الصفحة 218

وقال الفضـل(1):

في هذا الفصل استدلّ بأشياء عجيبة ينبغي أن يتّخذه الظرفاء ضحكة لهـم.

منها: إنّه استدلّ بلزوم انسداد باب إثبات الصانع وكونه صادقاً والاستدلال بصحّة النبوّة على كون العبد موجد أفعاله.

وذكر في وجه الملازمة شيئاً غريباً عجيباً، وهو أنّا نستدلّ على حدوث العالَم بكونه محتاجاً إلى المحدِث قياساً على أفعالنا المحتاجة إلينا، فمن منع حكم الأصل في القياس وهو كون العبد موجداً، لا يمكنه استعمال هذه الطريقة، وإثبات هذه الملازمة من المضاحك..

أمّا أوّلا: فلأنّه حصر حادثات العالم في أفعال الإنسان، ولو لم يُخلق الإنسانُ وأفعالُه أصلا كان يمكن الاستدلال بحركات الحيوان وسائر الأشياء الحادثة بوجوب وجود المحدِث، وكأنّ هذا الرجل لم يمارس قطّ شيئاً من المعقولات!

والحقّ أنّه ليس أهلا لأن يباحث لدناءة رتبته في العلم، ولكن ابتليت بهذا مرّةً فصبرت.

وأمّا ثانياً: فلأنّه استدلّ بلزوم عدم كونه صادقاً على كون العبد موجد فعله، ولم يذكر هذه الملازمة; لأنّ النسبة بينه وبين هذه الملازمة بعيدة جدّاً.

____________

(1) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ 2 / 67.


الصفحة 219
وأمّا ثالثاً: فلأنّه استدلّ بلزوم انسداد باب صحّة النبوّة، وصحّة الشريعة على كون العبد موجد فعله; ومن أين يفهم هذه الملازمة؟!

ثمّ ادّعى الإفضاء إلى خرق الإجماع..

وكلّ هذه الاستدلالات خرافات وهذيانات لا يتفوّه بها إلاّ أمثاله في العلم والمعرفة.

ثمّ استدلّ على بطلان كونه خالقاً للقبائح بلزوم عدم امتناع إظهار المعجز على يد الكاذب، وقد اسـتدلّ قبل هذا بهذا مراراً وأجبناه في محالّـه(1).

وجواب هذا وما ذكر بعده من ترتّب الأُمور المنكرة على خلق القبائح، مثل: ارتفاع الثقة من الشريعة والوعد والوعيد وغيرها: إنّا نجزم بالعلم العادي وبما جرى من عادة الله تعالى أنّه لم يظهر المعجزة على يد الكاذب، فهو محال عادة كسائر المحالات العادية، وإن كان ممكناً بالذات; لأنّه لا يجب على الله تعالى شيء على قاعدتنا.

فكلّ ما ذكره من لزوم جواز تزيين الكفر في القلوب عوض الإسلام، وأنّ ما علـيه الأشـاعرة من اعتـقاد الحقّـيّة يمكن أن يكـون كفراً وباطـلا فلا يسـتحقّون الجواب..

فجوابه: إنّ جميع هؤلاء لا يقع عادة كسائر العاديّات، ونحن نجزم بعدم وقوعه، وإن جاز عقلا، حيث لا يجب عليه شيء، ولا قبيح بالنسبة إليـه.


*    *    *

____________

(1) انظر الصفحات 11 و 12 و 49 و 52 من هذا الجزء.


الصفحة 220

وأقـول:

ينبغي بيان مقصود المصنّف وتوضيح بعض كلامه; ليعرف منه خبط الخصم، فنقول: ذكر المصنّف أنّه يلزم من القول بأنّ العباد غير فاعلين لأفعالهم لوازم أربعة:

[اللازم] الأوّل: سدّ باب الاستدلال على وجود الصانع، واستدلّ عليه بقوله: " لأنّه لا يمكن إثبات الصانع إلاّ بأن يقال... " إلى آخره.

وتوضيحه: إنّهم اختلفوا في أنّ المحوج إلى الصانع; هل هو الإمكان، أو الحدوث، أو المركّب منهما، أو الإمكان بشرط الحدوث؟ واختار الأشاعرة الثاني كما ذكره الخصم سابقاً(1).

وعلى مختارهم يتوقّف إثبات الصانع على قولنا: العالَم حادث، وكلّ حادث محتاج إلى محدِث(2)، ولا دليل على الكبرى إلاّ احتياج أفعالنا إلينا، وقياس سائر الحوادث عليها في الحاجة إلى محدِث.

فإذا منع الأشاعرة الأصل ـ وهو احتياج أفعالنا إلينا لعدم كوننا موجدين لها، ولم يكن في سواها من الحوادث دلالة على الحاجة إلى المحدِث ـ انسـدّ عليهم باب إثبات الصانع.

فالمصنّف قد حصر الدليل على الكبرى بحاجة أفعالنا إلينا، لا أنّه حصر الحادثات في أفعال الإنسان كما فهمه الخصم.

____________

(1) راجع ردّ الفضل في ج 2 / 311.

(2) انظر: تقريب المعارف: 71، الاقتصاد في ما يتعلّق بالاعتقاد: 49، المنقذ من التقليد 1 / 28.


الصفحة 221
فإن قلت: نفـس حـدوث الحـوادث يـدلّ على وجـود المحـدِث بلا حاجة إلى القياس على أفعالنا.

قلـت: لا نسلّم ذلك ما لم يرجع إلى التعليل بالإمكان، بلحاظ أنّ ما تساوى طرفاه يمتنع ترجّح أحدهما بلا مرجّح، وهو خلاف قولهم بأنّ العلّة المحوجة هي الحدوث لا الإمكان(1).

فنفس الحدوث ـ مع قطع النظر عن الإمكان ـ لا يقتضي الحاجة إلى صانع; لجواز الصدفة، فلا بُـدّ لهم من القول بأنّا فاعلون لأفعالنا، وأنّها محتاجة إلينا، ليقاس عليها سائر الحوادث وتتمّ كلّية الكبرى.

اللازم الثاني: سدّ باب الاستدلال على كونه تعالى صادقاً، واستدلّ عليه المصنّف بقوله: " وأيضاً لو جاز أن يخلق الله تعالى القبائح، جاز أن يكذب في إخباره ".

وتوضيحه: إنّه إذا جاز أن يخلق تعالى الكذب الواقع من الناس وسائر القبائح، فقد جاز أن يكذب في كلامه اللفظي، إذ لا فرق بين أن يخلق الكذب في الناس، وبين أن يخلقه في شجرة أو على لسان جبرائيل أو ألسـنة الأنبياء; لأنّ جميع الكذب والقبائح إنّما هي خلقه، فلا يوثق بوعده ووعيده وسائر أخباره، كما سـبق موضّحاً(2).

[اللازم] الثالث: سدّ باب الاستدلال على صحّة النبوّة، واستدلّ عليه المصنّف بقوله: " وأيضاً إذا كان الله تعالى خالقاً للجميع من القبائح وغيرها "..

وهو غنيٌّ عن البيان، والملازمة فيه ظاهرة.

____________

(1) انظر: تمهيد الأوائل: 38 ـ 42، المواقف: 76 ـ 77، شرح المقاصد 2 / 13.

(2) راجع الصفحة 19.


الصفحة 222
[اللازم] الرابع: سدّ باب الاستدلال على صحّة الشريعة، واستدلّ عليه المصنّف بأمرين:

الأوّل: قوله: " وأيضاً يلزم من خلقه القبائح جواز أن يدعو إليها ".

وتوضيحه: إنّ خلق الشيء يتوقّف على إرادته، وهي تتوقّف على الرضا به ـ كما سـبق(1) ـ..

فإذا كان تعالى خالقاً للقبائح، كان مريداً لها وراضياً بها..

وإذا أرادها ورضي بها، جاز أن يدعو إليها، ويبعث الرسل لأجل العمل بها ويرغّب فيها.

وإذا جاز ذلك، جاز أن يكون ما رغّب فيه وبعث به الرسل من القبائح، فتزول الثقة بالشرائع ويقبح التشاغل بها; لجواز أن يكون ما تدعو إليه قبيحاً.

الثاني: قوله: " وأيضاً لو جاز منه تعالى أن يخلق في العبد الكفر والإضلال "..

وهو لا يحتاج إلى البيان.

ولا ريب أنّ سدّ باب الاستدلال على تلك الأُمور خرق لإجماع الأُمّـة.

فظهر أنّ المصنّـف ذكر اللوازم الأربعة ووجه لزومها لهم، لكن على طريق اللف والنشر المشوّش; لأنّه قدّم دليل اللازم الثالث على دليل الثاني، فلم يتّضح للخصم كلام المصنّـف (رحمه الله) مع غاية وضوحه!

وقد تشـبّث للجواب عن بعض الأدلّة بأنّه محال عادة أن يخالف الله

____________

(1) تقدّم في ج 2 / 364.


الصفحة 223
تعالى عادته، حيث جرى في عادته أن لا يظهر المعجزة على يد الكاذب، وأن لا يكـذب في إخبـاره، وأن لا يـبعث إلى القبائـح ولا يحـثّ عليها، ولا يزيّن الكفر في القلوب، إلى نحو ذلك ممّا رتّب المصنّف جوازه على جواز خلق الله سبحانه للقبائح.

وفيه ـ كما مرّ كثيراً ـ أنّا نطالبه بمسـتند العادة، وهذه الأُمور غيـبيةٌ.

ثمّ ما معنى العادة في أنّ شريعة الإسلام وما عليه الأشاعرة دون غيرهما حقّ، وقد أوكلنا جملة ممّا خبط به الخصم إلى فهم الناظر; لئلاّ يحصل الملل من البيان.


*    *    *


الصفحة 224

قال المصنّـف ـ أجزل الله ثوابه ـ(1):

ومنها: تجويز أن يكون الله تعالى ظالماً عابثاً; لأنّه لو كان الله تعالى هو الخـالق لأفعال العبـاد ومنها القبـائح كالظلم والعبث، لجـاز أن يخلـقها لا غير، حتّى تكون كلّها ظلماً وعبثاً، فيكون الله تعالى ظالماً عابثاً لاعباً; تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً.


*    *    *

____________

(1) نهج الحقّ: 115.


الصفحة 225

وقال الفضـل(1):

نعوذ بالله من التفوّه بهذه الترّهات، وأنّى يلزم هذا من هذه العقيدة، والظلم والعبث من أفعال العباد، ولا قبيح بالنسبة إليه، وخالق الشيء غير فاعله؟!

وهذا الرجل لا يفرّق بين خالق الصفة والمتّصف بتلك الصفة، وكلّ محذوراته ناش من عدم هذا الفرق، ألا يرى أنّ الله خالق السواد، فهل يجوز أن يقال: هو الأسود؟!

كذلك لو كان خالق الظلم والعبث، هل يجوز أن يقال: إنّه ظالم عابث؟! نعوذ بالله من التعصّب المؤدّي إلى الهلاك.

ثمّ إنّ هذا الرجل يحصر القبيح في أفعال الإنسان، ويدّعي أنْ لا قبيح ولا شرّ في الوجود إلاّ أفعال الإنسان، وذلك باطل، فإنّ القبائح ـ غير أفعال الإنسان ـ في الوجود كثيرة، كالخنزير والحشرات المؤذية.

وهل يصحّ له أن يقول: إنّ هذه الأشياء غير مخلوقة لله تعالى؟!

فإذا قال: إنّها مخلوقة لله تعالى، فهل يمنع قباحتها وشرّها؟! وذلك مخالف الضرورة والحسّ! فإذاً يُـلزَم ما ألزمَ الأشاعرة من القول بخلق الأفعال القبيحة.


*    *    *

____________

(1) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ 2 / 70.


الصفحة 226

وأقـول:

لا تـنفعهم الاصطلاحات الصرفة، وأنّ الخلق غير الفعل ـ كما سـبق(1) ـ.

ولو سُلّم، فالمصنّف يلزمهم بأنّه إذا كان الله تعالى خالقاً للقبائح كالظلم والعبث، فقد جاز أن تكون مخلوقاته كلّها منها، فلا يكون في الكون إلاّ ما هو من جنس العبث والظلم واللواط والزنا والقيادة والفساد في الأرض ونحوها، فإذا جاز ذلك عندهم، فقد جوّزوا أن يكون الله سبحانه عابثاً ظالماً، إذ لا شكّ لكلّ عاقل أنّ من تكون مخلوقاته هكذا لا غير، يكون عابثاً ظالماً; تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً.

وقوله: " لا قبيح بالنسبة إليه "; قد عرفت أنّه باللغو أشـبه(2).

وأمّا ما زعمه من أنّ خالق الصفة غير المتّصف بها..

ففيـه: إنّه عليه لا يصحّ وصف الله تعالى بالصفات الفعلية، فلا يقال لـه: هـاد ورحـمن ورازق; لأنّ الهـداية والرحمـة والـرزق مخلوقـة لـه، ولا محيي ولا مميت ولا معزّ ولا مذلّ.. إلى غير ذلك.

فالحقّ أنّ الصفات منها ما يكون التلبّس بمبدئها باعتبار إيجاده، كالظالم والعابث والأبيض والهادي والمحيي والضارب، ونحوها.

ومنها: ما يكون التلبّس به باعتبار قيامه وحلوله بالموصوف،

____________

(1) تـقدّم في الصفحة 9 من هذا الجزء.

(2) انظر ردّ الفضل في الصفحة 7 وردّ الشيخ المظفّر (قدس سره) عليه في الصفحة 9 من هذا الجزء، وانظر كذلك ردّ الشيخ المظفّر في ج 2 / 261 وما بعدها.


الصفحة 227
كالحيّ والميّت والأبيض والأسود، ونحوها.

ومنها: غير ذلك كما سـبق بـيانه(1).

فحينئذ لا وجه لنقض الخصم بالأسود في محلّ الكلام، من نحو الظالم والعابث واللاعب، كما لا ريب في صدق هذه المشتقّات على من أوجد مبادئها، وهي الظلم والعبث واللعب، لا سيّما إذا اختصّت مصنوعاته بهذه المبادئ.

وأمّا ما أورده من النقض بخلق الخنزير ونحوه، بدعوى أنّها قبائح، فقد مرّ أنّها لم تُخلق إلاّ لحِكم ومصالح فيها، فلا توصف بالقبح واقعاً وإنْ وُصفت به تسامحاً وببعض الجهات(2)..

على أنّ القبح المتنازع فيه هو القبح في الأفعال، وهو المعنى الثالث الذي ذكره(3)، والقبح في الأعيان لا يكون إلاّ بالمعنى الثاني، وهو معنى الملاءمة والمنافرة الذي ليس هو محلاًّ للنزاع باعترافهم.


*    *    *

____________

(1) انظر ج 2 / 233.

(2) انظر الصفحة 26 من هذا الجزء.

(3) راجع ردّ الفضل في ج 2 / 327.


الصفحة 228

قال المصنّـف ـ عطّر الله ضريحه ـ(1):

ومنها: إنّه يلزم إلحاق الله تعالى بالسفهاء والجهّال، تعالى الله عن ذلك; لأنّ من جملة أفعال العباد الشرك بالله تعالى، ووصفه بالأضداد والأنداد والأولاد، وشـتمه وسـبّه.

فلو كان الله تعالى فاعلا لأفعال العباد، لكان فاعلا للأفعال كلّها ولكلّ هذه الأُمور، وذلك يبطل حكمته; لأنّ الحكيم لا يشتم نفسه، وفي نفي الحكمة إلحاقه بالسفهاء، نعوذ بالله من هذه المقالات الرديّـة.


*    *    *

____________

(1) نهج الحقّ: 116.


الصفحة 229

وقال الفضـل(1):

ونحن نقول: نعوذ بالله من هذه المقالة المزخرفة الباطلة، وهذا شيء نشأ له لعدم الفرق بين الخالق والفاعل، فإنّ الله يخلق الأشياء، فالسـبّ والشتم له ـ وإنْ كانا مخلوقين لله تعالى ـ فبما فعل العبد، والمذمّة للفعل لا للخلق، فلا يلزم كونه شاتماً لنفسه.

وخلق هذه الأفعال ليس سفهاً حتّى يلزم إلحاقه تعالى بالسفهاء، نعوذ بالله من هذا; لأنّ الله تعالى قدّر في الأزل شقاوة الشاتم له، والسابّ له، وأراد إدخاله النار، فيخلق فيه هذه الأفعال، لتحصل الغاية التي هي دخول الشاتم النار، فأيّ سفه في هذا؟!


*    *    *

____________

(1) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ 2 / 72.


الصفحة 230

وأقـول:

لو سُلّم أنّ الخالق غير الفاعل فلا يرتفع السفه; لأنّه إنّما ينشأ من إيجاد الشخص سـبّ نفسه وما ينقصه، سواء سمّي خلقاً أم فعلا، فإنّ مجـرّد الاصطلاح لا يدفع المحذور.

ولكنّ هذا ليس بأعظم من قوله بإرادة الله سبحانه إدخال عبده النار، فيتسـبّب إليه بجعله محلاًّ لسـبّه وسائر القبائـح، مع عجزه عن الدفع لتحصل الغاية، وهي تعذيب عبده الضعيف الأسير بأشدّ العذاب!

والحال أنّه لا حاجة إلى هذا التسبّب المستهجن; لأنّه يصحّ عندهم أن يعذّب عبده ابتداء وبلا سبب، فما أعجب أقوال هؤلاء وما أقبحها وما أجرأهم على الله العظيم!


*    *    *


الصفحة 231

قال المصنّـف ـ قدّس الله روحه ـ(1):

ومنها: إنّه يلزم مخالفة الضرورة; لأنّه لو جاز أن يخلق الزنا واللواط، لجاز أن يبعث رسولا هذا دينه.

ولو جاز ذلك لجوّزنا أن يكون في ما سلف من الأنبياء من لم يبعث إلاّ للدعوة إلى السرقة، والزنا، واللواط، وكلّ القبائح، ومدح الشيطان وعبادته، والاستخفاف بالله تعالى، والشتم له، وسـبّ رسوله، وعقوق الوالدين، وذمّ المحسن، ومدح المسيء.


*    *    *

____________

(1) نهج الحقّ: 116.


الصفحة 232

وقال الفضـل(1):

لو أراد من نفي جواز بعثه الرسولَ بهذه الأشياء الوجوبَ على الله تعالى، فنحن نمنعه; لأنّه لا يجب على الله شيء.

وإنْ أراد بنفي هذا الجواز الامتناعَ عقلا، فهو لا يمتنع عقلا.

وإنْ أراد الوقوع، فنحن نمنع هذا; لأنّ العلم العادي يفيدنا عدم وقوع هذا، فهو محال عادةً، والتجويز العقلي لا يوجب وقوع هذه الأشياء كما عرفته مراراً(2).

ثمّ إنّه صدّر كلامه بلزوم مخالفة الضرورة، وأيّ مخالفة للضرورة في هذا المبحث؟!


*    *    *

____________

(1) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ 2 / 74.

(2) انظر الصفحات 7 و 65 و 99 من هذا الجزء.


الصفحة 233

وأقـول:

يمكن اختيار الشقّ الأوّل; لأنّ الله سبحانه أوجب على نفسه الهدى وقصد السبيل حيث قال: ( إنّ علينا لَلهدى )(1).. ( وعلى الله قصد السـبيل )(2).

ولا ريب أنّ إرسال الرسول بتلك الفواحش والقبائح وقطع السبيل، مناف للهدى وقصد السبيل.

ويمكن اختيار الشقّ الثاني; لحكم العقل(3) بامتناع أن يبعث الله تعالى رسولا بهذا الدين; لأنّه مِن أظهر منافيات الحكمة وأعظم النقص بالملك العدل، فهو ممتنع عقلا بالغير، بل مثله نقص في حقّ أقلّ العقلاء.

ويمكن اختيار الشقّ الثالث، أعني الوقوع احتمالا; لأنّه إذا جاز أن يخلق الله سبحانه تلك القبائح، احتملنا أن يكون قد بعث بها رسولا.

ودعوى العلم العادي بالعدم ممنوعة، إذ لم يطّلع أحدنا على جميع الأنبياء وشرائعهم، ولم نعرف منهم إلاّ النادر، فلعلّ هناك نبيّ أو أنبياء هذه شريعتهم لم يتّبعهم أحد، أو اندرست أُممهم.

ولا عجب من الخصم إذ أنكر على دعوى الضرورة، فإنّ أمرهم مبنيٌّ على إنكار الضروريات!

____________

(1) سورة الليل 92: 12.

(2) سورة النحل 16: 9.

(3) كذا في المخطوط، وفي المطبوعتين: الكلّ.


الصفحة 234

قال المصنّـف ـ شرّف الله منزلته ـ(1):

ومنها: إنّه يلزم أن يكون الله سبحانه أشدّ ضرراً من الشيطان; لأنّ الله لو خلق الكفر في العبد ثمّ يعذّبه عليه لكان أضرّ من الشيطان; لأنّ الشيطان لا يمكن أن يلجئه إلى القبائح، بل يدعوهم إليها كما قال الله تعالى: ( وما كان لي عليكم من سلطان إلاّ أن دعوتـكم فاسـتجبتم لـي )(2).

ولأنّ دعاء الشيطان هو أيضاً من فعل الله تعالى، وأمّا الله سبحانه فإنّه يضطـرّهم إلى القبائح!

ولو كان كذلك لحسن من الكافر أن يمدح الشيطان وأن يذمّ الله، تعالى الله عن ذلك علـوّاً كبـيـراً.


*    *    *

____________

(1) نهج الحقّ: 116.

(2) سورة إبراهيم 14: 22.


الصفحة 235

وقال الفضـل(1):

نعوذ بالله من التفوّه بهذه المقالة، والاستجراء على تصوير أمثال هذه الترّهات، فإنّ الله تعالى يخلق كلّ شيء، والتعذيب مرتّب على المباشرة والكسب، وخلق الكفر ليس بقبيح; لأنّ غايته دخول الشقي النار، كما يقتضيه نظام عالم الوجود.

والتصرّف في العبد بما شاء ليس بظلم; لأنّه تصرّف في ملكه، وقد عرفت أنّ تصرّف المالك في الملك بما شاء ليس بظلم(2)، والله تعالى وإنْ خلق الكفر في العبد، ولكنّ العبد هو يباشره ويكسـبه.

والله تعالى بعث الأنبياء، وخلق أيضاً قوّة النظر، وبثّ دلائل الوحدانية في الآفاق والأنفس.

فهذه كلّها ألطاف من الله تعالى، والشيطان يضرّ بالإغواء والوسوسة، فأين نسبة اللطيف الهادي ـ وهو الله تعالى ـ بالشيطان الضارّ المضلّ؟! ومن أين لزم هذا؟!


*    *    *

____________

(1) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ 2 / 75.

(2) تقدّم في الصفحة 93.


الصفحة 236

وأقـول:

قد خرج بكلامه عن المقصود، وتشـبّث بالتمويهات الصرفة، فإن كانت غايته من كلامه جعل أثر للعبد والشيطان في الفعل أو الكسب، فقد خرج عن مذهبه، وإلاّ لم يكن له مناص عن إلزام المصنّـف لهم.

وقد عرفت تفصيل ما في هذه الكلمات الفارغة عن التحصيل(1).

وأمّا الاجتراء على الله سبحانه فهو ممّن قال بما يسـتلزم هذا الكفر، لا ممّن صوّره للردع عنه.

وما باله إذا كان يتعوّذ من التفوّه بهذه الكلمات يعتقد بحقيقتها، ويعلم أنّ جوابه عنها يشتمل على الإقرار بها، لكن بشيء من التمويه!


*    *    *

____________

(1) راجع الصفحة 95 من هذا الجزء و ج 2 / 336.


الصفحة 237

قال المصنّـف ـ ضاعف الله ثوابه ـ(1):

ومنها: إنّه يلزم مخالفة العقل والنقل; لأنّ العبد لو لم يكن موجداً لأفعاله لم يسـتحقّ ثواباً ولا عقاباً، بل يكون الله تعالى مبتدئاً بالثواب والعقاب من غير اسـتحقاق منهم.

ولو جاز ذلك لجاز منه تعذيب الأنبياء (عليهم السلام)، وإثابة الفراعنة والأبالسة، فيكون الله تعالى أسفه السفهاء، وقد نزّه الله تعالى نفسه عن ذلك فقال: ( أفنجعل المسلمين كالمجرمين * ما لكم كيف تحكمون )(2).. ( أم نجعل المتّـقين كالفجّار )(3).


*    *    *

____________

(1) نهج الحقّ: 117.

(2) سورة القلم 68: 35 و 36.

(3) سورة ص 38: 28.


الصفحة 238

وقال الفضـل(1):

جوابه: إنّ استحقاق العبد للثواب والعقاب بواسطة المباشرة والكسب، وهو يستحقّ الثواب والعقاب بالمباشرة، لا أنّه يجب على الله إثابته.

فالله متعال عن أن يكون إثابة المطيع وتعذيب العاصي واجباً عليه، بل جرى عادة الله تعالى بإعطاء الثواب عقيب العمل الصالح، والتعذيب عقيب الكفر والعصيان.

وجواز تعذيب الأنبياء وإثابة الفراعنة والأبالسة المراد به نفي الوجوب على الله تعالى، وهو لا يستلزم الوقوع، بل وقوعه محال عادة ـ كما ذكرناه مراراً(2) ـ فلا يلزم المحـذور.


*    *    *

____________

(1) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ 2 / 76.

(2) راجع الصفحة 214 من هذا الجزء و ج 2 / 357 و 428.


الصفحة 239

وأقـول:

الكسب والمباشرة أثر صادر عن الله تعالى وحده بزعمهم، كأصل الفعل، لأنّه خالق كلّ شيء، فكيف يسـتحقّ العبد الثواب والعقاب على الكسب؟!

وكيف يتّجه تخصيص الاستحقاق عليه دون أصل الفعل، وكلاهما من الله وحده، والعبد محلّ بالاضطرار؟!

ثمّ إنّه إذا كان العبد مسـتحقّـاً للثواب بواسطة الكسب، كان حكمه بعـدم وجـوب إثابتـه مناقضـاً له، إذ كيـف يكون حقّـاً له على الله تعـالى ولا يجب عليه أداؤه له، وهو العدل؟!

نعم، لمّا كان العقاب حقّـاً لله تعالى، كان له العفو عنه، كما سبق(1)ويأتي إن شاء الله تعالى.

وأمّا دعوى العادة، فباطلة; لأنّ الثواب والعقاب غيب ومتأخّران، فما وجه العادة والعلم بها؟! إلاّ أن يدّعي العلم العادي بأخبار الله تعالى في كتابه المجيد، وهو مع توقّفه على ثبوت صدق كلامه تعالى على مذهبهم غير تامّ; لأنّه تعالى أيضاً أخبر بأنّه يمحو ما يشاء ويثبت(2).

وأمّا قوله: " وهو لا يسـتلزم الوقوع ".. فمسلّم; لكن لا يستلزم أيضاً عدم الوقوع، ويكفينا الاحتمال، إذ لا يجوز على غير السفيه تعذيب

____________

(1) تقدّم في ج 2 / 398.

(2) في قوله تعالى: (يمحو الله ما يشاء ويُثبِت وعندَه أُمّ الكـتاب) سورة الرعد 13: 39.


الصفحة 240
الأنبياء وإثابة الفراعنة والأبالسة; تعالى الله عن ذلك.

وقد أنكر عليه سبحانه هذا الحكم فقال: ( ما لكم كيف تحكمون )(1).


*    *    *

____________

(1) سورة الصافّات 37: 154، سورة القلم 68: 36.


الصفحة 241

قال المصنّـف ـ أعلى الله مقامه ـ(1):

ومنها: يلزم مخالفة الكتاب العزيز من انتفاء النعمة عن الكافر; لأنّه تعالى إذا خلق الكفر في الكافر لزم أن يكون قد خلقه للعذاب في نار جهنّم.

ولو كان كذلك لم يكن له عليه نعمة أصلا، فإنّ نعمة الدنيا مع عقاب الآخرة لا تعدّ نعمة، كمن جعل لغيره سمّاً في حلواء وأطعمه، فإنّه لا تعدّ اللـذّة الحاصلة من تناوله نعمة.

والقرآن قد دلّ على أنّه تعالى منعم على الكـفّار، قال الله تعالى: ( ألم تر إلى الّذين بدّلوا نعمة الله كفراً )(2).. ( وأحسِنْ كما أحسنَ الله إليك )(3).

وأيضاً: قد علم بالضرورة من دين محمّـد (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه ما من عبد إلاّ ولله عليه نعمة، كافراً كان أو مسلماً.


*    *    *

____________

(1) نهج الحقّ: 117.

(2) سورة إبراهيم 14: 28.

(3) سورة القصص 28: 77.


الصفحة 242

وقال الفضـل(1):

هذا أيضاً من غرائب الاستدلالات، فإنّ نعمة الله تعالى على الكافر محسوسة، والهداية أعظم النعم.

وإرسال الرسل وبثّ الدلائل العقليّة كلّها نِعمٌ عِظام، والكافر استحقّ دخول النار بالمباشرة والكسب، والخلق من الله تعالى ليس بقبيح.

ثمّ ما ذكره من لزوم عدم كون الكافر منعَماً عليه، يلزمه أيضاً بإدخاله النار، فإنّ الله تعالى يدخل الكافر النار ألبتّة، فيلزم أن لا يكون عليه نعمة.

فإن قال: إدخاله لكونه آثر الكفر ورجّحه واختاره.

قلنا: في مذهبنا أيضاً كذلك، وإدخاله لكونه باشر الكفر، وكسبه، وعمل به.

ولو كان الواجب على الله تعالى أن ينعم على الكافر ـ وهو المفهوم من ضرورة الدين ـ لكان الواجب عليه أن لا يدخل النار، بأيّ وصف كان الكافر; لأنّه يلزم أن لا يكون منعَماً عليه، وهو خلاف ضرورة الدين.

وأمثال هذه الاستدلالات ترّهات ومزخرفات.


*    *    *

____________

(1) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ 2 / 78.


الصفحة 243

وأقـول:

لا يُنكَر أنّ الهداية والرسل والدلائل نِعمٌ عِظامٌ على العباد، لكن إذا خلق الله سبحانه الكفر في الكافر وأعجزه عن اتّباع الرسل والدلائل لم تكن في حقّه نعمة بالضرورة، وإنّما تكون نعمة عليه إذا مكّنه من اتّباعها، وأهّله لتحصيل الثواب بعمله الميسور له، وإنْ فوّت على نفسه بكفره الاختياري نعمة الثواب.

وهذا هو الجواب عن نقض الخصم على المصنّف (رحمه الله) بأنّه إذا أدخل الله الكافر النار لم تكن له نعمة عليه، لا ما ذكره بقوله: " فإن قال: إدخاله لكـونه آثر الكـفر ورجّـحه واختاره " فإنّ هذا إنّما يكون مصحّـحاً لعقابه، لا لإثبات كونه منعَماً عليه كما هو محلّ الكلام، وقد بيّـنّـا ثبوته على مذهبنا فيكون هو الجواب.

ولعلّ الخصم إنّما أجاب بهذا ليتمكّن بزعمه من الجواب بمثله! ويقول: " قلنا: في مذهبنا أيضاً كذلك، وإدخاله لكونه باشر الكفر... " إلى آخـره.

وفيه: مع ما ظهر لك من أنّ مثل هذا لا يصلح أن يكون جواباً عن إشكال عدم النعمة على الكافر، ليس صحيحاً في نفسه; لِما سبق مراراً من أنّ الكسب ليس ممّا للعبد فيه أثر ـ على قولهم(1) ـ فلا يكون مصحّحاً للعقاب.

____________

(1) انظر قول الفضل في ص 93، وردّ الشيخ المظفّر عليه في ص 95 من هذا الجزء.


الصفحة 244
وأمّا قوله: " ولو كان الواجب على الله تعالى أن ينعم على الكافر لكان الواجب عليه أن لا يدخل النار "..

فـفيـه: إنّ المصنّـف إنّمـا قال: " قـد عُلـم بالضـرورة من دين محمّـد (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه ما من عبد إلاّ ولله تعالى عليه نعمة، كافراً أو مسلماً " وهذا لا يدلّ على أصل وجوب الإنعام على الكافر، فضلا عن أن يجب على الله تعالى أن يجعل الكافر محلاًّ لكلّ نعمة، وأن لا يدخله النار.


*    *    *


الصفحة 245

قال المصنّـف ـ طـيّب الله ثراه ـ(1):

ومنها: صحّة وصف الله تعالى بأنّه ظالم وجائر; لأنّه لا معنى للظالم إلاّ فاعل الظلم، ولا الجائر إلاّ فاعل الجور، ولا المفسد إلاّ فاعل الفساد; ولهذا لا يصحّ إثبات أحدها إلاّ حال نفي الآخر(2).

ولأنّه لمّا فعل العدل سمّي عادلا، فكذا لو فعل الظلم سمّي ظالماً.

ويلزم أن لا يسمّى العبد ظالماً ولا سفيهاً; لأنّه لم يصدر عنه شيء من هذه.


*    *    *

____________

(1) نهج الحقّ: 117.

(2) أي إنّ ثبوت الصفة يسـتلزم نفي ضدّها، فكونه عادلا يسـتلزم أن لا يكون ظالماً.