الصفحة 209
ولسائل أن يسأل أين غاب اللعن الّذي كان يقوله الإمام في الكوفة عن ابن عباس بالبصرة؟

فنقول له: وإن لم نجد ذلك صريحاً فيما تقدّم من الآثار، إلاّ أنّي أرى ذلك بدلالة ما تقدم من أنّ لعن الإمام لمعاوية وأشياعه لأنّهم من المحاربين فقنت عليهم يدعو باللعن، ولمّا سئل عن ذلك قال: (استنصرنا عليهم). فابن عباس أيضاً كان معه يومئذ ولمّا أتى البصرة فهو لا يزال في حالة حرب مع أولئك، ولمّا كان يقنت فيرفع يديه حتى يمدّ بضبعيه فذلك منه مبالغة في التضرّع وطلب النصر من الله تعالى، ولو لم يكن كذلك، لما بالغ تلك المبالغة، ولمّا قرأ على المأمومين قوله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ}(1) أراد ـ والله أعلم ـ ليقطع على من لا يرى ذلك ما يدور في هاجسه، لأنّ في البصرة من العثمانية ممّن لا يرضى بالحكم القائم وقد مرّت بنا شواهد على ذلك.

فهو بقراءته الآية الكريمة ضمن ما يتلو من دعاء كأنّه يخاطبهم بالصبر على ما يسمعون، ويفهمهم شرعية فعله فلا يسخطون فإنّ من معاني قوله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ}(2) طول القيام(3)، وكأن ذلك مأخوذ من المعنى اللغوي في أصل القنوت الّذي هو الدوام على الشيء، والله أعلم. وفوق كلّ ذي علم عليم.

عودة ابن عباس إلى البصرة:

عاد ابن عباس إلى البصرة، فوجد أجواءها مكفهّرة بالإشاعات والأكاذيب، ووجد الخوارج تنقّ أصواتهم مع العثمانية في نقد الحكم القائم، فكانت البصرة ـ

____________

(1) البقرة /238.

(2) البقرة /238.

(3) أنظر الجامع لاحكام القرآن للقرطبي 3/214.


الصفحة 210
وهي مهبط ابليس على حد تعبير الإمام ـ تروج فيها المزاعم الباطلة، وتنفق فيها أساليب المكر والخداع من لدن معاوية، حيث وجد في عثمانيتها أنصاراً عرف بعضهم في صفين وتعرّف على بعضهم عن طريق عيونه وجواسيسه. فهي ـ البصرة ـ أضحت بعد حرب صفين أشد عرضة للخطر الداهم سواء السياسي أو الديني المتطرف من قبل معاوية أو الخوارج، لذلك عظمت مسؤولية ابن عباس، فاتخذ لحزمه وبصيرته في الأمور، التدابير اللازمة من رقابة صارمة ويقظة هادئة، فبثّ العيون مترصدين تحركات المشبوهين، يعاونه في ذلك المخلصون من شيعة الإمام. فأخبروه بأن الخوارج اجتمعوا في خمسمائة رجل وجعلوا عليهم مسعر بن فدكي التميمي وقد خرجوا فأتبعهم أبا الأسود الدؤلي فلحقهم في ألف فارس، فأدركهم بالجسر الأكبر ـ جسر تستر ـ فتواقفوا حتى حجز الليل بينهم، وأدلج مسعر بأصحابه. وأقبل يعترض الناس، وعلى مقدمته الأشرس بن عوف الشيباني، وسار حتى لحق بعبد الله بن وهب بالنهر(1).

فعاد أبو الأسود إلى ابن عباس فأخبره.

وليس من شكّ في أنّ الإشاعات وجدت سوقاً نافقة عما سوف يفعله الخوارج، ومن الطبيعي أن يكثر التساؤل عما سيتخذه الإمام أزاء خروجهم، فلم يلبث الناس حتى وافى البصرة عتبة بن الأخنس بن قيس من بني سعد بن بكر رسولا يحمل كتاب الإمام إلى ابن عباس، وفيه: (أمّا بعد فإنّا قد عسكرنا بالنخيلة. وقد أزمعنا على السير إلى عدونا من أهل الشام. فاشخص إليَّ فيمن قبلك حين يأتيك رسولي والسلام).

____________

(1) أنظر جامع البيان للطبري 5/76 ـ 77 ط المعارف، والأخبار الطوال /205 ط تراثنا بمصر.


الصفحة 211
وقبل الإسترسال في الحديث عن موقف ابن عباس أزاء الكتاب، لابدّ من وقفة تحقيق مع رواة الكتاب، فثمة تحريف في بعض المصادر ربّما كان متعمداً لما يترتب عليه من نتائج سلبية بالنسبة إلى ابن عباس.

فأقول: إنّ النص الّذي ذكرته آنفاً رواه أبو حنيفة الدينوري(1) بيد أنّ الطبري ذكره في تاريخه بلفظ آخر وهو: «أمّا بعد فإنّا قد خرجنا إلى معسكرنا بالنخيلة، وقد أجمعنا على المسير إلى عدونا من أهل المغرب، فاشخص بالناس حتى يأتيك رسولي، وأقم حتى يأتيك أمري والسلام»(2).

وهذا قريب ممّا ذكره ابن قتيبة في الإمامة والسياسة ففيها: «أمّا بعد فانا أجمعنا على المسير إلى عدونا من أهل الشام فأشخص إليَّ مَن قبلك من الناس وأقم حتى آتيك والسلام»(3)، وقد نقله أحمد زكي صفوت في جمهرة رسائل العرب(4) نقلاً عن الطبري والإمامة والسياسة من دون ذكر التفاوت.

وما ذكرناه عن أبي حنيفة الدينوري أصح ممّا ذكره الآخران، لأنّ الأحداث الّتي جرت بعد هذا الكتاب تدل على صحته، فمنها حضوره مع عدد معيّن في النخيلة، ثمّ حضوره مع الإمام بالنهروان، وذكر وروده المدائن، واحتجاجه على الخوارج قبل الحرب، كلّ ذلك يؤكد صحة ما رواه الدينوري في الأخبار الطوال (فاشخص إليَّ فيمن قبلك حين يأتيك رسولي).

____________

(1) الأخبار الطوال /206.

(2) تاريخ الطبري 5/78.

(3) الإمامة والسياسة 1/121.

(4) رسائل العرب رقم /468.


الصفحة 212
وأمّا ما رواه الطبري وابن قتيبة فإنّه لا يمكن المساعدة عليه، لأنّ قول الإمام (عليه السلام) في آخر كتابه: (وأقم حتى يأتيك أمري والسلام) أو (وأقم حتى آتيك) يمنع ابن عباس من التحرّك من البصرة حتى يأتيه أمره. ولم يذكر المؤرخون بما فيهم الطبري نفسه أنّ الإمام أمره بعد ذلك بالتوجّه إليه. وليس ثمة غير الكتاب المذكور، وهذا لا يتفق بلفظه (وأقم) مع تأكيد حضوره عند الإمام ومعه بدءاً من معسكر النخيلة ومروراً بالمدائن وانتهاءً مع الخوارج بالنهروان وأخيراً حضوره بالكوفة عند مقتل الإمام (عليه السلام).

والآن إلى موقف ابن عباس من ذلك الكتاب، وموقف الناس منه وبالتالي موقف ابن عباس من الناس. فلنقرأ بعض نصوص المؤرخين:

قال ابن قتيبة في الإمامة والسياسة والطبري في تاريخه واللفظ بينهما: «فلمّا قدم كتاب عليّ على ابن عباس فقرأه على الناس، ثمّ أمرهم بالشخوص مع الأحنف بن قيس، فشخص معه الف وخمسمائة رجل، فاستقلّهم ابن عباس، فقام خطيباً فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال: يا أهل البصرة قد جاءني كتاب أمير المؤمنين يأمرني بإشخاصكم فأمرتكم بالمسير إليه مع الأحنف بن قيس، فلم يشخص إليه منكم إلاّ ألف وخمسمائة، وأنتم في الديوان ستون ألفاً سوى أبنائكم وعبدانكم ومواليكم، ألا فانفروا مع جارية بن قدامة السعدي ولا يجعلنّ امرؤ على نفسه سبيلاً، فإنّي موقع بكلّ من وجدته تخلّف عن دعوته (مكتبه) عاصياً لإمامه، حزناً يعقب ندماً، وقد أمرت أبا الأسود بحشدكم فلا يلم امرؤ جعل السبيل على نفسه إلاّ نفسه.


الصفحة 213
قال: فحشد أبو الأسود الناس بالبصرة فاجتمع إليه ألف وسبعمائة، فأقبل هو والأحنف بن قيس حتى وافيا عليّاً بالنخيلة، فلمّا رأى عليّ انّه إنّما قدم عليه من أهل البصرة ثلاثة آلاف ومائتا رجل جمع إليه رؤساء الناس وأمراء الأجناد ووجوه القبائل، فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال:

يا أهل الكوفة أنتم إخواني وأنصاري وأعواني على الحقّ، ومجيبيّ إلى جهاد المحلَين، بكم أضرب المدبر، وأرجو إتمام طاعة المقبل، وقد بعثت إلى أهل البصرة فاستنفرتهم فلم يأتني منهم غير ثلاثة آلاف ومائتين، فأعينوني بمناصحة سمحة خليّة من الغشّ، وإني آمركم أن يكتب إليّ رئيس كلّ قوم منكم ما في عشيرته من المقاتلة وأبنائهم الذين أدركوا القتال، والعبدان والموالي، وارفعوا ذلك إليّ ننظر فيه إن شاء الله...اهـ»(1).

وهذا النص مرّ وليس فيه ذكر لشخوص ابن عباس من البصرة مع الجيش. غير أنّ الدينوري قال في الأخبار الطوال: «فقدم عليه عبد الله بن عباس في فرسان البصرة وكانوا زهاء سبعة آلاف رجل»(2).

وإذا أضفنا هذا الرقم إلى ما تقدم برواية ابن قتيبة والطبري كانوا جميعاً عشرة آلاف، وهذا ما ذكره المسعودي في مروج الذهب قال: «وأتاه من البصرة مع ابن عباس ـ وكان عامله عليها ـ عشرة آلاف فيهم الأحنف بن قيس وجارية ابن قدامة السعدي وذلك سنة ثمان وثلاثين»(3).

____________

(1) الإمامة والسياسة 1/121، تاريخ الطبري 5/78.

(2) الأخبار الطوال /206 ط تراثنا بمصر.

وفي مصباح الأنوار لمحمّد بن هاشم 2 باب 32 مخطوط ذكر انّهم تسعة آلاف، واحتمال التصحيف وارد.

(3) مروج الذهب 2/36 ط العامرة البهية سنة 1346هـ.


الصفحة 214
وهنا لا يفوتني التنبيه إلى تفاوت في هذا النص وقع في مروج الذهب فقد ورد: «وأتاه من البصرة (من قبل) ابن عباس... بدل: وأتاه من البصرة (مع ابن عباس)»(1) كما مرّ في ط العامرة البهية. وهذا التفاوت يغيّر كثيراً في مجريات الأمور بالنسبة إلى ابن عباس، ولا أعلم هل أنّ ما في طبعة تحقيق عبد الحميد كان من المزيد والتنقيح الّذي امتازت به طبعته؟ بعد ثلاثين سنة من تاريخ الطبعة الأولى، ولا يحضرني فعلاً طبعات أخر للمقارنة، إلاّ أنّ الّذي سبق لي ذكره من إمارات وجود ابن عباس مع الإمام في تلك الحرب تؤيد نص طبعة العامرة البهية (وأتاه من البصرة مع ابن عباس).

ومع جميع تلك الإمارات فلم يأخذ بها بعض الباحثين المحدثين ومنهم طه حسين فقد قال في كتابه عليّ وبنوه: «وكتب عليّ إلى أهل البصرة فجاء منهم جند صالح، ولم يشخص ابن عباس هذه المرة، وإنّما اكتفى بتسريح الجند إلى عليّ»(2) وكأنّه يحاول ترتيب مقدمات الإدانة لحديث الخيانة والله العالم.

إلى النهروان:

ذكر غير واحد من مترجمي حبر الأمة عبد الله بن عباس (رضي الله عنه) حضوره مع الإمام في حربه الخوارج بالنهروان، فمنهم ابن عبد البر في الاستيعاب(3)، والدياربكري في تاريخ الخميس(4)، والمسعودي في مروج الذهب كما مرّ،

____________

(1) مروج الذهب طبعة مصرية بتحقيق محمّد محي الدين عبد الحميد الطبعة الثالثة سنة 1377 هـ مكتوب عليها (مزيدة ومنقحة).

(2) عليّ وبنوه /112 ط المعارف.

(3) الاستيعاب 2/352.

(4) تاريخ الخميس 1/189.


الصفحة 215
والخطيب البغدادي في تاريخ بغداد ذكره فيمن ورد المدائن مع الإمام (عليه السلام)(1)، كما ذكر ابن شهر آشوب في المناقب(2) بعث الإمام ابن عباس إلى الخوارج في النهروان فقال له: (يا بن عباس امض إلى هؤلاء القوم فانظر ما هم عليه ولماذا اجتمعوا؟ الخ ثمّ ذكر محاججته إياهم بعين ما مرّ منّا ذكره في محاورة ابن عباس مع المحكمة في حروراء نقلاً عن ابن أعثم).

وقال ابن حجر في فتح الباري: «ومقتضى ما ذكره أهل العلم بالأخبار كالمدائني ان ابن عباس كان استنفر أهل البصرة بأمر عليّ ليعاودوا محاربة معاوية بعد الفراغ من أمر التحكيم ثمّ وقع أمر الخوارج فسار ابن عباس إلى عليّ فشهد معه النهروان...»(3).

وقال المدني في الدرجات الرفيعة: «وعن عبد الله بن عوف بن الأحمر أنّ عليّاً (عليه السلام) لم يبرح النخيلة حتى قدم عليه ابن عباس من البصرة»(4).

وقال سبط ابن الجوزي: «وكانت الخوارج بالنهروان، فقال له ابن عباس: قد تجدّد أمر فاكتب إليهم قبل لقائك إياهم، فكتب إليهم يخبرهم بأمر الحكمين فاقبلوا إلينا لنجاهد القوم فإنّا على الأمر الأوّل.

فكتبوا إليه: إنّك لم تغضب لله تعالى وإنّما غضبت لنفسك، فإن شهدت على نفسك بالكفر وتبت نظرنا فيما بيننا وبينك، وإلاّ نابذناك على سواء إنّ الله لا يحب الخائنين.

____________

(1) تاريخ بغداد 1/174.

(2) مناقب ابن شهر آشوب 2/369 ط الحيدرية.

(3) فتح الباري 13/28 تح ـ محمّد فؤاد عبد الباقي ومحب الدين الخطيب ط بيروت.

(4) الدرجات الرفيعة /110.


الصفحة 216
فلمّا قرأ كتابهم يئس منهم»(1).

إذن تبين لنا عدم الشك في حضور الحبر ابن عباس مع جند أهل البصرة عند الإمام في النخيلة، وهو (عليه السلام) لم يبرح حتى تكامل جيشه، ولمّا عزم على المسير إلى أهل الشام، بلغه مقالة الناس: «أن لو سار بنا إلى هذه الحرورية فبدأنا بهم، فإذا فرغنا منهم وجّهنا من وجهنا ذلك إلى المحلّين»، فقام في الناس خطيباً فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال: (أمّا بعد فإنّه قد بلغني قولكم لو أنّ أمير المؤمنين سار بنا إلى هذه الخارجة الّتي خرجت عليه فبدأنا بهم، فإذا فرغنا منهم وجّهنا من وجهنا ذلك إلى المحلّين، وإنّ غير هذه الخارجة أهمّ إلينا منهم، فدعوا ذكرهم وسيروا إلى قوم يقاتلونكم كيما يكونوا جبّارين ملوكاً، ويتخذوا عباد الله خولا).

فتنادى الناس من كلّ جانب سر بنا يا أمير المؤمنين حيث أحببت.

فلمّا همّ بالمسير بلغه ما صنع الخوارج بعبد الله بن خبّاب وقتلهم امرأته وهي حامل متم فشقّوا بطنها.

قام إليه ناس فقالوا: يا أمير المؤمنين علام ندع هؤلاء وراءنا يخلفوننا في أموالنا وعيالنا، سر بنا إلى القوم، فإذا فرغنا فيما بيننا وبينهم سرنا إلى عدونا من أهل الشام.

فارتضى ذلك الرأي وأمر الناس بالرحيل، ثمّ سار والناس معه حتى أتى النهروان، وسار بأصحابه حتى نزل على فرسخين من النهروان ثمّ راسلهم وكاتبهم فلم يرتدعوا(2).

____________

(1) التذكرة /110 ط حجرية.

(2) مطالب السؤول لابن طلحة الشافعي /45 ط حجرية.


الصفحة 217
وبعث إلى الخوارج يطلب قتلة ابن خباب ومن معه، فبعثوا إليه كلنا قتلتهم، وكلنا نستحل دماءهم ودماءكم وقد أرسل تلك المرة قنبر غلامه فعاد بجوابهم فأرسل ابن عباس إليهم.

قال حميد الدين في الحدائق الوردية: «قال: يا بن عباس انهض إلى القوم فادعهم بمثل الّذي دعاهم به قنبر، فإنّي أرجو أن يجيبوك، فقال ابن عباس: يا أمير المؤمنين ألقي عليَّ حلّتي أو ألبس عليَّ سلاحي فإنّي أخافهم على نفسي؟

قال: بلى فانهض اليهم في حلّتك:


فمن أيّ يوميك تفرّأيوم لم يقدر أم يوم قُدر(1)

«فنهض إليهم ابن عباس وقد لبس أحسن ثيابه، وتطيّب أفضل طيبه، وركب أحسن مراكبه. فلمّا رأوه ضجّوا في وجهه يا بن عباس أنت أفضل الناس بينا تأتينا في لباس الجبابرة ومراكبهم»(2).

وفي رواية ابن أعثم: «أنّ الإمام (عليه السلام) قال له: تقدم فها أنا ذا من ورائك.

قال فتقدم عبد الله بن عباس حتى واجه القوم ثمّ قال: أيها الناس ما الّذي نقمتم على أمير المؤمنين (عليه السلام)؟

فقالوا له: يا بن عباس الّذي نقمناه عليك في وقتنا هذا أشد ممّا نقمناه على عليّ، وذلك انّك قد جئتنا في حلة يمانية، ونحن نريد حربك وحرب ابن عمك.

____________

(1) الحدائق الوردية 1/83 ط صنعاء.

(2) من زيادات مخطوطة مكتبة الشيخ كاشف الغطاء قدس سره ولم يوجد في المطبوعة بصنعاء.


الصفحة 218
فقال ابن عباس: أمّا هذه الحلة فقد رأيت خيراً منها على مَن هو خير مني وهو أبو القاسم محمّد صلّى الله عليه (وآله) وسلّم، وأمّا الحرب فقد دنت منا ومنكم ولا شك في ذلك، فهاتوا ما الّذي نقمتم على عليّ (رضي الله عنه)؟

قالوا: نقمنا عليه أشياء، لوكان حاضراً لكفّرنا بهنّ، وعليّ وراءه يسمع ذلك.

فالتفت ابن عباس إلى عليّ فقال: يا أمير المؤمنين إنّك قد سمعت الكلام فأنت أحق بالجواب»(1).

وروى السبط عن ابن عباس قال: «لمّا خرجنا إلى قتال الخوارج سمع عليّ (عليه السلام) رجلاً منهم يتهجّد بالقرآن فقال: نومٌ على يقين خير من صلاة في شك»(2) - ما أبلغها من كلمة تصلح أن تكون ميزاناً توزن به أعمال الرجال -.

قال ابن أعثم في تاريخه(3)، وابن طلحة الشافعي واللفظ له: «فتقدم عليّ حتى واجه القوم وقال: أيّها الناس أنا عليّ بن أبي طالب فتكلموا بما نقمتم به عليَّ؟ فقالوا: نقمنا عليك أوّلاً قاتلنا بين يديك بالبصرة، فلمّا أظفرك الله بهم أبحتنا ما كان في عسكرهم ومنعتنا النساء والذرية، فكيف تستحل ما كان في العسكر ولا تستحل النساء والذرية؟

فقال لهم (عليه السلام): يا هؤلاء انّ أهل البصرة قاتلونا وبدأونا بالقتال، فلمّا ظفرتم أقتسمتم سلب من قاتلكم، ومنعتكم من النساء والذرية، فإنّ النساء لم يقاتلن، والذرية ولدوا على الفطرة ولم ينكثوا ولا ذنب لهم، وقد رأيت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)

____________

(1) تاريخ ابن أعثم 4/121.

(2) تذكرة الخواص /61.

(3) تاريخ ابن أعثم 4/123 ـ 125.


الصفحة 219
منّ على المشركين فلا تعجبوا أن مننت على المسلمين، فلم أسب نساءهم ولا ذريتهم.

وقالوا: نقمنا عليك يوم صفين وقت الكتاب انّك قلت لكاتبك اكتب هذا ما تقاضى عليه أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان، فأبى معاوية أن يقبل منك أنّك أمير المؤمنين، وقلت للكاتب هذا ما تقاضى عليه عليّ ابن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان، فإن لم تكن أمير المؤمنين، فنحن المؤمنون فلست أميرنا.

فقال: يا هؤلاء أنا كنت كاتب رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يوم الحديبية، فقال لي النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) اكتب هذا ما صالح عليه محمّد رسول الله وسهيل بن عمرو، فقال سهيل: لو علمنا أنّك رسول الله لما صددناك ولا قاتلناك. فأمرني رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فمحوت اسمه من الكتاب وكتب هذا ما اصطلح عليه محمّد بن عبد الله. وانّما محوت اسمي من إمرة المؤمنين كما محا رسول الله اسمه من الرسالة، وكانت لي به أسوة.

قالوا: فإنّا نقمنا عليك أنّك قلت للحكَمين: انظرا في كتاب الله فإن كنت أفضل من معاوية فأثبتاني في الخلافة، وإن كان معاوية أفضل مني فاثبتاه في الخلافة، فإن كنت شاكاً في نفسك أنّ معاوية أفضل منك فنحن فيك أعظم شكاً.

فقال لهم عليّ: إنّما أردت بذلك النصفة لمعاوية، فإنّني لو قلت للحكمين أحكما لي وذرا معاوية كان لا يرضى بذلك. والنبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لو قال لنصارى نجران لما قدموا عليه فقالوا نبتهل واجعل لعنة الله عليكم كانوا لا يرضون بذلك، ولكنه أنصفهم من نفسه، فقال كما أمره الله تعالى به {تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ

الصفحة 220
وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ}(1) فأنصفهم من نفسه فكذا أنصفت من نفسي ولم أعلم بما أراد عمرو بن العاص من خديعة أبي موسى.

قالوا: فإنّا نقمنا عليك أنّك حكّمت حَكَماً في حق هو لك.

فقال: إنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حكّم سعد بن معإذ في بني قريظة، ولو شاء لم يفعل، فحكم فيهم سعد بما علمتم، وانما أقمت حكماً كما أقام رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم). فهل عندكم شيء غير هذا تحتجون به عليّ؟ فسكت القوم، ثمّ صاح جماعة منهم من كلّ ناحية: التوبة التوبة يا أمير المؤمنين، واستأمن منهم ثمانية آلاف وبقي على حربه أربعة آلاف، فأقبل على هؤلاء الذين استأمنوا إليه وقال: اعتزلوا في وقتكم هذا عني وذروني والقوم، فاعتزل أولئك عنه... اهـ»(2).

وذكر الطبري في تاريخه من حديث أبي مخنف قال: «ورفع عليّ راية أمان مع أبي أيوب الأنصاري فناداهم أبو أيوب: من جاء هذه الراية منكم ممّن لم يقتل ولم يستعرض فهو آمن، ومن انصرف منكم إلى الكوفة أو إلى المدائن وخرج من هذه الجماعة فهو آمن، إنّه لا حاجة لنا بعد أن نصيب قتلة اخواننا منكم في سفك دمائكم.

فقال فروة بن نوفل الأشجعي: والله ما أدري على أيّ شيء نقاتل عليّاً، لا أرى إلاّ أن أنصرف حتى تنفذ لي بصيرتي في قتاله أو اتّباعه، وانصرف في خمسمائة فارس حتى نزل البندنجين والدسكرة.

____________

(1) آل عمران /61.

(2) مطالب السؤول /45 ط حجرية سنة 1287هـ.


الصفحة 221
وخرجت طائفة أخرى متفرقين فنزلت الكوفة. وخرج إلى عليّ منهم نحو من مائة. وكانوا أربعة آلاف، فكان الذين بقوا مع عبد الله بن وهب منهم الفين وثمانمائة، وزحفوا إلى عليّ... ونهض إليهم الرجال بالرماح والسيوف فوالله ما لبثوهم أن أناموهم»(1).

وفي لفظ آخر عند الدينوري: «وقتلت الخوارج كلها ربضة واحدة»(2).

وقال ابن خلدون في تاريخه: «فهلكوا كلّهم في ساعة واحدة كأنّما قيل لهم موتوا»(3).

وقال المبرّد في الكامل: «وقد قال لهم ـ يعني الإمام ـ انّه والله ما يقتل منكم عشرة ولا يفلت منهم عشرة، فقتل من أصحابه تسعة وأفلت منهم ثمانية»(4).

قال أبو مخنف في حديثه عن عبد الرحمن بن جندب بن عبد الله: «انّه لم يقتل من أصحاب عليّ إلاّ سبعة»(5).

وقال في حديثه الآخر قال: «كان عليّ لمّا فرغ من أهل النهروان حمد الله وأثنى عليه، ثمّ قال: إنّ الله قد أحسن بكم، وأعزّ نصركم، فتوجّهوا من فوركم هذا إلى عدوكم معاوية وأشياعه القاسطين الذين نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم واشتروا به ثمناً قليلاً فبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون.

____________

(1) تاريخ الطبري 5/86.

(2) الأخبار الطوال /210.

(3) تاريخ ابن خلدون 2/1123 ط دار الكتاب اللبناني سنة 1956.

(4) الكامل 3/187 مطبعة نهضة مصر.

(5) تاريخ الطبري 5/89.


الصفحة 222
فقالوا: يا أمير المؤمنين نفذت نبالنا، وكلّت أذرعنا، وتقطّعت سيوفنا، ونصلت أسنّة رماحنا، فارجع بنا إلى مصرنا فلنستعد بأحسن عدّتنا، ولعل أمير المؤمنين يزيد في عدتنا عدة من هلك منا فإنّه أقوى فإنّه أوفى (أقوى) على عدونا»(1).

قال الطبري وغيره: «وكان الّذي تولّى هذا الكلام هو الأشعث بن قيس»(2). قال البلاذري: «وكان الأشعث طنيناً وسماه عليّ عرف النار»(3).

فأقبل الإمام راجعاً حتى نزل النخيلة، فأمر الناس أن يلزموا عسكرهم، ويوطنّوا على الجهاد أنفسَهم، وأن يقلّوا زيارة نسائهم وأبنائهم حتى يسيروا إلى عدوّهم، فأقاموا أياماً، ثمّ تسللوا من معسكرهم، فدخلوا إلاّ رجالاً من وجوه الناس قليلاً، وتُرك المعسكر خالياً، فلمّا رأى ذلك دخل الكوفة، وأنكسر عليه رأيه في المسير.

قال الطبري: «وكان غير أبي مخنف يقول: كانت الوقعة بين عليّ وأهل النهر سنة ثمان وثلاثين، وهذا القول عليه أكثر أهل السير»(4). بينما رأى اليعقوبي(5)، وابن تغري بردى(6) أنّها سنة 39هـ وصحح ذلك.

____________

(1) تاريخ الطبري 5/89.

(2) المصدر السابق.

(3) أنساب الأشراف 2/379، وأحسب تصحيفاً وقع في قوله (طنيناً) وفسره في الهامش أي رفع الصوت فسمع الناس قوله هذا فركنوا إليه. ولعل الصواب (ظنيناً) أي متهماً في دينه. وهذا ما يتناسب مع وصف الإمام له بانه عُرف النار.

(4) تاريخ الطبري 5/91.

(5) تاريخ اليعقوبي ه2/169.

(6) النجوم الزاهرة 1/117.


الصفحة 223
وعندي أنّ بداية المسير كان في آخر سنة ثمان وثلاثين، ولمّا كانت الوقعة في اليوم التاسع من صفر كما في أنساب الأشراف(1) فلابدّ أن تكون سنة تسع وثلاثين. فقد قال اليعقوبي: «وكانت وقعة النهروان سنة تسع وثلاثين»(2)، وقال ابن تغري بردى: «فيها ـ سنة تسع وثلاثين ـ أيضاً كانت وقعة الخوارج مع عليّ بن أبي طالب بحروراء، وبالنخيلة قاتلهم عليّ فكسرهم وقتل رؤوسهم، وسجد شكراً لمّا أتي بمخدّج اليد مقتولاً... وكان رأسهم عبد الله بن وهب الراسبي، وقد تقدم ذكرها في السنّة الماضية، والأصح أنّها في هذه السنّة»(3).

ومهما يكن الإختلاف في تعيين السنّة، فلا خلاف في أنّ الإمام قاتل أهل النهروان فقتلهم وهم المارقون الذين حذّر منهم النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فإنّهم شر الخليفة وأخبر عنهم: (يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يقتلهم خير الخلق والخليقة). وهو أمير المؤمنين.

وله (عليه السلام) كلام قاله بعد تلك الوقعة رواه البرقي المتوفى سنة (274هـ أو 280هـ) في كتابه: «قال: (والّذي فلق الحبة وبرأ النسمة لقد شهدنا في هذا الموقف أناس لم يخلق الله آباءهم ولا أجدادهم بعد)، فقال الرجل: وكيف يشهدنا قوم لم يُخلقوا؟! قال (عليه السلام): (بلى، قوم يكونون في آخر الزمان يشركوننا فيما نحن فيه، ويسلّمون لنا، فأولئك شركاؤنا فيما كنّا فيه حقّاً حقّا)»(4).

اللّهمّ فاشهد إنّا على ذلك وأنت خير الشاهدين.

____________

(1) أنساب الأشراف للبلاذري 2/362 و 375.

(2) تاريخ اليعقوبي ه2/169.

(3) النجوم الزاهرة 1/118 ط دار الكتب المصرية.

(4) المحاسن /263 برقم 323 تح ـ السيّد جلال الدين الحسيني ط ايران.