الفصل الثاني عشر
عبد الرزاق وتداعيات الأيام وذكرى الأنصهار في الإمامة
وفي ظهيرة أحد أيام الشتاء الماطرة، كانت خطوط المطر تسترسل متوالية وهي تنصب دونما توقف. ظلت صفحات سيبها تمارس ضغطها المتناوب يتراشق على صفحات زجاج النوافذ المحيطة بي، وهي التي صرت أراها تواصل رشقاتها الصارخة حتّى تستكين قطراتها المنطبعة بأمواهها على سطوح ذلك البلّور الذي رأيته يزداد صفاء شيئاً فشيئاً، فأخذت الأصوات تزدحم حتّى اكتظت جدران النوافذ بقطرات منتفخة سرعان ما كانت تصير إلى الانبعاج، حتّى كانت قد استباحتها كيما تعض على سحبها، وهي تنشد الوصول إلى ميقاتي عبر هذه الألوان المتفتقة في رأسي. فصرت أهوى الانسحاب الانعكاسي إلى منتجع أطوّف عنده بكُلّ مراتع الماضي، وأروقة الفائت من الليالي والأيام حتّى طلت التشوف إلى مطالع الشمس القريبة من خيال الوهم الذي لا يسبح عند ضفافه سوى شوق الذكريات والغرد وصوت الأشجان العذب، حينما طِرت إلى دفق الرؤى المتصارخ عند غدير تلك الأوقات المنصرمة لأعود أرتل في ظلال أمواجها، أرّق أنواع القصيد! إذ حانت منّي التفاتة حتّى تمثلت لي أشباح أهلي ورنوت إليها، فما كانت لألوان رسومها أن تروم التزيّل إلاّ أن تمور في خاطري، وبلج إلى محيط سمائي وأنواء آفاقي المتعبة بتفكرات ظلت أوداجي تنوء بهضمها كمن قد صارت
تذكرت أبي، واستذكرت أحاديث أُمي، ورنوت إلى أُختي، وعدت أنظر في وجه أخي، وأخي الآخر، وظللت أحاور قسمات وجه أُختي الكبرى حتّى عدت أتطلع إلى سحنة بشرة أُختي الصغرى. وهناك قفزت مقلتاي لتداعب معالم وجه أخي الآخر والآخر، كما لو كنت أجوب أطراف السماء حتّى صرت أجوب شوارع وأزقة مدينتي.. وذلك بعد أن طوّفت في أروقة المنزل، وانقلبت أتلو لحن الشغف الحثيث بكُلّ لون جدار وصورة، وذكرى ولحن حركة، ونوع أثاث وصبغة ملاءات واضفاءة مريلة حتّى دلفت إلى مستودع أسرار وجودي التي استكان عندها خاطري، وسما في وجد أطرافها عنق آمالي الذي ما غادرت ولحد الآن سحبه، تلك الزوايا التي ارتقت جدران غرفتي، إذ ما فتئت أرقب أطياف الأمس فيها، وأعيد أغذو سماء حاضري الجدباء بكُلّ ما احتملته ذاكرتي العجفاء، وانطلقت به فوق ظهورها وهي تجلو الغمام، وتنوي الاسراع دون التوقف، ريثما أصل إلى نقطة تضيء لي كُلّ المقاصد، أرضف من حنينها أضواء سحب عائمة فوق ظلال المجرات التي أثقلت كاهلي، وأعيت خاطري حتّى شدهت بالي، وتولهت بأيامها كالمتدلّه بغنجها ودلالها..
إلاّ أ نّي وقعت وبالتالي على مرادى الخفي، فكانت تسترسل ألحاني مع أوراق تلك الأيام، بينما جعلت ذاكرتي تنوء بذكر الشيعة وأهلها، وألوان الخوف من كُلّ ما يميل إلى التطبع بصيغهم البحتة، والتأقلم في أجواء انطباعاتهم المترامية فوق أديم لا أجهل منه سوى جلّه، ولا أعلم عنه سوى
ولو كنا قد منحنا ثنتين من الأخوات لاثنين من الأُخوة الشيعة، فإنّه ما كان لنا أن نشغل أوقاتنا، ولا نتعب أفكارنا، ولا للحظة واحدة، في اسهاب الحديث، ونأخذ بأطرافه ونعمل على مجاذبتهم ألوانه أو التعرف على نوع عقائدهم، ولون تلك المساحيق والمعاجين التي تنضح بها معالم مذهبهم وروح عقيدتهم.. بل إنّهما هما الآخران كانا في شغل شاغل عن مثل هذا الحديث حتّى صرت أدور في حلقة قادتني بالتالي إلى الوقوع على دائرة أسباب تردي أوضاع الشيعة وانقلاب أحوالهم مع أ نّهم ينطوون ـ وبتصورهم ـ على أعظم العقائد الدينية في العالم، ذلك أ نّهم ضنّوا بما لديهم على الآخرين، بل إنّهم زهدوا بما احتوته نفوسهم، وضمته خلائجهم على أنفسهم، وفلذات أكبادهم حتّى جعلت أرواحهم تفارق لسعة الاتّقاد المذهبية، لتختلط بعدئذ بمباهج الحياة ومتارف الدنيا المزدهية بالألوان الخلابة، وأفنان الفنون الجذابة التي بدت أ نّها تُنسي الكثير منهم وزن المهام الملقاة على عواتقهم في إعلاء الرسالة المحمدية الأصيلة.
ولو يسمعني أحدهم أحكي بهذا، لقال عني أ نّي قد ولدت شيعياً، أباً عن جد، ولست سنّياً، بل لست أتعبد على نسج المذهب الحنفي والذي ما كنت لأعلم أ نّي أتعبد على سياقه، واستقي من تعاليمه إلاّ بصورة غير مباشرة، بل إنّي أذكر عن تعاليم وقواعد مذهب أبي حنفية إلاّ ما كنت أجد أبي يفعله حتّى صرت إلى تقليده، ومن دون مراجعة رسالته أو شيئاً ممّا كُتِبَ عنه أو نُقل، ولم أجشّم النفس ولا حتى التعرف على حياته أو أعليمته. وكان هذا كُلّه يشككني في طبيعة الدين وثقل تعاليمه على العقل، وقلة نبوغ علمائه، وعدم
كنت لا أعلم سوى أ نّي أحيا في ظل حياة تنتظر منّي المزيد من تقضّي الأيام حتّى تكشف عن جدوى الانتظار وحب القيلولة المتمرس على مغالبة ضروب النعاس، وصنوف الوسن الحاد.. لذلك كدت أصير إلى ضفاف مذهبي من فلسفة ديني.، فكيف لا أقف ولأعتى وأقوى من هذا، حيال مذهب الشيعة حتّى أواكب مسيرة أمواج المياه الضحلة عند الشواطئ والضفاف الراجفة بلسعات المدّ والجزر ليس إلاّ.. فأما الابحار في معاني المذهب الحنفي والغوص في عباب مياه المذهب الشيعي واستخراج لآلئه، واستنفاد خرائده.
فلم أسمع عنه إلاّ القليل، فضلاً عمّا كان يتلى على مسامعنا في قاعات الفصول الدراسية، وما كنت أحفظه واتتبع قراءته في دروسي المنهجية.. كما أ نّي ما كنت لأشرع في التاريخ أيّما لون من المرارة والمأساة، وأنّ كُلّ ما سطّر في كتب التاريخ هو الصحيح، ليس إلاّ، وأنّ كُلّ ما عبرت عنه أوراقه وصحائفه ولو احتملت كُلّ الأذى والقهر للشعوب والأنفس، فإنّها لتعد من
إذن فما كان لي أن أقف موقف الباحث عن أُسس دينه، ويتحقق من صحتها، فلقد تكفل بها الآباء عنّا، ولو أنا لم نكن نمنّي النفس في سؤالهم عن ذلك، أو نكلف الرأس عناء الاستفهام عن ذلك، لأنا كنّا نحس أ نّهم يشاهدون علماء مذهبنا، وما كان من أولئك إلاّ أن يتنكبوا كُلّ المعاجم والمراجع الكتبية، ولا ينطقون على المنابر العالية إلاّ بما حفلت به صدور آبائنا، وحفظته أذهانهم، عن ظهر قلب، من كُلّ ما وجدوه محفوراً في الكتب.. فما كان لنا بالتالي أن نلفي أيّما ضرورة تنبلج لزهوات أرواحنا حتّى تصارعنا وتستاقنا إلى ضرورة التنقيب عن كُلّ شيء والكشف والبحث في كُلّ ما أودع وفات الكتب ورصّت حروفه في داخل صحائفها، وانتعشت عبائره بين أسطر مخضرمة في ألوان طباعاتها القديمة والجديدة، عبقة بكُلّ أفانين الروايات التي كنت أخالها مقدسة. وما كان لنا إلاّ أن نتعقب، وكما له أن يحصل لأبي كذلك حين يكون له أن يتفحصه من أحاديث الدعاء وطلب الرزق، وروايات الأخلاق في بعض الكتب التي كان قد ابتاعها بطريق الصدفة، أو أتفق لنا أن حصلنا عليها كهدية كنا قد تلقيناها من أحدهم، أو جعلنا أطراف الحظر تنال منها ما يناله منها غيرنا حينما يبتاعها رغماً عنه، وذلك عندما تركبه لحاظ
الفصل الثالث عشر
الحوادث المؤلمة
عُدتُ بذاكرتي من جديد إلى صاحبي الجامعي عبد الرزاق وهو يحدثني عما وقع بين المسلمين من مآسي.
ــ " وإذا اردنا أن نولي وجوهنا شطر الحوادث التي حدثت بين المسلمين ".
ــ " السنة والشيعة؟ ".
ــ " فإنّ ذلك أدهى وأمر، وأشد وقعاً، وأعظم خطراً ".
ــ " لقد وقعت بين السنّة والشيعة حوادث مؤلمة أدت إلى إثارة نيران الفتن، وإراقة الدماء، وحرق المساكين ".
ــ " وليس بودنا أن نذكر هنا كُلّ ما حدث من خلاف بين هاتين الطائفتين من أُمور ".
ــ " لو طرحت على بساط البحث والمناقشة العلمية لزال كُلّ شيء، وكان الحكم للحق وحده، والحق أحق أن يتبع ".
ــ " هذا أمر طبيعي! ".
ــ " ولأنّ الخلاف كان لا يتعدى حدود النزاع في مسألة الأُمّة وغيرها من المسائل التي حدث الخلاف بين الطائفتين فيها ".
ــ " وكيف تطور الوضع؟ ".
ــ " لقد تطور الوضع إلى حالة تحزب ضد الشيعة، واتجاه معاكس ".
ــ " لقد حاكوا لهم التهم، وحملوا عليهم بكُلّ ما هو شائن من دون التفات إلى حق العلم،أو خضوع للحق ".
ــ " وهل لك أن تشرح لي ملابسات ظروف كُلّ ذلك؟ ".
ــ " يطول بنا الحديث حول ذلك، وسنتحدث عن ذلك فيما بعد، والشيء الذي أود أن أشير إليه هو: أن الأمر بلغ أشده حتّى أدى إلى ثورات دموية مؤسفة ".
ــ "؟! ".
ــ " وفتن ذهب تحت هياجها خلق كثير ".
ــ " ولعل من أعظم ذلك يوم كان الشيعة يقومون بإقامة شعائرهم الدينية ".
ــ " بالضبط! ".
ــ " كيوم عاشوراء، ويوم الغدير كذلك، فإنّ ذلك كُلّه يدعو إلى الإنكار من إخوانهم السنّيّين ".
ــ " ولماذا؟ ".
ــ " لأ نّهم يدّعون أنّ النياحة في محرم، وإقامة الزينة يوم الغدير بدعة ".
ــ " وهل كان يصاحب ذلك مشاجرات؟ ".
ــ " لقد كان يصحب هذا الإنكار إعتداء أدى إلى إراقة الدماء بين الفريقين ".
ــ " وهل قتل فيها عدد غفير؟ ".
ــ " لقد قتل فيها الخلق الكثير! ".
ــ " كُلّ هذا أين وجدته؟ ".
ــ " البداية والنهاية! ".
ــ " ومع هذا فإنّ السنّة قاموا بما قامت به الشيعة من النياحة على مصعب بن الزبير مقابلة للحسين ".
ــ " كرد على الشيعة وبالمثل؟ ".
ــ " وأقاموا الزينة يوم الغار مقابل يوم الغدير وقد مرت الإشارة لذلك ".
ــ " لا حول ولا قوة إلاّ باللّه ".
ــ " كما أ نّهم أقاموا النياحة على كثير من الناس، وقد رأوا أنّ ذلك من الأُمور المستحسنة ".
ــ " وأين وصل بهم الحد؟ ".
ــ " حتّى قال محمّد بن يحيى النيسابوري ـ حين بلغه موت أحمد بن حنبل ـ: ينبغى لأهل كُلّ دار في بغداد أن يقميوا على أحمد بن حنبل النياحة في دورهم ".
ــ " أين قرأت هذا؟ ".
ــ " قرأته في طبقات الحنابلة(2) ".
ــ " وأقيمت النياحة على أحمد بن حنبل، وعظم الحزن عليه، ولازموا قبره مدّة من الزمن، إظهاراً للتفجّع، وأُقيمت مجالس العزاء عليه، كما أقيمت النياحة على غيره من الرجال ".
ــ " هل لك أن تذكر لي من الأمثلة على ذلك؟ ".
____________
1- البداية والنهاية 11: 235.
2- طبقات الحنابلة 2: 51.