الصفحة 151
عليّ بالرحيل، لعلمه باختلاف الكلمة، وتفاوت الرأي، وعدم النظام لأمورهم، وما لحقه من الخلاف منهم، وكثر التحكيم في جيش أهل العراق، وتضارب القوم بالمقارع ونعال السيوف، وتسابّوا، ولام كلّ فريق منهم الآخر في رأيه»(1).

8- قال أبو مخنف: «حدّثني إسماعيل بن يزيد عن حُميد بن مسلم عن جندب بن عبد الله، إنّ عليّاً قال للناس يوم صفين: لقد فعلتم فعلةً ضعضعت قوةً، وأسقطت مُنّة، وأوهنت وأورثت وَهناً وذلة، ولما كنتم الأعلين، وخاف عدوكم الاجتياح، واستحرّ بهم القتل ووجدوا ألم الجراح، رفعوا المصاحف، ودعوكم إلى ما فيها ليفثئوكم عنهم، ويقطعوا الحرب فيما بينكم وبينهم، ويتربصوا بكم ريب المنون خديعة ومكيدة، فأعطيتموهم ما قد سألوا، وأبيتم إلاّ أن تُدهِنوا وتجوزّوا، وأيم الله ما أظنكم بعدها توافقون رَشَدا، ولا تصيبون باب حزم»(2).

9- عن أبي الودّاك قال: «لمّا تداعى الناس إلى الصلح بعد رفع المصاحف قال عليّ: إنّما فعلتُ ما فعلت لمّا بدا فيكم الخورَ والفَشَل ـ والضعف ـ»(3).

10- أخرج ابن أبي شيبة في المصنف(4) وعنه في كنز العمال(5) وأنساب الأشراف(6) عن عبد الله بن الحسن قال: «قال عليّ للحكمينَ: على أن تحكما بما في كتاب الله، وكتاب الله كله لي، فإن لم تحكما بما في كتاب الله فلا حكومة لكما».

____________

(1) مروج الذهب 2/405.

(2) أنظر تاريخ الطبري 5/56 دار المعارف.

(3) أنظر وقعة صفين /596.

(4) المصنف 15/294 ط باكستان (إدارة القرآن).

(5) كنز العمال 11/308 ط حيدر آباد الثانية.

(6) أنساب الأشراف 2/338 تح ـ المحمودي.


الصفحة 152
وفي حديث آخر عن جعفر قال: «قال عليّ: أن تحكما بما في كتاب الله فتحييا ما أحيى القرآن، وتميتا ما أمات القرآن ولا تزنيا»(1).

11- أخرج البلاذري في أنسابه بسنده عن الشعبي قال: «لمّا اجتمع عليّ ومعاوية على أن يحكّما رجلين اختلف الناس على عليّ فكان عظمهم وجمهورهم مقرّين بالتحكيم راضين به، وكانت فرقة منهم ـ وهم زهاء أربعة آلاف من ذوي بصائرهم والعبّاد منهم ـ منكرة للحكومة، وكانت فرقة منهم وهم قليل متوقفين. فأتت الفرقة المنكرة عليّاً فقالوا: عُد إلى الحرب ـ وكان عليّ يحبّ ذلك ـ فقال الذين رضوا بالتحكيم، والله ما دعانا القوم إلاّ إلى حقّ وإنصاف وعدل، وكان الأشعث بن قيس وأهل اليمن أشدهم مخالفة لمن دعا إلى الحرب، فقال عليّ للذين دعوا إلى الحرب: يا قوم قد ترون خلاف أصحابكم وأنتم قليل في كثير، ولئن عدتم إلى الحرب ليكونّن هؤلاء أشدّ عليكم من أهل الشام، فإذا اجتمعوا وأهل الشام عليكم أفنوكم، والله ما رضيت ما كان ولا هويته، ولكن ملتُ إلى الجمهور منكم خوفاً عليكم ثمّ أنشد:


وما أنا إلاّ من غزيّة إن غوتغويت وإن ترشد غزية أرشد

ففارقوه، ومضى بعضهم إلى الكوفة قبل كتاب القضية، وأقام الباقون على إنكارهم التحكيم ناقمين عليه يقولون: لعلّه يتوب ويراجع...»(2).

____________

(1) المصنف لابن أبي شيبة 15/294 نشر إدارة القرآن والعلوم الإسلامية كراتشي باكستان سنة 1406هـ.

(2) أنساب الأشراف 2/338 تح ـ المحمودي.


الصفحة 153
12- قال ابن البطريق في كتابه العمدة: «فلمّا حضروا لكتابة المقاضاة وكان عبد الله بن العباس (رضي الله عنه) كاتب أمير المؤمنين (عليه السلام)، فلمّا كتب: هذا ما قاضى عليه أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب معاوية بن أبي سفيان.

قال له عمرو بن العاص: امح أمير المؤمنين فإنّا لا نعرفه، فلو عرفنا انّه أمير المؤمنين لما نازعناه.

فقال أمير المؤمنين (عليه السلام) لابن عباس امحه. فقال ابن عباس: لا أمحوه، فمحاه أمير المؤمنين (عليه السلام) بعد أن قال لعمرو بن العاص: يا بن النابغة ألا تعرف أنّي أمير المؤمنين. فقال ابن العاص: والله لا جمعني وإياك مجلس أبداً. فقال له أمير المؤمنين (عليه السلام): أرجو أن يطهّر الله تعالى مجلسي منك ومن أمثالك...»(1).

وقد ذكر اليعقوبي في تاريخه: «وكتبوا كتابين بالقضية كتاباً من عليّ (عليه السلام) بخط كاتبه عبيد الله بن أبي رافع وكتاباً من معاوية بخط كاتبه عمر بن عبّاد الكناني، واختصموا في تقديم عليّ أو تسمية عليّ بأمرة المؤمنين، فقال أبو الأعور السلمي لا نقدّم عليّاً. وقال أصحاب عليّ: لا نغيّر اسمه ولا نكتب إلاّ بأمرة المؤمنين، فتنازعوا على ذلك منازعة شديدة حتى تضاربوا بالأيدي. فقال الأشعث: أمحوا هذا الاسم. فقال له الأشتر: والله يا أعور لهممت أن أملأ سيفي منك، فلقد قتلت قوماً ما هم بأشرّ منك، وإني أعلم انك ما تحاول إلاّ الفتنة، وما تدور إلاّ على الدنيا وإيثارها على الآخرة. فلمّا اختلفوا قال عليّ (عليه السلام): الله أكبر قد كتب رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يوم الحديبية...»(2).

____________

(1) العمدة /172 ط حجرية، وقارن الدرجات الرفيعة /117 ط الحيدرية سنة 1382 هـ، ووقعة صفين /508 ط الثانية بمصر 1382 هـ.

(2) تاريخ اليعقوبي 2/165 ط الغري قضية الكتاب.


الصفحة 154
وقال أيضاً: «وكتب كتاب القضية على الفريقين يرضون بذلك بما أوجبه كتاب الله، واشترط على الحكمين في الكتابين أن يحكما بما في كتاب الله من فاتحته إلى خاتمته، لا يتجاوزان ذلك ولا يحيدان عنه إلى هوى أو ادهّان، وأخذ عليهما أغلظ العهود والمواثيق، فإن هما جاوزا بالحكم كتاب الله من فاتحته إلى خاتمته فلا حكم لهما»(1).

لقد صدقت نبوءة النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حين قال للإمام يوم صلح الحديبية حين أبى الإمام أن يمحو اسم رسول الله لأنّ سهيل بن عمرو لم يرض بذلك، فمحاه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بيده وقال للإمام: (إنّك ستدعى إلى مثلها).

وصدق الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) حين قال: (إنّ ممّا عهد إليَّ النبيّ صلّى الله عليه (وآله) وسلّم أنّ الأمة ستغدر بي من بعده)(2).

وأخيراً صدق ابن عباس في وصفه للإمام في محنة تلك الحرب الضروس الطاحنة وموقف الناس منه، فقد سئل عن سبب قبوله التحكيم فأجاب بما ذكرناه من قبل وختم ذلك بقوله: (ولو كان معه من يصبر على السيف لكان الفتح قريباً).

والّذي يبدو لي ممّا تقدّم أنّ ابن عباس كان هو الّذي افتتح كتابة كتاب القضية، ولمّا وقع الاختلاف حول كلمة (أمير المؤمنين) وأبى محوها فمحاها الإمام بيده كما ذكر ذلك ابن البطريق الحلي في العمدة كما مرّ، تولى كتابة الكتاب لنسخة اهل العراق عبيد الله بن أبي رافع كاتب الإمام، وتولى كتابة نسخة لأهل العراق كاتب معاوية عمير بن عبّاد الكناني كما مر عن اليعقوبي. ومهما

____________

(1) نفس المصدر /166.

(2) أنظر كنز العمال 11/284 ط حيدرآباد الثانية، نقلاً عن مصنف ابن أبي شيبة ومسند الحارث ومسند البزار ودلائل البيهقي وغيره.


الصفحة 155
يكن من أمر الكتابة والكتاب، فقد تم الإتفاق على أن يوافي عليّ ومعاوية موضع الحكمين بدومة الجندل في شهر رمضان مع كلّ واحد منهما أربعمائة من أصحابه وأتباعه(1).

واشترط على الحكمين أن يرفعا ما رفع القرآن، ويخفضا ما خفض القرآن، وأن يختارا لأمة محمّد صلّى الله عليه (وآله) وسلّم وأنّهما يجتمعان بدومة الجندل(2) فإن لم يجتمعا لذلك، اجتمعا من العام المقبل بأذرح(3).

قال أبو مخنف: «فكان الكتاب في صفر والأجل رمضان إلى ثمانية أشهر، إلى أن يلتقي الحكمان، ثمّ انّ الناس دفنوا قتلاهم، وأمر عليّ الأعور - يعني الحارث - فنادى في الناس بالرحيل»(4).

قال أبو مخنف: «حدثنا أبو جناب الكلبي عن عمارة بن ربيعة قال: خرجوا مع عليّ إلى صفّين وهم متوادون أحباء، فرجعوا متباغضين أعداء، ما برحوا من عسكرهم بصفين حتى فشا فيهم التحكيم، ولقد اقبلوا يتدافعون الطريق كله ويتشاتمون ويضطربون بالسياط، يقول الخوارج: يا أعداء الله دهنتم في أمر الله (عزّ وجلّ) وحكّمتم. وقال الآخرون: فارقتم إمامنا وفرّقتم جماعتنا، فلمّا دخل عليّ الكوفة لم يدخلوا معه حتى أتوا حروراء(5)، فنزل بها منهم اثنا عشر ألفاً، ونادى

____________

(1) أنظر تاريخ الطبري 5/57.

(2) مكان وسط بين أهل الشام وأهل العراق إذ هي على عشر مراحل من الكوفة وكذلك من الشام (الأعلاق النفسية لابن رستة /177).

(3) تاريخ الطبري 5/57.

(4) نفس المصدر 4/89.

(5) حروراء كجلولاء، بالمد وقد تقصر قرية بالكوفة على ميلين منها، نزل بها جماعة خالفوا عليّاً من الخوارج، تاج العروس 3/137.


الصفحة 156
مناديهم: أنّ أمير القتال شبث بن ربعي التميمي، وأمير الصلاة عبد الله بن الكوّاء اليشكري، والأمر شورى بعد الفتح، والبيعة لله (عزّ وجلّ)، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»(1).

والآن لنقرأ محاورات ابن عباس مع المحكَمة أوّلاً في حروراء ثمّ في الكوفة، ونأتي على البقية في مواردها حسب ورودها تاريخياً مع الأحداث.

قال البلاذري في أنساب الأشراف وابن عساكر في تاريخه وغيرهما بالسند عن الزهري قال: «لمّا قدم عليّ بن أبي طالب إلى الكوفة من صفين، خاصمت الحرورية عليّاً ستة أشهر، وقالوا شككت في أمرك، وحكّمت عدوك... وطالت خصومتهم لعليّ... فأرسل إليهم عليّ عبد الله بن عباس وصعصعة بن صوحان فدعوا هم إلى الجماعة وناشداهم...»(2).

محاورة ابن عباس مع المحكمة في حروراء:

قال ابن اعثم في الفتوح وغيره: «فبينا عليّ كرّم الله وجهه مقيم بالكوفة ينتظر انقضاء المدة الّتي كانت بينه وبين معاوية ثمّ يرجع إلى محاربة أهل الشام، إذ تحركت طائفة من أصحابه في أربعة آلاف فارس، وهم من النساك العبّاد أصحاب البرانس، فخرجوا عن الكوفة وتحزّبوا وخالفوا عليّاً كرم الله وجهه، وقالوا: لا حكم إلاّ لله ولا طاعة لمن عصى الله.

قال: وانحاز إليهم نيّف عن ثمانية آلاف رجل ممّن يرى رأيهم، فصار القوم في اثني عشر ألفاً وساروا حتى نزلوا بحروراء، وأمّروا عليهم عبد الله بن الكوّاء.

____________

(1) تاريخ الطبري 5/63.

(2) أنساب الأشراف 2/353، وتاريخ مدينة دمشق (ترجمة ابن الكواء).


الصفحة 157
قال: فدعا عليّ (رضي الله عنه) بعبد الله بن عباس فأرسله إليهم وقال: يا بن عباس امض إلى هؤلاء القوم فانظر ما هم عليه ولماذا اجتمعوا؟

[وأوصاه بقوله: لا تخاصمهم بالقرآن فقال له ابن عباس: يا أمير المؤمنين فأنا أعلم بكتاب الله منهم، في بيوتنا نزل.

قال: صدقت، ولكن القرآن حمّال ذو وجوه تقول ويقولون، ولكن حاججهم بالسنّة فإنّهم لن يجدوا عنها محيصاً(1) فخرج ابن عباس اليهم فحاججهم بالسنن فلم يبق بأيديهم حجة](2).

قال ابن اعثم في حديثه: فأقبل عليهم ابن عباس حتى إذا شرف عليهم ونظروا إليه ناداه بعضهم وقال: ويلك يا بن عباس أكفرت بربك كما كفر صاحبك عليّ بن أبي طالب؟

فقال ابن عباس: إنّي لا أستطيع أن أكلمكم كلكم، ولكن انظروا أيكم أعلم بما يأتي ويذر فليخرج إليَّ حتى أكلّمه.

قال: فخرج إليه رجل منهم يقال له عتاب بن الأعور التغلبي، حتى وقف قبالته، وكأن القرآن إنّما كان ممثلاً بين عينيه، فجعل يقول ويحتج ويتكلم بما يريد، وابن عباس ساكت لا يكلمه بشيء، حتى إذا فرغ من كلامه، أقبل عليه ابن عباس فقال: إنّي أريد أن أضرب لك مثلاً، فإن كنت عاقلاً فافهم. فقال الخارجي: قل ما بدا لك.

____________

(1) الإتقان للسيوطي 1/175، ولابن أبي الحديد المعتزلي في شرح هذه الوصية كلام بدأه بقوله: هذا الكلام لا نظير له في شرفه وعلو معناه...

(2) الدر المنثور للسيوطي 1/15عن ابن سعد.


الصفحة 158
فقال له ابن عباس: خبّرني عن دار الإسلام هذه هل تعلم لمن هي؟ ومن بناها؟

فقال الخارجي: نعم، هي لله (عزّ وجلّ)، وهو الّذي بناها على أيدي أنبيائه وأهل طاعته، ثمّ أمر من بعثه إليها من الأنبياء أن يأمروا الأمم أن لا يعبدوا إلاّ إياه، فآمن قوم وكفر قوم، وآخر من بعثه إليها من الأنبياء محمّداً صلّى الله عليه (وآله) وسلّم.

فقال ابن عباس: صدقت، ولكن خبّرني عن محمّد حين بعث إلى دار الإسلام فبناها كما بناها غيره من الأنبياء، هل أحكم عمارتها وبيّن حدودها، وأوقف الأمة على سبلها وعملها، وشرائع أحكامها ومعالم دينها؟

فقال الخارجي: نعم قد فعل محمّد ذلك.

قال ابن عباس: فخبّرني الآن عن محمّد هل بقي فيها أو رحل عنها؟

قال الخارجي: بل رحل عنها.

قال ابن عباس: فخبّرني رحل عنها وهي كاملة العمارة بيّنة الحدود؟ أم رحل عنها وهي خربة ولا عمران فيها؟

قال الخارجي: بل رحل عنها وهي كاملة العمارة بيّنة الحدود قائمة المنار.

قال ابن عباس: صدقت. الآن فخبّرني هل كان لمحمّد صلّى الله عليه (وآله) وسلّم أحد يقوم بعمارة هذه الدار من بعده أم لا؟

قال الخارجي: بلى قد كان له صحابة وأهل بيت ووصي وذريّته يقومون بعمارة هذه الدار من بعده.

قال ابن عباس: ففعلوا أم لم يفعلوا؟


الصفحة 159
قال الخارجي: بلى قد فعلوا وعمروا هذه الدار من بعده.

قال ابن عباس: فخبّرني الآن عن هذه الدار من بعده هل هي اليوم على ما تركها محمّد صلّى الله عليه (وآله) وسلّم من كمال عمارتها وقوام حدودها؟ أم هي خربة عاطلة الحدود؟

قال الخارجي: بل هي عاطلة الحدود خربة.

قال ابن عباس: أفذريّته وليت هذا الخراب أم أمته؟

قال: بل أمته.

قال ابن عباس: فأنت من الأمة أم من الذرية؟

قال: أنا من الأمة.

قال ابن عباس: يا عتاب فخبرني الآن عنك كيف ترجو النجاة من النار وأنت من أمة قد أخربت دار الله ودار رسوله، وعطلت حدودها؟

فقال الخارجي: إنّا لله وإنّا إليه راجعون، ويحك يا بن عباس احتلت والله حتى أوقعتني في أمر عظيم وألزمتني الحجة حتى جعلتني ممّن أخرب دار الله. ولكن ويحك يابن عباس فكيف الحيلة في التخلص ممّا أنا فيه؟

قال ابن عباس: الحيلة في ذلك أن تسعى في عمارة ما أخربته الأمة من دار الإسلام.

قال: فدلني على السعي في ذلك.

قال ابن عباس: إنّ أوّل ما يجب عليك في ذلك أن تعلم من سعى في خراب هذه الدار فتعاديه، وتعلم من يريد عمارتها فتواليه.


الصفحة 160
قال: صدقت يا بن عباس والله ما أعرف أحداً في هذا الوقت يحبّ عمارة دار الإسلام غير ابن عمك عليّ بن أبي طالب، لولا أنّه حكّم عبد الله بن قيس في حقّ هو له.

قال ابن عباس: ويحك يا عتاب إنا وجدنا الحكومة في كتاب الله (عزّ وجلّ) انّه قال تعالى: {فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا}(1)، وقال تعالى: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ}(2).

قال: فصاحت الخوارج من كلّ ناحية وقالوا: فكأنّ عمرو بن العاص عندك من العدول؟ وأنت تعلم أنّه كان في الجاهلية رأساً وفي الإسلام ذَنباً، وهو الأبتر بن الأبتر، ممّن قاتل محمّداً صلّى الله عليه (وآله) وسلّم وفتن أمته من بعده.

فقال ابن عباس: يا هؤلاء إنّ عمرو بن العاص لم يكن حَكَماً (لنا) أفتحتجون به علينا؟ إنّما كان حَكَماً لمعاوية وقد أراد أمير المؤمنين عليّ (رضي الله عنه) أن يبعثني أنا فأكون له حَكَماً فأبيتم عليه وقلتم: قد رضينا بأبي موسى الأشعري، وقد كان أبو موسى لعمري رضىً في نفسه وصحبته واسلامه وسابقته، غير انّه خُدِع فقال ما قال، وليس يلزمنا من خديعة عمرو بن العاص لأبي موسى، فاتقوا ربّكم وارجعوا إلى ما كنتم عليه من طاعة أمير المؤمنين، فإنّه وإن كان قاعداً عن طلب حقّه، فإنّما ينتظر انقضاء المدة ثمّ يعود إلى محاربة القوم، وليس عليّ (رضي الله عنه) ممّن يقعد عن حقّ جعله الله له.

____________

(1) النساء /35.

(2) المائدة /95.


الصفحة 161
قال: فصاحت الخوارج وقالوا: هيهات يا بن عباس نحن لا نتولى عليّاً بعد هذا اليوم أبداً، فارجع إليه وقل له فليخرج إلينا بنفسه حتى نحتج عليه ونسمع كلامه ويسمع من كلامنا، فلعلنا إن سمعنا منه شيئاً يعلق أمّا أن نرجع عمّا اجتمعنا عليه من حربه.

قال: فخرج عبد الله بن عباس إلى عليّ (رضي الله عنه) فخبرَ بذلك.

قال: فركب على إلى القوم في مائة رجل من أصحابه حتى وافاهم بحروراء»(1).

هذا جزء من أولى محاورات كانت لابن عباس مع الخوارج وقد كان معه في هذه المرة جماعة من أصحاب الإمام منهم صعصعة بن صوحان وزياد بن النضر الحارثي(2) كما كان معه عبد الله بن شداد ـ وهو ابن خالته ـ وقد حدّث هذا عن ذهابه معه إلى حروراء وذلك حين سألته عائشة عن الخوارج وكان ذلك بعد رجوعه من العراق إلى المدينة. وحديثه من الأحاديث الصحيحة فقد أخرجه أحمد والطبراني والحاكم والضياء المقدسي وأبو يعلى والبيهقي وغيرهم كما سيأتي ذكرهم.

وإلى القارئ لفظ الحديث بلفظ البيهقي في سننه الكبرى بسنده عن عبد الله بن شداد بن الهاد:

____________

(1) الفتوح 4/89، وقارن مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب 2/319 ط الحيدرية، وناسخ التواريخ 3/575 ط حجرية.

(2) أنظر الكامل للمبرد 3/210 ط نهضة مصر تح ـ محمّد أبو الفضل إبراهيم، والبدء والتاريخ المنسوب لأبي زيد البلخي 5/222.


الصفحة 162
قال: «قدمت على عائشة (رضي الله عنها) فبينا نحن جلوس عندها مرجعها من العراق ليالي قوتل عليّ ـ قتل عليّ ـ (رضي الله عنه)، إذ قالت لي يا عبد الله بن شداد هل أنت صادق عمّا أسألك عنه حدّثني عن هؤلاء القوم الذين قتلهم عليّ، قلت: وما لي لا أصدقك؟ قالت: فحدّثني عن قصتهم:

قلت: إنّ عليّاً لمّا أن كاتب معاوية وحكم الحَكَمين، خرج عليه ثمانية آلاف من قرّاء الناس، فنزلوا أرضاً من جانب الكوفة يقال لها حروراء، فإنهم انكروا عليه فقالوا: انسلخت من قميص ألبسكه الله وأسماك به، ثمّ انطلقت فحكّمت في دين الله ولا حكم إلاّ لله، فلمّا أن بلغ عليّاً ما عتبوا عليه وفارقوه، أمر فأذّن مؤذّن لا يدخلن على أمير المؤمنين إلاّ رجل قد حمل القرآن، فلمّا أن امتلأ من قرّاء الناس الدار، دعا بمصحف عظيم فوضعه عليّ (رضي الله عنه) بين يديه فطفق يصكه بيده ويقول: أيها المصحف حدّث الناس، فناداه الناس فقالوا: يا أمير المؤمنين ما تسأله عنه، إنّما هو ورق ومداد، ونحن نتكلم بما روينا منه فماذا تريد؟

قال: أصحابكم الذين خرجوا بيني وبينهم كتاب الله تعالى. يقول الله (عزّ وجلّ) في امرأة ورجل {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ}(1) فأمة محمّد أعظم حرمة من امرأة ورجل.

ونقموا عليَّ إنّي كاتبت معاوية وكتبتُ عليّ بن أبي طالب. وقد جاء سهيل بن عمرو، ونحن مع رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم بالحديبية حين صالح قومه قريشاً، فكتب رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم: بسم الله الرحمن الرحيم.

____________

(1) النساء /35.


الصفحة 163
فقال سهيل: بسم الله الرحمن الرحيم لا تكتب قلت: فكيف أكتب؟ قال: أكتب باسمك اللّهمّ.

فقال رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم: اكتبه، ثمّ قال: اكتب من محمّد رسول الله، فقال: لو نعلم أنّك رسول الله لم نخالفك، فاكتب هذا ما صالح عليه محمّد بن عبد الله قريشاً، يقول الله في كتابه: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ}(1).

فبعث إليهم عليّ بن أبي طالب (رضي الله عنه) عبد الله بن عباس. فخرجتُ معه حتى إذا توسّطنا عسكرهم قام ابن الكوّاء فخطب الناس فقال: يا حملة القرآن إنّ هذا عبد الله بن عباس فمن لم يكن يعرفه فأنا أعرفه من كتاب الله، هذا من نزل فيه وفي قومه {بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ}(2) فردّوه إلى صاحبه ولا تواضعوه كتاب الله (عزّ وجلّ)، فقام خطباؤهم فقالوا: والله لنواضعنّه كتاب الله، فإذا جاءنا بحقّ نعرفه اتبعناه، ولئن جاءنا بالباطل لنبكتّنه بباطله، ولنردنّه إلى صاحبه، فواضعوه على كتاب الله ثلاثة أيام فرجع منهم أربعة آلاف كلّهم تائب، فأقبل بهم ابن الكواء حتى أدخلهم على عليّ (رضي الله عنه)، فبعث عليّ إلى بقيّتهم فقال قد كان من أمرنا وأمر الناس ما قد رأيتم، قفوا حيث شئتم حتى تجتمع أمة محمّد صلّى الله عليه (وآله) وسلّم، وتنزلوا فيما حيث شئتم، بيننا وبينكم أن نقيكم رماحنا ما لم تقطعوا سبيلاً وتُطِلّوا دماً، فإنكم إذا فعلتم ذلك فقد نبذنا إليكم الحرب على سواء انّ الله لا يحب الخائنين.

____________

(1) الأحزاب /21.

(2) الزخرف /58.


الصفحة 164
فقالت عائشة (رضي الله عنها) يا بن شداد فقد قتلهم؟ فقال والله ما بعث إليهم حتى قطعوا السبيل وسفكوا الدماء وقتلوا ابن خباب واستحلوا أهل الذمة.

فقالت: آلله؟ قلت: آلله الّذي لا إله إلاّ هو لقد كان.

قالت: فما شيء بلغني عن أهل العراق يتحدثون به يقولون: ذو الثُدّي ذو الثُدّي؟

قلت: قد رأيته ووقفت عليه مع عليّ (رضي الله عنه) في القتلى، فدعا الناس فقال: هل تعرفون هذا؟ فما أكثر من جاء يقول قد رأيته في مسجد بني فلان يصلي، ورأيته في مسجد بني فلان يصلي، فلم يأتوا بثبت يعرف إلاّ ذلك.

قالت: فما قول عليّ حين قام عليه كما يزعم أهل العراق؟ قلت: سمعته يقول: صدق الله ورسوله.

قالت: فهل سمعت أنت منه قال غير ذلك؟ قلت: اللّهمّ لا.

قالت: أجل صدق الله ورسوله، يرحم الله عليّاً إنّه من كلامه، كان لا يرى شيئاً يعجبه إلاّ قال: صدق الله ورسوله»(1).

____________

(1) سنن البيقهي 8/179 ط دار الفكر وط دار الباز بمكة.

أخرج حديث عبد الله بن شدّاد بن الهاد جملة من الحفاظ منهم أحمد والطبراني والحاكم وعنهم نقله ابن حجر في فتح الباري 12/296 ط بيروت دار المعرفة، وأخرجه الضياء المقدسي في الأحاديث المختارة /223 ط مكتبة النهضة الحديثة بمكة المكرمة سنة 1410، وأخرجه أبو يعلى في مسنده 1/367 ط دار المأمون بدمشق سنة 1404، وأخرجه البيهقي في سننه الكبرى 8/179 ط دار الفكر وكذلك ط دار الباز بمكة، وأخرجه الزيلعي في نصب الراية 3/461 ط دار الحديث بمصر سنة 1357، وأخرجه ابن حجر أيضاً في الدراية لتخريج أحاديث الهداية ط دار المعرفة بيروت، وأخرجه الشوكاني في نيل الأوطار 7/349 ط دار الجيل بيروت سنة 1973 وهؤلاء كلهم من جهابذة الحفاظ، سوى غيرهم من المؤرخين كالطبري وابن اعثم وآخرين كثيرين، وأخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق ترجمة الإمام /153تحـ المحمودي. ولم يكن محاققة عائشة لعبد الله بن شداد نشأت من فراغ، لولا أن ابن العاص كتب إليها بأنه قتل ذا الثدية بنيل مصر أخرج البيهقي في دلائل النبوة بسنده عن مسروق قالت عائشة: عندك علم عن ذي الثديّة الّذي أصابه عليّ في الحرورية؟ قلت: لا، قالت فاكتب لي بشهادة من شهدهم، فرجعت إلى الكوفة وبها يومئذ أسباع فكتبت شهادة عشرة من كلّ سُبع ثمّ اتيتها بشهادتهم فقرأتها عليها، قالت: أكل هؤلاء عاينوه، قلت: لقد سألتهم فأخبروني بأن كلهم قد عاينوه فقالت: لعن الله فلاناً فإنه كتب إلي انّه أصابهم بنيل مصر، ثمّ أرخت عينيها فبكت، فلمّا سكنت عبرتها قالت رحم الله عليّاً لقد كان على الحقّ، وما كان بيني وبينه إلاّ كما يكون بين المرأة وأحمائها. راجع البداية والنهاية 7/303 - 304 ط السعادة بمصر.

ولئن كُتم اسم الكاتب الكاذب الملعون على لسان عائشة فكني عنه (فلاناً)، فان ابن أبي الحديد في شرح النهج 1/202 نقل عن كتاب صفين للمدائني التصريح باسمه فقال: عن مسروق ان عائشة قالت له لما عرفت ان عليّاً (عليه السلام) قتل ذا الثدية: لعن الله عمرو بن العاص فإنه كتب الي يخبرني أنّه قتله بالأسكندرية... وهكذا تُضيّع الحقائق.


الصفحة 165
أقول: إنّما ذكرت هذه المحاورة بنصّها كما وردت في مصادر أهل الحديث بأسانيدهم الصحيحة فضلاً عن ورودها في المصادر التاريخية والأدبية، لأنّي وقفت في كتاب العقود الفضية في أصول الأباضية على ذكر المحاورة الّتي دارت بين ابن عباس وبين الخوارج وفيها من الدسّ والإفتراء ما يدعو إلى العجَب، كما سنأتي على ذكرها فيما بعد.

ونعود إلى تتمة حديث الحرورية. فقد اختلف المؤرخون في ذكر عدد الذين رجعوا إلى الطاعة والجماعة.

فمنهم المقلّ، فقال: رجع منهم ألفان، كالمبرّد في كامله(1)، والخوارزمي في مناقبه(2)، وابن عبد ربه في العقد الفريد(3)، وابن العماد الحنبلي في شذرات الذهب(4)، وابن عبد البر في جامع بيان العلم(5) وآخرين غيرهم.

____________

(1) الكامل 3/212 تح ـ محمّد أبو الفضل إبراهيم.

(2) مناقب الخوارزمي /126 ط حجرية.

(3) العقد الفريد 1/342.

(4) شذرات الذهب 1/50.

(5) جامع بيان العلم 2/104.