الصفحة 151

الفصل الثاني عشر
عبد الرزاق وتداعيات الأيام وذكرى الأنصهار في الإمامة


وفي ظهيرة أحد أيام الشتاء الماطرة، كانت خطوط المطر تسترسل متوالية وهي تنصب دونما توقف. ظلت صفحات سيبها تمارس ضغطها المتناوب يتراشق على صفحات زجاج النوافذ المحيطة بي، وهي التي صرت أراها تواصل رشقاتها الصارخة حتّى تستكين قطراتها المنطبعة بأمواهها على سطوح ذلك البلّور الذي رأيته يزداد صفاء شيئاً فشيئاً، فأخذت الأصوات تزدحم حتّى اكتظت جدران النوافذ بقطرات منتفخة سرعان ما كانت تصير إلى الانبعاج، حتّى كانت قد استباحتها كيما تعض على سحبها، وهي تنشد الوصول إلى ميقاتي عبر هذه الألوان المتفتقة في رأسي. فصرت أهوى الانسحاب الانعكاسي إلى منتجع أطوّف عنده بكُلّ مراتع الماضي، وأروقة الفائت من الليالي والأيام حتّى طلت التشوف إلى مطالع الشمس القريبة من خيال الوهم الذي لا يسبح عند ضفافه سوى شوق الذكريات والغرد وصوت الأشجان العذب، حينما طِرت إلى دفق الرؤى المتصارخ عند غدير تلك الأوقات المنصرمة لأعود أرتل في ظلال أمواجها، أرّق أنواع القصيد! إذ حانت منّي التفاتة حتّى تمثلت لي أشباح أهلي ورنوت إليها، فما كانت لألوان رسومها أن تروم التزيّل إلاّ أن تمور في خاطري، وبلج إلى محيط سمائي وأنواء آفاقي المتعبة بتفكرات ظلت أوداجي تنوء بهضمها كمن قد صارت

الصفحة 152
تتعرض إلى الاغراء والمخاتلة، وذلك في إثر وقع ما برحت أعلّق عليه أهمية وأُخرى.

تذكرت أبي، واستذكرت أحاديث أُمي، ورنوت إلى أُختي، وعدت أنظر في وجه أخي، وأخي الآخر، وظللت أحاور قسمات وجه أُختي الكبرى حتّى عدت أتطلع إلى سحنة بشرة أُختي الصغرى. وهناك قفزت مقلتاي لتداعب معالم وجه أخي الآخر والآخر، كما لو كنت أجوب أطراف السماء حتّى صرت أجوب شوارع وأزقة مدينتي.. وذلك بعد أن طوّفت في أروقة المنزل، وانقلبت أتلو لحن الشغف الحثيث بكُلّ لون جدار وصورة، وذكرى ولحن حركة، ونوع أثاث وصبغة ملاءات واضفاءة مريلة حتّى دلفت إلى مستودع أسرار وجودي التي استكان عندها خاطري، وسما في وجد أطرافها عنق آمالي الذي ما غادرت ولحد الآن سحبه، تلك الزوايا التي ارتقت جدران غرفتي، إذ ما فتئت أرقب أطياف الأمس فيها، وأعيد أغذو سماء حاضري الجدباء بكُلّ ما احتملته ذاكرتي العجفاء، وانطلقت به فوق ظهورها وهي تجلو الغمام، وتنوي الاسراع دون التوقف، ريثما أصل إلى نقطة تضيء لي كُلّ المقاصد، أرضف من حنينها أضواء سحب عائمة فوق ظلال المجرات التي أثقلت كاهلي، وأعيت خاطري حتّى شدهت بالي، وتولهت بأيامها كالمتدلّه بغنجها ودلالها..

إلاّ أ نّي وقعت وبالتالي على مرادى الخفي، فكانت تسترسل ألحاني مع أوراق تلك الأيام، بينما جعلت ذاكرتي تنوء بذكر الشيعة وأهلها، وألوان الخوف من كُلّ ما يميل إلى التطبع بصيغهم البحتة، والتأقلم في أجواء انطباعاتهم المترامية فوق أديم لا أجهل منه سوى جلّه، ولا أعلم عنه سوى

الصفحة 153
خلّه الذي جعل يسقيني الزعاف من حموضته التي ظلت تصادر على مكابدة معدتي لها، واحتراق جوفي، وتغضّن بشرتي، واختلاف قسماتي وانقلاب رسمي، وانسلاخ محياي الذي ظل يعايش الكبت والغثيان من مجرد التفكير بشيء اسمه التشيع. لماذا؟ لأ نّي ما كنت لأسمع عنهم، ولا عن اعتقاداتهم إلاّ ما يسيء إليهم ويزري بها! وما كنت لأُبحر في خضم تيارات عقائدهم أو أركب كتف أمواج تعاليمهم الدينية والهج بالسقاية من ركب معالمهم الشرعية وأفانينهم القدسية.. فلا أطري، ولا أبالغ، بل لا أراهن ولا أغبن.. إنّما الحقيقة هي التي غدت رائجة، ترعف بكل غيثها المسموم وريعها الزعاف، كأنّ المطر قد غدا قانياً، ولون السحاب قد صار داجياً، وألوان الذهب قد انقلبت صاغرة، وهي تنكب على الولوع في احتساء ما تبقى من كأس أيامي المرهقة دون انقضاء ولا ملل. فهل يمكنني أن أشعر بالندم على ما ضيعته في أمسي وكُلّ ما انقضى من وطر في البارحة من الزمان، أو ما زهدت به في أُمي، إذ لم أكن أتوسل بأحدهم، كيما يجيبني على أسئلتي، وكيف لي أن أسائلهم، وهم الذين ظلوا يجهلون كُلّ ما يمور في عقول وفكر علماء الشيعة. بل ما يجول في مخيلة وصدور أقل الشيعة قدراً ومستوى.. بل عوام الشيعة! لأ نّا جميعاً كنّا وما زلنا، نلهو بين أعطاف الحياة، ونبذل أثمن الأوقات في سبيل اجتلاب أرخص معادن النزهات ومقامات السعادة.. ولو كان في رحالنا الشيء عنهم، فإنّه ما كان ينقضي إلاّ بالتندر على تعاليمهم والازدراء لعقائدهم، فضلاً عن امتهان مشاربهم الدينية وصولاً إلى الطريف من القول والاستمتاع بنوادر ما يحكى عنهم، عبوراً إلى الظريف من الاشاحة بالوجوه عن كُلّ ما يرن جَرْسه طبقاً لهذه الألحان الشيعية أو يتناسب ذوقه مع نزعات تلك الضروب من

الصفحة 154
الصنوج العاتية..

ولو كنا قد منحنا ثنتين من الأخوات لاثنين من الأُخوة الشيعة، فإنّه ما كان لنا أن نشغل أوقاتنا، ولا نتعب أفكارنا، ولا للحظة واحدة، في اسهاب الحديث، ونأخذ بأطرافه ونعمل على مجاذبتهم ألوانه أو التعرف على نوع عقائدهم، ولون تلك المساحيق والمعاجين التي تنضح بها معالم مذهبهم وروح عقيدتهم.. بل إنّهما هما الآخران كانا في شغل شاغل عن مثل هذا الحديث حتّى صرت أدور في حلقة قادتني بالتالي إلى الوقوع على دائرة أسباب تردي أوضاع الشيعة وانقلاب أحوالهم مع أ نّهم ينطوون ـ وبتصورهم ـ على أعظم العقائد الدينية في العالم، ذلك أ نّهم ضنّوا بما لديهم على الآخرين، بل إنّهم زهدوا بما احتوته نفوسهم، وضمته خلائجهم على أنفسهم، وفلذات أكبادهم حتّى جعلت أرواحهم تفارق لسعة الاتّقاد المذهبية، لتختلط بعدئذ بمباهج الحياة ومتارف الدنيا المزدهية بالألوان الخلابة، وأفنان الفنون الجذابة التي بدت أ نّها تُنسي الكثير منهم وزن المهام الملقاة على عواتقهم في إعلاء الرسالة المحمدية الأصيلة.

ولو يسمعني أحدهم أحكي بهذا، لقال عني أ نّي قد ولدت شيعياً، أباً عن جد، ولست سنّياً، بل لست أتعبد على نسج المذهب الحنفي والذي ما كنت لأعلم أ نّي أتعبد على سياقه، واستقي من تعاليمه إلاّ بصورة غير مباشرة، بل إنّي أذكر عن تعاليم وقواعد مذهب أبي حنفية إلاّ ما كنت أجد أبي يفعله حتّى صرت إلى تقليده، ومن دون مراجعة رسالته أو شيئاً ممّا كُتِبَ عنه أو نُقل، ولم أجشّم النفس ولا حتى التعرف على حياته أو أعليمته. وكان هذا كُلّه يشككني في طبيعة الدين وثقل تعاليمه على العقل، وقلة نبوغ علمائه، وعدم

الصفحة 155
جدوى تحركاتهم من أجل إثبات أ نّهم قادرون على إدارة زمام أُمور الدولة، وتولي المناصب الحكومية واعتلاء دفة الحكم والتربع على سدّته.. كنت أشك في اقتدارهم، لا يخالجني أيّما تفكير في مقدرتهم وعنفوان صلابتهم.. لذلك كنت أجد نفسي في غنى عن تعاليم نفس مذهبي، أو بالأحرى ما كنت أدري بضرورة تقليد أحد أصحاب هذه المذاهب. بل كنت أتعبد على ما أجده لدى أبي وإخوتي حتّى إنّي ما كنت أرى الإسلام ليعدو فهم معانيه أكثر من نيل هذا الحظ اليسير وحسب! أما المذاهب فهي الدين وحده وليس سوى الدين أي دين يعلو اختلاف الرأي في حناياه أو تصطفق أبواب الافتراق في الفتوى ما بين مصاريع بواباته ومطاوي عضادات دعاماته.. فإذا كنت أجدني أقف حيال ديني مثل هذا الموقف، فما كان ليراني أدهش أي شخص، وذلك حينما يلفيني لا أحفظ عن الشيعة، إلاّ ما يعلق في مخيلتي من صور رهيبة ومحجة ليس إلاّ.. كأ نّي لا أحمل منهم سوى التنفر من وجوداتهم ووجوههم، وطريقة معيشتهم، وكيفيات عباداتهم وألوان طقوسهم ومناسك أيامهم، ورحلات مجالسهم، وأصوات مناقبهم وكبحات مثالبهم.

كنت لا أعلم سوى أ نّي أحيا في ظل حياة تنتظر منّي المزيد من تقضّي الأيام حتّى تكشف عن جدوى الانتظار وحب القيلولة المتمرس على مغالبة ضروب النعاس، وصنوف الوسن الحاد.. لذلك كدت أصير إلى ضفاف مذهبي من فلسفة ديني.، فكيف لا أقف ولأعتى وأقوى من هذا، حيال مذهب الشيعة حتّى أواكب مسيرة أمواج المياه الضحلة عند الشواطئ والضفاف الراجفة بلسعات المدّ والجزر ليس إلاّ.. فأما الابحار في معاني المذهب الحنفي والغوص في عباب مياه المذهب الشيعي واستخراج لآلئه، واستنفاد خرائده.


الصفحة 156
فهو ما كان يجديني أيّما نفع، لأ نّي ما كنت قد وقفت على أُضحية التعلّق بأهداب الدين كُلّ هذا التعلق، ولو كنت أحس أ نّي في قبالة تعاليمه منتظماً كالعقد في الجيد، والحبة في السلسلة، متوالياً مع النظم الأعرافية، ولو كان لي أن أشذ عن تقبّل الكثير مما له أن يندرج في المحرمات حتّى كأ نّي أشبّ عن طوقها دون المراعاة لها، وأنا أصير إلى الجذلان أقرب مني إلى التعبان الذي له أن يعاني من غبن الأيام وعقد الزمان البالي، والمتراكمة في محو ظهيرته كُلّ ازدراء للتعاليم التي كنت لا أشك أ نّها تنبت في صدري كيراع الشوك المتقافز إلى عين المرء دون سواها من أعضاء بدنه. كنت لا ألوي على شيء سوى تنكب زمان الحرية دون أيّما قيد ووازع ديني. فكيف كان لي أن أركن إلى تفصيل المذاهب السنية، أو كان لأحدهم أن ينبهني إلى طرائق الدين ووحي المذهب الشيعي الذي ما كنت أسمع عنه إلاّ باسم المذهب الجعفري، وما كنت أتصور أصحابه إلاّ متزمتين، أكثر مما أجد أصحابنا يُشعرون المرء بروح التزمت القاهر والتعصب القاتل! حتّى إن أحدنا ليستشعر التقزز من وحي الدين أصلاً، وكأ نّي كنت أحيا في عهود متناقضة، تحتلب ألوان السقيم من دون أن أجرأ على محاسبة نفسي واستجوابها.. كيف لي أن أعيش، هل أعيش في خضم دين، يفرض عناوين القاءاته عليّ، ويرسم وجوه علائقه في أطياف مقلتي حتّى يترعهما بالانقياد لكُلّ ما أعلن عنه، والاستباق صوب كُلّ ما ثابر لأجله، والانصياع لكُلّ ما جاء به؟ وما كان لمثلي أن يقارن بين النعم التي غدا يجدها تتقلب هي بين أذرعه (ومن قبل أن يتقلب بين طياتها، ويتقافز بين مطاويها..) وبين مصاديقها الدينية ومطلقاتها الشرعية، هل هي وفيما لو عرضت على عقائد الدين، وتعاليم الشرع، ستخضع إلى الاختيار والفحص

الصفحة 157
والامتحان، ليختزل الدين منها ما أراد، ويشطب منها ما لا يريد حتّى كأ نّه يصادر على عقابي، واستجلاء كُلّ شبابي المتطرف، ليصنع منه وقفاً على صور اشباع كُلّ أهدافه، والامتلاء حتّى الرأس بكُلّ ضيق يمكن له أن يصدني عن بلوغ سعاداتي المادية أو حتّى استمتاعاتي المغالية.. إذ ما كنت أدقق في الأُمور، ولا كنت أتعقب كُلّ ما أفعله، أو أراه يجري، فأبلغ بنفسي درجة تحاول فيها أن تسأل: كيف لها معالجة فلان قضية؟ أو كيف لها أن تدرج على هضم تلك المسألة؟ أو هل لها أن تطوي كشحاً عن فعل كذا من الأُمور، أو أن ترى إلى الحسان يتحركن في الطرقات، أو أن تسترسل في الاستماع إلى كافة أنواع الأغنيات، وهي تبالغ في أن تترع سمعها، أو أن تدعني أسائل الربّ والخالق: ترى هل يسمح لي أن لا أهتم بالدين إلاّ بظاهره؟ وما كان غير ذلك هو لا يحفل إلاّ بصدق النية، فإن طهرت، طهر ما سواها، وما كان اللّه ليحاسب عباده على ما يفعلون، إن صادقت نياتهم على كُلّ طريق من كؤوس البراءة.. ولو أ نّي كنت أجد نفسى فقيراً إلى علوم الدين، ولستُ بالذي انطوى على عقلية فتاكة في هذا المضمار، إذ ما كان لي أن أفهم الكثير من المسائل، ولا كان لمثلي إلاّ أن يجهل العديد من اقدار الشرع وأقوات العقيدة الحقة.. ومداخل التاريخ الإسلامي.

فلم أسمع عنه إلاّ القليل، فضلاً عمّا كان يتلى على مسامعنا في قاعات الفصول الدراسية، وما كنت أحفظه واتتبع قراءته في دروسي المنهجية.. كما أ نّي ما كنت لأشرع في التاريخ أيّما لون من المرارة والمأساة، وأنّ كُلّ ما سطّر في كتب التاريخ هو الصحيح، ليس إلاّ، وأنّ كُلّ ما عبرت عنه أوراقه وصحائفه ولو احتملت كُلّ الأذى والقهر للشعوب والأنفس، فإنّها لتعد من

الصفحة 158
ضمن الافعال التي ليس لها أن تغضب الربّ، وتثير حفيظة أملاك السماء، لأنّ للحاكم المسلم مطلق الصلاحية في التصرف بأحوال رعيته، والتحكم بسائر شؤون أفراد شعبه، وليس لعوام الجمهور إلاّ أن يتحلقوا حول تعاليمه، وينطقوا بما يقول ويردد، من بعد أن يقبلوا بها كما يقبلوا بمتن ونصوص المعصومين من الرسل والأنبياء.. فضلاً عن الإذعان لمقالاته. كما تدغن قلوبهم إلى كلام الخالق وآيات قرآنه..

إذن فما كان لي أن أقف موقف الباحث عن أُسس دينه، ويتحقق من صحتها، فلقد تكفل بها الآباء عنّا، ولو أنا لم نكن نمنّي النفس في سؤالهم عن ذلك، أو نكلف الرأس عناء الاستفهام عن ذلك، لأنا كنّا نحس أ نّهم يشاهدون علماء مذهبنا، وما كان من أولئك إلاّ أن يتنكبوا كُلّ المعاجم والمراجع الكتبية، ولا ينطقون على المنابر العالية إلاّ بما حفلت به صدور آبائنا، وحفظته أذهانهم، عن ظهر قلب، من كُلّ ما وجدوه محفوراً في الكتب.. فما كان لنا بالتالي أن نلفي أيّما ضرورة تنبلج لزهوات أرواحنا حتّى تصارعنا وتستاقنا إلى ضرورة التنقيب عن كُلّ شيء والكشف والبحث في كُلّ ما أودع وفات الكتب ورصّت حروفه في داخل صحائفها، وانتعشت عبائره بين أسطر مخضرمة في ألوان طباعاتها القديمة والجديدة، عبقة بكُلّ أفانين الروايات التي كنت أخالها مقدسة. وما كان لنا إلاّ أن نتعقب، وكما له أن يحصل لأبي كذلك حين يكون له أن يتفحصه من أحاديث الدعاء وطلب الرزق، وروايات الأخلاق في بعض الكتب التي كان قد ابتاعها بطريق الصدفة، أو أتفق لنا أن حصلنا عليها كهدية كنا قد تلقيناها من أحدهم، أو جعلنا أطراف الحظر تنال منها ما يناله منها غيرنا حينما يبتاعها رغماً عنه، وذلك عندما تركبه لحاظ

الصفحة 159
هوس جارف، ما كان هو إلاّ أشبه بسيل عرم لا يبغي منه سوى شراء هذا الشيء أو الكتاب، لأنّ نفسه كانت قد علقت بالحصول عليه ليس إلاّ.. وإذن، فلقد غدت علوم الدين وبالنسبة لي كعلوم الفلسفة! إذ لا يسعني الوقوف إلاّ عند شواطئ سواحلها، وبذلك ما كنت إلاّ لأخطئ الطريق، فكيف كنت أجد لزاماً علي وفي مثل تلك الظروف أن أنظر في عقيدة الشيعة، وأبحر في عباب أمواج علومهم وعقائدهم، كيما أستجلي غيوم الحقيقة، وأقع على كأسي المترع عزة وجلالاً! وأنا ما زلت لم أقدم على فعل مثله في إزاء ديني ومذهبي. فلم أكن عندها لأحفل بإنفاق مثل هذا الوقت لمثل هذه الأعراف.. بل ما كنت أجد من يسرف في مثل ذلك إلاّ مهذاراً، مبدداً لوقته الثمين، مضيّعاً لاحلى أيام شبابه وأجمل سني عمره! وذلك حينما كنت أرى منه ما أرى من إبحاره في غمار مطالعاته المكثفة لمختلف لكتب الجامعية والدراسية ومراجعها العلمية، وانكبابه على غيرها في داخل ردهات وقاعات المكتبة العامة في الجامعة نفسها.. تحلقاً منه حول مجال استنطاق أقصى ما يكون من دقائق العلوم والاستحواذ على أكثر ما له أن يناله في اختصاصه.. وذلك حينما كنا في الجامعة إذ ما كان لنا إلاّ أن نلهو، ولا نتبع آثار المطالعات الخارجية. فكيف كان لي أن أتبع أثر المطالعات والأبحاث العقائدية؟ وكيف كان لي أن أتميز أثر مثل هذه القراءات والمتابعات الدينية والخاصة بمذهب هو غير مذهبي. بل إنّ له أن يشوب فكري بأكثر من شائبة وأخرى إلى أن واجهني صاحبي عبد الرزاق في ذات يوم، وهو الذي كان زميلي على مقاعد الدراسة الجامعية.. وذلك حينما انتابت ذهني مسألة الاصطلاح حول إمامة علي بن أبي طالب.. حتّى استرعتني كُلّياً! وهل أ نّه إمام حقاً؟ وهل أنّ الإمام

الصفحة 160
شيء غير عادي حتّى أصاب بالرعب من اسمه، وكأ نّه لا يجدر إلاّ باللّه وحده! وكيف يمكنه أن يلتصق باللّه؟ أي ماذا سيكون معنى هذه الكلمة حينما يكون لها أن ترتبط بكلمة اللّه؟! إذ إنّه ما كان منّي أن أسمع كلمة الإمام حتّى اُرعب، وأقول: إنّ الشيعة قد جنحت إلى الكفر. وإن كنت اسمع عنهم، بأ نّهم يلصقون كلمة (عليه السلام) بأسامي أئمتهم حتّى يصيروا يلحقونها بها كواحدة من المستلزمات المسلّمات، فإنه كان يستبد بي لهب الفزع حتّى أحدث نفسي بأ نّهم قد غلوا، وتجاوزوا حدود الكفر بأقصى معانيه وأبعد حدوده.. إلاّ أ نّي الآن ما كنت لأستنطق حجب المجهول وأستار الماضي، إلاّ بشيء يبحث له عن متنفس من الجواب الناجع، والذي له أن يلحق بأضواء أسئلته التي جعلت تترى دون هوادة، وهل لأيما أحد أن يشك بعد ذلك في مثل هذا الأمر؟! حيث كان صاحبي هنا الآخر الذي زاملته في هذه البناية قد صرح لي، بأن هذا السلام هو أبسط المؤهلات التي يمكن أن تحترم بها الآخرين. فهل لك أن تدع السلام على من تعرفه، وذلك حينما تراه، أو على جمع خاصّة عندما يكونون من المعارف، وذلك حينما تدخل عليهم؟ كذلك هو الحال مع.. السلام هذا..


الصفحة 161

الفصل الثالث عشر
الحوادث المؤلمة


عُدتُ بذاكرتي من جديد إلى صاحبي الجامعي عبد الرزاق وهو يحدثني عما وقع بين المسلمين من مآسي.

ــ " وإذا اردنا أن نولي وجوهنا شطر الحوادث التي حدثت بين المسلمين ".

ــ " السنة والشيعة؟ ".

ــ " فإنّ ذلك أدهى وأمر، وأشد وقعاً، وأعظم خطراً ".

ــ " لقد وقعت بين السنّة والشيعة حوادث مؤلمة أدت إلى إثارة نيران الفتن، وإراقة الدماء، وحرق المساكين ".

ــ " وليس بودنا أن نذكر هنا كُلّ ما حدث من خلاف بين هاتين الطائفتين من أُمور ".

ــ " لو طرحت على بساط البحث والمناقشة العلمية لزال كُلّ شيء، وكان الحكم للحق وحده، والحق أحق أن يتبع ".

ــ " هذا أمر طبيعي! ".

ــ " ولأنّ الخلاف كان لا يتعدى حدود النزاع في مسألة الأُمّة وغيرها من المسائل التي حدث الخلاف بين الطائفتين فيها ".

ــ " وكيف تطور الوضع؟ ".

ــ " لقد تطور الوضع إلى حالة تحزب ضد الشيعة، واتجاه معاكس ".


الصفحة 162
ــ " وكيف تمّ مثل ذلك؟ ".

ــ " لقد حاكوا لهم التهم، وحملوا عليهم بكُلّ ما هو شائن من دون التفات إلى حق العلم،أو خضوع للحق ".

ــ " وهل لك أن تشرح لي ملابسات ظروف كُلّ ذلك؟ ".

ــ " يطول بنا الحديث حول ذلك، وسنتحدث عن ذلك فيما بعد، والشيء الذي أود أن أشير إليه هو: أن الأمر بلغ أشده حتّى أدى إلى ثورات دموية مؤسفة ".

ــ "؟! ".

ــ " وفتن ذهب تحت هياجها خلق كثير ".

ــ " ولعل من أعظم ذلك يوم كان الشيعة يقومون بإقامة شعائرهم الدينية ".

ــ " بالضبط! ".

ــ " كيوم عاشوراء، ويوم الغدير كذلك، فإنّ ذلك كُلّه يدعو إلى الإنكار من إخوانهم السنّيّين ".

ــ " ولماذا؟ ".

ــ " لأ نّهم يدّعون أنّ النياحة في محرم، وإقامة الزينة يوم الغدير بدعة ".

ــ " وهل كان يصاحب ذلك مشاجرات؟ ".

ــ " لقد كان يصحب هذا الإنكار إعتداء أدى إلى إراقة الدماء بين الفريقين ".

ــ " وهل قتل فيها عدد غفير؟ ".

ــ " لقد قتل فيها الخلق الكثير! ".

ــ " كُلّ هذا أين وجدته؟ ".


الصفحة 163
ــ " لقد طالعته في كتاب البداية النهاية لابن كثير(1) ".

ــ " البداية والنهاية! ".

ــ " ومع هذا فإنّ السنّة قاموا بما قامت به الشيعة من النياحة على مصعب بن الزبير مقابلة للحسين ".

ــ " كرد على الشيعة وبالمثل؟ ".

ــ " وأقاموا الزينة يوم الغار مقابل يوم الغدير وقد مرت الإشارة لذلك ".

ــ " لا حول ولا قوة إلاّ باللّه ".

ــ " كما أ نّهم أقاموا النياحة على كثير من الناس، وقد رأوا أنّ ذلك من الأُمور المستحسنة ".

ــ " وأين وصل بهم الحد؟ ".

ــ " حتّى قال محمّد بن يحيى النيسابوري ـ حين بلغه موت أحمد بن حنبل ـ: ينبغى لأهل كُلّ دار في بغداد أن يقميوا على أحمد بن حنبل النياحة في دورهم ".

ــ " أين قرأت هذا؟ ".

ــ " قرأته في طبقات الحنابلة(2) ".

ــ " وأقيمت النياحة على أحمد بن حنبل، وعظم الحزن عليه، ولازموا قبره مدّة من الزمن، إظهاراً للتفجّع، وأُقيمت مجالس العزاء عليه، كما أقيمت النياحة على غيره من الرجال ".

ــ " هل لك أن تذكر لي من الأمثلة على ذلك؟ ".

____________

1- البداية والنهاية 11: 235.

2- طبقات الحنابلة 2: 51.