الفصل الثالث والعشرون
هشام بن الحكم وإعجابي بنبل قريحته
وبعد مضي عدة أيام، صرت أخلو بنفسي كثيراً، وأصير إلى التفكير بكُلّ ما يمس قضية التشيع ولوحدي، وكأ نّي قد جعلت أغامر باللعب في الساحة ولوحدي ومن دون أيّما مدرب.. كنت أتأمل وأحاول الاعتماد على نفسي.. وهو المستمد من الاعتماد على قدرة اللّه في هدايتي وإرشادي إلى سواء السبيل.. وإعلامي أي الطرق أحق أن تتبع!.. وكنت أدعو اللّه بهذا الدعاء، وأردده بين الفينة والأُخرى، حتّى كأنه صار حرزاً لا يزايلني رسم حروفه المضيئة، ولا تسابيح همساته الإلهية:
ــ " اللهم أرنا الحق حقاً وأرزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعلهما علينا متشابهين، فنتبع هوانا بغير هدى منك يا ربِّ العالمين ".
وما كان إلاّ اللّه أن يعيّن مثل هؤلاء الخلفاء ومن قبل أن ينطق باسمائهم محمّد بن عبد اللّه، لأ نّه هو نفسه يقول: { إِنّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنّا لَهُ لَحافِظُونَ }(1)، وهو الذي ما كان له أن يعرض لصراع السقيفة الذي لا يمكن أن يقبل به، أو يرتضي به أيّما عاقل.. ولقد مرت أيام وأيام كنت بعدها أُصغي إلى حديث طلال، وهو يقصّ عليّ مجمل الرواية:
____________
1- الحجر: 9.
قال: أسمع بها الصوت. قلت: ألك قلب؟ قال: نعم. قلت: فما تصنع به؟ قال: أميّز به كُلّما ورد على هذه الجوارح والحواس. قلت: أوليس في هذه الجوارح غِنىً عن القلب؟ فقال: لا. قلت: وكيف ذلك، وهي صحيحة سليمة؟ قال: يا بني، إن الجوارح إذا شكّت في شيء شمته، أو رأته، أو ذاقته، أو سمعته، ردّته إلى القلب، فيستيقن اليقين، ويبطل الشك. فقلت: فإنّما أقام اللّه القلب لشك الجوارح؟ قال: نعم. قلت: لا بدّ من القلب والاّ لم تستيقن
لقد تحدثت إلى كثيرين، وتحدث إليّ كثيرون، وكانت إحدى هذه اللقاءات العلمية تشتمل على ما نطق به سلمان! وهو ابن أحد تجار القطن المشهورين، هو الحاج فائق عبد المنعم.. كان سلمان هذا مترجماً للغة الفرنسية! ولقد رأيته متبحراً في هذا الموضوع مما دعاني إلى التفكير أولاً، والاعتقاد أخيراً بأنّ هذه المواضيع العقائدية لا تختص بشخص دون آخر.. ولا تهتم باختصاص دون آخر، فكُلّ من كان له عقل وقلب يرى بهما، فإنّه حريٌّ به أن يناقش عقيدته التي يتعبد على ضوء أحكامها.. وأن يراجع نفسه وما تنتمي إليه وتعتقد به بين الفينة والأُخرى.. كما له أن يحاسب نفسه كُلّ ليلة حين يأوي إلى فراشه، وذلك كيما يتأكد أ نّه على الجادة السواء وسبيل الصراط الأقوم.. ولا يطيش لبّه في غد، بين يدي ربِّ قوي متين.. فيقول له: لم يتسن لي الوقت كيما أراجع ما أعتقد به، أو المذهب الذي انتميت إليه، أو بالأحرى الذي جعلاني عليه أبي وأمي.. كما جعلا أبوا كُلّ مسيحي ويهودي ومجوسي عليه أولادهما.. فيهوّدانه، وينصّرانه، ويمجّسانه، ويمذهبانه بالتالي! حتّى كان قد وصل بنا الحديث إلى هذه المقتطفات المستلقية على
ــ " وخلاصة الأمر ".
قالها سلمان فائق، وتابع حديثه مستدركاً، وهو يقول:
ــ " لقد ظهر لنا أن العامل الأساسي لتكوين الالتزام بمذهب معين، والترخص في استنباط الأحكام الشرعية إنّما هو السلطة، وأن بقاء هذه المذاهب إنّما يكون بتلك الوسائل المشجعة، حتّى كثر أنصارها ".
ــ " وإذن، فأنت تقول إنّه لو قدرت عوامل الانتشار لغيرها من المذاهب مثل مذهب سفيان الثوري وغيره، لكانت مقبولة عند من ينكرها ".
ــ " بالتأكيد، ولكنها عدمت رعاية السلطة، فمحيت من الوجود إذ لا قابلية لها في ذاتها على البقاءبقوتها الذاتية ".
ــ " هل يمكنك أن تضرب على ما تقول بعض الأمثلة؟ ".
ــ " المذهب الحنفي! ".
ــ " أجل! فلقد كان هذا المذهب، وفي العصر العباسي: المذهب الذي ترجع إليه الدولة في مهمات التشريع، ورئاسة القضاء بيد أهل الرأي، لم يشاركهم إلاّ القليل من سائرالمذاهب ".
ــ " وبعد انقراض الدولة العباسية؟ ".
ــ " وبعد انقراضها، اعتنق المذهب سلاطين الأتراك ".
ــ " ولماذا اعتنقوه؟! ".
ــ " وذلك، لأ نّهم وعندما أرادوا انطباق اسم الخلافة الإسلامية عليهم، لأنّ من شروطها: أن يكون الخليفة قرشياً، طبقاً للحديث: الخلافة في قريش والحنفية لا يشترطون هذا الشرط ".
ــ " وإذن، فإنّ أول من تولّى الخلافة الإسلامية من غير قريش ".
ــ ".. هو السلطان سليم الفاتح ".
ــ " وصحح الحنفية هذه الخلافة ".
ــ " تماماً، وحجتهم أن الخليفة يتولى الخلافة بخمسة حقوق ".
ــ " وما هي هذه الحقوق؟ ".
ــ " أما الحق الأول، فهو: حق السيف ".
ــ " والثاني؟ ".
ــ " والثاني هو: حق الانتخاب ".
ــ " والحق الثالث؟ ".
ــ " وما هو الحق الرابع؟ ".
ــ " أما الرابع فهو: حق حماية الحرمين ".
ــ " وإذن، فلم يبق سوى الخامس؟ ".
ــ " أجل، وما كان هذا الأخير إلاّ: حق الاحتفاظ بالأمانات ".
ــ " وما هي هذه الأمانات؟ ".
ــ " وهي المخلفات النبويّة المحفوظة في الاستانة ".
ــ " وماذا يقولون هم بصددها؟ ".
ــ " إنّهم يقولون: إن الآثار النبوية سلمت من اغتيال التتر في بغداد، فحملها الخليفة العباسي إلى القاهرة حتّى نقلها السلطان سليم إلى القسطنطينية في صندوق من الفضة وهي البردة النّبوية، وسنّ من أسنان النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، وشعرات من شعره ونعاله، وبقية من العلم النبوي، وأناء من حديد و ".
ــ " وبعد.. أراك توقفت عن الكلام؟! ".
ــ ".. وجبّة الإمام أبي حنفية ".
ــ " أووه جبّة الإمام؟! ".
ــ " أراك تعجبت لجبة الإمام ولم تتعجب لكُلّ ما أوردته عليك من أسماء أشياء ونفائس تتعلق برسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ ".
فقلت له:
ــ " لا، لم أقصد هكذا، بل إنّي تعجبت من عصبية القوم لمذهب من اعتنقوا مذهبه ".
ــ "؟! ".
ــ " كتاب التمدن الإسلامي، ج 1، ص 109 ".
ــ " وبهذا الشكل سارت عوامل انتشار المذاهب مع السياسة جنباً لجنب ".
عندها قال:
ــ " نعم! إذ إن الرغبة فيها، كانت منوطة بالقضاة ورغبة السلطة، حتّى كثر التحول من مذهب إلى مذهب تقرباً للسلطان وطلباً لرفده ".
ــ " وهل تحول البعض في تقليدهم من مذهب إلى آخر، خدمة لأغراضهم الدنيوية، وفوزاً بأسباب الحياة المادية؟ ".
ــ " وكيف لا! فلقد تحول كثير من الشافعية إلى الحنفية لأجل الدنيا ".
ــ " هل لك أن تذكر لي ما يحكي لي شيئاً عن مثل هذا الأمر؟ ".
ــ " لقد كان الأمير بلبغا ابن عبدالله الخاصكي الناصري الأمير الكبير صاحب النفوذ والصولة، لقد كان هذا الرجل يتعصب لمذهب أبي حنفية، ويعطي لمن تحول إليه العطاء الجزيل ".
ــ " العطاء الجزيل؟! ".
ــ ".. ورتب الجامكيات الزائدة، وحاول في آخر عمره أن يجلس الحنفي فوق الشافعي ".
ــ " أقول: أين قرأت هذا؟ ".
ــ " قرأته في كتاب شذرات الذهب: ج 6، ص 213 ".
ــ " وهل قيل الشعر في بعض هذه المناسبات؟ ".
ــ " نعم، لقد قيل الشعر كذلك! فإنّه لما انتقل أبو البركات الحنفي إلى
ألا مبلّغ عني الوزير رسالة | وإن كان لا تجدي إليه الرسائل |
تمذهب للنعمان بعد ابن حنبل | وذلك لما أعوزتك المآكل |
وما اخترت رأي الشافعي تديناً | ولكنما تهوى الذي هو حاصل |
وعمّا قليل أنت لاشك صائر | إلى مالك فافهم لما أنا قائل " |
ــ " أقول: أخبرني بالمصدر؟ فهذا الآخر، أين غنمته؟! ".
ــ " لقد وجدته في كتاب مرآة الجنان: ج 4، ص 34 ".
ــ " حقاً.. مرآة الجنان؟! ".
ــ " وهذا أبو بكر البغدادي الحنبلي تحول شافعياً لأجل الدنيا، وولّي القضاء، وكان أبو المظفر يوسف بن قرغلي سبط ابن الجوزي حنبلياً نقله الملك المعظم إلى مذهب أبي حنيفة ".
ــ " وهذا الخبر الآخر..؟! ".
ــ " وهذا الآخر أيضاً، هو موجود في شذرات الذهب: ج 5، ص 267 وكثير غيرهم ".
ــ " عجيب حقاً! ".
ــ " وخلاصة القول: إنّ تلك الوسائل المشجعة للمذاهب الأربعة دعت الناس إلى الرغبة فيها والاعراض عمّا سواها. كما دعت أكثر الفقهاء الذين لهم أهلية الاستنباط أن يجمدوا على تقليد السلف، وتعطيل موهبة الاجتهاد ".
ــ " هل يمكنك أن تثبت ادّعاءك الآخير هذا؟ ".
ــ " وكيف لا! قال الشيخ أبو زرعة: قلت مرة لشيخنا البلقيني ما يقصر
فتبسّم ووافقني.
ــ " ومن هنا قوبل مذهب أهل البيت بتلك الهجمات العنيفة والحملات الظالمة ".
ــ " بالضبط! وأصبح الشيعة المتمسكون بمذهب أهل البيت عرضة لكُلّ خطر، وغرضاً للتهم، وأصبح الشيعي في نظر اتباع السلطة خارجاًعن الإسلام، مفارقاً جماعتهم ".
ــ " لأ نّهم ثبتوا على الاعتقاد بالاجتهاد، وبضرورته! أليس كذلك؟ ".
ــ " نعم!.. ولكن الشيعة ثبتوا على أخذ تعاليم الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في أحكام الإسلام من طريق أهل البيت، لأ نّهم عدل القرآن والتمسك بهم من دعائم الإسلام ففي اتّباعهم الهدى وهم كسفينة نوح وباب حطة ".
عندها ابتدرته بلهجة متحمسة:
ــ " وأنا لا أدري مع أي الفريقين أبحث لي عن مكان ومقعد ".
ــ " وبذلك تحملوا كُلّ ما تحملوه، في سبيل المحافظة على وصاية النّبي في آله وساروا على نهجهم وبقي باب الاجتهاد مفتوحاً على مصراعيه، ومدرستهم مستقلة عن تأثير السلطة ".
الفصل الرابع والعشرون
أنا وسمير، والأرض وضوء الشمس والقمر
وذات يوم، بعد مضي ما يقرب من الشهر شاهدت سميراً، وإذا به ينفتل، وقد تفجرت عيونه بغيظ حانق، وطفح وجهه بلهب دام، وكأنه لم يقنع بما قلته له، بل إنّه وجد مثل هذه، فرصة هامة، كيما يفرغ ما في جعبته من عُقَد وآلام، فيصبّ جامّ غضبه ـ الذي كان يقرر أن يصبه على أخيه الكبير ـ علي أنا نفسي حتّى يفرغ كاملاً في رأسي ويتخم به جمجمتي.. فساءلني والدهش يريم على محياه، ومن دون أن تدهش حروف خطابه:
ــ " أما أ نّي هذه المرة، فلقد سمعت بأنك قد شددت عزمك على التشيع وبشكل نهائي،.. تريد أن تستبصر، قررت حتمياً؟! ".
قلت له:
ــ " ومن أخبرك؟ ".
ــ " لم يخبرني أحد.. أن تصرفاتك لتوحي بأكثر من هذا.. ".
ــ " دعك من عناء الخبل.. ".
ــ " إنه ليس بخبل، تريد أن تترك حصيلة جهود آبائنا ".
لم يثرني كلامه، بمثل ما أثارني اللحظة، وكأ نّي لم أتحدث إليه ومن قبل الشهر.. ولم أتناقش معه أو أجاذبه أطراف حديث ومناظرة جادة.. عقلية، علمية، حتّى صرت التفت إليه، أحاول أن أوقظ لمحة من المشاعر في جبينه،
ــ " إنّي لم أفكر بذلك قط، إن ما أهتم له هو أن أحصل على يقين ما.. وتذكر أن الآباء ليسوا بمسؤولين عمّا تفعل الآن، لأ نّهم يُدانون على ما أغذونا إياه.. فإنّ كان سقيماً كان حصادهم كذلك، وإن كان غير ذلك كان غيره.. ".
ــ " هل تدينهم؟! ".
ــ " كلا.. أبداً، وهذا في حال أن يلفوا معنى سعيهم الجاد والحثيث كاملاً، دون أيّما تهاون أو تكاسل ".
ــ " ماذا تقصد؟ ".
ــ " أقصد أ نّهم هل بذلوا كُلّ جهدهم في هذا المضمار ".
ــ " وهل بلغ الآباء من الشيعة مع أبنائهم كُلّ جهدهم..؟ إنّي لا أعتقد أنّ أحداً منهم يهتم لحديثنا، بقدر ما يهتم بالاستمرار على دين آبائه من دون الإبحار في مسالك البحث والدرس كُلّ ما ورثه عنهم.. ".
ــ " لا عليك! لا تهتم بهذا، علينا أن نفهم ما يتعلق بنا نحن ".
ــ " ولماذا كان عليهم أن يتمسكوا بكُلّ ما ورثوه عن سلفهم، ونحن ليس لن فعل مثل ذلك، بل إنّي أشرع بأنّ عقيدتهم تملي عليّ ما يرغمني على التخلي عمّا اعتقد به عنوة.. ".
تطلعت إليه، وأنا أشعر بأنّ هذا الشاب يمر في مرحلة صعبة.. دعوته الى الجلوس، فرفض، طلبت منه أن نخرج معاً إلى الطريق الذي يحيط بالمكان، فاستجاب بعد تردد.. بعدها سألته:
ــ " إنّي لا أتصور بأ نّك لا ترغب في أن تحمل شيئاً، لم يحمله أحدٌ من أجدادك قبل اليوم ".
ــ " إنّك بخصالك هذه تذكرني بحالات الطفولة التي تحبس أنفاسنا عند اكتظاظها بطعنات الخوف والتردد.. فلا يكاد بنا أن نبصر شيئاً أو أن نسمح لأنفسنا بالنظر إلى ملمح ما حتّى كان لنا أن نطلب الإذن من آبائنا أو أُمهاتنا، أو ممن يكبرنا.. ".
قاطعني:
ــ " وهل في ذلك من شك في صحته؟ ".
ــ " كلا، البتة. ولكن لكُلّ مقام مقال، ففي ذلك الزمان كنت تحتاج فيه إلى استشارة حقيقية، وإلى عدم المرور من أمام أي شيء حتّى تذكر نصيحة من جاوزك في الشيء، وإشارة من فاقك في العلم وبزّك في الباع والقدرة.. بل إنّك لتحتكم إلى عقله، ولتدرك عندها أنك لا تساوي شيئاً من دونه، لأ نّك تستفيض من ينابيعه الثرة.. من كان أحدهم إلاّ ليمثل لك صورة تحكي مقاليد المثل الذي تقتدي به و.. وتظن أن كُلّ ما يقولونه هو عين الصواب.. هذا ما من ورائه أيّما شك.. إلاّ أنك حينما تكبر وتستفيد ثقتك بنفسك بك، بل.. تكتسب التجارب الكثيرة، وتستقطب روح الأعمار على النفس. البتة من دون التمرد على طلعات تلك الأعوام المتصرمة، أو تشيح بوجهك عنها وتتنكر لمن علمك حرفاً، ولمن رعاك طوال هذه المدة، وحفلت به كُلّ هذه الأعوام حتّى كلأك وحرصك على أن يبلغ بك مقاصد السبيل التي لا ينكر أحد صدق ضرورة التشوف إليها.. ولكن! ".
ــ " ولكن.. ولكن ماذا؟! ".
ــ " عليك أن تدرك أن أباك مثلما جعل منك روحاً تتحرك بفعل نسمات
ــ " لأ نّه ورثها عنهم، فما كان له أن يعود ليسألهم من جديد عنها، أيصح منه الاتيان بمثلها أم تجاوزها دون أحالة ذهنه إلى قبض التردد وحرارة الاستفسار المتوالد حديثاً؟".
ــ " فهل تعني أ نّه قد قلدهم؟ ".
ــ " نعم! ".
ــ " ولماذا؟ ".
ــ " لأ نّهم محصوا الأُمور حتّى تلقوها عن وعي، فما كان من يأتي بعدها إلاّ أن يتلقاها عنهم مضغة سائغة دون احتياجه إلى أعادة تمحيصها وأعمال الفحص عنها واجراء سلسلة من الاختبارات مما لا يقع تحتها أيّما طائل ".
ــ " من تقصد هؤلاء الذين محصو الأُمور، وتلقوها عن وعي.. أتعني أبا أبيك، جدك! لأنك إن قصدته، ما كان لك إلاّ أن تقدس أباه هو الآخر، وإن
فقلت له:
ــ " أرأيت! إن كُلّ من كان من آبائنا وأجدادنا.. كان قد سار على منوال سبقه إليه الأباء إلى اقتفاء أثره، ومن قبله.. فلم يحقق فيه، ولم يجشم نفسه عناء الضلوع بدراسة ما يدين به أو يعتقده مما كان قد توصل إليه بالوراثة! أفلا يخلق بهم، وبنا حينما يصل إلينا شيئاً من هذا الإرث إلاّ أن نتوقف حياله قليلاً، وننظر إلى ما ينفعنا منه.. فلماذا لا ترتدي ثياب أجدادك المتوفين، أو لا تعمد إلى الاستفادة من أشياء الذين ماتوا منهم، أو لبس ملابس أبيك بعد رحيله، أو أخيك أو..، بل إن نفسك لتقشعرّ فزعاً، حينما تخال عقلك قد لاءمه مثل هذا التفكير، أو أنغمس في مثل هذا الاعتقاد الشائه غير السائغ! حتّى تضغط على أفكارك، تغالبه من خلالها، أملا منك في أن لا يراجعك بمثله، أو يلاحيك رجاء أن يقنعك بضرورة استخدام ولبس كُلّ ما كانوا قد أبلوه.. معذرة! كُلّ ما كانوا قد استعملوه، وبقي على حاله، لم يمسسه أيّما سبب يمكن أن يحيله إلى حالة من الرثة، يمكن أن تصيبه.. فهو كما لو كانوا وللتو قد أحضروه إليك من السوق.. جديداً بعلبته. فلماذا تتقزز نفسك من مثل هذه الأشياء؟.. أ لأنّها تتعلق بأموات ليس لهم أن يرجعوا إلاّ باذن اللّه، بعد أن يصبح رفاتهم رميماً تحت التراب، تتآكله سباع بطون الأرض الناميات كالنمل المحشور في بطون التراب دون أن يتعين عليك مراقبة ممراته التي يسلكها، وخلاياه التي يأوي اليها ".
فقال لي:
ــ " أرأيت كيف غابت عنك أشياء وأشياء، حتّى إذا ظننت أنك أجبت بشيء ما تعتقد به أ نّه يطفيه ظمأك تخليت عن التفكير في أصل المسألة مطلقاً.. ".
ــ " كيف.. وإنك تخبرني بأنا قد أعتقدنا بأن جسد الميت يصبح رميماً بعد مضي فترة من الزمان عليه، لأنّ هوام وحشرات الأرض ستكون قد أتت على بدنه.. وما كان لنا أن نبحث في هذا الأمر بأنفسنا لانا قد وعيناه عن طريق آخرين.. سعوا سعيهم دوننا، أوكان لنا إلاّ أن نلتقط عثرات مساعيهم إلاّ عن طيب رضا منهم وسعادة خاطر. لأنّ من مثل ذلك ما كان ليحصيه علينا كما يحصي أحدهم على غيره، إنّهم يستحلبون ثمرات جهده وبالمجان! ".
ــ " أجل، لأنّ من مثل ذلك له أن يصبح أمراً من المسلمات والبديهيات التي صادق عليها المعلم التجريبي والإلهي معاً ".
ــ " وإذن، فأنت قد أقتنعت بما قلت، ومن حيث لا تدري، فإذا بك تستيقظ من حلم كنت قد شعرت بأنّ زمانه ليس له أن ينقضي.. وإذا به ينقضي، وها أنت تراه قد تصرم بفنون لحظاته التي ما ظننتها إلاّ ساعات وأيام بل سنين طويلة.. وإذا بي أجده لا يستشعر الطمأنينة إلى انتصاره، بل إن نفسه لتكاد تهجس، كما لو تنتصر من دون أن تستشعر طعم النصر الحقيقي، لأ نّها ما كانت لتستلذ بنكهته، وذلك حينما أحسّت بأ نّها لا تمتلك حقائق استحقاقه،
ــ " إذن، فإنّي لا ألومك على ما تحمل من أفكار لأ نّي لا ألومك، كذلك على ما تحمل من عقلية.. غير أ نّي أكاد التقط منك ضياءات حسية تكاد
قاطعته:
ــ " إنّي أنا لا أدعي ذلك، إنّما العلم هو الذي يحكي هذا ".
أضاف وهو يستدرك كلامه، ومن دون أن يعلق على تنويهي، فقال:
ــ " كذلك، أعتبرت نفسي مثل هذا القمر حينما يتلقط ضوء الشمس الواقع عليه.. فإنّي صرت التقط من لسانك ما يعين عقلي على مجاراة علميتك ومضارعة أسباب أدلتك العقلية واستنتاجاتك المنطقية ".
ــ " لذا، فأنت تعترف بأنّ آباءنا كانوا يعكسون ما يعكسون بالمقدار الذي تطوفه خلايا مخاخهم، وما يعد بالتالي عمّا تعكسه قدراتهم التي رزقهم اللّه ومنحهم إياها دون إذن يكون لهم أيّما سبب في عكس هذه الـ 7%.. ولو كان بوسعهم أن يعكسوا أكثر من هذا، لكانوا قد فعلوا، وإن اللّه لا يكلف نفساً إلاّ وسعها.. ".
قاطعته أنا الآخر هذه المرة:
ــ " وإذن، أنت الآخر صرت تغذوني بالادلة التي صرت أتحسس لونها، وأتشمم رائحتها، بل أتفقد طعمها وأستذوقه، ومن حيث لا تشعر.. فإنّك كذلك تدين نفسك بنفسك.. ولا تريد أن تصبح كهذه الأرض التي تتحرك أنت على سطحها ".
ــ " ولماذا أصبح كهذه الأرض، إنك تثيرني بهذه الأعاجيب من الأجوبة التي لا أكاد أظن بأنك تعتقد بها داحضة لاغمة.. ".