الصفحة 32
لله الذي أخرجها من فيك إنها لي ولأصحابي القبلة، والدين وعبادة الرحمن، والنبي والكتاب، من دونك ودون أصحابك، الحمد لله الذي قررك لنا بذلك دونك ودون أصحابك، وجعلك ضالا مضلا لا تعلم هاد أنت أم ضال، وجعلك أعمى، وسأخبرك على ما قاتلتك عليه أنت وأصحابك، أمرني رسول الله أن أقاتل الناكثين وقد فعلت، و أمرني أن أقاتل القاسطين فأنتم هم، وأما المارقين فما أدري أدركهم أم لا.

أيها الأبتر؟ ألست تعلم أن رسول الله قال لعلي: من كنت مولاه فعلي مولاه، أللهم وال من والاه، وعاد من عاداه؟! وأنا مولى الله ورسوله وعلي من بعده وليس لك مولى. قال له عمرو: لم تشتمني يا أبا اليقظان؟ ولست أشتمك، قال عمار: وبم تشتمني؟ أتستطيع أن تقول: إني عصيت الله ورسوله يوما قط؟ قال له عمرو: إن فيك لمسبات سوى ذلك. قال عمار: إن الكريم من أكرمه الله، كنت وضيعا فرفعني الله، ومملوكا فأعتقني الله، وضعيفا فقواني الله، وفقيرا فأغناني الله. وقال له عمرو: فما ترى في قتل عثمان؟ قال فتح لكم باب كل سوء. قال عمرو: فعلي قتله. قال عمار: بل الله رب علي قتله. (1)

وروى نصر في كتابه ص 165 في حديث: فلما دنا عمار بن ياسر رحمه الله بصفين من عمرو بن العاص فقال: يا عمرو؟ بعت دينك بمصر، تبا لك، وطال ما بغيت الاسلام عوجا. ورواه سبط ابن الجوزي في تذكرته ص 53 وزاد: والله ما قصدك وقصد عدو الله ابن عدو الله بالتعلل بدم عثمان إلا الدنيا.

16 - أبو نوح الحميري وعمرو

أتى أبو نوح الحميري الكلاعي يوم صفين مع ذي الكلاع إلى عمرو بن العاص وهو عند معاوية وحوله الناس، وعبد الله بن عمر يحرض الناس على الحرب، فلما وقفا على القوم قال ذو الكلاع لعمرو: يا أبا عبد الله؟ هل لك في رجل ناصح لبيب شفيق يخبرك عن عمار بن ياسر لا يكذبك؟ قال عمرو: ومن هو؟ قال ذو الكلاع: ابن عمي هذا و هو من أهل الكوفة. فقال عمرو: إني لأرى عليك سيما أبي تراب. قال أبو نوح: علي

____________

(1) كتاب صفين لنصر بن مزاحم ص 176، شرح ابن أبي الحديد 2 ص 373.

الصفحة 33
سيما محمد صلى الله عليه وأصحابه وعليك سيما أبي جهل وسيما فرعون.

كتاب صفين ص 174، شرح النهج لابن أبي الحديد.

17 - أبو الأسود الدؤلي وعمرو

قدم أبو الأسود (1) الدؤلي على معاوية بعد مقتل علي رضي الله عنه وقد استقامت لمعاوية البلاد، فأدنى مجلسه، وأعظم جائزته، فحسده عمرو بن العاص فقدم على معاوية فاستأذن عليه في غير وقت الإذن له فقال له معاوية: يا أبا عبد الله؟ ما أعجلك قبل وقت الإذن فقال: يا أمير المؤمنين؟ أتيتك لأمر قد أوجعني وارقني وغاظني، وهو من بعد ذلك نصيحة لأمير المؤمنين. قال: وما ذاك؟ يا عمرو؟ قال: يا أمير المؤمنين؟ إن أبا الأسود رجل مفوه له عقل وأدب، من مثله للكلام يذكر؟ وقد أذاع بمصرك من الذكر لعلي، والبغض لعدوه وقد خشيت عليك أن يترى (2) في ذلك حتى يؤخذ لعنقك، وقد رأيت أن ترسل إليه، وترهبه، وترعبه، وتسبره، وتخبره، فإنك من مسألته على إحدى خبرتين، إما أن يبدي لك صفحته فتعرف مقالته، وإما أن يستقبلك فيقول ما ليس من رأيه، فيحتمل ذلك عنه فيكون لك في ذلك عاقبة صلاح إنشاء الله تعالى. فقال له معاوية: إني امرؤ والله لقل ما تركت رأيا لرأي امرئ قط إلا كنت فيه بين أن أرى ما أكره وبين بين، ولكن إن أرسلت إليه فسألته فخرج من مساءلتي بأمر لا أجد عليه مقدما ويملأني غيظا لمعرفتي بما يريد، وإن الأمر فيه أن يقبل ما أبدى من لفظه فليس لنا أن نشرح عن صدره وندع ما وراء ذلك يذهب جانبا. فقال عمرو: أنا صاحبك يوم رفع المصاحف بصفين، وقد عرفت رأي ولست أرى خلافي و ما آلوك خيرا، فأرسل إليه ولا تفرش مهاد العجز فتتخذه وطيئا.

فأرسل معاوية إلى أبي الأسود فجاء حتى دخل عليه فكان ثالثا فرحب به معاوية وقال: يا أبا الأسود؟ خلوت أنا وعمرو فتناجزنا (3) في أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وقد أحببت أن أكون من رأيك على يقين. قال: سل يا أمير المؤمنين؟ عما بدا لك. فقال: يا

____________

(1) ظالم بن عمرو التابعي الكبير المتوفى سنة 69 وهو ابن خمس وثمانين سنة.

(2) ترى تريأ في الأمر: تراخى فيه.

(3) ناجزه: خاصمه. والمناجزة في الحرب المبارزة.

الصفحة 34
أبا الأسود؟ أيهم كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله؟ فقال: أشدهم حبا لرسول الله صلى الله عليه وآله وأوقاهم له بنفسه. فنظر معاوية إلى عمرو وحرك رأسه، ثم تمادى في مسألته فقال:

يا أبا الأسود؟ فأيهم كان أفضلهم عندك؟ قال أتقاهم لربه وأشدهم خوفا لدينه. فاغتاظ معاوية على عمرو، ثم قال: يا أبا الأسود؟ فأيهم كان أعلم؟ قال: أقولهم للصواب وأفصلهم للخطاب. قال: يا أبا الأسود؟ فأيهم كان أشجع؟ قال: أعظمهم بلاء، وأحسنهم عناء، وأصبرهم على اللقاء. قال: فأيهم كان أوثق عنده؟ قال من أوصى إليه فيما بعده. قال:

فأيهم كان للنبي صلى الله عليه وآله صديقا؟ قال: أولهم به تصديقا. فأقبل معاوية على عمرو و قال: لا جزاك الله خيرا، هل تستطيع أن ترد مما قال شيئا؟ فقال أبو الأسود: إني قد عرفت من أين أتيت، فهل تأذن لي فيه؟ فقال: نعم. فقل ما بدا لك. فقال يا أمير المؤمنين، إن هذا الذي ترى هجا رسول الله صلى الله عليه وآله بأبيات من الشعر فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: أللهم؟

إني لا أحسن أن أقول الشعر فالعن عمرا بكل بيت لعنة. أفتراه بعد هذا نائلا فلاحا؟

أو مدركا رباحا؟ وأيم الله إن امرءا لم يعرف إلا بسهم أجيل عليه فجال لحقيق أن يكون كليل اللسان ضعيف الجنان، مستشعرا للاستكانة، مقارنا للذل والمهانة، غير ولوج فيما بين الرجال، ولا ناظر في تسطير المقال، إن قالت الرجال أصغى، وإن قامت الكرام أقعى (1) متعيص لدينه لعظيم دينه، غير ناظر في أبهة الكرام ولا منازع لهم، ثم لم يزل في دجة ظلماء مع قلة حياء، يعامل الناس بالمكر والخداع، والمكر والخداع في النار. فقال عمرو: يا أخا بني الدؤل؟ والله إنك لأنت الذليل القليل، ولولا ما تمت به من حسب كنانة لاختطفتك من حولك اختطاف الأجدل الحدية (2) غير أنك بهم تطول، وبهم تصول، فلقد استطبت مع هذا لسانا قوالا، سيصير عليك وبالا، و أيم الله إنك لأعدى الناس لأمير المؤمنين قديما وحديثا، وما كنت قط بأشد عداوة له منك الساعة، وإنك لتوالي عدوه، وتعادي وليه، وتبغيه الغوائل، ولئن أطاعني ليقطعن عنه لسانك، وليخرجن من رأسك شيطانك، فأنت العدو المطرق له إطراق الأفعوان (3) في أصل الشجرة.

____________

(1) أقعى الكلب: جلس على استه.

(2) الأجدل: الصقر. والحداة بكسر الحاء: طائر من الجوارح. والعامة تسميه الحدية.

(3) الأفعوان بضم الأول: ذكر الأفعى.

الصفحة 35
فتكلم معاوية فقال: يا أبا الأسود؟ أغرقت في النزع ولم تدع رجعة لصلحك. و قال لعمرو: فلم تغرق كما أغرقت ولم تبلغ ما بلغت، غير أنه كان منه الابتداء والاعتداء، والباغي أظلم، والثالث أحلم، فانصرفا عن هذا القول إلى غيره وقوما غير مطرودين، فقام عمرو وهو يقول:

لعمري لقد أعيى القرون التي مضت * لغش ثوى بين الفؤاد كمين

وقام أبو الأسود وهو يقول:

ألا إن عمرا رام ليث خفية(1) * وكيف ينال الذئب ليث عرين

تاريخ ابن عساكر 7 ص 104 - 106

18 - حديث أبي جعفر وزيد

قال أبو جعفر وزيد بن الحسن: طلب معاوية إلى عمرو بن العاص يوم صفين أن يسوي صفوف أهل الشام فقال له عمرو: على أن لي حكمي إن قتل الله ابن أبي طالب؟

واستوسقت لك البلاد. فقال: أليس حكمك في مصر؟ قال: وهل مصر تكون عوضا عن الجنة؟ وقتل ابن أبي طالب ثمنا لعذاب النار الذي لا يفتر عنهم وهم فيه مبلسون؟

فقال معاوية: إن لك حكمك أبا عبد الله؟ إن قتل ابن أبي طالب، رويدا لا يسمع أهل الشام كلامك. فقال لهم عمرو: يا معشر أهل الشام؟ سووا صفوفكم؟ أعيروا ربكم جماجمكم، واستعينوا بالله إلهكم، وجاهدوا عدو الله وعدوكم، واقتلوهم قتلهم الله وأدبارهم، واصبروا إن الأرض يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين.

كتاب صفين لابن مزاحم ص 123، شرح ابن أبي الحديد.

هذا أكبر كلمة تدل على ضئولة الرجل في دينه لأنها تنم عن عرفانه بحق أمير المؤمنين عليه السلام ومغبة أمر من ناواه ومع ذلك فهو يحرض الناس على قتاله و يموه عليهم، وهي ترد قول من يبرر عمله باجتهاده أو بعدله.

19 - عمرو وابن أخيه

كان لعمرو بن العاص ابن أخ (2) أريب من بني سهم جاءه من مصر فقال له: ألا

____________

(1) الخفية: الغيضة الملتفة.

(2) في شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ابن عم.

الصفحة 36
تخبرني يا عمرو بأي رأي تعيش في قريش؟ أعطيت دينك، وتمنيت دنيا غيرك، أترى أهل مصر وهم قتلة عثمان يدفعونها إلى معاوية وعلي حي؟ وتراها إن صارت إلى معاوية لا يأخذها بالحرف الذي قدمه في الكتاب؟ (1) فقال عمرو: يا بن أخي إن الأمر لله دون علي ومعاوية. فقال الفتى:

ألا يا هند أخت بني زياد * رمي عمرو بداهية البلاد
رمي عمرو بأعور عبشمي * بعيد القعر محشي الكباد (2)
له خدع يحار العقل فيها * مزخرفة صوائد للفوائد
فشرط في الكتاب عليه حرفا * يناديه بخدعته المنادي
وأثبت مثله عمرو عليه * كلا المرأين حية بطن وادي
ألا يا عمرو؟ ما أحرزت مصرا * وما ملت الغداة إلى الرشاد
وبعت الدين بالدنيا خسارا * فأنت بذاك من شر العباد
فلو كنت الغداة أخذت مصرا * ولكن دونها خرط القتاد
وفدت إلى معاوية بن حرب * فكنت بها كوافد قوم عاد
وأعطيت الذي أعطيت منها * بطرس فيه نضح من مداد
ألم تعرف أبا حسن عليا * وما نالت يداه من الأعادي؟؟!!
عدلت به معاوية بن حرب * فيا بعد البياض من السواد
ويا بعد الأصابع من سهيل * ويا بعد الصلاح من الفساد
أتأمن أن تراه على خدب؟ * يحث الخيل بالاسل الخداد (3)
ينادي بالنزال وأنت منه * قريب فانظرن من ذا تعادي

فقال عمرو: يا بن أخي؟ لو كنت مع علي وسعني بيتي ولكن الآن مع معاوية.

فقال له الفتى: إنك إن لم ترد معاوية لم يردك. ولكنك تريد دنياه ويريد دينك.

وبلغ معاوية قول الفتى، فطلبه فهرب فلحق فحدثه بأمر عمرو ومعاوية. قال

____________

(1) يعني كتابا كتبه معاوية لعمرو بمصر وجعلها طعمة له.

(2) يعني معاوية: يقال في النسبة إلى عبد شمس: عبشمى. حشا حشوا: ملا. احتشى: امتلاء.

(3) خدب بالكسر وتشديد الموحدة: سنام البعير الضخم. الأسل: الرماح.

الصفحة 37
فسر ذلك عليا وقربه قال: وغضب مروان وقال: ما بالي لا أشترى كما اشتري عمرو؟!

فقال معاوية: إنما يشترى الرجال لك. قال: فلما بلغ عليا ما صنع معاوية وعمرو قال:

يا عجبا لقد سمعت منكرا * كذبا على الله يشيب الشعرا
يسترق السمع ويغشي البصرا * ما كان يرضى أحمد لو أخبرا
أن يقرنوا وصيه والأبترا * شاني الرسول واللعين الأخزرا (1)
كلاهما في جنده قد عسكرا * قد باع هذا دينه فأفجرا
من ذا بدنيا بيعه قد خسرا * بملك مصر إن أصاب الظفرا
إني إذا الموت دنا وحضرا * شمرت ثوبي ودعوت قنبرا
قدم لوائي لا تؤخر حذرا * لن ينفع الحذار مما قدرا
لما رأيت الموت موتا أحمرا * عبأت همدان وعبوا حميرا
حي يمان يعظمون الخطرا * قرن إذا ناطح قرنا كسرا
قل لابن حرب لا تدب الحمرا * أرود قليلا أبد منك الضجرا (2)
لا تحسبني يا بن حرب عمرا * وسل بنا بدرا معا وخيبرا
كانت قريش يوم بدر جزرا * إذ وردوا الأمر فذموا الصدرا (3)
لو أن عندي يا بن حرب جعفرا * أو حمزة القرم الهمام الأزهرا
رأت قريش نجم ليل ظهرا

الإمامة والسياسة 1 ص 84، كتاب صفين لابن مزاحم ص 24، شرح ابن أبي الحديد 1 ص 138.

20 - غانمة بنت غانم وعمرو

بلغ غانمة بنت غانم سب معاوية وعمرو بن العاص بني هاشم وهي بمكة قالت:

____________

(1) الخزر: ضيق العين. الخزرة بالضم: انقلاب الحدقة نحو اللحاظ وهو أقبح الحول.

(2) أدب الصبى: صيره. أرود في السير: رفق وتمهل. الضجر بفتح الفاء والعين. القلق من غم وضيق نفس.

(3) الجزرة. الشاة التي تذبح ج جزر. بالفتح وقد تكسر. الصدر، بالتحريك: رجوع المسافر من مقصده والشاربة من الورد.

الصفحة 38
يا معشر قريش؟ والله ما معاوية بأمير المؤمنين ولا هو كما يزعم، هو والله شانئ رسول الله صلى الله عليه وآله إني آتية معاوية وقائلة له بما يعرق منه جبينه ويكثر منه عويله. فكتب عامل معاوية إليه بذلك فلما بلغه أن غانمة قد قربت منه أمر بدار ضيافة فنظفت و ألقي فيها فرش، فلما قربت من المدينة استقبلها يزيد في حشمه ومماليكه، فلما دخلت المدينة أتت دار أخيها عمرو بن غانم فقال لها يزيد: إن أبا عبد الرحمن يأمرك أن تصيري إلى دار ضيافته وكان لا تعرفه فقالت: من أنت؟ كلأك الله. قال: يزيد بن معاوية. قالت: فلا رعاك الله يا ناقص لست بزائد. فتعمر لون يزيد فأتى أباه فأخبره فقال : هي أسن قريش وأعظمهم. فقال يزيد: كم تعد لها يا أمير المؤمنين؟ قال: كانت تعد على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله أربعمائة عام وهي من بقية الكرام، فلما كان من الغد أتاها معاوية فسلم عليها فقالت: على المؤمنين السلام وعلى الكافرين الهوان. ثم قالت: من منكم ابن العاص؟ (1) قال عمرو: ها أنا ذا. فقالت: وأنت تسب قريشا وبني هاشم؟

وأنت أهل السب وفيك السب وإليك يعود السب يا عمرو؟ إني والله لعارفة بعيوبك وعيوب أمك وإني أذكر لك ذلك عيبا عيبا: ولدت من أمة سوداء مجنونة حمقاء، تبول من قيام، وتعلوها اللئام، إذا لامسها الفحل كانت نطفتها أنفذ من نطفته، ركبها في يوم واحد أربعون رجلا، وأما أنت فقد رأيتك غاويا غير راشد، ومفسدا غير صالح، ولقد رأيت فحل زوجتك على فراشك فما غرت ولا أنكرت، وأما أنت يا معاوية؟ فما كنت في خير ولا ربيت في خير، فمالك ولبني هاشم؟ أنساء بني أمية كنسائهم ؟! الحديث. وهو طويل وقد حذفنا من أوله مقدار ما ذكر، راجع [المحاسن والأضداد] للجاحظ ص 102 - 104، وفي ط 118 - 121 و [المحاسن والمساوي] للبيهقي 1 ص 69 - 71.

هذه حقيقة الرجل ونفسياته وروحياته منذ العهد الجاهلي وفي دور النبوة وبعده إلى ما أثاره من فتن إلتفت بها حلقتا البطان في أيام أمير المؤمنين عليه السلام يوم تحيزه إلى ابن آكلة الأكباد لدحض الحق وأهله، وما كان يتحرى فيها من الغوائل وبعدها إلى أن، اصطلمه القدر الحاتم، واخترمته منيته يوم خابت أمنيته

____________

(1) في لفظ الجاحظ: أفيكم عمرو بن العاص؟.

الصفحة 39
فطفق يتغلل بين أطباق الجحيم وتضربه زبانيتها بمقامع من حديد، ولعلنا ألمسناك هذه الحقيقة باليد فلن تجد في تضاعيف هاتيك الأعوام له مأثرة يتبجح بها ابن أنثى خلا ما تقوله زبائنه من أعداء أهل البيت عليهم السلام، وما عسى أن يكون مقيلها من ظل الحق؟ بعد ما أثبتناه من الحقيقة الراهنة، ووقفنا عليه من أحوال رواة السوء و شناشنهم في افتعال المدايح للزعانفة المؤتلفة معهم في النزعات الباطلة.

وأما تأميره في غزوة ذات السلاسل فلا يجديه نفعا بعد ما علمناه من أنه كان يتظاهر بالاسلام ويبطن النفاق في طيلة حياته، وما كان الصالح العام والحكمة الإلهية يحدوان رسول الله صلى الله عليه وآله على العمل بالبواطن، وإنما يجاري القوم مجاري ظواهرهم لأنهم حديثو عهد بالجاهلية، والاسلام لما يتحكم في أفئدتهم، فلو كاشفهم على السرائر، لانتكصوا على أعقابهم، وتقهقروا إلى جاهليتهم الأولى، فكان يسايرهم على هذا الظاهر لعلهم يتمرنوا باعتناق الدين، ويأخذ من قلوبهم محله، ولذلك أنه صلى الله عليه وآله كان يعلم بنفاق كثير من أصحابه كما أخبره الله تعالى بقوله: و من أهل المدينة مردوا على النفاق. إلى غيرها من الآيات الكريمة، لكنه يستر عليهم رعاية لما أبرمه حذار الانتكاث، فكان تأمير عمرو مع علمه بنفاقه لتلك الحكمة البالغة غير ملازم لحسن حاله على ما عرفته من كلام مولانا أمير المؤمنين من أنه صلى الله عليه وآله لما عقد له الراية شرط عليه شرطا قد أخلفه.

ويعرب عن حقيقة ما نرتأيه قول أبي عمرو وغيره: إن عمرو بن العاص ادعى على أهل الاسكندرية أنهم قد نقضوا العهد الذي كان عاهدهم، فعهد إليها فحارب أهلها وافتتحها، وقتل المقاتلة، وسبى الذرية، فنقم ذلك عليه عثمان، ولم يصح عنده نقضهم العهد، فأمر برد السبي الذي سبوا من القرى إلى مواضعهم، وعزل عمروا عن مصر وولى عبد الله بن سعد بن أبي سرح العامري مصرا بدله، فكان ذلك بدو الشر بين عمرو بن العاص وعثمان بن عفان، فلما بدا بينهما من الشر ما بدا اعتزل عمرو في ناحية فلسطين بأهله، وكان يأتي المدينة أحيانا ويطعن على عثمان (1) و

____________

(1) الاستيعاب 2 ص 435، شرح ابن أبي الحديد 2 ص 112.

الصفحة 40
ولى عمر عمرو بن العاص على مصر وبقي واليا عليها إلى أول خلافة عثمان، سعر عليه الدنيا نارا، ولما أتاه قتله قال: أنا أبو عبد الله إذا نكأت (1) قرحة أدميتها.

ثم إن عثمان عزله عن الخراج واستعمله على الصلاة، واستعمل على الخراج عبد الله ابن سعد بن أبي سرح، ثم جمعهما لعبد الله بن سعد وعزل عمروا، فلما قدم عمرو المدينة جعل يطعن على عثمان فأرسل إليه يوما عثمان خاليا به. فقال: يا بن النابغة؟ ما أسرع ما قمل جربان (2) جبتك؟ إنما عهدك بالعمل عام أول، أتطعن علي وتأتيني بوجه وتذهب عني بالآخر؟ والله لولا أكلة ما فعلت ذلك. فقال عمرو: إن كثيرا مما يقول الناس وينقلون إلى ولاتهم باطل، فاتق الله يا أمير المؤمنين؟ في رعيتك. فقال عثمان:

والله لقد استعملتك على ظلعك (3) وكثرة القالة فيك. فقال عمرو: قد كنت عاملا لعمر ابن الخطاب ففارقني وهو عني راض. فقال عثمان: وأنا والله لو أخذتك بما أخذك به عمر لاستقمت، ولكني لنت لك فاجترأت علي. فخرج عمرو من عند عثمان وهو محتقد عليه يأتي عليا مرة فيؤلبه على عثمان. ويأتي الزبير مرة فيؤلبه على عثمان. ويأتي طلحة مرة فيؤلبه على عثمان. ويعترض الحاج فيخبرهم بما أحدث عثمان.

ولما قصد الثوار إلى المدينة أخرج لهم عثمان عليا فكلمهم فرجعوا عنه وخطب عثمان الناس فقال: إن هؤلاء القوم من أهل مصر كان بلغهم عن إمامهم أمر فلما تيقنوا أنه باطل ما بلغهم عنه رجعوا إلى بلادهم، فناداه عمرو بن العاص من ناحية المسجد:

إتق الله يا عثمان؟ فإنك قد ركبت نهابير (4) وركبناها معك، فتب إلى الله نتب، فناداه عثمان فقال: وإنك هناك يا بن النابغة؟ قملت والله جبتك منذ تركتك من العمل. و في لفظ البلاذري في الأنساب: يا بن النابغة؟ وإنك ممن تؤلب علي الطغام لأني عزلتك عن مصر.

فلما كان حصر عثمان الأول خرج عمرو من المدينة حتى إنتهت إلى أرض له

____________

(1) نكأ القرحة: قشرها قبل أن تبرأ.

(2) جربان الجبة بضم الميم والراء وكسرهما وتشديد الباء جيبها.

(3) أي على ما فيك من عيب وميل. والظلع في الأصل غمز البعير في مشيه.

(4) جمع نهبورة بالضم: المهلكة.

الصفحة 41
بفلسطين يقال لها: السبع. فنزل بها، وكان يقول: أنا أبو عبد الله إذا حككت قرحة نكأتها، والله إن كنت لألقى الراعي فأحرضه عليه. وفي لفظ البلاذري: وجعل يحرض الناس على عثمان حتى رعاة الغنم. فبينما هو بقصره بفلسطين إذ مر به راكب من المدينة فسأله عمرو عن عثمان فقال: تركته محصورا. قال عمرو: أنا أبو عبد الله قد يضرط العير والمكواة في النار، فلما بلغه مقتل عثمان قال عمرو: أنا أبو عبد الله قتلته وأنا بوادي السباع، من يلي هذا الأمر من بعده؟ إن يله طلحة فهو فتى العرب سيبا، وإن يله ابن أبي طالب فلا أراه إلا سيستنظف الحق (1) وهو أكره من يليه إلي.

فلما بلغه أن عليا قد بويع له، فاشتد عليه وتربص لينظر ما يصنع الناس، ثم نمى إليه معاوية بالشام يأبى أن يبايع عليا، وإنه يعظم قتل عثمان ويحرض على الطلب بدمه، فاستشار ابنيه عبد الله ومحمدا في الأمر، وقال: ما تريان؟ أما علي فلا خير عنده وهو رجل يدل (1) بسابقته، وهو غير مشركي في شئ من أمره. فقال عبد الله ابن عمرو: توفي النبي صلى الله عليه وآله وهو عنك راض، وتوفي أبو بكر رضي الله عنه وهو عنك راض، وتوفي عمر رضي الله عنه وهو عنك راض، أرى أن تكف يدك وتجلس في بيتك حتى يجتمع الناس على إمام فتبايعه. وقال محمد بن عمرو: أنت ناب من أنياب العرب فلا أرى أن يجتمع هذا الأمر وليس ذلك فيه صوت ولا ذكر. قال عمرو: أما أنت يا عبد الله؟

فأمرتني بالذي هو خير لي في آخرتي، وأسلم في ديني، وأما أنت يا محمد فأمرتني بالذي أنبه لي في دنياي، وأشر لي في آخرتي. ثم خرج عمرو بن العاص ومعه إبناه حتى قدم على معاوية، فوجد أهل الشام يحضون معاوية على الطلب بدم عثمان، فقال عمرو بن العاص: أنتم على الحق، اطلبوا بدم الخليفة المظلوم. ومعاوية لا يلتفت إلى قول عمرو، فقال ابنا عمرو لعمرو: ألا ترى إلى معاوية لا يلتفت إلى قولك؟! إنصرف إلى غيره. فدخل عمرو على معاوية فقال: والله لعجب لك إني أرفدك بما أرفدك وأنت معرض عني، أم والله إن قاتلنا معك نطلب بدم الخليفة إن في النفس من ذلك ما فيها، حيث نقاتل من تعلم سابقته وفضله وقرابته، ولكنا إنما أردنا هذه الدنيا. فصالحه معاوية

____________

(1) استنظف الشئ. أخذ كله.

(2) أدل وتدلل: انبسط واجترأ.

الصفحة 42
وعطف عليه.

أنساب الأشراف للبلاذري 5 ص 74، 87، تاريخ الطبري 5 ص 108 - 111 و 224، كامل ابن الأثير 3 ص 68، تذكرة السبط ص 49، جمهرة رسائل العرب 1 ص 388.

وكان بعد تلك المساومة المشؤمة يحرض الناس على قتل الإمام أمير المؤمنين كما فعله على عثمان حتى قتله وافتخر به بقوله: أنا أبو عبد الله قتلته وأنا بوادي السباع:

ثم جعل قميصه وسيلة النيل إلى الرتبة والراتب وقام بطلب دمه قائلا: إن في النفس من ذلك ما فيها. وممن حث على أمير المؤمنين وألبه حريث مولى معاوية بن أبي سفيان قال ابن عساكر في تاريخه 4 ص 113: قال معاوية لحريث: إتق عليا ثم ضع رمحك حيث شئت. فقال له عمرو بن العاص: إنك والله يا حريث؟ لو كنت قرشيا لأحب معاوية أن تقتل عليا ولكن كره أن يكون لها حظها، فإن رأيت منه فرصة فاقتحم عليه.

ولما قتل أمير المؤمنين عليه السلام استبشر بذلك وبشره به سفيان بن عبد شمس بن أبي وقاص قال ابن عساكر في تاريخه 6 ص 181: لما طعن أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب رضي الله عنه ذهب سفيان يبشر معاوية وعمرو بن العاص بقتله فكتب معاوية إلى عمرو وهو يقول:

وقتك وأسباب المنون كثيرة * منية شيخ من لوي بن غالب
فيا عمرو مهلا إنما أنت عمه * وصاحبه دون الرجال الأقارب
نجوت وقد بل المرادي سيفه * من ابن أبي شيخ الأباطح طالب
ويضربني بالسيف آخر مثله * فكانت عليه تلك ضربة لازب
وأنت تناغي كل يوم وليلة * بمصرك بيضا كالظباء الشوازب

هذه نفسية الرجل وتمام حقيقته اللائحة على تجارته البائرة، وصفقته الخاسرة، وبضاعته المزجاة من الدين المبطن بالإلحاد، والمكتنف بالنفاق، ولو لم يكن كذلك لما اقتنع بتلك المساومة، وهو يعرف الثمن والمثمن، ويعلم سابقة أمير المؤمنين وفضله وقرابته ويقول: إن يله ابن أبي طالب فلا أراه إلا سيستنظف الحق. ومع ذلك يظهر بغضه وعداه بقوله: وهو أكره من يليه إلي. ويعترف بالحق ويتحيز إلى خلافه، و

الصفحة 43
يعرف الموضع الصالح للخلافة ثم يميل مع الهوى ويقول: إنما أردنا هذه الدنيا. فيبيع دينه لمعاوية بثمن بخس (مصر وكورها) ويؤلب الناس على الإمام الطاهر بنص الكتاب العزيز، ويسر بقتله، ولقد صارح بكل ذلك صراحة لا تقبل التأويل وهي مستفاد من نصوصه ونصوص الصحابة الأولين، وبها عرف في التاريخ الصحيح كما سمعت من دون أي استنباط أو تحوير، فلا بارك الله في صفقة يمينه، ولا غار له بخير.

حديث شجاعته

لم نعهد لابن النابغة موقفا مشهودا في المغازي والحروب سواء في ذلك: العهد الجاهلي، ودور النبوة، وأما وقعة صفين فلم يؤثر عنه سوى مخزات سوئته مع أمير المؤمنين، وفراره من الأشتر، وقد بقي عليه عار الأولى مدى الحقب والأعوام، وجرى بها المثل وغنى بها أهل الحجاز وجاء في شعر عتبة بن أبي سفيان:

سوى عمرو وقته خصيتاه * نجى ولقلبه منه وجيب

وفي شعر معاوية بن أبي سفيان يذكر عمرا وموقفه كما يأتي:

فقد لاقى أبا حسن عليا * فآب الوائلي مآب خازي
فلو لم يبد عورته للاقى * به ليثا يذلل كل غازي

وفي شعر الحارث بن نصر السهمي:

فقولا لعمرو وابن أرطاة أبصرا * سبيلكما لا تلقيا الليث ثانيه
ولا تحمدا إلا الحيا وخصاكما * هما كانتا للنفس والله واقيه

وفي شعر الأمير أبي فراس:

ولا خير في دفع الردى بمذلة * كما ردها يوما بسوئته عمرو

وفي شعر الزاهي البغدادي:

وصد عن عمرو بسر كرما * إذ لقيا بالسوأتين من شخص

وقال آخر:

ولا خير في صون الحياة بذلة * كما صانها يوما بذلته عمرو

وقال عبد الباقي الفاروقي العمري:

وليلة الهرير قد تكشفت * عن سوءة ابن العاص لما غلبا


الصفحة 44

فحاد عنه مغضبا حيدرة * وعف والعفو شعار النجبا
ولو يشأ ركب فيه زجة * تركيب مزجي كمعدي كربا

وكان قد تكرر منه هذا العمل المخزي كما سيأتي، ولو كان للرجل شيئ من البسالة لجبه معيريه بتعداد مشاهده، وسلقهم بلسان حديد، وهو ذلك الصلف المفوه، وفيما أمر من الحروب كان الزحف للجيش الباسل دونه، فلم يسط أمامه، وإنما كان رئيا في أمرهم يدير وجه الحيلة فيه، كما أنه كان في صفين كذلك لم يبارح سرادق معاوية وطفق يبديه دهائه إلا في موقفين سيوافيك تفصيلهما، ولذلك كله اشتهر بدهاء دون الشجاعة. قال البيهقي في [المحاسن والمساوي] 1 ص 39: قال عمرو بن العاص لابنه عبد الله يوم صفين: تبين لي هل ترى علي بن أبي طالب رضي الله عنه؟ قال عبد الله: فنظرت إليه فرأيته فقلت: يا أبه؟ ها هو ذاك على بغلة شهباء عليه قباء أبيض وقلنسوة بيضاء. قال فاسترجع وقال: والله ما هذا بيوم ذات السلاسل ولا بيوم اليرموك ولا بيوم أجنادين، وددت أن بيني وبين موقفي بعد المشرقين.

هذا هو الذي عرفه منه معاصروه، وستقف على أحاديثهم، نعم جاء ابن عبد البر بعد لأي من عمر الدهر فتهجس في " الاستيعاب " فعده من فرسان قريش وأبطالهم في الجاهلية مذكورا بذلك فيهم. ولعل ابن منير (1) المولود بعد ابن عبد البر بعشر سنين وقف على كلامه في " الاستيعاب " وحكمه ببطولة الرجل فقال في قصيدته التترية:

وأقول إن أخطأ معاوية * فما أخطأ القدر
هذا ولم يغدر معا * وية ولا عمرو مكر
بطل بسوءته يقاتل * لا بصارمه الذكر

فإليك ما يؤثر في مواقفه حتى ترى عيه عن القحوم إلى الفوارس في مضمار النضال والدنو من نقع الحومة، وتقف على حقيقته من هذه الناحية أيضا، وتعرف قيمة كلام ابن حجر في " الإصابة " 3 ص 2 من: أن النبي صلى الله عليه وآله كان يقربه ويدنيه لمعرفته وشجاعته، ولا نسائله متى قربه وأدناه.

____________

(1) أحد شعراء الغدير في قرن السادس تأتي هناك قصيدته التترية وترجمته.

الصفحة 45

أمير المؤمنين وعمرو
في معترك القتال بصفين

كان عمرو بن العاص عدو للحرث بن نضر الخثعمي، وكان من أصحاب علي عليه السلام، وكان علي قد تهيبته فرسان الشام وملأ قلوبهم بشجاعته وامتنع كل منهم من الإقدام عليه وكان عمرو ما جلس مجلسا إلا ذكر فيه الحرث بن نضر الخثعمي وعابه فقال الحرث:

ليس عمرو بتارك ذكره الحرث * مدى الدهر أو يلاقي عليا
واضع السيف فوق منكبه الاي - من لا يحسب الفوارس شيا
ليت عمرا يلقاه في حومة النقع * وقد أمست السيوف عصيا
حيث يدعو البراز حامية القوم * إذا كان بالبراز مليا
فوق شهب مثل السحوق(*) من * النخل ينادي المبارزين: إليا
ثم يا عمرو تستريح من الفخر * وتلقى به فتى هاشميا
فالقه إن أردت مكرمة الدهر * أو الموت كل ذاك عليا

فشاعت هذه الأبيات حتى بلغت عمرا فأقسم بالله ليلقين عليا ولو مات ألف موتة.

فلما اختلطت الصفوف لقيه فحمل عليه برمحه فتقدم علي وهو مخترط سيفا، معتقل رمحا، فلما رهقه همز فرسه ليعلو عليه، فألقى عمرو نفسه عن فرسه إلى الأرض شاغرا برجليه، كاشفا عورته، فانصرف عنه علي لاقتا وجهه، مستدبرا له، فعد الناس ذلك من مكارم علي وسؤدده، وضرب بها المثل.

كتاب صفين لابن مزاحم ص 224، شرح ابن أبي الحديد 2 ص 110.

وقال ابن قتيبة في - الإمامة السياسة - 1 ص 91: ذكروا أن عمرا قال لمعاوية: أتجبن عن علي وتتهمني في نصيحتي إليك؟؟!! والله لأبارزن عليا و لو مت ألف موتة في أول لقائه، فبارزه عمرو فطعنه علي فصرعه، فاتقاه بعورته فانصرف عنه علي وولى بوجهه دونه، وكان علي رضي الله عنه لم ينظر قط إلى عورة أحد حياء

____________

(*) سحقت النخلة. طالت. فهي سحوق بالفتح ج سحق. بالضم

الصفحة 46
وتكرما وتنزها عما لا يحل، ولا يجل بمثله كرم الله وجهه.

وقال المسعودي في مروج الذهب 2 ص 25: إن معاوية أقسم على عمرو لما أشار عليه بالبراز إلى أن يبرز إلى علي فلم يجد عمرو من ذلك بدا فبرز، فلما التقيا عرفه علي وشال السيف ليضربه به فكشف عمرو عن عورته وقال: مكره أخوك لأبطل. فحول علي وجهه وقال: قبحت. ورجع عمرو إلى مصافه.

اجتمع عند معاوية في بعض ليالي صفين عمرو بن العاص، وعتبة بن أبي سفيان والوليد بن عقبة، ومروان بن الحكم، وعبد الله بن عامر، وابن طلحة الطلحات الخزاعي، فقال عتبة: إن أمرنا وأمر علي بن أبي طالب لعجيب، ما فينا إلا موتور مجتاح، أما أنا فقتل جدي عتبة بن ربيعة وأخي حنظلة وشرك في دم عمي شيبة يوم بدر، وأما أنت يا وليد؟ فقتل أباك صبرا، وأما أنت يا ابن عامر فصرع أباك وسلب عمك، وأما أنت يا بن طلحة؟ فقتل أباك يوم الجمل، وأيتم إخوتك، وأما أنت يا مروان، فكما قال الشاعر (1).

وأفلتهن علباء جريضا * ولو أدركته صفر الوطاب (2)

فقال معاوية: هذا الاقرار فأي غير غيرت؟ قال مروان: وأي غير تريد؟! قال:

أريد أن تشجروه بالرماح. قال: والله يا معاوية؟ ما أراك إلا هاذيا أو هاذئا وما أرانا إلا ثقلنا عليك. فقال ابن عقبة:

يقول لنا معاوية بن حرب * أما فيكم لواتركم طلوب؟
يشد على أبي حسن علي * بأسمر لا تهجنه العكوب (3)
فيهتك مجمع اللبات منه * ونقع القوم مطرد يثوب
فقلت له: أتلعب يا بن هند؟ * كأنك بيننا رجل غريب

____________

(1) البيت لامرؤ القيس، قوله. صفر الوطاب. مثل يضرب لمن مات أو قتل.

(2) أفلته: خلصه وأطلقه. أفلت: تخلص. علباء من علب اللحم: تغيرت رائحته بعد اشتداده. الجريض: المشرف على الهلاك. الصفر بالحركات الثلاث: الخالي. الوطب: سقاء اللبن ج وطاب.

(3) هجنه الأمر: قبحه وعابه. العكوب بالفتح: الغبار.