الصفحة 309
أمّا الآن فأشير إلى ورود بعض الروايات الّتي وصفتها بالتفاهة لعدم سلامة أسانيدها، ولا متونها من المناقشة وهي في المسائل التالية:

1- مسألة تحريق الغلاة ـ الزط ـ بالبصرة بعد حرب الجمل.

2- مسألة تحريق الزنادقة بالكوفة بعد حرب الخوارج، وهاتان المسألتان مختلفتان زماناً ومكاناً ورواة وقد خفى أمرهما على بعض الباحثين فتخيّلهما مسألة واحدة، فالأولى كانت بالبصرة والثانية بالكوفة، والأولى بعد واقعة الجمل، والثانية في أواخر خلافة الإمام (عليه السلام) والأولى يرويها أنس بن مالك والثانية يرويها عكرمة.

قال طه حسين في الفتنة الكبرى: «وقد روى المؤرخون أنّ أناساً من أهل الكوفة ارتدوا فقتلهم ثمّ حرقهم بالنار، وقد ليمَ في ذلك من ابن عباس. وأظن أنّ هذه القصة هي الّتي غلا خصوم الشيعة فيها فزعموا أنّ هؤلاء الناس ألّهوا عليّاً.

ولكن المؤرخين والثقاة منهم خاصة، يقفون من هذه القصة موقفَين: فمنهم من يرويها في غير تفصيل كما رويتها، ومن هؤلاء البلاذري. ومنهم من لا يرويها ولا يشير اليها كالطبري ومن تبعه من المؤرخين.

وإنّما يُكثر في هذه القصة أصحاب الملل والمخاصمون للشيعة. وما أرى إلاّ أنّ القوم يتكثرون فيها ويحمّلونها أكثر ممّا تحتمل كما فعلوا في أمر ابن السوداء... اهـ»(1).

قال شيخنا المفيد قدس الله روحه ـ تعقيباً على مسألة التحريق ونقد ابن عباس وندم الإمام على احراقهم ـ: «وهذا من أظرف شيء سمع وأعجبه، وذلك

____________

(1) الفتنة الكبرى (عليّ وبنوه) 2/166 ط دار المعارف.


الصفحة 310
أنّ ابن عباس أحد تلامذته والآخذين العلم عنه، وهو الّذي يقول: كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يجلس بيننا كأحدنا ويداعبنا ويباسطنا، ويقول: والله ما ملأت طرفي منه قط هيبة له، فكيف يجوز مِن مثل مَن وصفناه التقدّم على أمير المؤمنين في الفتيا وإظهار الخلاف عليه في الدين، لا سيما في الحال الّتي هو مظهر له فيه الإتباع والتعظيم والتبجيل، وكيف ندم على احراقهم، وقد أحرق في آخر زمانه (عليه السلام) الأحد عشر الذين ادعوا فيه الربوبية، أفتراه ندم على ندمه الأوّل؟ كلا، ولكن الناصبة تتعلق بالهباء المنثور»(1).

وقال ابن أبي الحديد: «وهل أخذ عبد الله بن عباس الفقه والتفسير إلاّ عنه (عليه السلام)»(2).

ومهما يكن أمر هؤلاء وأمر أولئك فسوف نبحث المسألة من الناحية الفقهية في (الحلقة الثالثة) إن شاء الله تعالى في بحث: (مسألة التحريق بين التشريع والتطبيق).

3- مسألة نكاح المتعة.

4- مسألة لحوم الحمر الإنسية(3).

5- مسألة الصرف الّتي شُنّع عليه فيها كثيراً حتى قالوا انّه رجع عنها وتاب قبل موته بثلاثة أيام.

إلى غير ذلك ممّا سنتعرّض له في (الحلقة الثالثة) في آرائه الفقهية إن شاء الله تعالى.

____________

(1) الدرجات الرفيعة للمدني /117.

(2) نفس المصدر /118.

(3) سير أعلام النبلاء للذهبي 2/628 ط دار الفكر، وتاريخ الخلفاء للسيوطي /171.


الصفحة 311
أمّا عن الروايات الّتي ذكرت له مخالفات في آرائه السياسية: فأول حادث وحديث هو ما مرّت الإشارة إليه في أوّل خلافة الإمام (عليه السلام) في قضية مشورة المغيرة، ورأي ابن عباس فيها، واتخذها الكتّاب المحدثون سنداً في تجنّيهم على الإمام في سياسته حتى أشاعوا بين قرّائهم نفثاتهم فشل تلك السياسة حتى جرت عليه خوض الحروب، فرأيت لزاماً عليّ أن أذكر بعض آراء الذين أنصفوا أنفسهم وأنصفوا قرّاءهم حين وعوا حقيقة الإمام وحقيقة سياسته، وفنّدوا تلك المفاهيم الخاطئة، فإلى قراءة في ذلك.

مفاهيم خاطئة عن سياسة الإمام!

لك الله يا أبا الحسن كم تجنّى عليك المسلمون قديماً وحديثاً، ولئن كان سيفك أزهق الكفار والمشركين فأورثك عداوة أبنائهم من الأولين، فما بال الآخرين ثارت بلابل أشجانهم وأحزانهم فسفّت أحلامهم وأقلامهم فتجنّوا عليك بأنك رجل حرب وشجاع، وليس رجل دولة وقيادة، واتخذوا من سياستك الّتي هي جزء من دينك، ومن صرامتك وصراحتك، ذريعة للتطاول عليك. فجعلوا من مشورة المغيرة بن شعبة شاهداً، ومن رأي ابن عباس عاضداً. حين أعرضت عنهما عامداً، فيما عرضاه من إبقاء عمّال عثمان عاماً واحداً، فأبيتَ أن تتخذ المضلّين عضدا، حتى رووا أنّ ابن عباس قال لك في مشورته ما لا يكاد أن يُصدّق!

فقد روى الطبري وغيره عنه قوله: «أنت رجل شجاع لست بأرب الحرب، أما سمعت رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم يقول: (الحرب خدعة) فقلت: بلى، فقال ابن عباس: أما والله لئن أطعتني لأصدرنّ بهم بعد وِرد، ولأتركنّهم

الصفحة 312
ينظرون في دُبر الأمور لا يعرفون ما كان وجهها، في غير نقصان عليك ولا أثم لك...» وقد مرّ ذكرنا له.

فيا لله هل أنّ ابن عباس كان أبصر بصواب الرأي منك؟ انّها لإحدى الكُبر.

فابن عباس هو القائل عنك للمغيرة: «كان والله أمير المؤمنين (عليه السلام) أعرف بوجوه الرأي ومعاقد الحزم وتصريف الأمور من أن يقبل مشورتك فيما نهى الله عنه وعنّف عليه ـ إلى آخر ما قال» وقد تقدم منا ذكره.

فهل يصح أن نقبل ما رواه الرواة وفي النفس من رواياتهم ما يبعث على الاشمئزاز؟!

وهذا الموقف زلّت فيه أقدام وأقلام فتجنّى غير واحد على الإمام، حتى بلغت القحة ببعض المستشرقين ـ مثل نيكلسون ـ أن يقول: «كان عليّ يعوزه حزم الحاكم ودهاؤه برغم ما كان يمتاز به من الفضائل الكثيرة، فقد كان نشيطاً ذكياً بعيد النظر، بطلاً في الحرب، مشيراً حكيماً وفياً، شريف الخصومة، نبغ في الشعر والبلاغة، واشتهرت أشعاره وخطبه في الشرق الإسلامي... وكانت تنقصه الحنكة السياسية وعدم التردد في اختيار الوسائل أياً كانت لتثبيت مركزه، ومن ثمّ تغلّب عليه منافسوه الذين عرفوا أوّل الأمر أنّ الحرب خدعة، والذين كانوا لا يتورعون عن ارتكاب أيّ جرم يبلغ بهم الغاية ويكفل لهم النصر»(1).

والعجب كلّ العجب أن يكون قد تبنى هذا الرأي أخوان مسلمان مصريان هما الدكتور حسن إبراهيم حسن وأخوه الدكتور عليّ إبراهيم حسن في كتابهما

____________

(1) أنظر تاريخ الإسلام السياسي والديني والثقافي والاجتماعي 1/294 ط مكتبة النهضة بمصر سنة 1953.


الصفحة 313
النظم الإسلامية، فقد قالا: «أراد عليّ أن يحكم وفق التقاليد الّتي سادت زمن النبيّ وأبي بكر وعمر، مع أنّ الأحوال كانت تستلزم شيئاً من السياسة والدهاء، فقد بادر بعزل ولاة عثمان ولم يصغ لنصيحة بعض الصحابة له بابقائهم حتى تهدأ الحالة وتستقر الأمور ممّا حدا بالاستاذ نيكلسون إلى القول بأنّه كان ينقصه حزم الحاكم ودهاؤه وتعوزه الحنكة السياسية»(1).

وهذا منهما يقضي العجب! كيف كتبا ذلك؟

ومهما أغضينا عن الكاتب المسيحي نيكلسون لأنّه على أسوأ الظنون يريد الوقيعة بالإسلام ورجالاته، وعلى أحسن الظنون فهو بعيد عن الإسلام ولا يعرف أحكام الإسلام، وما الّذي توجبه على خليفة المسلمين من إقامة صرح حكمه على الحقّ والعدل لا على المخادعة والمواربة، فإنّا لا نعذر الأخوين المسلمين، فلديهما من عدة الثقافة ما أتاح لهما التأليف في النظم الإسلامية، ولا شك أنهما اطّلعا على كثير من المصادر الّتي أوضحت السبب في انتهاج الإمام لتلك السياسة، وأخص بالذكر الدكتور حسن إبراهيم حسن فقد ذكر في مصادر كتابه تاريخ الإسلام السياسي... كتاب شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، وفي هذا الكتاب ما يدفع زلة الأقلام ويبين عذر الإمام، وإلى القارئ نبذة منه ممّا قال: «وأمّا قول ابن عباس له (عليه السلام): ولّه شهراً واعزله دهراً، وما أشار به المغيرة بن شعبة فإنّهما قالا ما توهّماه، وما غلب على ظنونهما وخطر بقلوبهما. وعليّ (عليه السلام) كان أعلم بحاله مع معاوية وأنها لا تقبل العلاج والتدبير، وكيف يخطر ببال عارف

____________

(1) النظم الإسلامية /23 ط الثانية.


الصفحة 314
بحال معاوية ونكره ودهائه وما كان في نفسه من عليّ (عليه السلام) من قتل عثمان ومن قبل قتل عثمان انّه يقبل إقرار عليّ (عليه السلام) له على الشام وينخدع بذلك ويبايع ويعطي صفقة يمينه، إنّ معاوية لأدهى من أن يكاد بذلك. وإن عليّاً (عليه السلام) لأعرف بمعاوية ممّن ظن أنّه لو استماله بإقراره ليبايع له، ولم يكن عند عليّ (عليه السلام) دواء لهذا المرض إلاّ السيف، لأن الحال إليه كانت تؤل لا محالة فجعل الآخر أوّلاً...»(1).

وليتني كنت أدري كيف استساغ الأخوان أن يتبعا أستاذهما نيكلسون في وصفه الإمام بعدم الحزم والدهاء!! ألم يقرأوا ردّ الإمام على المغيرة وعلى ابن عباس في عدم جواز إبقاء عمال عثمان ومعاوية خاصة في مناصبهم؟ ألم يكن عزلهم واستبدالهم بمن هو أنقى وأتقى هو عين الحزم؟ ولو كان رضي بما أشار عليه المشيران، لانتقضت عليه العرب كلها، ولأعادوها جذعة ثمّ ساروا إليه فقتلوه كما قتل عثمان.

أليس من الدهاء السياسي فضلاً عن الواجب الديني تطهير الجهاز في مناصب الدولة من عناصر الفساد؟ هل من الدهاء أن يكون ولاة الخليفة اليوم هم الولاة بالأمس، وهم الذين حكموا البلاد فأكثروا فيها الفساد، فصب الناس عليهم وعلى خليفتهم سوط النقمة حتى أدى ذلك إلى قتله؟

ولم يكن الاخوان واستاذهما بدعاً. فقد كان لهم أشباه وأشباه. قال الدكتور أحمد شلبي: «ويوشك المؤرخون والمستشرقون أن يجمعوا على لوم عليّ على هذا العمل ـ عزل الولاة واسترداد القطائع ـ وهم جميعاً تقريباً يصرّحون

____________

(1) شرح النهج لابن أبي الحديد 2/579 ـ 584.


الصفحة 315
أنّ التوفيق أخطأ عليّاً، وأن ذلك لم يكن من الحكمة. والّذي اعتقده أنّ ذلك الحكم على عليّ مبالغ فيه، وانّه من الأقوال الّتي تشاع فيأخذها الناس دون دراسة وبغير تمحيص، وللتدليل على ذلك نسأل الأسئلة التالية:

1- هل كان من الممكن أن يحتج عليّ على الولاة الظالمين وأن يطلب من عثمان عزلهم حتى إذا تولى هو الخلافة تركهم؟

2- وهل كان من الممكن أن يثور على القطائع الّتي أعطيت ظلماً لأقارب الخليفة حتى إذا تولى هو الخلافة أقرّها؟

3- وهل كان التمرّد الّذي عاناه ناشئاً عن عزل الولاة واسترداد القطائع؟ وإذا كان كذلك فلماذا تمرّد طلحة والزبير(1) وشنّا على عليّ حرب الجمل؟

4- وهل يتخيّل المؤرخون أنّ معاوية كان سيبايع عليّاً ويسير في ركابه لو لم يُعزل؟

5- وأخيراً هل يمكن أن نطلب من عليّ أن يكون شخصاً آخر غير عليّ.

إن مطالبة عليّ بترك والٍ ظالم في الولاية، أو الإغضاء عن مال أخذ من بيت مال المسلمين من دون حقّ هو بمثابة أن نطلب من الأسد أن يصبح هراً وهيهات أن يكون ذلك.

لعل من الأفضل للمؤرخين أن يقولوا: إنّ ذلك الوقت لم يكن الوقت الملائم لعليّ ليصبح خليفة، وكان من الخير للمسلمين أن يتولى الخلافة في ذلك الوقت شخص آخر غير عليّ(2) شخص يستطيع أن يدور وأن يداهن، شخص لم

____________

(1) ونضيف نحن اليهما عائشة لماذا خرجت؟

(2) أنظر تاريخ الطبري 3/459.


الصفحة 316
يشترك في الأحداث السابقة، او اشترك فيها بنصيب ضئيل، ولكن يجب ألاّ ننسى أنّ أيّة محاولة لتولية شخص غير عليّ حينذاك كان لابدّ من فشلها، فتولية عليّ كانت قد أصبحت أمراً طبيعياً كما سبق القول.

والخلاصة أنّ تولية عليّ كانت طبيعية، وأنّ سلوكه كان طبيعياً، وأنّ التمرّد الّذي واجهه عليّ كان طبيعياً أيضاً وكان نتيجة لسير الأحداث وكان صراعاً على السلطة وإن اتُخذ من أسبابه قتل عثمان، أو المطالبة بثاره، أو عزل الولاة، او استرداد ما سُلب من بيت المال.

ويقول محمّد بن سيرين: ما علمتُ أنّ عليّاً أتّهم في دم عثمان حتى بويع، فلمّا بويع اتهمه الناس(1)»(2).

وأخيراً لقد تبيّن للقارئ مدى الجناية الّتي لحقت بالإمام نتيجة سياسته الحكيمة، فظن من لا حريجة له في الدين أنّ الخلاف الّذي نشب في أيام خلافته، لأنّه لم يأخذ بنصائح المغيرة وابن عباس، وقد بيّنا ما يتعلق بابن عباس وشككنا في صدق الرواة فيما هو الثابت الصحيح عنه.

وأمّا المغيرة كيف يتوقع من الإمام أن يقبل بمشورته، وهو الّذي كان يعرفه بدءاً وختاماً، كفراً وإسلاماً، حرباً وسلاماً؟!

هلم فلنقرأ ما رواه إبراهيم بن محمّد الثقفي في كتابه الغارات عن أبي صادق عن جندب بن عبد الله قال: «ذكر المغيرة بن شعبة عند عليّ (عليه السلام) وجَدّه مع معاوية. قال: وما المغيرة؟ إنّما كان إسلامه لفجرة وغدرة غدرها بنفر من

____________

(1) العقد الفريد لابن عبد ربه 4/305.

(2) التاريخ الإسلامي 1/335 ـ 337 ط الخامسة /1970.


الصفحة 317
قومه، فتك بهم وركبها منهم، فهرب منهم فأتى النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كالعائذ بالإسلام، والله ما رأى أحد عليه منذ ادعى الإسلام خضوعاً وخشوعاً.

ألا وانّه كان من ثقيف فراعنة قبل يوم القيامة يجانبون الحقّ ويسعرون نيران الحرب ويوازرون الظالمين، ألا إنّ ثقيفاً قَومٌ غُدر لا يوفون بعهد، يبغضون العرب كأنّهم ليسوا منهم، ولربّ صالح قد كان فيهم، فمنهم عروة بن مسعود وأبو عبيد بن مسعود المستشهد يوم قسّ الناطف، وإنّ الصالح في ثقيف لغريب»(1).

ولا تزال تعيش الفكرة الخاطئة في كثير من الأدمغة الّتي ترى الميكافلية السبيل الأقوى إلى بلوغ الغاية، ولا تنظر إلى السبيل الأقوم، حتى كانوا يرون في بلوغ معاوية إلى سدة الحكم حجة لهم. وانّه كان داهية ولم يكن الإمام كذلك، وقد فاتهم قد يرى الحوّل القلّب وجه الحيلة ولكن دونها حاجز من تقوى الله. وللردّ على هؤلاء فلنقرأ أوّلاً: ما قاله أمير المؤمنين (عليه السلام): «والله ما معاوية بأدهى مني ولكنه يغدُر ويفجُر، ولولا كراهية الغدر لكنت من أدهى العرب، ولكن كلّ

____________

(1) شرح النهج لابن أبي الحديد 1/363 - 364 ط مصر الأولى، وكتاب الغارات /516 تحقيق السيّد جلال الدين الحسيني، وغدرة المغيرة وفجرته، ذكرها من المؤرخين ابن هشام في سيرته عند صلح الحديبية 2/313 ط مصر سنة 1375، وذكرها ابن جرير الطبري في تاريخه في حوادث السنة السادسة 1/1537 ط أوربا. والواقدي في المغازي تحت عنوان: غزوة الحديبية 2/595 وهو أوسع من ذكر ذلك. وابن الأثير 2/76 وغيرهم وملخصها بلفظ ابن هشام: فقال عروة: من هذا يا محمّد؟ قال: هذا ابن أخيك المغيرة بن شعبة قال: أي غَدر وهل غسلت سوأتك إلاّ بالأمس؟ قال ابن هشام: أراد عروة بقوله هذا أن المغيرة بن شعبة قبل إسلامه قتل ثلاثة عشر رجلاً من بني مالك من ثقيف، فتهايج الحيّان من ثقيف بنو مالك رهط المقتولين، والأحلاف رهط المغيرة فودى عروة المقتولين ثلاث عشرة دية وأصلح ذلك الأمر.


الصفحة 318
غدرة فجرة، ولكلّ فجرة كفرة، ولكلّ غادر لواء يُعرف به يوم القيامة، والله ما أُستغفل بالمكيدة، ولا أُستغمز بالشديدة»(1).

ولنذكر في هذا المقام ما حكاه ابن أبي الحديد عن أبي عثمان ـ الجاحظ ـ قال أبو عثمان: «وربّما رأيت بعض من يظن بنفسه العقل والتحصيل والفهم والتمييز، وهو من العامة، ويظن أنّه من الخاصة، يزعم ان معاوية كان أبعد غوراً، وأصح فكراً وأجود رويّة، وأبعد غاية، وأدّق مَسلكاً، وليس الأمر كذلك، وسأومي إليك بجملة تعرف بها موضع غلطه، والمكان الّذي دخل عليه الخطأ مِن قبله.

كان عليّ (عليه السلام) لا يستعمل في حربه إلاّ ما وافق الكتاب والسنّة، وكان معاوية يستعمل خلاف الكتاب والسنّة كما يستعمل الكتاب والسنّة، ويستعمل جميع المكايد حلالها وحرامها، ويسير في الحرب بسيرة ملك الهند إذا لاقى كسرى، وخاقان إذا لاقى رتبيل، وعليّ (عليه السلام) يقول: لا تبدؤهم بالقتال حتى يبدؤوكم ولا تتبعوا مُدبراً، ولا تجهزوا على جريح ولا تفتحوا باباً مغلقاً. هذه سيرته في ذي الكلاع وفي أبي الأعور السُلمي وفي عمرو بن العاص وحبيب بن مسلمة وفي جميع الرؤساء كسيرته في الحاشية والحشو والأتباع والسفلة، وأصحاب الحروب ان قدروا على البيات بيتوا، وان قدروا على رضخ الجميع بالجندل وهم نيام فعلوا، وإن أمكن ذلك في طرفة عين لم يؤخروه إلى ساعة،

____________

(1) شرح النهج لابن أبي الحديد 2/572، وشرح محمّد عبده 2/206 وجاء في حديث ابن أبي شيبة في كتاب الجمل من مصنفه 15/251 ط باكستان قول كليب الجرمي وقد دخل على أمير المؤمنين (عليه السلام) بذي قار فقال: قدمت على أدهى العرب ـ يعني علياً ـ... وقد أخرج الطبري الحديث بكامله وفيه شهادة الجرمي بأن علياً من أدهى العرب ـ راجع 4/491.


الصفحة 319
وإن كان الحرق أعجل من الغرق لم يقتصروا على الغرق ولم يؤخروا الحرق إلى وقت الغرق...

فمن اقتصر ـ حفظك الله ـ من التدبير على ما في الكتاب والسنّة كان قد منع نفسه الطويل العريض من التدبير وما لا يتناهى من المكايد، والكذب ـ حفظك الله ـ أكثر من الصدق، والحرام أكثر عدداً من الحلال... فعليّ (عليه السلام) كان ملجماً بالورع عن جميع القول إلاّ ما هو لله (عزّ وجلّ) رضاً، فصار ممنوع اليدين من كلّ بطش إلاّ ما هو لله رضاً ولا يرى الرضا إلاّ فيما يرضاه الله ويحبه، ولا يرى الرضا إلاّ فيما دلّ عليه الكتاب والسنّة، دون ما يعوّل عليه أصحاب الدهاء والمكر والمكايد والآراء، فلمّا أبصرت العوام كثرة نوادر معاوية في المكايد وكثرة غرائبه في الخداع، وما اتفق له وتهيّأ على يده ولم يروا ذلك من عليّ (عليه السلام)، ظنوا بقصر عقولهم وقلة علومهم ان ذلك من رجحان عند معاوية ونقصان عند عليّ (عليه السلام)...»(1).

وهذا الحال ذكره غير واحد من الكتاب المعاصرين.

منهم الكاتب أحمد عباس صالح، قال في كتابه اليمين واليسار: «وكان عليّ بن أبي طالب يمثل في نظر غالبية المسلمين الرجل الوحيد الأقرب إلى روح الإسلام وأصوله الصحيحة، ولكنه في نفس الوقت يمثل السياسي المتشدد أو على الأصح الأكثر تشدداً من عمر بن الخطاب نفسه، وهو الأمر الّذي جعل الكثيرين من القادة والطامحين والمستفيدين ينظرون إلى تولية عليّ بن أبي طالب نظرة حذر وتردّد. وأصحاب المصالح لم يستطيعوا أن يحتملوا عمر، ابن

____________

(1) شرح النهج لابن أبي الحديد 2/577 ط مصر الأولى.


الصفحة 320
الخطاب، فأولى بهم أن يتخوفوا من عليّ وأن يعملوا جهدهم ألاّ يصل إلى الخلافة»(1).

ومنهم الدكتور هشام جعيّط (تونسي)، قال في كتابه الفتنة ما يلي: «هناك في التراث التاريخي العربي ميل شديد إلى إظهار عليّ على أنّه سياسي رديء، وحتى كأنه رجل محدود(2) وفي المقابل هناك ميل إلى اعتبار معاوية ذا حسّ سياسي عميق. وليس في ذلك فقط انعكاس لواقع، أو على العكس، تعبير عن شبكة رقيقة من الروايات المعادية لعليّ، بل هناك أيضاً الميل الغالب على العقل البشري لرفض الكمال وإلى مساواة اللعبة، وإلى تمييز مجالات الأنشطة، فبما ان التقوى هي نصيب عليّ، فعندئذ تكون السياسة نصيب معاوية.

وحتى أننا نلاحظ في الموروث التاريخي المؤيد لعليّ إلى حد كبير، نزوعاً غامضاً إلى التشديد على دهاء معاوية، يكون في آنٍ عبقرية استراتيجية ومكر يستحق الإعجاب والإدانة.

في الواقع ليست الاُمور بهذه البساطة: فقد كان عليّ سياسياً اكثر ممّا يُعتقد، وكان معاوية استراتيجياً أقل كياسة، وكان بالأخص أقل مكراً ممّا جرت العادة على وصفه.

وبعد يبقى صحيحاً أنّ عليّاً كان بوجه خاص قد عرف تجربة المرحلة التاريخية النبوية المحصورة في المجال الحجازي والعربي على الأكثر، وأنه لم

____________

(1) اليمين واليسار في الإسلام /97ـ ـ98 ط المؤسسة العربية للدراسات والنشر سنة 1972.

(2) هذه روايات من أصل أموي وأما من أصل عباسي. راجع مثلاً الطبري 4/439 حيث يبرز الواقدي على المسرح علياً وابن عباس، علياً والمغيرة بن شعبة، وحيث يبدو عليّ مفتقراً إلى الحسّ السياسي بالمقارنة مع الرجلين.


الصفحة 321
يُرَد له، أو أنّه هو ذاته لم يُرِد إقحام نفسه في مغامرة الفتح، وبالتالي توسيع آفاقه، بينما كان معاوية قد وجد نفسه طيلة /20 سنة مشاركاً في تنظيم الامبراطورية وإدارتها...»(1).

ومنهم الشيخ العلائلي، في كتابه القيم سموّ المعنى في سموّ الذات، وقد بحث (أسباب فشل سياسة عليّ (عليه السلام) ونجاح السياسة المعادية) كما عنون ذلك، فقال: «والحقّ أنا إذا درسنا سياسة عليّ (عليه السلام) وسياسة معاوية، على مناهج علوم النفس والسياسة والاجتماع والقانون، رأينا عمق سياسة عليّ ونفوذها ورجاحة خططه، ونرى أيضاً كيف يبني ويهدم تبعاً لنظر دقيق وتفكير موفّق، وانما جاء فشلها من نواح:

(1) انّ التربية الدينية لم تشمل العرب على وجه صحيح، ولم يعن الخلفاء بنشرها على الطريقة الوجدانية الّتي اختمرت في نفس أبي ذر (رضي الله عنه) فقام ينشرها مجتهداً... ثمّ ذكر أسباب ذلك التخلف في الشعور الديني عند العرب ثمّ قال: إذاً فقد كان أخذ عليّ (عليه السلام) لهؤلاء بالسياسة الدينية الصارمة وهم على غير استعداد لها سبباً من أسباب الفشل.

(2) سياسة عليّ (عليه السلام) القانونية، فقد كان يلتمس لكل اجراآته وجوهاً من القانون أي دينية، ويجتهد في ايضاحها قبل أن يقوم بحركة ما، ولا شك في أنّ طبيعة القانون غير طبيعة الظروف المفاجآت هذا سبب ثان للفشل، بينما كانت

____________

(1) الفتنة /186، جدليّة الدين والسياسة في الإسلام المبكر ـ ترجمة خليل أحمد خليل استإذ المعرفة والفلسفة ـ الجامعة اللبنانية بمراجعة المؤلف. ط دار الطليعة للطباعة والنشر بيروت ط الثالثة سنة 1995.


الصفحة 322
سياسة معاوية لا تتقيد بحدود ولا بأوضاع، وإنّما تركب كلّ صعب وذلول في سبيل أغراضها، وكذلك كانت سياسة مستشاره عمرو...

هذا ميزان نستطيع أن نزن به سياسة عليّ (عليه السلام) ومعاوية، فقد كان عليّ محافظاً دينياً لا يمكنه أن يحمل الناس إلاّ على قانونه الخاص الّذي يسيطر عليه، ولا يتحلل من أسره، ولذلك هو يلتمس لنفسه شواهد من القانون تبرّر عمله، فإن لم يجدها أحجم إحجام المذعور، ومن ثمّ لا يعطي أذنه لأي ناصح مهما علم صدقه وصدق رأيه ما دام لا يتفق مع الدين (القانون الّذي يحترمه عليّ (عليه السلام) ويعمل به).

بينما كان معاوية متحللاً من هذا القيد، فلم تكن سياسته قانونية بل سياسة ظرفية، ومن ثمّ كانت قمينة بالنجاح وجديرة بأن لا تفشل.

(3) روح العراق الّتي كانت قَبَليّة في ذلك العهد على شكل وبيل فظيع، إذ كان يجمع أقواماً من قبائل شتى وجهات مختلفة تقوم في مجموعها على التقليد البدوي القديم الّذي لم يؤثر فيه الإسلام شيئاً، لأنّه لم يهاجمه في محل العقيدة ومكان الضمير، وإنّما هاجمه في الأعمال الظاهرة والشكل الصوري فقط... وبهذا أعلل كلّ الإضطرابات الّتي ثارت في محيط العرب، وأبرزها إكراه خليفة كعليّ (عليه السلام) لقبول التحكيم وتهديده بأن يفعل به كما فعل بعثمان (رضي الله عنه) ولقد قال عليّ كرّم الله وجهه في كلمة له: (لا رأي لمن لا يطاع)...

(4) من القضايا الثابتة أنّ البدوي يؤخذ بالاحتكام والخوف والسيطرة، وبعث الرعب في نفسه والتظاهر عليه بالقوة...

هذه أسباب اجتمعت على فشل سياسة عليّ.


الصفحة 323
وقال: إنّ المقدرة السياسية لا تقاس بمقدار النجاح بل بمقدار ما تكون مقدماتها التعليلية صحيحة، لأنّ الفشل كثيراً ما يكون نتيجة مفاجأة لم تكن في الحسبان كما وقع لعليّ (عليه السلام) بالفعل في حركة الخوارج، ولولاها لكان نجاحها مضموناً أو محتوماً...»(1).

ومنهم الدكتور طه حسين، يقول في كتابه علي وبنوه في حديثه عن فرار مصقلة بن هبيرة إلى معاوية: «يظهر الفرق واضحاً بين مذهب عليّ في السياسة الّتي تخلص للدين، ومذهب معاوية في السياسة الّتي تخلص للدنيا»(2).

وقال: «وهذه السيرة الّتي سارها عليّ في عمّاله هي نفس السيرة الّتي سارها في الناس، فلم يكن يُطمع الناس في نفسه، ولم يكن يوئيسهم منها، وإنّما كان يدنو منهم أشد الدنوّ ما استقاموا على الطريق وأدّوا الحقّ، فإن انحرفوا عن الجادة أو التووا ببعض ما يجب عليهم بَعُد عنهم أشدّ البعد، وأجرى فيهم حكم الله غير مصطنع هوادة أو رفقاً»(3).

وقال أيضاً: «فقل إذاَ في غير تردّد: انّ أوّل الظروف الّتي كانت تقتضي أن يخفق عليّ في سياسته هو ضعف سلطان الدين على نفوس المحدثين من المسلمين، وتغلّب سلطان الدنيا على هذه النفوس»(4).

وقال: «كان عليّ يدبّر خلافة، وكان معاوية يدبّر ملكاً وكان عصر الخلافة قد انقضى وكان عصر الملك قد أظلّ»(5).

____________

(1) سمو المعنى في سمو الذات /49 مط عيسى البابي الحلبي وشركاه بمصر سنة 1358.

(2) عليّ وبنوه /128 ط دار المعارف.

(3) نفس المصدر /166.

(4) المصدر السابق /177.

(5) نفس المصدر /181.


الصفحة 324
ومنهم الاستاذ عباس محمود العقاد، يقول في كتابه عبقرية الإمام: «فالسياسة الّتي اتبعها الإمام هي السياسة الّتي كانت مقيّضة له مفتوحة بين يديه، وهي السياسة الّتي لم يكن له محيد عنها، ولم يكن له أمل في النجاح إن حاد عنها إلى غيرها...

ومهما يكن من حكم الناقدين في سياسة الإمام فمن الجَور الشديد أن يُطالب بدفع شيء لا سبيل إلى دفعه، وأن يحاسب على مصير الخلافة وهي منتهية لا محالة إلى ما انتهت إليه...

ومن الجور الشديد أن يلقى عليه اللوم لأنّه باء بشهادة الخلافة ولابدّ لها من شهيد.

وقد تجمعت له أعباء النقائض والمفارقات الّتي نشأت من قبله، ولم يكد يسلم منها خليفة من الخلفاء بعد النبيّ صلوات الله عليه...

وقد نُقدت سياسة عليّ لفوات الخلافة منه قبل البيعة، كما نُقدت سياسته لفوات الخلافة منه بعد البيعة، واحصى عليه بعض المؤرخين أنّه تأخر نيّفاً وعشرين سنة فلم يخلف النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ولم يخلف أبا بكر، ولم يخلف عمر... كأنّه كان مستطيعاً أن يخلف أحداً منهم بعمل من جهده وسعي من تدبيره، فأعياه السعي والتدبير...»(1).

ثمّ ساق العقاد ما براه بمنظوره الخاص من أسباب العوائق الّتي حالت بين الإمام وبين الخلافة قبل وصولها إليه، فذكر جملة منها ما صح وفيها ما لا يصح، غير انّه ختم كلامه فقال: «وكلّ سياسة له لم تكن لتحيد به عن الخاتمة

____________

(1) عبقرية الإمام /773 العبقريات الإسلامية.


الصفحة 325
المحتومة أقل محيد. وكلّ ما كان من تدبير الحوادث أو من تدبيره فهو على هذا الملتقى الّذي يتلاحق عنده الاسراع والإبطاء ـ إلى أن قال ـ: وتقضي بنا هذه التقديرات جميعاً إلى نتيجة واضحة نلخصها في كلمات وجيزة ونعتقد أنها أعدل الأقوال في وصف تلك السياسة الّتي كثرت مطارح النقد والدفاع.

فسياسة عليّ لم تورّطه في غلطات كان يسهل عليه اجتنابها باتباع سياسة أخرى. وهي كذلك لم تبلغه مآرب مستعصية، كان يعز عليه بلوغها في موضعه الّذي وضع فيه وعلى مجراه الّذي جرى عليه.

فليست هي علة فشل منتزع، ولا علة نجاح منتزع، أو هي لا تستدعي الفشل من حيث لم يخلق، ولا تستدعي النجاح من حيث لم يسلس له قياد...

ورأينا في سياسته فهماً وعلماً، ولكننا لم نر فيها الحيلة العملية الّتي هي إلى الغريزة أقرب منها إلى الذكاء...

فكان نعم الخليفة، لو صادف أوان الخلافة...

وكان نعم الملك لو جاء بعد توطيد المُلك واستغنائه عن المساومة والإسفاف. ولكنه لم يأت في أوان الخلافة ولا في أوان مُلك مُوطّد، فحمل أعباء النقيضين وأخفق حيث ينبغي أن يخفق أو حيث يعييه أن ينجح، وتلك آية الشهيد»(1).

وقال العقاد أيضاً: «ثمّ يفترق الناس في رأيه إلى رأيين وإن لم يكونوا من الشانئين المتحزبّين، فيقول أناس إنّه كان على قسط وافر من الفهم والمشورة، ولكنه عند العمل لا يرى ما تقضي به الساعة الحازبة، ولا ينتفع بما يراه، ويقول أناس: بل

____________

(1) نفس المصدر /773.