فقال له ابن عباس: الله حسبك فيما قلت، ثمّ خرج فلم يلتقيا»(1).
ثالثاً: ما رواه ابن قتيبة (ت270 هـ) في كتابه الإمام والسياسة، قال:
«فلمّا كانت سنة احدى وخمسين مرض الحسن بن عليّ مرضه الّذي مات فيه، فكتب عامل المدينة إلى معاوية يخبره بشكاية الحسن، فكتب إليه معاوية: إن استطعت أن لا يمضي يوم بي يمر إلاّ يأتيني فيه خبره فافعل. فلم يزل يكتب إليه بحاله حتى توفي. فكتب إليه بذلك، فلمّا أتاه الخبر أظهر فرحاً وسروراً حتى سجد وسجد من كان معه فبلغ ذلك عبد الله بن عباس وكان بالشام يومئذ، فدخل على معاوية فلمّا جلس قال معاوية: يا بن عباس هلك الحسن بن عليّ، فقال ابن عباس: نعم هلك إنّا لله وإنّا إليه راجعون ترجيعاً مكرراً ـ وقد بلغني الّذي أظهرت من الفرح والسرور لوفاته، أما والله ما سدّ جسده حفرتك، ولا زاد نقصان أجله عمرك، ولقد مات وهو خير منك، ولئن أصبنا به لقد أصبنا بمن كان خيراً منه جده رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم، فجبر الله مصيبته، وخلف علينا من
____________
(1) الحدائق الوردية /109- 111 (مخطوط).
فقال معاوية: بلغني أنّه ترك بنين صغاراً؟ فقال ابن عباس: كلنا كان صغيراً فكبر.
قال معاوية: كم أتى له من العمر؟ فقال ابن عباس: أمر الحسن أعظم من أن يجهل أحد مولده.
قال: فسكت معاوية يسيراً ثمّ قال: يا بن العباس أصبحت سيّد قومك من بعده.
فقال ابن عباس: أمّا ما أبقى الله أبا عبد الله الحسين فلا.
قال معاوية: لله أبوك يا بن عباس، ما استنبأتك إلاّ وجدتك معدّاً»(1).
رابعاً: ما رواه أبو حنيفة الدينوري (ت282هـ) في الأخبار الطوال، قال:
«وانتهى خبر وفاة الحسن إلى معاوية ـ كتب به إليه عامله على المدينة مروان ـ فأرسل إلى ابن عباس وكان عنده بالشام ـ قدم عليه وافداً ـ فدخل عليه فعزّاه وأظهر الشماتة بموته فقال له ابن عباس: لا تشمتن بموته لا تلبث بعده إلاّ قليلاً»(2).
خامساً: ما رواه اليعقوبي (ت بعد 292هـ) في تاريخه، قال:
«وتوفي الحسن بن عليّ وابن عباس عند معاوية، فدخل عليه لمّا أتاه نعي الحسن فقال له يا بن عباس إن حسناً مات.
قال: إنّا لله وإنّا إليه راجعون على عظم الخطب وجليل المصاب، أما والله يا معاوية لئن كان الحسن مات فما ينسئ موتُه في أجلك، ولا يسد جسمه حفرتك، ولقد مضى إلى خير، وبقيت على شر.
____________
(1) الإمامة والسياسة 1/144ـ 145 ط الأمة سنة 1328.
(2) الأخبار الطوال /222 ط تراثنا بمصر.
قال: بخٍ بخ يا بن عباس أصبحت سيّد قومك؟ قال: إما ما أبقى الله أبا عبد الله الحسين ابن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فلا»(1).
سادساً: ما رواه ابن عبد ربه الأندلسي (ت 328 هـ) في العقد الفريد، قال:
«ولمّا بلغ معاوية موت الحسن بن عليّ خرّ ساجداً لله، ثمّ أرسل إلى ابن عباس ـ وكان معه في الشام ـ فعزّاه وهو مستبشر وقال له: ابن كم سنة مات أبو محمّد؟ فقال له: سِنّه كان يُسمع في قريش، فالعجب من أن يجهله مثلك. قال: بلغني إنّه ترك أطفالاً صغاراً؟ قال: كلّ ما كان صغيراً يكبر، وإنّ طفلنا لكهل، وإنّ صغيرنا لكبير.
ثمّ قال: ما لي أراك يا معاوية مستبشراً بموت الحسن بن عليّ؟ فوالله لا يُنسأ في أجلك، ولا يسد حفرتك، وما أقل بقاءك وبقاءنا بعده، ثمّ خرج ابن عباس، فبعث إليه معاوية ابنه يزيد، فقعد بين يديه فعزّاه واستعبرَ لموت الحسن، فلمّا ذهب اتبعه ابن عباس بصره وقال: إذا ذهب آل حرب ذهب الحلم من الناس(؟) »(2).
سابعاً: ما رواه الزمخشري (ت538 هـ) في ربيع الأبرار، قال:
«لمّا بلغ معاوية موت الحسن بن عليّ (رضي الله عنه) سجد معاوية وسجد من حوله شكراً، فدخل عليه ابن عباس فقال له: يا بن عباس أمات أبو محمّد؟ قال: نعم، وبلغني سجودك، والله يا بن آكلة الكبود لا يسدّن حسدك إياه حفرتك ولا يزيد انقضاء أجله في عمرك»(3).
____________
(1) تاريخ اليعقوبي 2/200 ط النجف.
(2) العقد الفريد 2/361 - 362 تح ـ أحمد أمين ورفيقيه.
(3) ربيع الأبرار 4/186 ط الأوقاف ببغداد.
ثامناً: ما رواه الموفق بن أحمد المكي اخطب خوارزم (ت 568 هـ) في كتابه مقتل الحسين، قال:
« (وقيل) لمّا أتى معاوية نعيه الحسن ـ بعث إلى ابن عباس وهو لا يعلم الخبر، فقال له هل عندك خبر من بالمدينة؟ قال: لا. قال معاوية: أتاني نعي الحسن وأظهر سروراً، فقال ابن عباس: إذن لا يُنسأ في أجلك، ولا يسدّ حفرتك.
قال: أحسبه ترك صبية صغاراً؟ قال: كلنا كان صغيراً فكبُر.
قال: وأحسبَه بلغ الستين؟ قال: أبمثل مولده يجهل.
قال معاوية: لو قال قائل انك أصبحت سيّد قومك؟ قال: أما وأبو عبد الله الحسين حيّ فلا.
فلمّا كان من غد أتى يزيد بن معاوية ابن عباس وهو في المسجد يُعزّى فجلس بين يديه جلسة المعزي وأظهر حزنه، فلمّا نهض اتبعه ابن عباس بصره وقال: إذا ذهب آل حرب ذهب حلم قريش (؟).
____________
(1) نفس المصدر /209.
أخبرنا صدر الحفاظ أبو العلاء الحسن بن أحمد الهمداني بها إجازة، أخبرنا عبد القادر بن محمّد البغدادي، أخبرنا الحسن بن عليّ الجوهري، أخبرنا محمّد بن العباس، أخبرنا أحمد بن معروف، حدثنا حسين بن محمّد، أخبرنا محمّد بن سعد، أخبرنا محمّد بن عمر، حدثنا عبد العزيز بن محمّد عن عمرو بن ميمون عن أبيه قال: لمّا جاء معاوية نعي الحسن بن عليّ استأذن ابن عباس على معاوية وكان ابن عباس قد ذهب بصره، وكان يقول لقائده إذا دخلت بي على معاوية فلا تقدني، فان معاوية يشمت بي ـ فلمّا جلس ابن عباس، قال معاوية لأخبرنه بما هو أشدّ عليه من أن أشمت به ثمّ قال: يا بن عباس هلك الحسن بن عليّ، فقال ابن عباس: إنا لله وإنا إليه راجعون، وعرف ابن عباس انّه شامت به فقال: أم والله يا معاوية لا يسدّ حفرتك، ولا تخلد، ولقد أصبنا بأعظم منه فجبرنا الله بعده، ثمّ قام.
قال معاوية: لا والله ما كلمت أحداً قط أعدّ جواباً ولا أعقل من ابن عباس.
فقال الفضل بن العباس:
أصبح اليوم ابن هند شامتا | ظاهر النخوة إذ مات الحسن |
رحمة الله عليه إنّما | طالما أشجى ابن هند وأرن |
استراح اليوم منه بعده | إذ ثوى رهناً لأحداث الزمن |
فارتع اليوم ابن هند آمناً | إنّما يقمص بالعير السَمَن |
لست بالباقي فلا تشمت به | كلّ حي بالمنايا مرتهن |
يا بن هند إن تذق كأس الردى | تك في الدهركشيء لم يكن»(1) |
تاسعاً: ما رواه الحافظ رشيد الدين ابن شهر اشوب (ت 588 هـ) في المناقب(2)، وقد نقل النص عن الزمخشري وصاحب العقد الفريد، فليس عنده من جديد.
عاشراً: ما رواه المجلسي (ت 1111هـ) في البحار نقلاً عن كتاب المناقب لابن شهر آشوب(3). وحيث عرفنا كما مرّ أنّ ما فيه هو ما عند الزمخشري في ربيع الأبرار وابن عبد ربه في العقد الفريد، وكذلك ما رواه محمّد مير خواند (ت 903هـ)(4) وليس فيه مزيد على ما مرّ.
هذه هي النصوص الّتي وقفتُ عليها حسب تتبعي، وقد سقتها حسب سنّي وفيات أصحابها. ولم يكن في المصادر الثلاثة الأخيرة ما يستدعي ذكرها، لولا أنّ مؤلفيها نقلوا نصوص من سبقهم، لكن بالمقارنة وجدت التفاوت ممّا أظن فيهم النقل بالمعنى على أحسن الظنون.
ونعود إلى أوّل النصوص وهو رواية الزبير بن بكار، فهو أقدم من وصلت إلينا روايته في حضور ابن عباس بالشام حين أتى نعي الإمام الحسن (عليه السلام) إلى
____________
(1) مقتل الحسين 1/140 ـ 141 ط الزهراء في النجف.
(2) مناقب آل أبي طالب 3/124 ط حجرية.
(3) بحار الأنوار 8/579 ط حجرية و 44/159 ط الإسلامية.
(4) روضة الصفا 1 ـ 2/19 ط بمبئ.
أمّا رواية حُميد الشهيد في الحدائق الوردية فقد شاركت الأولى في عدم ذكر الاسناد إلاّ انها تميّزت بذكر الأبيات الأربعة الّتي قالها ابن عباس في رثاء الإمام الحسن (عليه السلام). وبقية الرواية تساوق رواية الزبير بن بكار وتقاربها في تفاصيلها، بل تتفق معها في جل نصوص المحاورة.
أمّا ما ذكره ابن قتيبة واليعقوبي وابن عبد ربه والزمخشري فهؤلاء كلّهم ذكروا ما عندهم مرسلاً وباختصار، سوى ابن عبد ربه فقد تزيّد في روايته ذكر تعزية يزيد بن معاوية وقول ابن عباس وقد اتبعه بصره: إذا ذهب آل حرب ذهب الحلم من الناس (؟)وهذه شنشنة أموية تميّز بها ابن عبد ربه الأموي الهوى والولاء فهو صاحب الأرجوزة الّتي ذكر فيها الخلفاء ولم يذكر معهم الإمام أمير المؤمنين ولا ابنه الإمام الحسن (عليهما السلام)، مع ذكره للمروانيين والساقطين. فلا غرابة منه، لكن الغرابة من الخوارزمي روى ذلك في كتابه مقتل الحسين (عليه السلام) وان ذكره مرسلاً وأشعر بتمريضه حيث قال: (وقيل). بينما ذكر بعده في الخبر الثاني من مروياته مرسلاً قول ابن عباس: والله لا أقيم ببلدة يُشمت فيها بموت ابن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وهذا ما لم أقف عليه عند غيره من قبل، بل قرأنا ما ذكره حُميد الشهيد بعكس ذلك حيث أراد سكنى الشام ومجاورة معاوية فأبى عليه، وإذا صحّ ذلك فقد أراد أن يقيم ليفسد أهل الشام على معاوية، وقد مرّ شاهد ذلك في روايتي الزبير بن بكار
أصبح اليوم ابن هند آمناً | ظاهر النخوة إذ مات الحسن |
ارتع اليوم ابن هند قامصاً | إنّما يقمص بالعير السَمَن»(1) |
وجميع ما مرّ من النصوص دل على حضور ابن عباس بالشام حين أتى نعي الحسن (عليه السلام) إلى معاوية، وانّه فاجأ ابن عباس بالخبر، ولمّا كنا قد ذكرنا ما رواه الشيخ الطوسي وغيره بأسانيدهم من حضوره بالمدينة عند الوفاة ومشاركته في التجهيز إلى آخر ما مرّ، فأربك ذلك غير واحد ممّن ذكر ابن عباس في تلك الفترة أصالة أو تبعاً، لظهور التعارض بين الحضورين وتعذر الجمع عندهم، خصوصاً وقد رأوا مثل الإربلي ذكر الإشكال عليه ولم يحلّ عقال، أمّا غيره كالشيخ جمال الدين يوسف بن حاتم الشامي ـ من رجال القرن السابع(2) فقد ذكر في كتابه الدر النظيم في مناقب الأئمّة اللهاميم في باب وفاة الحسن (عليه السلام): «أنّ الداخل على معاوية والمحاور له في تلك الواقعة هو قثم بن العباس لا عبد الله، وعنده بهذا يحلّ الإشكال، لكن هذا غير مستقيم لتصريح ابن قتيبة من أصحاب النصوص بأن المحاور كان عبد الله مصرحاً باسمه، فضلاً عن الآخرين الّذين
____________
(1) ربيع الأبرار باب الموت وما يتصل به 4/197 ط أوقاف بغداد.
(2) هو تلميذ المحقق الحلي (ت 676 هـ) ومجاز من السيّد رضي الدين ابن طاووس (ت 664 هـ).
وعندي إنّ خير علاج لرفع التعارض هو ما ذكره ابن أعثم الكوفي (ت 314 هـ) في كتابه الفتوح(1)، حيث ذكر اغراء معاوية لجعدة بسم الإمام ووعدها مبلغاً من المال كما وعدها بتزويجها من يزيد فوفى بالمال ولم يفِ بالزواج وانها تزوجت من آل طلحة فولدت فكان ابنها يعيّر ويقال له يا بن مسمة الأزواج وهذا ما ذكره غير واحد من المؤرخين ثمّ قال ما ترجمته:
«وأتى ابن عباس في يوم مجلس معاوية فقال له معاوية شامتاً: يا أبا العباس سمعت ان الحسن هلك، فاسترجع عبد الله ثمّ قال: لا يسد موته حفرتك، ولست بباق بعده طويلاً، ونحن أهل بيت النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أصبنا باعظم من ذلك فجبر الله مصابنا، ثمّ نهض وخرج، فقال معاوية متعجباً من سرعة الجواب على وجه الصواب: لم أر في عمري أحضر جواباً ولا أعقل من عبد الله بن عباس»(2).
____________
(1) الفتوح الترجمة الفارسية /339 ط بمبئ.
(2) ولقد أشار محقق الطبعة العربية لكتاب الفتوح ط دار المعارف بحيدر آباد وعنها افست ط دار الندوة الجديدة بيروت إلى سقوط النص من النسخة العربية فأكمله بالنص الفارسي في الهامش راجع 4/208 فما بعدها.
ولا يفوتني التنبيه على ما مرّ من طلب ابن عباس رفع السبّ عن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)، لأنّه يراه جزءاً من رسالته.
كيف لا وهو الّذي قال: بعثني رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلى عليّ بن أبي طالب فقال له: (أنت سيّد في الدنيا وسيّد في الآخرة، من أحبك فقد أحبني، وحبيبك حبيبي، وحبيبي حبيب الله، وعدوك عدوي، وعدوي عدو الله، والويل لمن أبغضك)(1).
وهو الّذي يروي لقد سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يقول: (من سبّ عليّاً فقد سبّني ومن سبّني فقد سبّ الله، ومن سبّ الله (عزّ وجلّ) أكبّه الله على منخره)(2) فأراد أن يثبت عداوة معاوية لله ولرسوله بعداوته للإمام عليّ (عليه السلام).
____________
(1) أخرجه أحمد في المناقب كما في مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح، للملا عليّ القاري 11/256 ط دار الكتب العلمية بيروت.
(2) أخرجه أبو عبد الله الجلالي كما في مرقاة المفاتيح 11/256 واحسب (الخلال) هو الصواب.
أوّل ذل دخل العرب:
كان ابن عباس بفضل ذهنه الوقاد يستطلع المستقبل الموبوء الّذي سيواجهه العرب بعد موت الإمام الحسن (عليه السلام)، ولا غرابة منه بعد أن مرّت بنا كلمة الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) فيه وأنّه ينظر إلى الغيب من وراء ستر رقيق(1)، وتعني أنّه كان مخترقاً زمان المستقبل بوعيه العميق للواقع، ولمّا كان موت الإمام الحسن (عليه السلام) فضلاً عن المأساة هو نذير شر للعرب بكارثة سوف تحلّ قريباً بهم وبديارهم، تضربهم بذل شامل.
لذلك قال ـ وهو يعيش مرارة المأساة والشعور بالإحباط ـ: «أوّل ذل دخل العرب موت الحسن بن عليّ (عليهما السلام) ».
روى ابن أبي الحديد عن أمالي أبي جعفر محمّد بن حبيب (ت 245هـ) قال ابن عباس: «أوّل ذل دخل على العرب موت الحسن بن عليّ (عليهما السلام) »(2).
وروى ابن سعد (ت 231هـ) هذه الكلمة لعمرو بن بعجة(3).
ولدى التحقيق لمعرفة مَن هو قائل تلك الكلمة الّتي تنذر العرب بذلٍ شامل، راجعنا ترجمة عمرو بن بعجة، فوجدنا الذهبي يزنه في ميزانه بقوله: «لايعرف» ومن كان لا يُعرف كيف له أن يَعرف مدى تأثير موت الحسن (عليه السلام) على الأمة العربية(4)؟
وعندي رواية ابن حبيب الّتي ذكرها ابن أبي الحديد أولى بالقبول، لأنّ قائل الكلمة هو ابن عباس الّذي لا يعرف أثر فقد الإمام الحسن (عليه السلام) على العرب
____________
(1) العقد الفريد 2/181.
(2) شرح النهج لابن أبي الحديد 4/4 ط مصر الأولى.
(3) طبقات ابن سعد (ترجمة الإمام الحسن (عليه السلام» ط الطائف.
(4) طبقات ابن سعد (ترجمة الإمام الحسن (عليه السلام» ط الطائف.
وستحيى فكرة تلاقف الكرة الّتي أوصاهم بها أبو سفيان. فهذا هو الذلّ أشار إليه ابن عباس في كلمته، لأنّه أدرك أنّ الصراع بين الأمويين ومبادئ الإسلام سيرافقه بوائق الحكم الغاشم فيشيع الظلم والنفاق، ويسلب الأمة محاسن الأخلاق، وتحل المداهنة والتملق السياسي محل الكرامة والصرامة، لرواج سوق الشرور عند الحاكمين والناس على دين ملوكهم، وهذا الذل حقيقة حتمية أشار إليها القرآن الكريم بقوله تعالى: {قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ}(1).
وتوالت المحن على شيعة الإمام فقتل حجر بن عدي وسبعة نفر آخرين معه بمرج عذراء وهم الّذين أخبر عنهم النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كما روت ذلك عائشة حين قالت لمعاوية وقد دخل عليها حين أتى المدينة: «يا معاوية أقتلت حجراً وأصحابه، فأين عزب حلمك عنهم؟ أما إنّي سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يقول: يقتل بمرج عذراء نفر يغضب لهم أهل السماوات»(2).
____________
(1) النمل /34.
(2) أنظر تاريخ اليعقوبي 2/206.
وقد سرى مفهوم كلمة ابن عباس عند الناس وصدى نبوءته حتى قال أبو إسحاق السبيعي وقد سئل متى ذلّ الناس؟ فقال: «حين مات الحسن، وادعي زياد، وقتل حجر بن عدي»(2)، وقال ابن الأثير وكان الناس يقولون: «أوّل ذل دخل الكوفة موت الحسن بن عليّ وقتل حجر بن عدي ودعوة زياد»(3)، وحتى روى ابن أبي الحديد عن الإمام الباقر (عليه السلام) وهو يستعرض ظلم قريش لأهل البيت ـ إلى أن قال ـ: «وكان عظم ذلك وكبره زمن معاوية بعد موت الحسن (عليه السلام) فقتلت شيعتنا بكلّ بلدة، وقطّعت الأيدي والأرجل على الظنة، وكان من يُذكر بحبنا والانقطاع إلينا سجن أو نهب ماله أو هدمت داره»(4).
وروى أيضاً عن المدائني في كتاب الأحداث قوله في استعراض محدثات معاوية في وضع الأحاديث المكذوبة في فضائل الصحابة، ثمّ نسخته إلى جميع البلدان بنسخة واحدة: «اُنظروا إلى من أقامت عليه البينة انّه يحب عليّاً وأهل بيته فامحوه من الديوان وأسقطوا عطاءه ورزقه، وشفع ذلك بنسخة أخرى: من اتهمتموه بموالاة هؤلاء القوم فنكلوا به واهدموا داره، قال المدائني: فلم يكن البلاء أشد ولا أكثر منه بالعراق ولا سيما بالكوفة... فلم يزل كذلك حتى مات
____________
(1) نفس المصدر.
(2) شرح النهج لابن أبي الحديد 4/18 ط مصر الأولى نقلاً عن أبي الفرج.
(3) الكامل في التاريخ 3/209 ط بولاق.
(4) شرح النهج لابن أبي الحديد 3/15.
ماذا كان موقف ابن عباس من السلطة بعد موت الحسن:
والآن فلننظر إلى حال ابن عباس من بعد موت الإمام الحسن (عليه السلام)، وهو الّذي قد استشعر دخول الذل على العرب بموته فماذا لحقه من هوان وهو من سادة العرب؟ وماذا كان موقف معاوية منه في تلك الفترة؟
روى ابن قتيبة في الإمامة والسياسة: «لم يلبث معاوية بعد وفاة الحسن (رحمه الله) إلاّ يسيراً حتى بايع ليزيد بالشام وكتب ببيعته إلى الآفاق، وكان عامله على المدينة مروان بن الحكم فكتب إليه يذكر الّذي قضى الله به على لسانه من بيعة يزيد (؟؟؟) ويأمره بجمع من قبله من قريش وغيرهم من أهل المدينة ثمّ يبايعوا ليزيد.
فلمّا قرأ مروان كتاب معاوية أبى من ذلك وأبته قريش وكتب إلى معاوية... في ذلك، قال فعزله وولى سعيد بن العاص. وكتب إليه في ذلك وان يكتب إليه بمن يسارع ومن لم يسارع. فلمّا أتاه الكتاب دعا الناس إلى البيعة وأظهر الغلظة وأخذهم بالعزم والشدة، وسطا بكلّ من أبطأ عن ذلك.
قال: فأبطأ الناس عنها إلاّ اليسير لا سيما بني هاشم فإنّه لم يجبه منهم أحد....
فكتب سعيد إلى معاوية يعلمه بتباطوء الناس عن البيعة لا سيما أهل البيت من بني هاشم فإنّه لم يجبني منهم أحد، وبلغني عنهم ما أكره... فكتب معاوية
____________
(1) نفس المصدر 3/16.
وكتب إلى ابن عباس: أمّا بعد فقد بلغني إبطاؤك عن البيعة ليزيد بن أمير المؤمنين، وإنّي لو قتلتك بعثمان لكان ذلك إليَّ، لأنّك ممّن ألّب عليه وأجلب، وما معك من أمان فتطمئن به، ولا عهد فتسكن إليه، فإذا أتاك كتابي هذا فاخرج إلى المسجد، والعن قتلة عثمان وبايع عاملي، فقد أعذر من أنذر، وأنت بنفسك أبصر والسلام»(1).
قال ابن قتيبة في الإمامة والسياسة: «فكان أوّل من أجابه عبد الله بن عباس فكتب إليه: أمّا بعد فقد جاءني كتابك وفهمت ما ذكرت، وأن ليس معي منك أمان، وانّه والله ما منك يطلب الأمان يا معاوية، وإنّما يطلب الأمان من الله رب العالمين، وأمّا قولك في قتلي، فوالله لو فعلت للقيت الله ومحمّداً صلّى الله عليه (وآله) وسلّم خصمك، فما أخاله أفلح ولا أنجح من كان رسول الله خصمه، وأمّا ما ذكرت من أنّي ممّن ألّب على عثمان وأجلب، فذلك أمر غبت عنه، ولو حضرته ما نسبت إليَّ شيئاً من التأليب عليه، وأيم الله ما أرى أحداً غضب لعثمان غضبي، ولا أعظم أحد قتله إعظامي، ولو شهدته لنصرته أو أموت دونه، ولقد قلت وتمنيت يوم قتل عثمان ليت الّذي قتل عثمان لقيني فقتله معه ولا أبقى بعده، وأمّا قولك لي العن قتلة عثمان، فلعثمان ولد وخاصة وقرابة هم أحق بلعنهم مني، فإن شاؤا أن يلعنوا فليلعنوا، وإن شاؤا أن يمسكوا فليمسكوا والسلام...»(2).
____________
(1) الإمامة والسياسة 1/145 ـ 147 ط سنة 1328.
(2) نفس المصدر 1/148.
معاوية في المدينة:
لمّا فشل ولاة معاوية ـ مروان وسعيد بن العاص ـ في حمل الناس بالمدينة على بيعة يزيد، رغم الترهيب والترغيب، والّذي أقلق معاوية امتناع النفر الّذين ينظر الناس إليهم على أنّهم أهل الحل والعقد، وهم أولى بالبيعة لهم من يزيد. وفي مقدمتهم بنو هاشم ورأسهم الإمام الحسين (عليه السلام) ثمّ العبادلة وفي مقدمتهم عبد الله بن عباس، ولمّا وافته جوابات الكتب تحمل النذير بخلاف مستطير، قرّر أن يذهب بنفسه إلى المدينة، ويأخذ البيعة لابنه قهراً وقسراً، ويبدو من حديث ابن قتيبة وابن أعثم إنّه هيأ الأجواء لاستقباله عن طريق واليه ورجاله، قال:
«فقدم معاوية المدينة حاجاً فلمّا أن دنا من المدينة خرج إليه الناس يتلقونه ما بين راكب وماشي...
قال: حتى إذا كان بالجرف ـ موضع على ثلاثة أميال من المدينة نحو الشام ـ لقيه الحسين بن عليّ وعبد الله بن عباس.
إلاّ أنّ ابن الأثير قال: «سار ـ معاوية ـ إلى الحجاز في ألف فارس، فلمّا دنا من المدينة لقيه الحسين بن عليّ أوّل الناس فلمّا نظر إليه قال: لا مرحباً ولا أهلاً، بدنة يترقرق دمها والله مهريقه. قال: مهلاً فإني والله لست بأهل لهذه المقالة، قال: بلى ولشرّ منها.
ولقيه ابن الزبير فقال: لا مرحباً ولا أهلاً، خبّ ضبّ تلعة، يدخل رأسه ويضرب بذنبه، ويوشك والله أن يؤخذ بذنبه ويدقّ ظهره، نحيّاه عني، فضُرب وجه راحلته.
ثمّ لقيه عبد الرحمن بن أبي بكر فقال له معاوية: لا أهلاً ولا مرحباً شيخ قد خرف وذهب عقله ثمّ أمر فضرب وجه راحلته. ثمّ فعل بابن عمر نحو ذلك، فاقبلوا معه لا يلتفت إليهم حتى دخل المدينة، فحضروا بابه فلم يؤذن لهم على منازلهم ولم يروا منه ما يحبّون فخرجوا إلى مكة فأقاموا بها... ثمّ ذكر خطبة معاوية يتهدد الممتنع عن البيعة وخصوصاً أولئك النفر بالقتل بما فيهم الحسين، وذكر دخوله على عائشة وجرى ذكر امتناع أولئك النفر وتهديده بقتلهم فقالت له: فارفق بهم فإنهم يصيرون إلى ما تحب إن شاء الله»(2).
____________
(1) نفس المصدر.
(2) الكامل في التاريخ 3/216 ـ 217 ط بولاق.
وأحسب أنّ ما ذكره ابن الأثير وابن كثير أخذاه من الطبري بصورة مخففة»(2)، ففي تاريخه ذكر امتناع النفر الخمسة، ثمّ ذكر كلام معاوية مع كلّ واحد من الأربعة على انفراد، قال: ولم يذكر ابن عباس، وهذا ممّا يلفت النظر لماذا لم يذكره؟ وهل ساءت العلاقة لحد القطيعة، أم أنّه رضي بالبيعة فلم يرسل عليه فيتهدده؟ أم أنّ معاوية أراد أن لا يقطع الشعرة بحد الشفرة؟ لابدّ لنا من البحث في ذلك.
لعمر الله إنّها لذرية الرسول وأحد أصحاب الكساء ومن البيت المطهر:
ذكر ابن قتيبة في الإمامة والسياسة كلام معاوية مع النفر مهدداً ومتوعداً بالقتل كما مرّ، ثمّ قال: «فلمّا كان صبيحة اليوم الثاني أمر بفراش فوضع له وسوّيت مقاعد الخاصة حوله وتلقاءه من أهله، ثمّ خرج وعليه حلة يمانية وعمامة دكناء وقد أسبل طرفها بين كتفيه، وقد تغلّف وتعطّر فقعد على سريره، وأجلس كتّابه منه بحيث يسمعون ما يأمر به، وأمر حاجبه أن لا يأذن لأحد من
____________
(1) البداية والنهاية 8/79.
(2) تاريخ الطبري 5/303 ـ 304 ط محققة.
ثمّ قال: يا بن عباس لقد وفّر الله حظكم من مجاورة هذا القبر الشريف ودار الرسول (عليه السلام).
فقال ابن عباس: نعم أصلح الله أمير المؤمنين وحظنا من القناعة بالبعض والتجافي عن الكلّ، أوفر.
فجعل معاوية يحدثه ويحيد به عن طريق المجادلة، ويعدل إلى ذكر الأعمال على اختلاف الغرائز والطباع. حتى أقبل الحسين بن عليّ، فلمّا رآه معاوية جمع له وسادة كانت على يمينه، فدخل الحسين وسلّم فأشار إليه فأجلسه عن يمينه مكان الوسادة، فسأله معاوية عن حال بني أخيه الحسن وأسنانهم فأخبره ثمّ سكت. قال: ثمّ ابتدأ معاوية فقال: فالحمد لله وليّ النعم ومنزل النقم، وأشهد أن لا إله إلاّ الله المتعالي عمّا يقول الملحدون علواً كبيراً، وأن محمداً عبده المختص المبعوث إلى الجن والإنس كافة لينذرهم بقرآن لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد، فأدى عن الله وصدع بأمره، وصبر على الأذى في جنبه، حتى أوضح دين الله وأعزّ أولياءه، وقمع المشركين وظهر أمر الله وهم كارهون، فمضى صلوات الله عليه وقد ترك من الدنيا ما بُذل له، واختار منها الترك لما سخّر له، زهادة واختياراً لله وأنفة واقتداراً على الصبر، بغياً لما يدوم ويبقى، فهذه صفة الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ثمّ خلفه رجلان محفوظان وثالث مشكوك، وبين ذلك خوض طال ما عالجناه مشاهدة ومكافحة ومعاينة وسماعاً، وما أعلم منه فوق ما تعلمان. وقد كان من أمر يزيد ما سبقتم إليه وإلى تجويزه، وقد علم ما أحاول به من أمر الرعية من سد الخلل ولمّ الصدع بولاية يزيد بما