ــ " وكيف يمكن أن تنظر إلى مثل هذه الأسباب في صدور مثل هذه الآراء من مثل هكذا مؤرخ كبير؟ ".
ــ " إنّه لا يستبعد ذلك من إنسان تربع على سدّة قضاء دولة لا ترغب في إظهار فضل آل محمّد(عليهم السلام)، أسوة بأخواتها التي سارت على ذلك من قبل، فهو عبد لسلطانه، وأسير لشيطانه ".
ــ " وبنظرك، هل يمكن أن ينبعث مثل هذا الرأي عن نزق وخبث أم ينطلق من شقة جهل وعدم إحاطة؟ ".
ــ " إنّ رأي ابن خلدون هذا لا ينبعث إلاّ عن جهل، أو عقل أعمى لا يبصر الحقائق، فيجهل مواقف آل محمّد في الدفاع عن الإسلام، وتفانيهم فى نشر تعاليمه وتعليم الناس أحكام الإسلام وفرائضه، ومحاربة ذوي العقائد الفاسدة، وقيامهم بتعليم الأُمّة مستمدين من الرسول الأعظم(صلى الله عليه وآله وسلم)بما لا مجال للشك في ذلك، ولكن ابن خلدون لتحامله، فإنّه كان قد نقل كثيراً من الأشياء مبتعداً عن طريق الواقع، وقد صبها في قالب رغباته وتساهل في إبداء الحقيقة، وجعلها في طيات الخفاء والكتمان ".
ــ " وكيف يمكنك أن تميز العلاقة بين المذهب الجعفري والدولة العباسية؟ ".
ــ " وبنظرك.. فلولا ذلك لما كان لتلك الحوادث التي أخرت المسلمين أن تحدث أو تقع؟! ".
ــ " بالتأكيد! لقد كان أولئك الحكام يلتجئون دائماً إلى خلق مشكلات يفرقون بها كلمة الأُمّة، ويثيرون الشحناء ويشغلون الأفكار، لاستخدام الأكثر لمصالحهم الذاتية، وقد أجهدوا أنفسهم بربط العقائد في دستورهم الذي يتماشى مع رغباتهم ".
ــ " ما هي أهم مشكلة يمكن أن تتحدد في تاريخ الإسلام؟ ".
ــ " إن أهم مشكلة في تاريخ الإسلام هي مشكلة الخلافة أو الاعتقاد بالإمامة بأ نّه منصب إلهي كالنبوة. فكما أنّ اللّه سبحانه يختار من يشاء من عباده للنبوة والرسالة ويؤيده بالمعجزة التي هي كنص من اللّه عليه فكذلك يختار للإمامة من يشاء ويأمر نبيه بالنصّ عليه ".
ــ " وإذن فالنبيّ مبلغ عن اللّه والإمام مبلغ عن النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)؟ ".
ــ " أجل! والشيعة تعتقد أنّ تلك المنزلة لم تحصل إلاّ لعليّ وولده والإمامة متسلسلة في اثني عشر إماماً كما نص النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على ذلك. ولا ترى تلك الخلافة الإلهية لغير علي وبنيه(عليهم السلام)، ولا يسعني التعرض لبحث الإمامة ولكني أريد الإشارة بهذه العجالة إلى الأدوار التاريخية التي سار فيها شيعة آل محمّد في المحافظة على وصايا النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) من التمسك بالكتاب والعترة ".
ــ " لقد قام أصحاب رسول اللّه في نشر تلك الدعوة في الصدر الأوّل وتحمّلوا ما تحملوا في سبيل ذلك، وفي أيام الدور الأموي والعصر العباسي حتّى شهدوا وبأم أعينهم ما لقيه آل محمّد وشيعتهم من الاضطهاد والمحنة. ومع ذلك كان لهم الدور في استنباط النشاط والوعي الفكري والعقلي والعمل على إبقاء شعلة الدين وهاجة ".
ــ " أخبرني، فما كانت نتائج تلك الحركة الفكرية؟ ".
ــ " لقد كان من نتائج تلك الحركة الفكرية الواسعة النطاق والنهضة العلمية التي ازدهرت في عصر الإمام الصادق(عليه السلام) هو انتشار مذهب أهل البيت في الأقطار الإسلامية ".
ــ " وما كان تأثير الدولة العباسية؟ ".
ــ " كانت الدولة العباسية في طفولتها تعارض حركة انتشار المذهب من وراء الستار، إذ ليس في إمكانها التظاهر في المعارضة، لأ نّهم في حاجة ملحة لاستمالة أعيان أهل البيت والاستعانة بزعماء الشيعة لتثبت أركان الدولة ".
ــ " وهل كان ثمة شهرة لأيّما مذهب دون آخر؟ ".
ــ " لم تكن هناك شهرة لأحد سوى الإمام الصادق(عليه السلام) والتاريخ يدلنا بوضوح على ذلك ".
ــ " والمذهب المالكي؟ ".
ــ " أما مالك بن أنس فقد كان في حياة الإمام الصادق(عليه السلام) كأحد رجال المدينة، ولم ينتشر ذكره إلا في سنة 148هـ وهي سنة وفاة الإمام الصادق، وكان ضربه بالسياط واهانته في سنة 146هـ أي قبل وفاة الإمام الصادق بأقل من
ــ " وما كان غرض المنصور الفعلي من ذلك؟ ".
ــ " لقد كان غرض المنصور من ذلك هو معارضة انتشار مذهب أهل البيت، لأ نّه ثقل عليه تخليد ذكر جعفر بن محمّد وقيام ولده الأمام موسى بن جعفر بعده، والتفاف الناس حوله حتّى لقبوه بالعالم وهو هو في زهده وورعه وعلمه ".
ــ " وهل استسلم مالك لمثل هذه العروض والاغراءات؟ ".
ــ " لم يغب عن مالك مغزى هذا التكليف فأجابه: يا أميرالمؤمنين لا تفعل، أما هذا الصقع فقد كفيتكه، وأما الشام ففيه الرجل الذي علمته (يعنى الأوزاعي) وأما أهل العراق فهم أهل العراق ".
ــ " وإذن فالحبل يمتد أبعد! ".
ــ " فكان المنصور يشد أزر الأوزاعي ويراسله ويلحظ مالكاً ويواصله حتّى ازدحم الناس على باب داره التي أصبحت كأبواب دور الملوك، بذل جهده بالإنتصار إلى أهل الرأي وهو يأمل من وراء ذلك كُلّه تغليب مذهبه على مبادئ أهل البيت ".
ــ " ولما اشتد جانب الدولة، ترى ما الذي كان له أن يحصل؟ ".
ــ " ولما اشتد جانب الدولة العباسية وقوي ساعدها، أظهر المنصور ما كان يضمره، فأعلن مقاومة أهل البيت ومعارضة انتشار مذهبهم، وشدد النكير على أهله ".
ــ " وكيف كانت معارضة المنصور والرشيد لمذهب أهل البيت؟ ".
ــ " وكيف كان المذهب في عصر المأمون؟ ".
ــ " وفي أيام المأمون كانت الغلبة للمذهب الجعفري في الأقطار بل امتدت دعوة التشيع إلى رجال الدولة أنفسهم منهم الوزراء والأمراء وقواد الجيش والكتاب، ورؤساء الدواوين، الأمر الذي دعا المأمون إلى التظاهر بالتشيع، والميل إلى العلويين ".
ــ " ولماذا فعل مثل ذلك؟ ".
ــ " لأ نّه خشي على زوال ملكه فدعا الإمام على بن موسى الرضا إلى البيعة، والتنازل عن العرش، ولكن الإمام ردّ هذه الدعوة علماً منه بأ نّها مفتعلة، ولكنه تفادى إيقاع نفسه في التهلكة بقبول ولاية العهد قبولاً شكلياً لا أكثر ولا أقل ".
ــ " وقبِل ولاية العهد؟ ".
ــ " وقبِل ولاية العهد بعد أخذ ورد، وأكثر المأمون عقد المجالس للمناظرة في الإمامة، وقد نجح بما دبره في سياسته ودهائه، إذ استمال قلوب الشيعة وأمن ثورة العلويين المتوقعة، وفاخر علماء الأديان الأُخرى بالرضا ".
ــ " وفي عصر خلافة المعتصم، كيف كانت الأوضاع؟ ".
ــ " وفي أيام المعتصم التجأ الشيعة إلى التكتم نوعاً ما، ونراهم يخرجون على الدولة بعدة كاملة، وقوة لم تستطع الدولة معارضتها، وذلك عندما استخرجوا جنازة الإمام الجواد في سنة 220 هـ عندما حاول دفنه سراً، ولا يسمح لأحد في تشييعه ".
ــ " ولكن الشيعة خرجوا بذلك الموكب المهيب الذي يربو عددهم على اثني عشر الف والسيوف على عواتقهم، فشيعوا جنازة الإمام رغم معارضة السلطة ".
ــ " وهل قويت المعارضة في أيام المتوكّل؟ ".
ــ " لقد اشتد الأمر وعظمت المحنة في أيام المتوكّل العباسي، فكان بغض علي وشيعته يأكل قلبه كما تأكل النار يابس الحطب، وكان لا يذوق طعم الراحة ولعلي(عليه السلام) ذكر في الوجود، ولشيعته مجتمع زاهر بالعلم محتفظ بكرامته، مستقل بمواهبه، منصل عن الدولة. وقد تتبع العلويين حتّى حطّ من كرامة أهل البيت. ولم يسمح لأي أحد أن يذكرهم بخير ".
ــ " المتوكّل يفعل كُلّ هذه الأفاعيل؟ ".
ــ " ولِمَ لا، وقد فعل أتعس منها آباؤه الأشاوس والذين ظلت كتبنا الدراسية تمجّد أفعالهم وتشيد بصنائعهم.. ونحن كالغفّل لا ندري أين ضاعت مستندات تاريخنا ووثائق أيامنا.. فيدلنا عصر المتوكّل ومن خلال كُلّ ما يمكن ملاحظته في زمانه، على شدّة بغضه وتحامله على أهل البيت وأنصارهم.. أو حتّى من ينبس ببنت شفة بشيء من مناقبهم! ".
ــ " هل يمكن أن تمثّل لي بمثال ما؟ ".
ــ " إنّ نصر بن علي الجهضمي حدث بحديث عن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أ نّه أخذ بيد الحسن والحسين وقال: "من أحبّني وأحب هذين وأباهما وأُمهما كان معي في درجتي يوم القيامة"، فأمر المتوكّل بضربه ألف سوط إلى أن كلمه جعفر بن عبد الواحد بأنّ نصراً لم يكن شيعياً وإنّما هو من أهل السنّة، فضرب خمسمائة سوط
ــ " ويحدثنا المقريزي: إن يزيد بن عبد اللّه أمير مصر، أمر بضرب جندي تأديباً لشيء صدر منه، وعندما أحس الجندي بألم الضرب، أقسم على الأمير بحق الحسن والحسين أن يعفو عنه، فأمر الأمير بضربه ثلاثين سوطاً جزاء لهذا القسم، وكتب إلى المتوكّل في بغداد يخبره بخبر الجندي، فورد الكتاب على يزيد يأمره بضربه مئة سوط وحمله إلى بغداد "(1).
بينما تابع حديثه وهو يقول:
ــ " ولعل النطع والسيف كانت خاتمة المطاف لذلك الجندي. وأمر بضرب أحمد بن محمّد بن عاصم صاحب خان عاصم ألف سوط، لإتهامه بسب الشيخين حتّى مات ".
ــ "؟! ".
ــ " قال في الحضارة الإسلامية نقلاً عن المنتظم: وكانت الحكومة إذا أرادت أن تعاقب شيعياً لمذهبه لم تذكر اسم علي، بل يجعل سبب العقوبة أ نّه شتم أبابكر وعمر ".
ــ " إنّها صور ماكرة لعوب! ".
ــ " وما أكثر من عوقب بهذه الوسيلة. ولكن أنصار المتوكّل وحزبه الذين يرون البغض لعلي وشيعته يقربهم إليه زلفاً. نالوا بذلك إربهم في الدنيا وعقابهم في الآخرة ".
ــ " وإذن، فعصر المتوكّل ".
____________
1- تاريخ بغداد 4: 153.
ــ " وكيف كان للشيعة أن تتحرك لنصرة أَهل البيت؟ ".
ــ " لقد مرت الأدوار، وتعاقبت الأيام، والشيعة يلاقون الأذى ويخوضون غمار الحروب ويواجهون المصاعب، ويتجرعون من ولاة الأمر ضروب المحن، كُلّ ذلك في سبيل نصرة آل محمّد(عليهم السلام) ونشر مذهبهم على وجه البسيطة، وما دفعهم إلى تحمل ذلك إلاّ حبهم لآل محمّد، وامتثالهم لأوامر النبيّ في المحافظة عليهم ووصاياه المتكررة باتباعهم. ويكفيك، مضافاً إلى كُلّ ما سمعت من الأدلة القاطعة، نص الوراثة. فإنّه ليعد وحده حجة اللّه البالغة والأكيدة! ".
ــ " حديث الوراثة، حدثني به رجاءً؟ ".
ــ " لا ريب في أنّ رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) كان قد أورث علياً من العلم والحكمة، ما أورث الأنبياء أوصياءهم، حتّى قال (صلى الله عليه وآله وسلم): "أنا مدينة العلم وعليٌّ بابها، فمن أراد العلم فليأت الباب ".
ــ " حتّى كان للشيعة أن يذودوا عن هذا الباب لأ نّه يؤدي إلى الرسول نفسه.. أليس هكذا اعتقادهم؟ ".
ــ " بلا شك، ولقد بذل الشيعة كُلّ ما في وسعهم لنصرة أهل البيت الذين
ــ " وكيف كان زمان إمام الشيعة الحادي عشر؟ ".
ــ " كان الإمام العسكري قد جلبه المتوكّل مع أبيه علي الهادي إلى سامراء، وما زال مع أبيه إلى أن التحق أبوه بالرفيق الأعلى وبقي العسكري مدّة إمامته القصيرة في سامراء (ست سنين) في نكد وأذى، وانفرد بعد أبيه بما يقصده به العباسيون من الإساءة والغض من مقامه، والتضييق عليه بالسجن إلى أن اغتاله المعتمد العباسي بالسمّ في سامراء لثمان خلون من ربيع الأول سنة 260 هـ ".
ــ " أووه..! ".
ــ ".. ودفن مع أبيه في دارهما حيث قبرهما الآن، وكان عمره الشريف ثمان وعشرين سنة ".
ــ " وكيف كان انتشار مذهب أهل البيت في ذلك العهد؟ ".
ــ " وفي ذلك العهد، كان مذهب أهل البيت ينتشر في البلاد الإسلامية، أصبحت قم من عواصم العلم للشيعة وفيما من رواة حديث أهل البيت عدد كثير، ومن المؤلفين في الحديث والفقه وفنون العلم جم غفير، وكذلك الكوفة وبغداد والمدائن وسامراء والشام عاصمة الأمويين كما سيأتي بيانه ".
ــ " أقول: هل تعتقد بأنّ الشيعة التزمت حبّ أهل البيت والتعبد على