فقام جابر بن عبد الله فقال: وما عدّة الأئمة؟ فقال: يا جابر سألتني ـ يرحمك الله ـ عن الإسلام بأجمعه، عدّتهم عدّة الشهور وهي عند الله اثني عشر شهراً في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض، وعدّتهم عدّة العيون التي انفجرت لموسى بن عمران عليه السلام حين ضرب بعصاه البحر(4) فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً، وعدّتهم عدّة نقباء بني اسرائيل.
قال الله تعالى: {ولقد أخذ الله ميثاق بني اسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيباً}(5)، والأئمة يا جابر اثنا عشر، أوّلهم عليّ بن أبي طالب وآخرهم القائم صلوات الله عليهم أجمعين(6).
وعن سلمان الفارسي رحمه الله قال: قال النبي صلّى الله عليه وآله: يا سلمان من أحبّ فاطمة فهو في الجنّة معي، ومن أبغضها فهو في النار، يا سلمان حُبّ فاطمة ينفع في مائة من المواطن أيسر تلك المواطن الموت، والقبر، والميزان، والحشر،
____________
1- في "ج": يتمسّك.
2- في "ب" و "ج": فليقتد.
3- أثبتناه من "ج".
4- في "ب": الحجر.
5- المائدة: 12.
6- مائة منقبة: 94 ح41; وفي البحار 36: 263 ح84 عن كشف اليقين.
وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله: خلق الله من نور وجه عليّ بن أبي طالب سبعون ألف ملك يستغفرون له ولمحبّيه إلى يوم القيامة(2).
وفي رواية عن جابر، عنه عليه السلام انّه قال: إذا كان يوم القيامة يجمع الله الأوّلين والآخرين لفصل الخطاب، ودعا رسول الله صلّى الله عليه وآله ودعا بأمير المؤمنين عليه السلام، فيكسي رسول الله صلّى الله عليه وآله حلّة خضراء يضيء لها ما بين المشرق والمغرب، ويكسي عليّ مثلها، ثمّ يُدعى بنا فيدفع إلينا حساب الناس، فنحن والله نُدخل أهل الجنّة الجنّة، ونُدخل أهل النار النار.
ثمّ يُدعى بالنبيّين عليهم السلام فيُقامون صفّين عند عرش الله عزوجل حتّى يفرغ من حساب الناس، فإذا دخل أهل الجنّة الجنّة وأهل النار النار بعث الله ربّ العزّة تبارك وتعالى عليّاً فأنزلهم منازلهم في الجنّة وزوّجهم، فعليّ والله يزوّج أهل الجنّة في الجنّة، وما ذاك إلى أحد غيره كرامة من الله عزّ ذكره، وفضلا فضّله به ومَنّ به عليه، وهو والله يدخل أهل النار النار، وهو الذي يغلق على أهل الجنّة إذا دخلوا فيها أبوابها، لأنّ أبواب الجنّة إليه وأبواب النار إليه(3).
____________
1- مائة منقبة: 116 ح61; عنه البحار 27: 116 ح94; ومقتل الحسين عليه السلام للخوارزمي: 60.
2- مناقب الخوارزمي: 71 ح47; عنه كشف الغمة 1: 101; عنه البحار 39: 275 ح52; ومائة منقبة: 66 ح19; ومدينة المعاجز 3: 35 ح699 و700.
3- الكافي 8: 159 ح154; عنه البحار 7: 337 ح24.
وفي أماليه يرفعه إلى ابن عباس في خبر طويل فيه فضائل شتّى أخذنا منه بعضها، قال: انّ رسول الله صلّى الله عليه وآله كان جالساً ذات يوم إذ أقبل الحسن عليه السلام، فلمّا رآه بكى ثمّ قال: إليّ إليّ يا بني، فما زال يدنيه حتّى أجلسه على فخذه اليمنى، ثمّ أقبل الحسين عليه السلام، فلمّا رآه بكى ثمّ قال: إليّ إليّ يا بني، فما زال يدنيه حتّى أجلسه على فخذه اليسرى.
ثمّ أقبلت فاطمة عليها السلام فلمّا رآها بكى ثمّ قال: إليّ إليّ يا بنيّة، فأجلسها بين يديه، ثمّ أقبل أمير المؤمنين عليه السلام، فلمّا رآه بكى ثمّ قال: إليّ إليّ يا أخي فما زال يدنيه حتّى أجلسه إلى جانبه الأيمن، فقال له أصحابه: يا رسول الله ما ترى واحداً من هؤلاء إلاّ بكيت، أما فيهم من تسرّ برؤيته؟
فقال صلّى الله عليه وآله: والذي بعثني بالحقّ واصطفاني على جميع البريّة إنّي وإيّاهم لأكرم الخلق على الله عزوجل، وما على وجه الأرض نسمة أحبّ إليّ منهم، أمّا عليّ بن أبي طالب فهو أخي وشقيقي، وصاحب الأمر من بعدي، وصاحب لوائي في الدنيا والآخرة، وصاحب حوضي وشفاعتي، وهو إمام كلّ
____________
1- في "ج": عن يسار العرش.
2- أمالي الصدوق: 98 ح1 مجلس 24; عنه البحار 43: 261 ح3.
وأمّا ابنتي فاطمة فإنّها سيّدة نساء العالمين من الأوّلين والآخرين، وهي بضعة منّي، ونور عيني، وثمرة فؤادي، إذا قامت في محرابها زهر(2) نورها للملائكة، فيقول الله عزوجل: يا ملائكتي اُنظروا إلى أمتي فاطمة سيّدة إمائي قائمة بين يدي، ترتعد فرائصها من خيفتي، وقد أقبلت بقلبها على عبادتي، أشهدكم انّي قد آمنت شيعتها من النار، وانّي لمّا رأيتها ذكرت ما يُصنع بها بعدي، وكأنّي بها وقد دخل الذلّ بيتها، وغُصب حقّها، وكسر جنبها، وأسقطت جنينها(3)، وهي تنادي: "يا محمّداه" فلا تُجاب، وتستغيث فلا تُغاث.
وأمّا الحسن فهو منّي وولدي، وقرّة عيني، وضياء قلبي، وثمرة فؤادي، وهو سيّد شباب أهل الجنّة، وحجّة الله على الاُمّة، أمره أمري، وقوله قولي، ومن تبع قوله فهو منّي، ومن عصاه فليس منّي، وإنّي لمّا نظرت إليه فذكرت ما يجري عليه من الذل بعدي، فلا يزال بالأمر حتّى يُقتل بالسم عدواناً وظلماً.
وأمّا الحسين فهو منّي، وهو ابني وولدي وخير الخلق بعد أبيه(4)، وهو إمام المسلمين، ومولى المؤمنين، وخليفة ربّ العالمين، وحجّة الله على خلقه أجمعين، وسيّد شباب أهل الجنّة، وباب نجاة الاُمّة، أمره أمري، وطاعته طاعتي، وإنّي لمّا رأيته تذكّرت ما يُصنع به بعدي، كأنّي به وقد استجار بحرمي وقبرى فلا يُجار،
____________
1- أثبتناه من "ج".
2- في "ج": ظهر.
3- روى الشيخ الصدوق في معاني الأخبار ص205، عن علي عليه السلام عن رسول الله صلّى الله عليه وآله قال: يا عليّ انّ لك كنزاً في الجنّة وأنت ذو قرنيها...، ثمّ قال الشيخ الصدوق رحمه الله: وقد سمعت بعض المشايخ يذكر انّ هذا الكنز هو ولده محسن عليه السلام، وهو السقط الذي ألقته فاطمة لما ضُغطت بين البابين....
4- في "ج": بعد أخيه.
فيرتحل عنها إلى أرض مقتله، وموضع مصرعه، أرض كرب وبلاء، تنصره عصابة من المسلمين، اُولئك سادة شهداء اُمّتي يوم القيامة، ثمّ بكى رسول الله صلّى الله عليه وآله وبكى من حوله، وارتفعت أصواتهم بالضجيج، ثمّ قام عليه السلام وهو يقول: اللّهمّ إنّي أشكو إليك ما يلقى أهل بيتي بعدي، ودخل منزله(1).
[في خبر الحارث الهمداني]
وروى الشيخ المفيد عن الأصبغ بن نباتة قال: دخل الحارث الهمداني على أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام في نفر من الشيعة وكنت فيهم، فجعل ـ يعني الحارث ـ يتأوّد في مشيته ويخطّ الأرض بمحجنه(2) وكان مريضاً، فأقبل على أمير المؤمنين عليه السلام وكان له منه منزلة، فقال: كيف تجدك يا حارث؟
فقال: نال الدهر منّي يا أمير المؤمنين، وزادني أواراً(3) وغليلا اختصام شيعتك ببابك، فقال: وفيم خصومتهم؟ قال: في شأنك والبليّة من قبلك، فمن مفرط غال ومقتصد قال، ومن متردّد مرتاب لا يدري يقدم أم يحجم.
قال: فحسبك يا أخا همدان، ألا انّ خير شيعتي النمط الأوسط، إليهم يرجع الغالي وبهم يلحق القالي، قال: لو كشفت فداك أبي واُمّي الريب عن قلوبنا، وجعلتنا في ذلك على بصيرة من أمرنا، قال: أفانّك(4) أمر ملبوس عليك؟ انّ دين الله لا يُعرف بالرجال بل بآية الحق، فاعرف الحقّ تعرف أهله.
____________
1- أمالي الصدوق: 99 ح2 مجلس 24.
2- المحجن كالصولجان.
3- الأوارُ ـ بالضم ـ: شدّة حرّ الشمس، ولفح النار، ووهجها، والعطش. (لسان العرب)
4- في "ج": فإنّه.
ألا إنّي عبد الله وأخو رسوله وصدّيقه الأوّل، صدّقته وآدم بين الروح والجسد، ثمّ صدقّته [في اُمّتكم](2) حقّاً، فنحن الأوّلون ونحن الآخرون، ألا وأنا خاصّته باختصاصه يا حارث، وخالصته محمد نبيّه، وأنا وصيّه ووليّه وصاحب نجواه وسرّه، اُوتيت فهم الكتاب وفصل الخطاب وعلم القرون والأسباب(3)، استودعت ألف مفتاح يفتح كلّ مفتاح ألف باب، يقضي كلّ باب ألف ألف عهد.
واُيّدت ـ أو قال: واُمددت ـ بثلاثة، وإنّ ذلك ليجري لي ولمن استحفظ من ذرّيتي ما جرى الليل والنهار حتّى يرث الله الأرض ومن عليها، وابشرك يا حارث ليعرفني والذي فلق الحبّة وبرئ النسمة وليّي وعدوّي في مواطن: ليعرفني عند الممات، وعند الصراط، وعند المقاسمة، قال: وما المقاسمة يا مولاي؟ قال: مقاسمة النار، اُقاسمها قسمة صحاحاً، أقول: هذا وليّي وهذا عدوّي.
ثمّ أخذ أمير المؤمنين عليه السلام بيد الحارث ثمّ قال: يا حارث أخذت بيدك كما أخذ رسول الله صلّى الله عليه وآله بيدي فقال لي ـ واشتكيْت إليه حينئذ قريشاً والمنافقين ـ [فقال لي](4): انّه إذا كان يوم القيامة أخذت بحبل أو بحجزة(5)ـ يعني عصمة ـ من ذي العرش تعالى، وأخَذْتَ أنت يا عليّ بحجزتي، وأخذَ ذرّيتك بحجزتك، وأخذ شيعتكم بحجزتكم، فماذا يصنع الله بنبيّه، ومايصنع نبيّه بوصيّه؟!(6)
____________
1- في "ب" و "ج": خبّر به.
2- أثبتناه من "ج"، وفي "الف" و "ب" كلمة غير مفهومة.
3- في "ب": الأنساب.
4- أثبتناه من "ب" و "ج".
5- في "ج": بحبل الله أو بحجزته.
6- روى المحدث القمي رحمه الله في منتهى الآمال 2: 283 قال: حُكي انّ أبا عبد الله عليه السلام كان عنده غلام يمسك بغلته إذا هو دخل المسجد، فبينا هو جالس ومعه بغلة إذ أقبلت رفقة من خراسان، فقال له رجل من الرفقة: هل لك يا غلام أن تسأله أن يجعلني مكانك وأكون له مملوكاً وأجعل لك مالي كلّه؟ فإنّي كثير المال من جميع الصنوف، إذهب فاقبضه وأنا اُقيم معه مكانك. فقال: أسأله ذلك، فدخل على أبي عبد الله عليه السلام فقال: جعلت فداك تعرف خدمتي وطول صحبتي فإن ساق الله إليّ خيراً تمنعنيه؟
قال: أعطيك من عندي وأمنعك من غيري! فحكى له قول الرجل، فقال: إن زهدت في خدمتنا ورغب الرجل فينا قبلناه وأرسلناك، فلمّا ولّى عنه دعاه فقال له: أنصحك لطول الصحبة ولك الخيار، إذا كان يوم القيامة كان رسول الله صلّى الله عليه وآله متعلّقاً بنور الله، وكان أمير المؤمنين عليه السلام متعلّقاً بنور رسول الله، وكان الأئمة متعلّقين بأمير المؤمنين، وكان شيعتنا متعلّقين بنا يدخلون مدخلنا ويردون موردنا، فقال له الغلام: بل اُقيم في خدمتك واُؤثر الآخرة على الدنيا....
وقال رحمه الله مخاطباً أئمة الهدى ومصابيح الدجى:
عن حماكم كيف أنصرف | وهواكم لي به شرف |
سيدي لا عشت يوم أرى | في سوى أبوابكم أقف |
[في تأويل ما نزل فيهم عليهم السلام من الآيات]
وروى الشيخ الصدوق عن أبي جعفر محمد بن عليّ عليه السلام انّ سائلا سأله عن قول الله تعالى: {يا أيّها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول واُولي الأمر منكم}(2) وكان جوابه أن قال:(3) {ألم تر إلى الذين اُوتوا نصيباً من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا}(4) أئمة الضلال والدعاة إلى النار هؤلاء أهدى من آل محمد سبيلا.
{اُولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيراً * أم لهم نصيب من
____________
1- أمالي المفيد: 10; وأمالي الطوسي: 625 ح1292; عنه البحار 39: 239 ح28; ونحوه بشارة المصطفى: 4; ومعالم الزلفى: 69.
2- النساء: 59.
3- في "ج": فكان جواب قومه أن قالوا.
4- النساء: 59.
{أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله} نحن هؤلاء الناس المحسودون على ما آتانا الله من الإمامة دون خلق الله جميعاً {فقد آتينا آل ابراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكاً عظيماً} أي جعلنا منهم الرسل والأنبياء والأئمة {فمنهم من آمن به ومنهم من صدّ عنه وكفى بجهنّم سعيراً}(3).
قال وكذلك قوله تعالى: {جعلناكم اُمّة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً}(4) قال: نحن الاُمّة الوسط، ونحن شهداء الله على خلقه وحجّته في أرضه.
قال: فقوله تعالى في آل ابراهيم: {وآتيناهم ملكاً عظيماً} إذ جعل فيهم أئمة من أطاعهم أطاع الله، ومن عصاهم عصى الله، وهذا الملك العظيم(5).
وعن الشيخ الصدوق، عن الباقر عليه السلام انّه قال في قول الله تعالى: {ولو ردّوه إلى الرسول وإلى اُولي الأمر منهم}(6) قال: نحن اُولو الأمر الذين أمر الله بالردّ إلينا.
وعن الشيخ المذكور(7) عن رسول الله صلّى الله عليه وآله قال لعليّ بن أبي طالب عليه السلام: يا عليّ أنت والأوصياء من ولدك أعراف الله بين الجنّة والنار،
____________
1- النساء: 52-53.
2- النساء: 53.
3- النساء: 54-55.
4- البقرة: 143.
5- نحوه تفسير العياشي 1: 246 ح153; عنه البحار 23: 289 ح17.
6- النساء: 83.
7- في "ج": يرفعه الشيخ المفيد رحمه الله إلى سليم بن قيس الهلالي.
[خبر النصراني الذي كان من ولد حواري عيسى عليه السلام]
يرفعه الشيخ المفيد رحمه الله إلى سليم بن قيس الهلالي قال: لمّا أقبلنا من صفين مع أمير المؤمنين عليه السلام نزل(2) قريباً من دير نصراني إذ خرج علينا شيخ من الدير جميل الوجه، حسن الهيئة والسمت، ومعه كتاب في يده حتّى أتى إلى أمير المؤمنين عليه السلام فسلّم عليه [بالخلافة](3)، ثمّ قال: إنّي رجل من ولد حواري عيسى بن مريم، وكان أبي أفضل حواري عيسى عليه السلام الاثني عشر، وأحبّهم إليه وآثرهم عنده.
وانّ عيسى أوصى إليه ودفع إليه كتبه وحكمته، فلم يزل أهل هذا البيت على دينه، متمسّكين بمنزلته، لم يكفروا ولم يرتدّوا ولم يغيّروا(4)، وتلك الكتب عندي باملاء عيسى عليه السلام وخطّ أبينا بيده، فيها كلّ شيء تفعل الناس من بعده، واسم كلّ ملك منهم.
وانّ الله يبعث رجلا من العرب من ولد اسماعيل بن ابراهيم خليل الله من أرض يقال لها "تهامة" من قرية يقال لها "مكة"، يقال له أحمد، له اثنى عشر اسماً، وذكر مبعثه ومولده وهجرته، ومن يُقاتله، ومن ينصره، ومن يعاديه، وما يعيش، وما تلقى اُمّته من بعده إلى أن ينزل عيسى بن مريم عليه السلام [من السماء](5).
وفي ذلك الكتاب ثلاثة عشر رجلا من ولد اسماعيل بن ابراهيم خليل الله
____________
1- نحوه البحار 39: 225 ضمن حديث 1; عن مناقب ابن شهر آشوب; وفي دعائم الإسلام 1: 25.
2- في "ج": نزلنا.
3- أثبتناه من "ج".
4- في "ج": لم يفتروا.
5- أثبتناه من "ب" و "ج".
[حكاية الجاثليق الأوّل]
بسم الله الرحمن الرحيم، بحذف الاسناد مرفوعاً إلى سلمان الفارسي رضي الله عنه(2) قال: كان من البلاء العظيم الذي ابتلى الله عزوجل به قريشاً بعد نبيّها صلّى الله عليه وآله ليعرّفها أنفسها، ويخرج شهاداتها عمّا ادّعته(3) على رسول الله صلّى الله عليه وآله بعد وفاته، ودحض حجّتها وكشف غطاء ما أسرّت في قلوبها، وأخرجت ضغائنها لآل الرسول صلّى الله عليه وآله، أزالتهم عن إمامتهم وميراث
____________
1- راجع كتاب سليم: 115; عنه مدينة المعاجز 1: 499 ح325; وفضائل ابن شاذان: 142; عنه البحار 38: 51 ح8; وغيبة النعماني: 74 ح9; عنه البحار 36: 210 ح13.
2- قال العلامة المجلسي في البحار 30/84: انّ المحدّثين فرّقوا أجزاءه [أي أجزاء هذا الحديث] على الأبواب، وهي مرويّة في الاُصول المعتبرة، وهذا ممّا يدلّ على صحّتها، ويؤيّده أيضاً انّه قال الشيخ قدّس الله روحه في فهرسته: سلمان الفارسي رحمة الله عليه... روى خبر الجاثليق الرومي الذي بعثه ملك الروم بعد النبي صلّى الله عليه وآله....
3- قال العلامة المجلسي في البحار 30/84: انّ المحدّثين فرّقوا أجزاءه [أي أجزاء هذا الحديث] على الأبواب، وهي مرويّة في الاُصول المعتبرة، وهذا ممّا يدلّ على صحّتها، ويؤيّده أيضاً انّه قال الشيخ قدّس الله روحه في فهرسته: سلمان الفارسي رحمة الله عليه... روى خبر الجاثليق الرومي الذي بعثه ملك الروم بعد النبي صلّى الله عليه وآله....
انّ ملك الروم لما بلغه خبر وفاة رسول الله صلّى الله عليه وآله وخبر اُمّته واختلافهم في الاختيار عليهم، وتركهم سبيل هدايتهم، وادّعائهم على رسول الله صلّى الله عليه وآله انّه لم يوص إلى أحد بعد وفاته، واهماله إيّاهم يختاروا لأنفسهم، وتوليتهم الأمر بعدهم الأباعد من قومه، وصرف ذلك عن أهل بيته وورثته وقرابته(3)، دعا علماء بلده واستفتاهم(4)، فناظرهم في الأمر الذي ادّعته قريش بعد نبيّها صلّى الله عليه وآله، وفيما جاء به محمد صلّى الله عليه وآله.
فأجابوه بجوابات من حججهم على انّه محمد صلّى الله عليه وآله، فسأل أهل مدينته أن يوجههم إلى المدينة لمناظرتهم والاحتجاج عليهم، فأمر الجاثليق أن يختار من أصحابه وأساقفته، فاختار منهم مائة رجل، فخرجوا يقدمهم الجاثليق لهم، قد أقرّت العلماء له جميعاً بالفضل والعلم، متبحّراً في علمه، يخرج الكلام من تأويله، ويرد كلّ فرع إلى أصله، ليس بالخرق ولا بالنزق(5) ولا البليد ولا الرعديد(6) ولا النكل ولا الفشل، ينصت لمن يتكلّم(7)، ويجيب إذا سئل، ويصبر إذا مُنع.
فقدم المدينة بمن معه من أخيار قومه وأصحابه حتّى نزل القوم عن
____________
1- في "ج": قضيّة.
2- في "ج": أضاء به برهانه.
3- في "ج": ذرّيته وأقربائه.
4- في "ج": وأساقفتهم.
5- النزق: الخفّة والطيش.
6- الرعديد ـ بالكسر ـ: الجبان.
7- في "ج": لم يتكلّم.
فوقفوا عليه، فقال زعيم القوم: السلام عليكم، فردّوا عليه السلام، فقال: أرشدونا إلى القائم مقام نبيّكم فإنّا قوم من الروم، فإنّا على دين المسيح عيسى بن مريم عليه السلام، فقدمنا لمّا بلغنا وفاة نبيّكم واختلافكم، نسأل عن صحّة نبوّته ونسترشد لديننا ونتعرّض لدينكم، فإن كان أفضل من ديننا دخلنا فيه وسلّمنا وقبلنا الرشد منكم طوعاً، وأجبناكم إلى دعوة نبيّكم، وإن يكن خلاف ما جاءت به الرسل وجاء به عيسى رجعنا إلى دين المسيح، فإنّ عنده من عهد ربّنا(1) في أنبيائه ورسله دلالة ونوراً واضحاً، فأيّكم صاحب الأمر بعد نبيّكم؟.
فقال عمر بن الخطاب: هذا صاحبنا ووليّ الأمر بعد نبيّنا، قال الجاثليق: هو هذا الشيخ؟ فقال: نعم، فقال: أيّها الشيخ أنت القائم الوصيّ لمحمّد في اُمّته، وأنت العالم المستغني بعلمك ممّا علّمك نبيّك من أمر الاُمّة وما تحتاج إليه؟.
قال أبو بكر: لا ما أنا بوصيّ، قال له: فما أنت؟ قال عمر: هذا خليفة رسول الله صلّى الله عليه وآله، قال النصراني: أنت خليفة رسول الله استخلفك في اُمّته؟ قال أبو بكر: لا، قال: فما هذا الاسم الذي ابتدعتموه وادّعيتموه بعد نبيّكم؟ وإنّا قد قرأنا كتب الأنبياء صلوات الله عليهم فوجدنا الخلافة لا تصلح إلاّ لنبيّ من أنبياء الله، لأنّ الله عزوجل جعل آدم خليفة في الأرض، فَرَضَ طاعته على أهل السماء والأرض، ونوّه باسم داود عليه السلام فقال: {يا داود إنّا جعلناك خليفة في
____________
1- في "الف": رأينا.
فقال: أنت خليفة قومك لا خليفة نبيّك وقد قلت انّ النبي لم يوص إليك، وقد وجدنا في كتب من سنن الأنبياء انّ الله لم يبعث نبيّاً إلاّ وله وصيّ يوصي إليه، وتحتاج الناس كلّهم إلى علمه، وهو مستغن عنهم، وقد زعمت انّه لم يوصّ كما أوصت الأنبياء، وادّعيت أشياء لست بأهلها، وما أراكم إلاّ وقد دفعتم نبوّة محمد، وقد أبطلتم سنن الأنبياء في قومهم.
قال: فالتفت الجاثليق إلى أصحابه وقال: إنّ هؤلاء يقولون انّ محمداً لم يأتهم بالنبوّة وإنّما كان أمره بالغلبة، ولو كان نبيّاً لأوصى كما أوصت الأنبياء، وخلّف فيهم كما خلّفت الأنبياء من الميراث والعلم، ولسنا نجد عند القوم أثر ذلك.
ثمّ التفت كالأسد فقال: يا شيخ أما أنت فقد أقررت انّ محمداً النبيّ صلّى الله عليه وآله لم يوص إليك، ولا استخلفك وإنّما تراضوا الناس بك، ولو رضى الله عزوجل برضى الخلق، واتّباعهم لهواهم، واختيارهم لأنفسهم، ما بعث الله النبيّين مبشّرين ومنذرين، وآتاهم الكتاب والحكمة(3) ليبيّنوا للناس ما يأتون ويذرون وما فيه يختلفون، ولئلاّ يكون للناس على الله حجّة بعد الرسل.
فقد دفعتم النبيّين عن رسالاتهم، واستغنيتم بالجهل من اختيار الناس عن اختيار الله عزوجل الرسل للعباد، واختيار الرسل لاُمّتهم، ونراكم تعظمون بذلك الفرية على الله عزوجل وعلى نبيّكم، ولا ترضون إلاّ أن تتسمون بعد ذلك بالخلافة، وهذا لا يحلّ إلاّ لنبي أو وصي نبي، وإنّما تصحّ الحجّة لكم بتأكيدكم النبوّة
____________
1- ص: 26.
2- في "الف": تسمّيتم.
3- في "ب": والحكم والنبوّة.
ثمّ قال: يا شيخ أجب، قال: فالتفت أبو بكر إلى أبي عبيدة ليجيب عنه، فلم يحر(1) جواباً، ثمّ التفت الجاثليق إلى أصحابه فقال: بناء القوم على غير أساس ولا أرى لهم حجّة، أفهمتم؟ قالوا: بلى، ثمّ قال لأبي بكر: يا شيخ أسألك؟ قال: سل، قال: أخبرني عنّي وعنك، ما أنت عند الله وما أنا [عنده](2)؟
قال: فأمّا أنا فعند نفسي مؤمن وما أدري ما أنا عند الله فيما بعد، وأمّا أنت فعندي كافر ولا أدري ما أنت عند الله، قال الجاثليق: أمّا أنت فقد منيت نفسك الكفر بعد الايمان، وجهلت مقامك في ايمانك أمحقّ أنت فيه أم مبطل، وأمّا أنا فقد منيتني الايمان بعد الكفر، فما أحسن حالي وأسوء حالك عند نفسك إذ كنتَ لا توقن بما لك عند الله، فقد شهدت لي بالفوز والنجاة، وشهدت لنفسك بالهلاك والكفر.
ثمّ التفت إلى أصحابه فقال: طيبوا نفساً فقد شهد لكم بالنجاة بعد الكفر، ثمّ التفت إلى أبي بكر فقال: يا شيخ أين مكانك الساعة من الجنّة إذا ادّعيت الايمان، وأين مكاني من النار؟ قال: فالتفت أبو بكر إلى عمر وأبي عبيدة مرّة اُخرى ليجيبا عنه، فلم ينطق أحد منهما.
قال: ثمّ قال: ما أدري أين مكاني وما حالي عند الله، قال الجاثليق: يا هذا أخبرني كيف استجزت لنفسك أن تجلس في هذا المجلس وأنت محتاج إلى علم غيرك، فهل في اُمّة نبيّك من هو أعلم منك؟ قال: نعم.
قال: ما أعلمك وإيّاهم، إلاّ وقد حملوك أمراً عظيماً، وسفهوا بتقديمهم إيّاك
____________
1- في "ب": يجد.
2- أثبتناه من "ب".
قال سلمان رضي الله عنه: فلمّا رأيت ما نزل بالقوم من البهت والحيرة والذلّ والصغار، وما حلّ بدين محمد صلّى الله عليه وآله، وما نزل بالقوم من الحزن نهضت لا أعقل أين أضع قدمي إلى باب أمير المؤمنين عليه السلام، فدققت عليه الباب فخرج وهو يقول: ما دهاك يا سلمان؟
قال: قلت: هلك دين الله وهلك الإسلام بعد محمد صلّى الله عليه وآله، وظهر أهل الكفر على دينه وأصحابه بالحجّة، فأدرك يا أمير المؤمنين دين محمد صلّى الله عليه وآله، والقوم قد ورد عليهم ما لا طاقة لهم به ولا بدّ ولا حيلة، فأنت اليوم مفرج كربها، وكاشف بلواها، وصاحب ميسمها، وتاجها، ومصباح ظلمها، وفتاح(2) مبهمها.
قال: فقال عليّ عليه السلام: ما ذاك؟ قال: قلت: قد قدم قوم [لهم قوّة](3) من ملك الروم في مائة رجل من أشراف قومهم يقدمهم جاثليق، لم أر مثله يورد الكلام على معانيه ويصرفه على تأويله، ويؤكّد حجّته، ويحكم ابتداءه، لم أسمع مثل حججه ولا سرعة جوابه من كنوز علمه.
____________
1- في "ج": أقلّ.
2- في "ب" و "ج": مفتاح.
3- أثبتناه من "ج".