الصفحة 270
تحريراً لو تم. وإذا لم يتم - كما هو الحال - فيكفي أن راوية الحديث عَمرة بنت عبد الرحمن(1) ذكرت ذلك عن عائشة ولم تذكر عنها انكاراً لذلك، وفي سكوتها على أقل تقدير إمضاء لما جاء في الحديث، وفي هذا حسب زياد وآل زياد، وفي مقابل ذلك لا بد من تقديم ثمن لعائشة يساوي ما أخذوه من مثمن وهل من ثمن أكثر قيمة من إذاعة وإشاعة أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كان يبعث هديه من المدينة، وعائشة هي الّتي تفتل القلائد للهدي، وأبوها يسوق الهدي إلى مكة أو إلى منى، ورسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لا يجتنب عما يجتنبه المحرم. وهكذا صار الحديث وكأنه مناورة سياسية أكثر من بيان واقعة شرعية واستمرت المناورة - فيما يبدو- فقد ذكر السيد ابن عقيل ان زياداً كتب إلى عائشة كتاباً فيه: «من زياد بن أبي سفيان وهو يريد أن تكتب له: إلى زياد بن أبي سفيان ليحتج بذلك، فكتبت إليه من عائشة أم المؤمنين إلى ابنها زياد»(2).

وفي رواية ابن أبي الحديد قال: «كتبت عائشة إلى زياد فلم تدر ما تكتب عنوانه، إن كتبت زياد بن عبيد الله وابن أبيه أغضبته، وإن كتبت زياد بن أبي سفيان أثمت فكتبت من أم المؤمنين إلى ابنها زياد، فلمّا قرأه ضحك وقال: لقد لقيت أم المؤمنين من هذا نصبا»(3).

____________

(1) أتدري مَن عمرة بنت عبد الرحمن؟ كانت هي وأخواتها في حجر عائشة وعندها (طبقات ابن سعد 8/353) افست ليدن.

وهي الّتي كتب عمر بن عبد العزيز في حقها إلى أبي بكر بن محمّد بن حزم: ان انظر ما كان من حديث رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أو سنة ماضية أو حديث عمرة فاكتبه فإني خشيت دروس العلم وذهاب أهله؟ يا لله يكون حديث عمرة بمنزلة حديث رسول الله ومثل السنّة الماضية في ميزان الاعتبار عند الخليفة الأموي؟ ولزيادة الاطلاع فان ابا بكر بن محمّد بن حزم هو زوج اختها؟ وراوي حديث الفتيا هو ابن اختها فظن خيراً.

(2) النصائح الكافية /56 ط بمبي سنة 1326هـ.

(3) شرح النهج لابن أبي الحديد 4/76 ط مصر الأولى و 16/204 تح ـ أبو الفضل إبراهيم والقضايا الكبرى في الإسلام لعبد المتعال الصعيدي /188.


الصفحة 271
وأخيراً نجحت بالتالي مؤامرة زياد فكتبت إليه كتاب شفاعة لمرة بن أبي عثمان مولى عبد الرحمن بن أبي بكر، وقال ابن الكلبي هو مولى عائشة، سأل عائشة أن تكتب له إلى زياد وتبدأ به في عنوان كتابه، فكتبت إليه بالوصاة به وعنونته: إلى زياد بن أبي سفيان من عائشة أم المؤمنين، فلمّا رأى زياد أنها قدّمته ونسبته إلى أبي سفيان سرّ بذلك وأكرم مرّة وألطفه وقال للناس: هذا كتاب أم المؤمنين إليّ وفيه كذا، وعرضه ليقرأ عنوانه ثمّ أقطعه مائة جريب على نهر الأبّلة، وأمر أن يحفر لها نهرٌ فنسب إليه(1).

وهذا ما أدركه علماء التبرير - ولا أقل بعضهم - إلاّ أنّهم تسللوا من وراء الأكمة لوإذا لئلا تصطدمهم الحقيقة المرّة، فتزل قدم بعد اهتزازها على أرضية هشة من المبررات الّتي ما أنزل الله بها من سلطان.

حتى قال بعضهم ممعناً في التبرير والتزوير فقال: «وقع التحديث بهذا في زمن بني أمية، وأمّا بعدهم فما كان يقال له إلاّ زياد بن أبيه... وقبل استلحاق معاوية له كان يقال له زياد بن عبيد، وكانت أمه سمية مولاة الحرث بن كلدة الثقفي وهي تحت عبيد المذكور فولدت زياداً على فراشه، فكان ينسب إليه، فلمّا كان في أيام معاوية شهد جماعة على إقرار أبي سفيان بأن زياداً ولده، فاستلحقه معاوية بذلك، وخالف الحديث الصحيح (إن الولد للفراش وللعاهر الحجر) وذلك لغرض دنيوي، وقد أنكر هذه الواقعة على معاوية من أنكرها، حتى قيلت فيها الأشعار، ومنها قول القائل:


ألا أبلغ معاوية بن حربمغلغلة من الرجل اليماني
أتغضب أن يقال أبوك عفٌّوترضى أن يقال أبوك زاني

____________

(1) راجع معجم البلدان 5/323 (نهر مرّة).


الصفحة 272
وقد أجمع أهل العلم على تحريم نسبته إلى أبي سفيان، وما وقع من أهل العلم في زمان بني أمية فانما هو تقية.

وذكر أهل الأمهات نسبته إلى أبي سفيان في كتبهم مع كونهم لم يؤلفوها إلاّ بعد انقراض عصر بني أمية محافظة منهم على الألفاظ الّتي وقعت من الرواة في ذلك الزمان كما هو دأبهم»(1).

وجاء في كوثر المعاني الدراري في كشف خبايا صحيح البخاري للشيخ محمّد الخضر الجكني الشنقيطي المتوفى سنة 1354هـ ترجمة زياد وكيفية إستلحاقه وأسماء الشهود له بذلك، وفي آخر الترجمة: غضب بني أمية من إستلحاقه، وذكر شعر عبد الرحمن بن الحكم نقلاً عن الاستيعاب، فمن أراد ذلك فليرجع إلى المصدر المذكور(2).

وذكر الأبي في شرحه صحيح مسلم عند قوله ان ابن زياد كتب...(قلت) ابن زياد هو عبيد الله بن زياد... هذا هو الّذي قتل الحسين بن عليّ، وزياد هذا هو والده وكان معاوية استلحقه لأبيه أبي سفيان، وتقدم اشباع الكلام على ذلك وعلى كيفية استلحاقه في حديث: من انتسب لغير أبيه من كتاب الإيمان فراجعه هناك(3).

نور على الدرب:

لو تفحصنا حديث عائشة في المصادر الّتي مرّ ذكرها لوجدناه - كما قلنا - يتفاوت بين مصدر وآخر، بل بين رواية راو واحد في المصدر الواحد، وللتدليل والاختصار نذكر للقارئ ما في صحيح البخاري فقط، وعندهم كلّ الصيد في جوف الفرا.

____________

(1) نيل الأوطار للشوكاني 5/107 ط العثمانية بمصر سنة 1357 هـ.

(2) كوثر المعاني 13/388 ط مؤسسة الرسالة سنة 1415 هـ.

(3) شرح صحيح مسلم 3/413.


الصفحة 273
لقد ذكر الحديث في ستة أبواب متتابعة بشتى الصور، وهي كما يلي في كتاب الحج بألفاظها:

1- باب من أشعر وقلّد بذي الحليفة ثمّ أحرم.

قال البخاري: «حدثنا أبو نعيم حدثنا أفلح عن القاسم عن عائشة (رضي الله عنها) قالت: فتلت قلائد بُدن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بيديّ ثمّ قلّدها وأشعرها وأهداها، وما حُرم عليه شيء كان أحلّ له»(1).

أقول: وهذا الحديث لم يشرحه ابن حجر في فتح الباري(2) فظن خيراً.

2- باب فتل القلائد للبدن والبقر.

قال البخاري: «حدثنا عبد الله بن يوسف حدثنا الليث حدثنا ابن شهاب عن عروة عن عمرة بنت عبد الرحمن ان عائشة (رضي الله عنها) قالت: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يهدي من المدينة فأفتل قلائد هديه ثمّ لا يجتنب شيئاً ممّا يجتنبه المحرم»(3).

أقول: وهذا الحديث أيضاً غض ابن حجر النظر عنه فتعداه بسلام(4).

3- باب إشعار البدن.

قال البخاري: «حدثنا عبد الله بن سلمة حدثنا أفلح بن حميد عن القاسم عن عائشة (رضي الله عنها) قالت: فتلت قلائد هدي النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ثمّ أشعرها وقلّدها أو قلّدتها، ثمّ بعث بها إلى البيت وأقام بالمدينة فما حرم عليه شيء كان له حلّ»(5).

____________

(1) صحيح البخاري 2/169ح 3 ط بولاق.

(2) فتح الباري 4/291.

(3) صحيح البخاري 2/169 ح 2ط بولاق.

(4) فتح الباري 4/291.

(5) صحيح البخاري 2/169 ح 1 ط بولاق.


الصفحة 274
أقول: وعلى ما عودنا ابن حجر في سابقيه لقد تغاضى عن شرحه إلى شرح معنى الإشعار ومشروعيته واختلاف العلماء فيه(1).

4- باب من قلد القلائد بيده:

قال البخاري: «عبد الله بن يوسف، وذكر الحديث الّذي ذكرناه أوّلاً كخير شاهد فلا حاجة إلى إعادة ذكره»(2).

5- باب تقليد الغنم.

قال البخاري: «حدثنا أبو النعمان حدثنا عبد الواحد حدثنا الأعمش حدثنا إبراهيم عن الأسود عن عائشة (رضي الله عنها) قالت: كنت أفتل القلائد للنبي صلّى الله عليه وسلّم فيقلّد الغنم ويقيم في أهله حلالاً»(3).

أقول: وقد استبسل ابن حجر في شرح عنوان الباب وذكر من رأى تقليد الغنم ومن لم ير والرد عليه بحديث الباب إلى آخر ما عنده(4).

6- نفس الباب.

قال البخاري: «حدثنا أبو النعمان حدثنا حماد حدثنا منصور بن المعتمر(ح= حيلولة) وحدثنا محمّد بن كثير أخبرنا سفيان عن منصور عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة (رضي الله عنها) قالت: كنت أفتل قلائد الغنم للنبي صلّى الله عليه وسلّم فيبعث بها ثمّ يمكث حلالاً»(5).

____________

(1) أنظر فتح الباري 4/292.

(2) صحيح البخاري 2/169 ح 2 ط بولاق.

(3) صحيح البخاري 2/169 ح 2ط بولاق.

(4) من شاء الاستزادة فليرجع إلى فتح الباري 4/295.

(5) صحيح البخاري 2/170 ح 3 ط بولاق.


الصفحة 275
أقول: ذكر ابن حجر إعلال بعض المخالفين حديث الباب بأنّ الأسود تفرد عن عائشة بتقليد الغنم دون بقية الرواة عنها من أهل بيتها وغيرهم. قال المنذري وغيره: ليست هذه بعلة لأنه حافظ ثقة لا يضرّه التفرد.

7- الباب نفسه.

قال البخاري: «حدثنا أبو نعيم حدثنا زكرياء عن عامر عن مسروق عن عائشة (رضي الله عنها) قالت: فتلت لهدي النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، تعني القلائد قبل أن يحرم»(1).

8- باب القلائد من العهن.

قال البخاري: «حدثنا عمرو بن عليّ حدثنا معاذ حدثنا ابن عون عن القاسم عن أم المؤمنين (رضي الله عنها) قالت: فتلت قلائدها من عهن كان عندي»(2).

أقول: وقد أشار ابن حجر في فتح الباري إلى تفاوت رواية يحيى في الباب، كما أشار إلى رواية مسلم للحديث عن ابن عون مثله وزاد: «فأصبح فينا حلالاً يأتي ما يأتي الحلال من أهله، وهذه الزيادة كشفت لنا غمغمة الأحاديث السابقة في أقوال عائشة: وما حرم عليه شيء كان أحل له، أو لا يجتنب شيئاً ممّا يجتنبه المحرم، أو فما حرم عليه شيء كان له حلّ، أو قولها: فيقيم في أهله حلالاً، أو ثمّ يمكث حلالاً»(3).

وبعد هذا العرض نترك المقارنة لمن أحب، ليعرف كيف التلاعب بألفاظ الحديث عند الرواة، من دون حياء.

____________

(1) صحيح البخاري 2/170ح 4 ط بولاق.

(2) صحيح البخاري 2/170 ط بولاق.

(3) فتح الباري 4/296.


الصفحة 276
والآن إلى:

نقاط على الحروف:

إذا ما رجعنا ثانية إلى الحديث وقرأناه قراءة ثانية ومتأنّية تساقطت من أجواء المسائل التالية:

1- ما بال زياد يكتب إلى عائشة في ذلك؟ وكان الأحرى به وقد أصبح ابن أبي سفيان أن يكتب إلى أخته أم حبيبة؟ أليس كذلك؟ فهي أخته فيما يزعمون، وهي من أمهات المؤمنين، ولا يخفى عليها ذلك من فعل النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فإن لم تكن فتلت القلائد مرة، فلا أقل أنها رأت أو سمعت من النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في ذلك شيئاً. وهذه عاشت كثيراً من سنيّ ولاية زياد وأدرك هو حياتها فقد ماتت سنة 59هـ كما في اسعاف المبطأ(1).

2- هل أنّ أحاديث عائشة كلها لواقعة واحدة، فإن كانت فلماذا تفاوتت صورها وقد بلغت عند مسلم عشرة أحاديث ومرّت ثمانية منها عند البخاري؟ أو هي وقائع متعددة؟

فإن كانت كلّها لواقعة واحدة فلماذا اختلفت اختلافاً فاحشاً حتى في رواية الراوي الواحد عن عائشة وفي المصدر الواحد؟

فانظر روايات عمرة وعروة والقاسم والأسود، وقارن بين رواياتهم على انفراد فضلاً عن مقارنتها بروايات بعضهم مع بعض؟ وإن كانت لوقائع متعددة فما بال عائشة وحدها تتولى فتل القلائد دون بقية الزوجات في جميع تلك السنين؟

____________

(1) إسعاف المبطأ /35.


الصفحة 277
على أنّه من المستبعد جداً أن لا يكون قد شاركتها مرة غيرَها في ذلك الفتل العظيم الّذي خصّت نفسها به.

وأبعد من ذلك كله عدم ورود حديث واحد عنهن يؤيد ذلك الإختصاص.

3- ثمّ ما بالها لم تذكر - ولو لمرة واحدة - اسم الشخص الّذي كان النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يرسل معه الهدي، وما ذكرت غير أبيها؟ فهل يعني ذلك أنه وحده كان يتولى سياق الهدي كما كانت ابنته تتولى فتل القلائد في جميع سني الهجرة؟ وهذا ما يكذبه الوجدان، لأنه لم يذهب إلى مكة أو إلى منى بعد الهجرة إلاّ وهو مع النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) سواء في عمرة القضاء أو في حجة الوداع، وفي كلتيهما كان النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) موجوداً يتولى هديه بنفسه.

ولو سلّمنا جدلاً زعم بعض علماء التبرير أنه كان ذلك في السنة التاسعة وهي سنة تبليغ براءة ـ بحجة ذهابه أميراً على الموسم، فما بال الرواة وعلماء التبرير أبلسوا عن مصير الهدي عندما لحقه الإمام وأبلغه أمر النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأخذ منه الآيات فرجع أبو بكر إلى المدينة، كيف صار الهدي هل أرجعه معه؟ أو أخذه عليّ كما أخذ آيات براءة؟ أو أرسله أبو بكر مع آخرين غير عليّ؟ وهكذا استفهام بعد استفهام هذا كله إذا صدقت تلكم الأحلام.

ولكي يستبين زيف ذلك الزعم، فلنقرأ في ذلك ما رواه عبد الله بن أحمد في زيادات المسند: «قال عبد الله بن أحمد: حدثنا محمّد بن سليمان لوين، حدثنا محمّد بن جابر عن سماك عن حنش عن عليّ قال: لما نزلت عشر آيات من براءة على النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) دعا النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أبا بكر، فبعثه بها ليقرأها على أهل مكة، ثمّ دعاني النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فقال لي: أدرك أبا بكر فحيثما لحقته فخذ الكتاب منه

الصفحة 278
فاذهب به إلى مكة فاقرأه عليهم، فلحقته بالجحفة، فأخذت الكتاب منه ورجع أبو بكر إلى النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فقال: يا رسول الله نزل فيَّ شيء؟ قال: لا. ولكن جبريل جاءني فقال: لن يؤدي عنك إلاّ أنت أو رجل منك»(1).

ونعود إلى أوّل السؤال لو سلّمنا جدلاً ان أباها تولى كبر ذلك في السنة التاسعة، فمن هم أولئك الذين تولوا المهمة في باقي السنوات؟ ولماذا لم تذكرهم؟ وهي لا تخلو أمّا أن تكون تعلمهم وكتمت أسماءهم لحاجة في نفسها - كما فعلت ذلك في حديث آخر وذلك في مرض النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فذكرت خروجه يتوكأ على رجلين الفضل بن العباس ورجل، فسأل السامع ابن عباس فأخبره انه عليّ، ولكن عائشة لا تطيب لها نفس أن تذكره - وهذا لا يليق بها.

وأمّا أن تكون لا تعلمهم وهو بعيد غايته، كيف وابن عباس كان يعلم بعضاً منهم، فيذكر ذويب الخزاعي منهم، وناجية الأسلمي منهم(2). وأعود إلى الأفغاني الّذي استدرجني إلى هذه الجولة لأقول له في الختام: أرأيت كيف كان ابن عباس أوعى وأذكى وأزكى في حديثه حين سمّى من عَرفهم، وهو لم يفتل فتلاً ولا حبلاً (!!؟).

____________

(1) زيادات المسند 1/322 برقم 1296.

(2) راجع المحلى لابن حزم 7/269 عن ابن عباس قال بعث رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) مع فلان الأسلمي ثماني عشرة بدنة... وفي سنن ابن ماجة 2/1036 برقم 3105 عن ابن عباس ان ذويباً الخزاعي حدث ان النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كان يبعث معه بالبدن... وفي سنن أبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجة سمي الأسلمي وهو ناجية، وقال الترمذي: حديث ناجية حديث حسن صحيح. وفي المبسوط للسرخسي الحنفي 4/145: ان النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بعث عام الحديبية الهدايا على يد ناجية بن جندب الأسلمي...


الصفحة 279
وأمّا فتياه فقد كانت هي الفتيا الصحيحة، ورأيه هو الصواب، وهو على رأي الإمام ورأي عمر وأبنه وقيس بن سعد وهؤلاء من الصحابة بينهم خليفتان، مضافاً إلى نفر من فقهاء التابعين كالنخعي وعطاء وابن سيرين وآخرين.

وحسب ابن عباس انّه كان على رأي عليّ أمير المؤمنين الّذي هو مع الحقّ والحقّ معه كما قال (صلّى الله عليه وآله وسلّم)(1) ولو بحثنا عن جذور المسألة تاريخياً لوجدناها من أيام كان ابن عباس بالمدينة قبل أن يخرج منها مع الإمام (عليه السلام) فكان يبعث هديه ويتجرّد كما كان يفعل ذلك الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) أيضاً، فقد روى الشيخ الطوسي في التهذيب بسنده عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (انّ ابن عباس (رضي الله عنه) وعليّاً (عليه السلام) كانا يبعثان بهديهما من المدينة ثمّ يتجرّدان، وإن بعثا بهما من أفق من الآفاق واعدا أصحابهما بتقليدهما وإشعارهما يوماً معلوماً، ثمّ يمسكان يومئذ إلى يوم النحر عن كلّ ما يمسك عنه المحرم، ويجتنبان كلّ ما يجتنب المحرم، إلاّ أنّه لا يلبي إلاّ من كان حاجاً أو معتمراً)(2). والحديث صحيح الإسناد(3).

وقد استمر كذلك حتى في أيام ولايته على البصرة كما سيأتي مزيد بيان عن ذلك في تاريخ ولايته.

____________

(1) تاريخ بغداد 14/321 بسنده عن أبي ثابت مولى أبي ذر قال دخلت على أم سلمة فرأيتها تبكي وتذكر عليّاً فقالت: سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يقول: عليّ مع الحقّ والحقّ مع عليّ ولن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض يوم القيامة، وهذا ما رواه سعد بن أبي وقاص أيضاً وقد قال سمعت في بيت ام سلمة، فأرسل معاوية إلى أم سلمة فسألها فقالت قد قاله رسول الله في بيتي، فقال معاوية لسعد: ما كنت عندي قط ألوم منك الآن فقال: ولم؟ قال: لو سمعت من النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لم أزل خادماً لعليّ حتى أموت. أخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد 7/236، ولم يسم معاوية بل كنى عنه بأحد وبالرجل.

(2) تهذيب الأحكام 5/424.

(3) كما في الجواهر 20/160 ط الآداب النجف.


الصفحة 280
وختاماً لحديثنا عن حوار ابن عباس مع عائشة وما جرنا إليه كلام الأفغاني في كتابه عائشة والسياسة نودّع القارئ بما قاله الكاتب الإسلامي المعروف أبو الأعلى المودودي:

فلنقرأ ما يقول أبو الأعلى المودودي في محاضرته تدوين الدستور الإسلامي: «وإذا كان عند من يسوّغون تدخّل المرأة في شؤون السياسة والحكم دليل يؤيد نظريتهم، فما هو إلاّ أنّ عائشة (رضي الله عنها) قد خرجت تطالب بدم عثمان (رضي الله عنه) وقاتلت عليّاً كرّم الله وجهه في وقعة الجمل.

إلاّ أنّ هذا الدليل قائم على أساس من الخطأ. وذلك أنّه ما دام هدى الله ورسوله واضحاً في المسألة، لا يجوز أبداً أن يحتج فيها بعمل شخصي لأحد من الصحابة. ممّا يخالف هدى الله ورسوله باديء الرأي. إنّ سيَر الصحابة رضوان الله عليهم لا ريب هي مشاعل الهدى ومصابيح الدجى، نستضيء بها في اتباع ما هدانا الله ورسوله إليه، لا نتبع ما فرط منهم من الهفوات الشخصية معرضين عن الآيات الواضحة وهدى الرسول الثابت. ثمّ كيف يجوز لنا أن نتخذ الفعل الّذي قد خطّأه كبّار الصحابة في تلك الآونة والّذي ندمت عليه أم المؤمنين بنفسها فيما بعد دليلاً على إحداث بدعة في الإسلام.

فهذه أم المؤمنين أم سلمة (رضي الله عنها) لمّا بلغها إقدام عائشة (رضي الله عنها) على ذلك الأمر، كتبت اليها كتاباً قد نقله بتمامه ابن قتيبة في الإمامة والسياسة وابن عبد ربه في العقد الفريد فانظر فيه ما أشد الكلمات الّتي تعظ بها أم سلمة (رضي الله عنها): «قد جمع القرآن الكريم ذيلك فلا تندحيه... أقد نسيتِ أن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قد نهاكِ عن الافراط في الدين... وما كنتِ قائلة لرسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لو عارضكِ بأطراف الجبال والفلوات على قَعود من الإبل من منهل إلى منهل».


الصفحة 281
ثمّ اذكروا قول عبد الله بن عمر: (رضي الله عنه) «بيت عائشة خير من هودجها».

واقرأوا قول أبي بكرة هذا في صحيح البخاري: «ما نجوت من فتنة وقعة الجمل إلاّ لما تذكرت من قول رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): لن يفلح قوم ولّوا أمرهم امرأة».

ومن كان يا ترى أعلم بالشرع من عليّ (رضي الله عنه) في ذلك الزمن فقد كتب إلى أم المؤمنين عائشة (رضي الله عنها) بصراحة: «إنّ ما أقدمتِ عليه يتعدى حدود الشريعة»، ولم يسع أم المؤمنين على فرط ذكائها وكمال فقاهتها أن تجيبه على ذلك بدليل. كانت كلمات عليّ (رضي الله عنه) في كتابه: «أمّا بعد فانك خرجت غاضبة(1) لله ولرسوله تطلبين أمراً كان عنك موضوعاً، ما بال النساء والحرب والإصلاح بين الناس؟ تطلبين بدم عثمان ولعمري لمن عرّضك للبلاء وحملك على المعصية أعظم إليك ذنباً من قتلة عثمان؟».

أُنظر كيف يعدّ عليّ (رضي الله عنه) ما أتت به أم المؤمنين مخالفاً للشرع، ولكنها ما وسعها إلاّ أن تجيبه قائلة: «جلّ الأمر عن العتاب والسلام».

ثمّ لمّا انتهت وقعة الجمل ودخل عليّ (رضي الله عنه) على أم المؤمنين قال لها: «يا صاحبة الهودج: قد أمرك الله أن تقعدي في بيتك ثمّ خرجت تقاتلين؟» فكذلك لم تستطع حينئذٍ أن ترد عليه قائلة: «إنّ الله لم يأمرنا معشر النساء بالقعود في البيت، وإنّ لنا حقاً في معالجة السياسة والحرب».

ثمّ قد تحقق أيضاً انّ أم المؤمنين (رضي الله عنها) ما زالت في آخر الأمر نادمة على فعلها، فروى العلاّمة ابن عبد البر في الإستيعاب: «انّ أم المؤمنين شكت إلى عبد

____________

(1) الصواب (عاصية) كما هو في النهج وغيره، وأرجو أن لا يكون ذلك من التصحيف المتعمد بل من غلط الطبع. ولو صح ما في المتن كان ذلك مدحاً لها كيف والكتاب في معرض التوبيخ والذم فلاحظ.


الصفحة 282
الله بن عمر (رضي الله عنه) فقالت: ما لك يا أبا عبد الرحمن لم تنهني عن الخروج؟ فقال ابن عمر: رأيت أن رجلاً قد غلب على أمركِ ولم أركِ تخالفينه، فقالت: لو نهيتني لم أخرج. فأي حجة يا ترى بعد هذا كلّه في عمل عائشة (رضي الله عنها) يحتج بها ذو علم...»(1).

أقول: فلا بدع ولا مؤاخذة لو قال الشيخ الطوسي في كتابه الاقتصاد: «وأمّا إصرار عائشة فكتاب أمير المؤمنين (عليه السلام) وما روي من المحاورة بين عبد الله بن العباس وبينها وامتناعها من تسميته بأمير المؤمنين دليل واضح على الإصرار»(2).

وقال أيضاً: «وروي عن ابن عباس انّه قال لأمير المؤمنين (عليه السلام) حين أبت عائشة الرجوع إلى المدينة: دعها في البصرة ولا ترحلها، فقال (عليه السلام): لا تألوا شراً ولكني أردها إلى بيتها»(3).

____________

(1) طبعت في (نحو الدستور الإسلامي) لجنة الشباب المسلم ط القاهرة سنة 1373/120 ـ 124 وضمن: نظرية الإسلام وهديه في السياسة والقانون والدستور، دار الفكر بدمشق الطبعة الأولى سنة 1384 ـ 1964.

(2) الاقتصاد /228 تح ـ الشيخ حسن سعيد ط سنة 1400.

(3) نفس المصدر /229.