فكتب إليه ابن عباس جواباً طويلاً يقول فيه: أمّا قولك: إنّي من الساعين على عثمان والخاذلين له والسافكين دمه، وما جرى بيني وبينك صلح فيمنعك مني فأقسم بالله لأنت المتربص بقتله، والمحب لهلاكه، والحابس الناس قبلك عنه على بصيرة من أمره، ولقد أتاك كتابه وصريخه يستغيث بك ويستصرخ فما حفلت به(1) حتى بعثت إليه معذراً بأخرة، أنت تعلم أنّهم لن يتركوه حتى يقتل، فقتل كما كنت أردت، ثمّ علمت عند ذلك إن الناس لن يعدلوا بيننا وبينك، فطفقت تنعى عثمان، وتلزمنا دمه، وتقول قتل مظلوماً، فإن يك قتل مظلوماً فأنت أظلم الظالمين، ثمّ لم تزل مصوّبا ومصعّدا، وجاثماً ورابضاً تستغوي الجهال، وتنازعنا حقنا بالسفهاء حتى أدركت ما طلبت، {وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ}(2)»(3).
فهذا نص له دلالته، ولا يعقل أن يكون هذا هو جميع الكتاب والجواب، خصوصاً مع ملاحظة قول ابن أبي الحديد: «فكتب إليه ابن عباس جواباً طويلاً...». وليته لم يقتضبه، فرواه لنا بكامله لأفدنا منه أموراً أخرى. ومهما يكن العذر له في ذلك، فإن فيما ذكره دلالة على زمن المكاتبة إذ في كتاب معاوية
____________
(1) يشير إلى كتاب عثمان إليه يستنصره فلم ينصره، قال الطبري في تاريخه 5/115 فلمّا جاء معاوية الكتاب تربّص به...
(2) الأنبياء /111.
(3) شرح النهج لابن أبي الحديد 4/58، ولا يخفى تشابه ختام كتابه بختام خطبة الإمام الحسن (عليه السلام) فكلاهما يرى في تولي معاوية الفتنة وهو متاع إلى حين.
والآن هلمّ الخطب فيما رواه الطبري بسنده عن الزهري في حديث بيعة الحسن (عليه السلام) ففيه من الطامّات ما يسقطه عن الإعتبار:
فمنها قوله: «فلمّا علم عبد الله بن عباس بالذي يريد الحسن (عليه السلام) أن يأخذه لنفسه، كتب إلى معاوية يسأله الأمان، ويشترط لنفسه على الأموال الّتي أصابها، فشرط ذلك له معاوية»(1). فإذا كان قد شرط له معاوية ذلك فلماذا إذن الكتاب إليه يتهدده ويتوعدّه كما مرّ؟ ولماذا كان جواب ابن عباس طويلاً؟ كما مرّ.
إنّها إحدى أكاذيب الزهري فهو من المنحرفين عن أهل البيت، ومن مرتزقة الأمويين وكان على شرطة بعض بني مروان. قال خارجة: «قدمت على الزهري وهو صاحب شرط لبعض بني مروان، قال: فرأيته يركب وفي يده حربة
____________
(1) تاريخ الطبري 5/158 ط دار المعارف و 6/2 ط أفست أوربا، وفي الكامل لابن الأثير 3/177ط بولاق عبيد الله بدل عبد الله. واظنه من غلط النساخ وخلط الرواة وقد مرّ تحقيق ذلك.
قبيل المغادرة:
لا شك عندي ان ابن عباس كان في آخر أيام ولايته على البصرة يعاني آلام المرارة الّتي سبّبها تدني الأمور وتلاحق الأحداث، وأوجعها في نفسه تولي معاوية أمور المسلمين، ولكنه ما دام تابعاً في ولايته لإمامه الحسن (عليه السلام) فلا بدّ له من التسليم وعليه الرضا بما جرى به قلم القضا، وإنّي لم أجد خبراً واحداً يدل على وهن في عزيمته أو خلل في ولايته، بالرغم من عثمانية البصرة ودسائس معاوية، فهو لم ينحني للعاصفة مع أنّه من خلال موقعه كان في مهبّها، فلم تزعزعه العواصف، ولم تهن من عزيمته ونشاطه الأحداث القواصف، بل وكأنّها زادته في شعوره شموخاً ورفعة، وفي عزيمته صموداً وصبراً. ولعل في خبر وفادة أبي أيوب الأنصاري عليه في تلك الفترة ما يعطينا ملامح من ذلك الشعور.
فلنقرأ الخبر أوّلاً كما رواه الطبراني في المعجم بسنده قال: «أنّ أبا أيوب ابن زيد الأنصاري ـ الّذي كان رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم نزل عليه حين هاجر إلى المدينة ـ غزا أرض الروم، فمرّ على معاوية فجفاه، فانطلق ثمّ رجع من غزوته، فمرّ عليه فجفاه، ولم يرفع به رأساً فقال: إن رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم أنبأني أنا سنرى بعده إثرة، فقال معاوية: فبم أمركم؟ قال: أمرنا
____________
(1) فهارس الثقاة لابن حيان /122 ط مؤسسة الكتب الثقافية عن كتاب الثقات 8/5 و 5/5 ط دار الكتب العلمية.
وهذا الخبر رواه الحاكم في المستدرك لا يخلو من فوائد واليك بلفظه: «إنّ أبا أيوب الأنصاري أتى معاوية فذكر له حاجة، قال: ألست صاحب عثمان؟ قال: أمّا إنّ رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم قد أخبرنا انّه سيصيبنا بعده إثرة، قال: وما أمركم؟ قال: أمرنا أن نصبر حتى نرد عليه الحوض، قال: فاصبروا. فغضب أبو أيوب وحلف أن لا يكلّمه أبداً.
ثمّ إنّ أبا أيوب اتى عبد الله بن عباس فذكر له ذلك، فخرج له عن بيته كما خرج أبو أيوب لرسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عن بيته، وقال: أيش تريد؟ قال: اربعة أغلمة يكونون في محلي، قال: لك عندي عشرون غلاماً»(2).
ورواه مرة أخرى وفيه: «وكان قدم عليه البصرة، ففرغ له بيته، وقال: لأصنعنّ بك كما صنعت برسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وقال: كم عليك من الدين؟ قال: عشرون ألفاً، قال: فأعطاه أربعين ألفاً وعشرين مملوكاً وقال: لك ما في البيت. قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرّجاه»(3). ووافقه الذهبي في
____________
(1) المعجم الكبير 4/125 ط الموصل، ورواه بسند أخر في 4/126.
(2) مستدرك الحاكم 3/459.
(3) نفس المصدر /460.
وتعقيباً منا على الخبر، فهو نص صريح على وفادة أبي أيوب الأنصاري على ابن عباس وهو بعدُ بالبصرة، وكانت وفادته بعد وفادة على معاوية كانت مخيبة لآماله، فلم يرَ الحسن ولم يسمع من معاوية غير السخرية والتهكّم بالانصار وبحديث الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم). لذلك يمّم وجهه شطر ابن عباس، فأسدى له ومعه ما مرّ ذكره من تكريم وعطاء لم يكن ليحلم ببعضه عند معاوية.
ولعل خبر هذه الوفادة وصل إلى معاوية فغاضه أن يكون لبني هاشم شأنٌ يذكر، ورأس يُشار إليه ويُقصد، وهو الّذي قد كادَ سيّد بني هاشم الإمام الحسن (عليه السلام) حتى استلب الحكم من يده فسالمه مضطراً، إذن لماذا يترك ابن عباس وشأنه، وهو لم يبايع سالماً، ولا يزال يمارس نشاطه مراغماً، فكتب إليه بما مرّ ذكره، وأجابه ابن عباس بجواب تقدّم شطره وسطره. وبعد هذا فلا يعني بقاء ابن عباس بالبصرة بعد الصلح محتملاً الا أن يقيم كسائر المواطنين تحت ولاية الوالي الذي سيرسله معاوية، وما يدريه ماذا تحمله له الأيام مع الوالي الجديد. إلاّ أنّها بلا شك لا تحمل له ما يطمئنه بالراحة ويبشّره بالخير. فعليه أن يرحل وعليه أن يتهيأ للمغادرة، ويستعد للعودة إلى الحجاز ـ مكة أو المدينة ـ حيث مهبط الوحي ومنتدى الأهل، وقد عاد من قبلُ إمامُه الحسن (عليه السلام) وأهلُ بيته الكرام، ففارقوا الكوفة، وهي في نفس ابن عباس سيدة البصرة، ولعل مرارة تجرّعه الغيظ
____________
(1) راجع مجمع الزوائد 9/323، وقال: رواه الطبراني.
(2) سير أعلام النبلاء 3/236 ط مصر، و 4/59 و 63 ط دار الفكر ببيروت.
(3) تاريخ ابن كثير 3/202.
طرد أو مطاردة:
روى البلاذري المتوفى سنة 279هـ في أنساب الأشراف قال: «كتب معاوية كتاباً نسخته:
بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب للحسن بن عليّ من معاوية بن أبي سفيان.
إنّي صالحتك على أنّ لك الأمر من بعدي، ولك عهد الله وميثاقه وذمته وذمة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وأشد ما أخذه الله على أحد من خلقه من عهد وعقد (أن) لا أبغيك غائلة ولا مكروهاً، وعلى أن أعطيك في كلّ سنة ألف ألف درهم من بيت المال، وعلى أنّ لك خراج (فسا) و(دارا بجرد) تبعث إليهما عمّالك، وتصنع بهما ما بدا لك.
شهد عبد الله بن عامر وعمرو بن سلمة الهمداني وعبد الرحمن بن سمرة ومحمّد بن الأشعث الكندي.
وكتب في شهر ربيع الآخر سنة احدى وأربعين.
فلمّا قرأ الحسن الكتاب قال: يطمعني في أمرٍ لو أردته لم أسلّمه إليه...»(2).
هذا أقدم نص ورد إلينا فيه ذكر خراج (فسا ودار ابجرد) يكون خالصاً للإمام الحسن (عليه السلام) يبعث إليهما عمّاله، ويصنع بهما ما بدا له. ولكن بعد تمام
____________
(1) محاضرات الأدباء للراغب 2/263.
(2) أنساب الأشراف 3/41 تح ـ المحمودي.
وأكّد ذلك ابن الأثير فقال: «وأمّا خراج دار ابجرد فإنّ أهل البصرة منعوه منه وقالوا: هو فيئنا لا نعطيه أحداً، وكان منعهم بأمر معاوية أيضاً»(3).
ولم يبعد ابن خلدون في تاريخه عن ذلك(4)، إلاّ أنّه تستر على معاوية فلم يذكر أنّ المنع بأمره.
ولا بدّ لنا من وقفة عابرة عند كلمة (فطردوا)! فهل صحيح حصل طردٌ من أهل البصرة لوكيل الحسن (عليه السلام)؟
ولا شك أنّه لم يكن له وكيل في البصرة سوى عامله عليها وهو عبد الله بن عباس.
كما لا شك بأنّه هو الّذي حمل معه المال.
ولا شك أنّه حصلت مناوشات في شأن ذلك ـ كما سيأتي ـ فهل تعني كلمة (فطردوا) يعني فطاردوا؟ إذ أنّ المعنى اللغوي لكلمة (الطرد) هو الإبعاد، وهذا لم يحصل، والّذي حصل هو المطاردة، وهي حمل الأقران بعضهم على بعض(5)،
____________
(1) تهذيب تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر بتهذيب ابن بدران 4/221 ط بيروت.
(2) مقتل الحسين (عليه السلام) للخوارزمي 1/133 ط الحيدرية النجف.
(3) الكامل 3/175 ط بولاق.
(4) تاريخ ابن خلدون /1137 ط دار الكتاب اللبناني.
(5) راجع القاموس المحيط: طرد.
قال: «ولمّا أراد ابن عباس الخروج دعا أخواله من بني هلال ليعينوه، فجاءه الضحاك بن عبد الله الهلالي ـ وهو كان على شرطة البصرة ـ وعبد الله بن رزين الهلالي، وقبيصة بن عبد عون الهلالي وغيرهم من الهلاليين، فقال الهلاليون: لا غناء بنا عن اخواننا من بني هوازن، ولا غناء بنا عن اخواننا من بني سليم فاجتمعت قيس كلّها.
وصحب ابن عباس أيضاً سنان بن سلمة بن المحبق الهذلي، والحصين بن أبي الحر العنبري، والربيع بن زياد الحارثي فلمّا رأى عبد الله مَن معه، حمل المال وهو ستة آلاف الف في الغرائر(1) ثمّ سار.
واتبعه اخماس البصرة كلّهم فلحقوه بالطف على أربعة فراسخ من البصرة، إرادة أخذ المال منه.
فقالت قيس: والله لا يصلون إليه ومنّا عين تطرف.
____________
(1) الغرائر بالكسر شبه العدل. المصباح المنير غرر.
وقالت بكر بن وائل: الرأي والله ما قال صبرة بن شيمان، واعتزلوا أيضاً.
فقالت بنو تميم: والله لنقاتلنهم عليه، فقال لهم الأحنف: أنتم والله أحق ألاّ تقاتلونهم وقد ترك قتالهم مَن هو أبعد منكم رحماً، فقالوا: والله لنقاتلنهم عليه.
فقال الأحنف: والله لا أساعدكم وانصرف عنهم، فرأسوا عليهم رجلاً يقال له ابن الجذعة وهو من بني تميم، وبعضهم يقول: ابن المخدعة.
فحمل عليهم الضحاك بن عبد الله الهلالي فطعن ابن الجذعة فصرعه، وحمل سلمة بن ذويب على الضحاك فطعنه، فاعتنقه عبد الله بن رزين الهلالي فسقطا إلى الأرض يعتركان، وكان ابن رزين شجاعاً، وكثرت الجرحى بينهم، ولم يقتل من الفريقين أحد.
فقال من اعتزل من الأخماس: والله ما صنعتم شيئاً حيث اعتزلتم وتركتموهم يتناحرون. فجاؤا حتى صرفوا وجوه بعضهم عن بعض، وحجزوا بينهم، وقالوا لبني تميم: والله لنحن أسخى أنفساً منكم، تركنا لبني عمكم شيئاً أنتم تقاتلونهم عليه، فخلّوا عن القوم وعن ابن اختهم، ففعلوا ذلك...
ومضى عبد الله بن عباس ومعه من وجوههم نحو من عشرين سوى مواليهم ومواليه، ولم يفارقه الضحاك بن عبد الله، وعبد الله بن رزين، حتى وافى مكة...
وكان ابن عباس يعطي في طريقه مَن سأله ومن لم يسأله من الضعفاء، حتى قدم مكة.
هذا ما ذكره البلاذري وهو أقدم نص وصل إلينا عن تلك المطاردة.
ثمّ رواه الطبري عن عمر بن شبة عن جماعة عن أبي مخنف، بتفاوت في اللفظ، واتساق في المعنى مع ما ذكره البلاذري من حديث الخيانة والمفارقة والمطاردة إلى آخر ما سيأتي بحثه بتفصيل في الحلقة الرابعة.
وفي الأغاني لأبي الفرج، خبر فيه: «تبع أبو الأسود ابن عباس حين خرج من البصرة إلى المدينة ليردّه، فأبى واعتصم بأخواله من بني هلال فمنعوه»(2).
وجرى التالون على ما أسّس الأولون(3).
إذن فثمة كانت مطاردة من بعض أهل البصرة لابن عباس ـ وهو وكيل الحسن لأنّه الوالي من قبله ـ لمنعه من حمل ما في مال بيت مال البصرة يعنون خراج (فسا ودار ابجرد)، وبالتالي تمكن من الاستعانة بأخواله بني هلال ومن معه أن يحمله معه، وكان يعطي في طريقه من سأله ومن لم يسأله من الضعفاء...
والآن لنقرأ شيئاً عن طبيعة ذلك المال لنعرف لماذا الإصرار من ابن عباس على حمله؟ ولماذا الإصرار من بني تميم على منعه؟
طبيعة بيت مال البصرة وموارده:
لقد مرّ بنا في الحديث عن ولاية ابن عباس على البصرة في المحورين الأوّل والثاني التعرّف على طبيعة التركيبة الجغرافية والسكانية والبلاد التابعة في
____________
(1) أنساب الأشراف (ترجمة الإمام أمير المؤمنين) 2/174 تح ـ المحمودي.
(2) الأغاني 12/301 ط دار الكتب.
(3) لاحظ ابن عبد ربه في العقد الفريد 4/354 ـ 359 ط لجنة التأليف والترجمة والنشر، وابن الأثير في الكامل 3/167 ـ 168 ط بولاق وغيرهما.
وبلاد (فسا ودار ابجرد) قد فتحت صلحاً كما في الفتوح. قال البلاذري: «وأتى عثمان بن أبي العاص دار ابجرد، وكانت شادروان علمهم ودينهم وعليها الهربذ، فصالحه الهربذ على مال أعطاه إياه، وعلى أنّ أهل دار ابجرد كلّهم أسوة من فتحت بلاده من أهل فارس...»(1).
إذن فخراج دار ابجرد يكون شأنه شأن البلاد الّتي فتحت صلحاً على عهد النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ممّا لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب مثل فدك وذلك خاص بالنبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في أيامه، ثمّ من بعده بالإمام أمير المؤمنين وأهل بيته (عليه السلام) لقوله تعالى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ}(2).
ولمّا كان الإمام الحسن (عليه السلام)، هو إمام الخلق بالحق، وعليه أن يتبع سنة النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في الأراضي المفتوحة صلحاً، كما له أن يرتزق ويرزق من مال المصالحة بالوجه الّذي يراه، لذلك اشترط أخذ خراج (دار ابجرد) لأنّه له ومن
____________
(1) فتوح البلدان للبلاذري /395 ط الأولى سنة 1319 بمطبعة الموسوعات بمصر.
(2) الحشر /7.
وإلى هذا الوجه ذهب الشيخ الصدوق ابن بابويه المتوفى سنة 381 في علل الشرائع حيث ذكر جواب الشيخ محمّد بن بحر الشيباني في كتابه المعروف بكتاب (الفروق بين الأباطيل والحقوق) في معنى موادعة الحسن بن عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) لمعاوية. إلى أن قال (عليه السلام):
«فإن قال ـ السائل ـ ما تأويل اختيار مال دار ابجرد على سائر الأموال لما اشترط أن يجعله لأولاد من قتل مع أبيه صلوات الله عليهم يوم الجمل وبصفين؟
قيل: لدار ابجرد خطب في شأن الحسن بخلاف جميع فارس، وقلنا: إنّ المال مالان: الفيء الّذي ادّعوا أنّه موقوف على المصالح الداعية إلى قوام الملة وعمارتها من تجييش الجيوش للدفع عن البيضة ولأرزاق الأسارى. ومال الصدقة الّذي خصّ به أهل السهام، وقد جرى في فتوح الأرضين بفارس والأهواز وغيرهما من البلدان ممّا فتح منها صلحاً وما فتح عنوة، وما أسلم أهلها عليها هنات وهنات، وأسباب وأسباب، بايجاب الشرائط الدالة لها...
وإذ عرفنا الوجه في خصوص ذلك المال، وأنّه من أعف وأنظف وجوه الأموال الأخرى، لذلك استثناه الإمام الحسن (عليه السلام) من بين بقية الأموال، عرفنا أيضاً وجه إصرار ابن عباس على حمله لأنّه وكيل الإمام وواليه، ولم تسقط ولايته إلاّ بعد الصلح والتسليم، والمال قد كانت جبايته في ولايته وسلطته الشرعية من قبل الإمام الحقّ العادل ـ سواء كان في أيام الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) أو في أيام ابنه الإمام الحسن، ولمّا كان قد أعطى كلّ ذي حقّ حقه، وبقيت تلك البقية الّتي كان سابقاً يرسلها إلى الإمام في الكوفة كما في عهد الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) فاليوم وبعد أن تمت الموادعة، فليس من المنطق المعقول ولا الشرع المقبول، أن يترك ذلك المال لمعاوية وأشياعه، يعيثون فيه فساداً.
____________
(1) أنظر علل الشرائع 1/278 ط مكتبة الشريف الرضي بقم.
وبهذا الجواب أخرس ابن الزبير فلم يردّ عليه بشيء، ولم يذكر التاريخ أنّ أحداً من الحاضرين في المسجد الحرام ـ حيث وقعت المشادّة والمحادّة ـ أنكر على ابن عباس جوابه، فتبيّن لنا وجه إصرار ابن عباس على حمل المال معه، وصحة رأيه.
يبقى علينا أن نعرف لماذا أصرّ بنو تميم ـ وبالأصح بعضهم ـ على الممانعة والمجادلة حتى أنتهت إلى المصاولة والمقاتلة؟
فنقول: لقد مرّ بنا في تاريخ حياته في البصرة شواهد التشنّج بينه وبين بني تميم، وقرأنا كتاب الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) إليه في الرفق بهم بعد أن جفاهم وأبعدهم وتنكّر لهم، نكاية بهم لموقفهم المتصلّب يوم الجمل مع الناكثين، ثمّ ما جرى بعد ذلك لهم معه من مواقف عدائية نتيجة الجفوة والفجوة، فلا غرابة لو أصرّوا اليوم على العناد، وقد أمنوا بطشه وسطوته وها هو يغادر البلاد إلى غير رجعة.
وأخيراً هل ترك ابن عباس البصرة هملاً وعرضة للنهب والسلب، شأن البلاد الّتي تفتقد السلطة؟ أم أنّه استخلف عليها أحداً ينتظم شؤونها حتى يأتيها والي معاوية الحاكم الجديد؟
____________
(1) أنساب الأشراف ترجمة ابن عباس (نسختي المخطوطة بقلمي).
أقول: ولا يبعد صحة ذلك القول عند من يعرف حسب ونسب عبد الله بن الحرث بن نوفل عند الهاشميين أوّلاً. وشخصيته في الأمويين ثانياً، ومقامه عند البصريين ثالثاً.
فأمّا حسبه ونسبه عند الهاشميين فهو منهم ومعهم، قال السيّد المدني: «وكان عبد الله المذكور مع أمير المؤمنين (عليه السلام) وشهد معه مشاهده كلّها، ولمّا أراد الحسن (عليه السلام) صلح معاوية وجّه به رسولاً إلى معاوية»(2).
وأمّا شخصيته في بني أمية فهو ابن أخت معاوية فأمه هند بنت أبي سفيان ابن حرب، وهي الّتي لقّبته (ببّة) فكانت ترقّصه وتقول: لأنكحنّ ببّة. جاريةً خدّبه، مكرمة محبّة، تجبّ أهل الكعبة.
وأمّا مقامه عند البصريين فكانوا يرون فيه الرجل المناسب في الظرف المناسب، لأنّه واسطة العقد المنافي المنفرط الّذي جمع ولادة الهاشميين من الأب، والأمويين من الأم، لذلك فقد اتفقوا عليه بعد موت يزيد وهرب ابن زياد من البصرة فولّوه أمورهم(3).
____________
(1) الدرجات الرفيعة مخطوط بمكتبة الشيخ السماوي، قارن /119 ط الحيدرية.
(2) الدرجات الرفيعة /188.
(3) راجع ترجمته في طبقات ابن سعد 7 ق1/71 - 72، وسير أعلام النبلاء 5/43 ط دار الفكر بيروت، وتهذيب الكمال للمزي 10/74 برقم 3199.
وبناءً على هذا التحديد في التاريخ يمكن معرفة تاريخ مغادرة ابن عباس البصرة بأنها كانت بعد النصف من جمادى الأولى ـ وهو تاريخ صلح الحسن (عليه السلام) ـ وقبل رجب ـ وهو تاريخ مجيء بسر بن أبي أرطاة.
ومهما تكن مسألة تحديد تاريخ المغادرة ليس بذي أهمية عند بعض الباحثين في هذا المقام، لكن فيما أرى فيه بالغ الأهمية لأنّه يشكّل مؤشراً واضحاً على تكذيب حديث خيانة بيت المال في أيام الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) وبالتالي مفارقة ابن عباس مغاضباً للإمام وذلك قبل مقتله. وقد جرى على تصديق ذلك الحديث جملة من المؤرخين كالبلاذري والطبري وابن الأثير ومن تأخر عنهم. وستأتي محاسبتهم على مرويّاتهم في الحلقة الرابعة إن شاء الله تعالى.
وممّا تجدر الإشارة إليه في المقام أنّ خيانة النساخين والمصححين أيضاً لعبت دوراً كبيراً في إرباك الباحثين. وإليك نموذجاً واحداً ممّا يتعلق بالمقام: فقد ذكر المؤرخ الفاسي في العقد الثمين قول النووي: «واستعمله عليّ (رضي الله عنه) على البصرة ثمّ فارقها بعد قتله وعاد إلى الحجاز»(2). وعند الرجوع إلى كتاب النووي
____________
(1) راجع عن ثورته وأسبابها تواريخ الطبري وابن الأثير وابن كثير وابن خلدون في حوادث سنة 41 وتجد في ابن خلدون أن اسمه حمران بن زيد.
(2) العقد الثمين 5/191 مط السنّة المحمدية القاهرة في ترجمة ابن عباس سنة 1958.
ومعلوم أنّ تغيير كلمة (بعد) بكلمة (قبل) كم له من تأثير في قلب المفاهيم وتضييع الحقائق، وهذا ما يحملنا على سوء الظن بمن تولى كبر ذلك من النساخين أو المصحّحين، وكم لهذا من نظير(2). وتبقى الحقيقة حية لا تموت حتى تظهر ولو بعد حين. والحمد لله ربّ العالمين الّذي لا يحمد على مكروه سواه، فقد انتهى عصر الخلافة الراشدة فيما يسمونه، وأطل على المسلمين عهد الملوكية المستبدة الّذي حول الخلافة إلى ملك عضوض.
____________
(1) تهذيب الأسماء واللغات 1/276 ط المنيرية بمصر.
(2) راجع خطبة قيس بن سعد بن عبادة بعد مغادرة عبيد الله بن عباس جيشه وذهابه إلى معاوية، ستجدها في المطبوع من مقاتل الطالبين وفيها (وإن هذا وأباه وأخاه لم يأتوا بيوم خير قط. ان اباه عم رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) خرج يقاتله ببدر، فأسره أبو اليسر كعب بن عمرو الأنصاري، فأتي به رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فأخذ فداءه فقسمه بين المسلمين، وإن أخاه ولاّه عليّ أمير المؤمنين على البصرة فسرق مال الله ومال المسلمين، فاشترى به الجواري وزعم أن ذلك له حلال، وإن هذا ولاه على اليمن فهرب من بسر بن أرطاة وترك ولده حتى قتلوا، وصنع الآن هذا الّذي صنع...).
وإذا رجعنا إلى ابن أبي الحديد في نهج البلاغة 4/15 وهو يروي عن أبي الفرج في مقاتله خطبة قيس نجد التزيّد في المطبوع من المقاتل فإنه لم يذكر سوى قوله: وذكر عبيد الله فنال منه. فأين هذا من ذكر الأب والأخ؟