى أين يأخذون، وكان أن يأتوا البصرة أحبّ إليه، فلمّا تيقّن أنّ القوم يعارضون طريق البصرة سرّ بذلك وقال: الكوفة فيها رجال العرب وبيوتاتهم.
فقال له ابن عباس: إن الّذي يسرّك من ذلك ليسؤوني، إن الكوفة فسطاط فيه أعلام من أعلام العرب، ولا يحملهم عِدّة القوم، ولا يزال فيهم من يسمو إلى أمر لا يناله فإذا كان كذلك، شغب على الّذي قد نال ما يريد حتى تكسر حدته(3)، وحتى يفشأه فيفسد بعضهم على بعض. فقال عليّ: إنّ الأمر ليشبه ما
____________
(1) أخرج الحاكم في المستدرك 3/139 بسنده عن أبي أيوب قال أمر رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عليّ بن أبي طالب: بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين. وقد حدث أبو أيوب بذلك في خلافة عمر. وراجع تاريخ بغداد 8/340، وأسد الغابة 4/32، وكنز العمال 6/319 ط الأولى حيدر آباد، والرياض النضرة 2/240 وغيرها، والسيوطي في الخصائص الكبرى 2/138 ط حيدر آباد.
(2) روى الشريف الرضي في النهج الكلام المتقدم من ابن عباس والإمام كان بذي قار وعلى ذلك شراح النهج، لكن الشيخ المفيد وهو استإذ الرضي وأقدم منه زمناً رواه ـ كما ذكرنا عنه ـ انه كان في الربذة. وهو الصحيح فيما أرى.
(3) أنظرتاريخ ابن الأثير 3/86 ط بولاق.
فقال ابن عباس: إنّ ذلك لأمر لا يدرك إلاّ بالقنوع»(1).
هذا حديث بين إمام تُحمّله مسؤلية الإمامة مواجهة تداعيات المواقف في المستقبل القريب بما فيها من عناء، وبين مأموم تُحمّله مسؤلية الطاعة والإخلاص محضَ النصيحة لإمامه، مضافاً إلى أوامر القربى القريبة، فهو حديث لا يخلو من مرارة يتجرّعها المشير والمستشير على أختلاف الرأي في المنظور بينهما، مع بُعد النظر عند كليهما. فعليهما معاً أن يستعدّا لمواجهة المستقبل بما تواتيه الظروف وتحمله المفاجآت.
قال ابن الأثير: «ولمّا قدم عليّ الربذة وسمع بها خبر القوم أرسل منها إلى الكوفة محمّد بن أبي بكر الصديق ومحمّد بن جعفر وكتب إليهم: إنّي اخترتكم على الأمصار وفزعت إليكم لما حدث، فكونوا لدين الله أعواناً وأنصاراً وانهضوا إلينا فالإصلاح نريد لتعود هذه الأمة إخوانا»(2).
ثمّ قال ابن الأثير: «فمضيا وبقي عليّ بالربذة وأرسل إلى المدينة فأتاه ما يريده من دابة وسلاح وأمر أمره»(3).
وقال ابن الأثير: «وسار عليّ من الربذة وعلى مقدمته أبو ليلى بن عمر بن الجراح والراية مع محمّد بن الحنفية، وعليّ على ناقة حمراء يقود فرساً كميتا، فلمّا نزل بفيد أتته أسد وطيء فعرضوا عليه أنفسهم فقال: الزموا قراركم، في
____________
(1) تاريخ الطبري 4/459.
(2) تاريخ ابن الأثير 3/95.
(3) نفس المصدر.
وقال ابن الأثير: ولمّا نزل عليّ الثعلبية أتاه الّذي لقي عثمان بن حنيف وحرسه فأخبر أصحابه الخبر فقال: اللّهمّ عافني ممّا ابتليت به طلحة والزبير.
فلمّا انتهى إلى الآساد أتاه ما لقي حكيم بن جبلة وقتلة عثمان فقال: الله أكبر أما ينجيني من طلحة والزبير إن أصابا ثارهما. وقال:
دعا حكيم دعوة الزماع | حل بها منزلة النزاع(2) |
وقال ابن الأثير: «فلمّا انتهى إلى ذي قار أتاه عثمان بن حنيف وليس في وجهه شعرة. وقيل أتاه بالربذة وكانوا قد نتفوا شعر رأسه ولحيته... فقال يا أمير المؤمنين بعثتني ذا لحية وقد جئتك أمرد فقال: أصبت أجراً وخيراً... وأقام بذي قار ينتظر محمّداً ومحمّدا، فأتاه الخبر بما لقيت ربيعة وخروج عبد القيس... وعرضت عليه بكر بن وائل فقال لهما ما قال لطيء وأسد»(3).
وقال ابن الأثير: «وأمّا محمّد بن أبي بكر ومحمّد بن جعفر فأتيا أبا موسى بكتاب عليّ وقاما في الناس بأمر فلم يجابا إلى شيء... فغضب محمّد ومحمّد وأغلظا لأبي موسى فقال لهما: والله أن بيعة عثمان لفي عنقي وعنق صاحبكما... فانطلقا إلى عليّ فأخبراه الخبر وهو بذي قار. فقال للأشتر وكان معه: أنت
____________
(1) نفس المصدر.
(2) نفس المصدر /96.
(3) نفس المصدر.
ماذا عن سفارة ابن عباس إلى الكوفة؟
إنّ اختلاف الرواة بتفاوت الروايات يصكّ الباحث بدوامة من الشك حول سفارة ابن عباس إلى الكوفة فهل كانت مرة واحدة؟ أم كانت متعددة؟
ثمّ هل كانت من الربذة؟ أو من فيد؟ أو من ذي قار؟ أو منها جميعاً؟
من هنا حدثت البلبلة الّتي شوّشت على الباحث حين واجهته روايات المؤرخين المتفاوتة، وربما كانت متضاربة. فلنقرأ بعض ما وقفت عليه في المقام متسلسلين مع المصادر الأقدم فالأقدم:
أوّلاً: ما رواه أبو مخنف المتوفى سنة 157 هـ في كتاب الجمل قال: «وبعث عليّ (عليه السلام) من الربذة بعد وصول المحل بن خليفة اخي طيء عبد الله بن عباس ومحمّد بن أبي بكر إلى أبي موسى وكتب معهما:
من عبد الله عليّ أمير المؤمنين إلى عبد الله بن قيس، أمّا بعد يا بن الحائك يا عاض... أبيه، فوالله إنّي كنت لأرى أنّ بُعدك من هذا الأمر الّذي لم يجعلك الله له أهلاً، ولا جعل لك فيه نصيباً، سيمنعك من ردّ أمري والانتزاء عليَّ، وقد بعثت إليك ابن عباس وابن أبي بكر فخلّهما والمصر وأهله، واعتزل عملنا مذموماً مدحوراً. فإن فعلت وإلاّ فإنّي قد أمرتهما أن ينابذاك على سواء، إنّ الله لا يهدي كيد الخائنين، فإذا ظهرا عليك قطّعاك إرباً إربا والسلام على من شكر النعمة، ووفى بالبيعة وعمل برجاء العاقبة.
____________
(1) نفس المصدر.
أقول: وسيأتي حديث أبي مخنف برواية البلاذري بسنده عنه بتفاوت عما ذكرناه.
ثانياً: ما رواه ابن قتيبة في الإمامة والسياسة قال: «وذكروا أنّ عليّاً لمّا نزل قريباً(2) من الكوفة بعث عمّار بن ياسر ومحمّد بن أبي بكر إلى أبي موسى الأشعري... وإلى أهل الكوفة يستفزهم (يستنفرهم ظ)...
وقال: فلمّا انصرفا إلى عليّ من عند أبي موسى وأخبراه بما قال أبو موسى - في تثبيط الناس - بعث إليه الحسن بن عليّ وعبد الله بن عباس وعمّار بن ياسر وقيس بن سعد وكتب معهم إلى أهل الكوفة:
أمّا بعد فاني أخبركم عن أمر عثمان حتى يكون سامعُه كمن عاينَه: إن الناس طعنوا على عثمان فكنتُ رجلاً من المهاجرين أُقِلّ عيبَه وأُكثِر استعتابَه، وكان هذان الرجلان طلحة والزبير أهون سيرهما فيه شدة اللهجة والوجيف، وكان من عائشة فيه قول على غضب...
وقد بعثت ابني الحسن وابن عمي عبد الله بن عباس وعمّار بن ياسر وقيس بن سعد فكونوا عند ظننا بكم والله المستعان...»(3).
____________
(1) شرح النهج لابن أبي الحديد 3/291 ط الأولى و 14/9 - 10ط محققة.
(2) لا يبعد أن يكون هو العذيب لما سيجيء ذكره في كتاب الإمام إلى جرير والعذيب بين القادسية والمغيثة بينه وبين القادسية اربعة أميال وإلى المغيثة اثنان وثلاثون ميلاً، وهو من منازل حاج الكوفة (معجم البلدان /العذيب).
(3) الإمامة والسياسة 1/59 - 60.
أ- ما رواه البلاذري في الأنساب: قال أبو مخنف باسناده: «وبعث عليّ من الربذة هاشم بن عتبة بن أبي وقاص الزهري إلى أبي موسى... بكتاب منه يأمره فيه بدعاء الناس واستنفارهم إليه، فجعل أبو موسى يخذلهم... ولم ينهض معه أحد، وتوعّد هاشماً بالحبس، فلمّا قدم هاشم على عليّ دعا عبد الله بن عباس ومحمّد بن أبي بكر فبعثهما إليه وأمرهما بعزله وكتب إليه معهما كتاباً ينسبه وأباه إلى الحياكة، فعزلاه وصيّرا مكانه قرظة بن كعب الأنصاري.
وارتحل عليّ بن أبي طالب من الربذة حتى نزل بفيد فاتته جماعة طيء، ووجّه ابنه الحسن بن عليّ وعمّار بن ياسر إلى الكوفة لاستنفار أهلها، فلمّا قدما انصرف ابن عباس ومحمّد بن أبي بكر الصديق، ويقال: بل أقاما حتى كان انصرافهم جميعاً.
- قال البلاذري: - وقال قوم: كان قيس بن سعد بن عبادة مع الحسن وعمّار. والثبت ان عليّاً ولّى قيساً مصر وهو بالمدينة حين ولّى عبيد الله بن العباس ابن عبد المطلب اليمن... وانه لم يوجّه مع الحسن إلاّ عمّار بن ياسر»(1).
ب- وروى البلاذري أيضاً بسنده عن صالح بن كيسان: «قال صالح: ووجّه عليّ من ذي قار إلى اهل الكوفة ـ لينهضوا إليه عبد الله بن عباس وعمّار بن ياسر... فلمّا دعا ابن عباس وعمّار الناس إلى عليّ واستنفراهم لنصرته، قام أبو موسى... وجعل يثبط الناس، فرجع عبد الله بن عباس وعمّار إلى عليّ فأخبراه بذلك، فكتب إليه يا بن الحائك، وبعث الحسن بن عليّ ليندب الناس إليه، وأمر
____________
(1) أنساب الأشراف (ترجمة الإمام) حديث 291 تح ـ المحمودي.
رابعاً: ما رواه ابن جرير وابن الأثير وابن كثير وابن مسكويه وتبعهم ابن خلدون وغيره في حوادث سنة 36 هـ في أخبار الجمل أنّ الإمام أرسل ابن عباس إلى الكوفة ومعه الأشتر وذلك بعد رجوع المحمدين (محمّد بن أبي بكر ومحمّد بن جعفر).
وقد مرّ عن ابن الأثير قول الإمام للأشتر: (اذهب أنت وابن عباس فأصلح ما أفسدت) إشارة إلى يوم طلب الأشتر من الإمام إقرار الأشعري على ولاية الكوفة وتعهدّه به.
وهذا ما رواه الطبري وقال: «فخرج عبد الله بن عباس ومعه الأشتر فقدما الكوفة وكلّما أبا موسى واستعانا عليه بأناس من الكوفة... ثمّ قال: إنّ ابن عباس رجع إلى عليّ»(2) ولم يصرّح برجوع الأشتر معه. إلاّ أنّ من ذكرنا من المؤرخين آنفاً صرحوا برجوعهما معاً. ثمّ ذكر الطبري أنّ الإمام دعا ابنه الحسن وعمّار بن ياسر وأرسلهما إلى الكوفة بعد ما رجع ابن عباس.
خامساً: ما قاله الشيخ المفيد: «ولمّا سار (عليه السلام) من المدينة انتهى إلى فيد(3) وكان قد عدل إلى جبلي طيء حتى سار معه ستمائة مع عدي بن حاتم من قومه. فقال عليّ (عليه السلام) لابن عباس: ما الرأي عندك في أهل الكوفة وأبي موسى الأشعري؟
____________
(1) نفس المصدر حديث /289.
(2) تاريخ الطبري 4/482.
(3) فيد: نصف طريق الحاج من الكوفة إلى مكة قريب من أجاوسُلمى جبلي طيء (معجم البلدان 4/282) ط صادر.
فقالا: افعل ما شئت - فقال ابن عباس لأبي موسى: إنّ عليّاً أرسلنا إليك لما يطرقه سرعتك إلى طاعة الله تعالى ورسوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ومصيرك إلى ما أحببنا أهل البيت، وقد علمت فضله وسابقته في الإسلام، ويقول لك أن تبايع له الناس، ويقرّك على عملك ويرضى عنك.
فانخدع أبو موسى وصعد المنبر فبايع لعليّ ساعة من النهار ثمّ نزل»(1). ثمّ ذكر خطب عمّار والحسن وابن عباس كما سيأتي.
هذه هي الروايات المتفاوتة زماناً المختلفة نصاً، كلها ورد فيها أنّ الإمام أرسل ابن عباس إلى الكوفة لاستنفار الناس، غير أنّها اختلفت في المكان الّذي أرسله منه، ففي النصوص الأوّل والثالث فقرة (أ) والرابع كان ذلك من الربذة. بينما نجد في النص الثاني جهالة المكان غير أنّه قريب من الكوفة، أمّا النص الثالث فقرة (ب) فقد كان ذلك من ذي قار. والنص الخامس فيه أنّه من فيد.
كما أنّها اختلفت في رفقاء السفر معه، ففي الأوّل والثالث (أ) هو وابن أبي بكر، وفي الثاني هو مع الحسن وعمّار وقيس، وفي الخامس مثله من دون ذكر قيس. وفي الثالث فقرة (ب) هو وعمّار، وفي الرابع هو والأشتر. وإذا اعتمدنا جميع ذلك فيكون قد تكرر إرساله إلى الكوفة أربع مرات بموجب ذكر الأماكن
____________
(1) كتاب الجمل /124 ط سنة 1368 هـ ط الحيدرية.
وتصوير ذلك فيما أرى: أنّ الإمام (عليه السلام) لمّا وصل إلى الربذة بعث أوّلاً هاشم بن عتبة إلى الكوفة مستنفراً أهلها فلم يتمكن من اقناع أبي موسى الأشعري عامل الإمام على الكوفة بالتعاون معه، بل خذل الناس فأرسل هاشم إلى الإمام كتاباً مع المحل بن خليفة الطائي - كما في رواية أبي مخنف - فبعث الإمام محمّد بن أبي بكر ومحمّد بن جعفر - على رواية الطبري - ورجعا ولم يتمكنّا من أبي موسى، فبعث ابن عباس ومعه محمّد بن أبي بكر وكتب معهما إلى أبي موسى الكتاب الّذي أغلظ له فيه وفيه عزله. وأبطأ خبرهما على الإمام فرحل من الربذة إلى ذي قار ويبدو أنّهما رجعا إلى الإمام قبل أن يصل إلى فيد، وهناك سأل الإمام من ابن عباس: ما الرأي عندك في أهل الكوفة وأبي موسى. وفي هذا مؤشر على أنّ ابن عباس كان قد وصل الكوفة وخُبر أهلها وعرف موقف الأشعري المتصلب العنيد، وإلاّ فلا معنىً لاستشارة رجل مدني لا يعرف عن الكوفة وعن أبي موسى شيئاً. وفي جواب ابن عباس أيضاً مؤشّر آخر على دخوله الكوفة حيث قال: الرأي أن تنفذ عمّاراً فإنّه رجل له سابقة وقد شهد بدراً، فإنّه إن تكلم هناك صرف الناس إليك، وأنا أخرج معه، وابعث معنا ابنك الحسن.
____________
(1) الطبري 4/478 و 501.
إلاّ أنه قد مرّ في رواية ابن قتيبة(1) وأنه أرسلهم من مكان قريب من الكوفة، وهذا المكان هو العذيب - فيما أرى - ويؤيد ذلك ما ورد في كتاب للإمام أرسله إلى جرير بن عبد الله يخبره فيه بما وقع من الأحداث بعد مقتل عثمان فقد جاء فيه: «حتى إذا كنت بالعُذيب بعثت إلى أهل الكوفة الحسن بن عليّ وعبد الله بن عباس وعمّار بن ياسر وقيس بن سعد فاستنفرتهم فأجابوا...»(2).
نعم تبقى النصوص الدالة على ان البعثة الرباعية كانت من ذي قار كما مر في النص الثالث الفقرة (ب)، ولم يذكر فيه سوى ابن عباس وعمّار. فلمّا عادا بعث الإمام ابنه الحسن وكتب إلى أبي موسى: يا بن الحائك...، وفيه ذكر عزله وتولية قرظة بن كعب الأنصاري، وفي هذا أحسب أنّ خلطاً وخبطاً وقع الرواة في ذلك، لأنّ الشيخ محمّد بن هاشم ذكر في مصباح الأنوار: أنّ البعثة الأربعة الحسن وابن عباس وعمّار وقيس كانت من ذي قار ومعهم كان الكتاب بعزل أبي موسى وتولية قرظة(3).
وإلى هنا تيقنا بورود ابن عباس إلى الكوفة مكررا. فلنقرأ ما جرى له هو والوفد بمعيّة الإمام الحسن (عليه السلام) وكيف داوى ودارى أبا موسى الأشعري ذلك الأفن الماكر حتى تغلب عليه.
____________
(1) راجع النص الثاني.
(2) وقعة صفين لنصر بن مزاحم /19 تح ـ هارون، وشرح النهج لابن أبي الحديد 1/246 ط مصر الأولى.
(3) مصباح الأنوار 2/باب 34 مخطوط.
مع الأشعري في الكوفة:
قال الشيخ المفيد: «فلمّا وصلوا - الحسن وابن عباس وعمّار - الكوفة قال ابن عباس للحسن ولعمّار: انّ أبا موسى عاق فإذا رفقنا به ادركنا حاجتنا منه. فقالا: إفعل ما شئت.
ويبدو أنّ ابن عباس فتح له هذا التفويض والإذن باستعمال الإستدراج والخداع كما يسميه علماء البيان، فعمد إلى مخادعة أبي موسى فقال له:
يا أبا موسى إنّ أمير المؤمنين عليّاً (عليه السلام) أرسلنا إليك لما يطرقه سرعتك إلى طاعة الله (عزّ وجلّ) ومصيرك إلى ما أحبّنا أهل البيت، وقد علمت فضله وسابقته في الإسلام، ويقول لك أن تبايع له الناس، ويقرّك على عملك ويرضى عنك، فانخدع أبو موسى وصعد عمّار وخطب ثمّ صعد الإمام الحسن (عليه السلام) وخطب وأبو موسى بعدُ على مراوغته. فكان دواؤه عند ابن عباس»(1).
وقال الشيخ المفيد أيضاً: «وكان أمير المؤمنين (عليه السلام) كتب مع ابن عباس كتاباً إلى أبي موسى الأشعري وأغلظ فيه، فقال ابن عباس: قلت في نفسي أقدم على رجل وهو أمير بمثل هذا الكتاب أن لا ينظر في كتابي. ونظرت أن أشقّ كتاب أمير المؤمنين وكتبت من عندي كتاباً عنه لأبي موسى:
أمّا بعد فقد عرفت مودتك إيانا أهل البيت، وانقطاعك الينا وإنما نرغب إليك لما نعرف من حسن رأيك فينا، فإذا أتاك كتابي فبايع لنا الناس والسلام...
فدفعته إليه، فلمّا قرأه أبو موسى قال لي: أنا الأمير أو أنت؟ قلت: أنت الأمير، (فانخدع أبو موسى وصعد المنبر)(2)، فدعا الناس إلى بيعة عليّ (فبايع
____________
(1) كتاب الجمل /124 ط الحيدرية سنة 1368هـ.
(2) ما بين القوسين من حديث الشيخ المفيد الأوّل.
فلم يبرح، فبايعت الناس لعليّ، وخلعت أبا موسى في الحال، واستعملت مكانه قرظة بن كعب (عبد الله) الأنصاري. ولم أبرح من الكوفة حتى سيّرت في البر والبحر من أهلها سبعة آلاف رجل ولحقته بذي قار»(2).
رحمك الله أبا العباس، نعمت الخدعة ونعم الإستدراج، وإنّها وقدة ذهن ونفوذ بصيرة تختبر بها الرجال، فلمّا علمت دخيلة الأشعري تقدمت إليه بما استدرجته به حتى تملكت به مشاعره وملكت به قياده، وكشفت للناس حقيقته حين أوقعته في الفخ، فهو بالأمس يقول للناس: «إنّها فتنة صماء وعمياء تطأ في خطاها، النائم فيها خير من القائم، والقائم خير من الماشي...». واليوم يصعد المنبر ويدعو الناس إلى مبايعة الإمام!!
إنّه التناقض الّذي سلب ثقة الناس به وبدأ الناس يتجهزون للمسير، وتهيأ رسُل الإمام للخروج إلى ذي قار، وخفّ معهم كثير من أهل الكوفة فوردوا على الإمام وهو لم يزل بذي قار ينتظرهم، ويبدو أنّ ابن عباس سبقهم بالخروج فوصل إلى الإمام فأخبره بما عليه الناس من الجد والعزم وأنّهم لاحقون به عن قريب، فسرّه ذلك.
في ذي قار:
روى أبو مخنف عن الكلبي عن أبي صالح عن زيد بن عليّ عن ابن عباس قال: «لمّا نزلنا مع عليّ (عليه السلام) ذا قار قلت: يا أمير المؤمنين ما أقل من يأتيك من
____________
(1) ما بين القوسين من حديث الشيخ المفيد الأوّل.
(2) كتاب الجمل /126.
قال ابن عباس: فدخلني والله من ذلك شك شديد في قوله، وقلت في نفسي: والله إن قدموا لأعدنّهم».
قال أبو مخنف: فحدّث ابن إسحاق عن عمّه عبد الرحمن بن يسار قال: «نفر إلى عليّ (عليه السلام) إلى ذي قار من الكوفة في البحر والبرستة آلاف وخمسمائة وستون رجلاً، أقام عليّ بذي قار خمسة عشر يوماً، حتى سمع صهيل الخيل وشحيج البغال حوله، قال: فلمّا سار بهم منقلة(1) قال ابن عباس: والله لأعدنّهم فإن كانوا كما قال، وإلاّ أتممتهم من غيرهم، فإنّ الناس قد كانوا سمعوا قوله. قال: فعرضتهم فوالله ما وجدتهم يزيدون رجلاً ولا ينقصون رجلاً، فقلت: الله أكبر! صدق الله ورسوله، ثمّ سرنا».
أقول: هاتان روايتان رواهما لنا أبو مخنف كلٌ بسند غير الآخر، وحكاهما عنه ابن أبي الحديد(2). ويبدو أنّ أبا مخنف لم يكن دقيقاً في نقله في المقام خصوصاً في سند الرواية الأولى الّتي رواها زيد بن عليّ عن ابن عباس! فإنّ ابن عباس مات سنة 68 من الهجرة وزيد بن عليّ ولد في سنة 80 من الهجرة أي بعد موت ابن عباس بما يقرب من اثنتي عشرة سنة فكيف يتصور روايته عنه!!
والصحيح أنّ زيد بن عليّ روى ذلك إلاّ أنّه لم يذكر روايته لها عن ابن عباس، فهي كما رواها الشيخ المفيد نقلاً عن نصر - بن مزاحم - عن عمرو بن سعد عن الأجلح عن زيد بن عليّ قال: «لمّا أبطأ على عليّ (عليه السلام) خبر أهل البصرة وكانوا في فلاة، قال عبد الله بن عباس: فأخبرت عليّاً بذلك، فقال لي: أسكت
____________
(1) المنقلة كمرحلة السفر زنة ومعنى (القاموس المحيط).
(2) شرح النهج لابن أبي الحديد 1/176.
قال الطبري في تاريخه(2)، وقال ابن الأثير في الكامل بلفظ الثاني إلاّ ما بين القوسين من الأوّل: «وقيل: إنّ عدد من سار من الكوفة اثنا عشر ألف رجل ورجل. قال أبو الطفيل: سمعت عليّاً يقول ذلك قبل وصولهم فقعدت فأحصيتهم فما زادوا رجلاً ولا نقصوا رجلاً.
وكان على كنانة وأسد وتميم والرباب ومزينة معقل بن يسار الرياحي، وكان على سبع قيس سعد بن مسعود الثقفي عم المختار، وعلى بكر وتغلب وعلة بن محدوج الذهلي، وكان على مذحج والاشعريين حجر بن عدي، وعلى بجيلة وأنمار وخثعم والأزد مخنف بن سليم الأزدي، فقدموا على أمير المؤمنين بذي قار، فلقيهم في ناس معه فيهم ابن عباس فرحّب بهم وقال: يا أهل الكوفة أنتم قاتلتم ملوك العجم وفضضتم جموعهم حتى صارت اليكم مواريثهم، فمنعتم حوزتكم وأعنتم الناس على عدوهم، وقد دعوتكم لتشهدوا معنا اخواننا من أهل البصرة فإن يرجعوا فذاك الّذي نريد، وإن يلجّوا داويناهم بالرفق (وباينّاهم) حتى يبدؤنا بظلم، ولم ندع أمراً فيه صلاح إلاّ آثرناه على ما فيه الفساد إن شاء الله، واجتمعوا عنده بذي قار، وعبد القيس بأسرها في الطريق بين عليّ والبصرة ينتظرونه وهم ألوف (وفي الماء ألفان وأربعمائة)»(3).
____________
(1) كتاب الجمل /141 ط الحيدرية سنة 1368.
(2) تاريخ الطبري 4/487 ط دار المعارف.
(3) الكامل 3/98 ط بولاق.
والخبر كما رواه المجلسي نقلاً عن فضائل ابن شاذان بالإسناد عن سليم بن قيس أنّه قال: «لمّا قتل الحسين بن عليّ بن أبي طالب (عليهم السلام) بكى ابن عباس بكاءً شديداً ثمّ قال: ما لقيت هذه الأمة بعد نبيّها، اللّهمّ إنّي أشهدك أنّي لعليّ بن أبي طالب ولولده ولي، ولعدوه عدو، ومن عدوّ ولده بريء، وأنّي سلم لأمرهم، ولقد دخلت على ابن عم رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بذي قار فأخرج لي صحيفة وقال لي: يا بن عباس هذه صحيفة أملاها رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وخطي بيدي، فقلت: يا أمير المؤمنين إقرأها عليّ، فقرأها وإذا فيها كلّ شيء منذ قبض رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم). وكيف يقتل الحسين (عليه السلام) ومَن يقتله ومَن ينصره ومَن يستشهد معه، وبكى بكاءً شديداً وأبكاني، وكان فيما قرأه كيف يصنع به، وكيف تستشهد فاطمة (عليها السلام)، وكيف يستشهد الحسن (عليه السلام)، وكيف تغدر به الأمة، فلمّا قرأ مقتل الحسين (عليه السلام) ومَن يقتله أكثر البكاء، ثمّ أدرج الصحيفة وفيها ما كان وما يكون إلى يوم القيامة.
وكان فيما قرأ أمر أبي بكر وعمر وعثمان، وكيف يملك كلّ إنسان منهم، وكيف يقع على عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، ووقعة الجمل ومسير عائشة والزبير. ووقعة صفين ومَن يقتل بها. ووقعة النهروان وأمر الحكمين وملك معاوية، ومَن يقتل من الشيعة، وما تصنع الناس بالحسن (عليه السلام)، وأمر يزيد بن معاوية، حتى أنتهى إلى قتل الحسين (عليه السلام)، فسمعت ذلك، فكان كما قرأ لم يزد ولم ينقص. ورأيت خطه في الصحيفة لم يتغير ولم يعفّر، فلمّا أدرج الصحيفة، قلت: يا أمير المؤمنين لو كنت قرأت على بقية الصحيفة؟ قال: لا، ولكن أحدّثك بما فيها من أمر بنيك وولدك،