محاضرات
تاريخ الأمم الإسلامية
تأليف الشيخ محمد الخضري
لقد أخرج الرجل هذا الكتاب بصفة التاريخ لكنه لم يجر
على بساطته، وإنما أودع فيه نزعاته الأموية فترى في كل ثنية منه
هملجة، وفي كل فجوة منه تركاضا، فلا هو كتاب تاريخ يسكن
إلى نقله، ولا كتاب عقيدة ينظر في نقده، وإنما هو هياج ولغط
يعكر الصفو، ويقلق الطمأنينة، فكان الأحرى بنا الاعراض عنه و
عن أغلاطه، لكن لم نجد بدا من لفت القارئ إلى نزر من سقطاته.
|
1 - قال في ج 2 ص 67: ومما يزيد الأسف أن هذه الحرب (صفين) لم يكن المراد منها الوصول إلى تقرير مبدأ ديني أو رفع حيف حل بالأمة، وإنما كانت لنصرة شخص على شخص، فشيعة علي تنصره لأنه ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحق الناس بولاية الأمر، وشيعة معاوية تنصره لأنه ولي عثمان وأحق الناس بطلب دمه المسفوك ظلما، ولا يرون أنه ينبغي لهم مبايعة من آوى إليه قتلته.
ج - ليت الرجل بين لنا المبادئ الدينية عنده حتى ننظر في انطباقها على هذه الحرب، وحيث لم يبين فنحن نقول: أي مبدأ ديني هو أقوى من أن تكون الحرب والمناصرة لتنفيذ كلمة رسول الله يوم أمر أمير المؤمنين عليه السلام بقتال القاسطين وهم أصحاب معاوية وأمر أصحابه بمناصرته يومئذ (1) ورأى من واجبهم جهاد مقاتليه وقال: سيكون بعدي قوم يقاتلون عليا على الله جهادهم، فمن لم يستطع جهادهم بيده فبلسانه، فمن لم يستطع بلسانه فبقلبه، ليس وراء ذلك شئ (2).
وأي مبدأ ديني هو أقوى من نصرة الرجل من يراه أولى الناس بالأمر كما
____________
(1) راجع ص 188 - 195.
(2) أخرجه الطبراني وابن مردويه وأبو نعيم كما مر في ص 190.
وأي مبدأ ديني هو أقوى من مقاتلة الفئة الباغية بنص من الرسول الأمين يوم قال لعمار: تقتلك الفئة الباغية (3) ويوم قال: ويح عمار تقتله الفئة الباغية يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار (4)
وأي مبدأ ديني هو أقوى من المقاتلة تحت راية خليفة الوقت الذي انعقدت له بيعة أهل الحل والعقد، وتمت شروطها عند من يرى الخلافة بالاختيار، وثبت له النص الجلي وتواتر عند من لا يختار إلا المنصوص عليه، وبطبع الحال أن الخارج عليه خارج على إمام الوقت باغ عليه يجب مقاتلته بنص من الكتاب المبين حيث قال:
وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيئ إلى أمر الله (5)
وليت شعري أي حيف يحل بالأمة أعظم من تغلب مثل معاوية على بيضة الاسلام ورياسة أهله، واستحوازه الخلافة التي ليست له لا بنص ولا بيعة ممن تقرر بيعته الخليفة؟ فلم يعقد له إجماع، ولا أثبتته شورى أو وصية، ولا هو ولي دم عثمان حتى ينهض بثاره إن لم نقل: هو المثبط جند الشام والمتثاقل عن نصره حتى قتل، و لم يكن له سابقة في الاسلام تشرفه، ولا علم يسدده، ولا تقوى يكبحه عن مساقط
____________
(1) راجع الجزء الأول من كتابنا ص 336.
(2) راجع ص 193 من هذا الجزء.
(3) راجع الجزء الأول ص 329، 331، قال السيوطي في الخصايص 2 ص 140:
هذا الحديث متواتر رواه من الصحابة بضعة عشر كما بينت ذلك في الأحاديث المتواترة. وستوافيك في الجزء التاسع من كتابنا هذا ألفاظه وطرقه وهي خمسة وعشرون طريقا.
(4) قال العلامة الزرقاني في شرح المواهب 1 ص 366: رواه البخاري في بعض نسخه و مسلم والترمذي وغيرهم. ويوجد في تاريخ الطبري 11 ص 357.
(5) سورة الحجرات: 8.
2 - قال: أما معاوية فإنه بدون ريب يرى نفسه عظيما من عظماء قريش لأنه ابن شيخها أبي سفيان بن حرب وأكبر ولد أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، كما أن عليا أكبر ولد هاشم بن عبد مناف، فهما سيان في الرفعة النسبية (ج 2 ص 67) ج - ماذا أقول لمغفل؟! يرى عنصر النبوة، وآصرة القداسة المنتقلة بين أسلاب طاهرة، وأرحام زكية، من نبي إلى وصي إلى ولي إلى حكيم إلى عظيم إلى شريف إلى خاتم الرسالة إلى وصيه صاحب الولاية الكبرى، لدة العنصر الابشمي، ويراهما في الرفعة والشرف سيان، وشتان بين الشجرتين: شجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء. وشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار. وما أبعد ما بين الشجرتين: شجرة مباركة زيتونة، والشجرة الملعونة في القرآن (1) بتأويل من النبي الأعظم (2) بلا اختلاف بين اثنين في أنهم هم المراد من الشجرة الملعونة كما في تاريخ الطبري 11 ص 356.
وكيف يراهما الرجل سيان؟! والنبي الأعظم يقول: إن الله اختار من بني آدم العرب، واختار من العرب مضر، واختار من مضر قريشا، وأختار من قريش بني هاشم، واختارني من بني هاشم (3)
وكيف يراهما سيان؟! وقد استاء رسول الله صلى الله عليه وآله من ثمار هذه الشجرة الملعونة طيلة حياته فما رؤي ضاحكا من يوم رأى في منامه أنهم ينزون على منبره نزو
____________
(1) سورة الاسراء: 60.
(2) تاريخ الطبري 11 ص 356، تاريخ الخطيب 3 ص 343، تفسير القرطبي 10 ص 286، تفسير النيسابوري 15 ص 55 هامش تفسير الطبري.
(3) أخرجه البيهقي، ابن عدي، الحكيم، الطبراني، ابن عساكر، راجع كنز العمال 6 ص 204.
وكيف يراهما سيان؟! وبنو أمية هم الذين اتخذوا عباد الله خولا، ومال الله نحلا، وكتاب الله دغلا. كما أخبر به النبي الصادق الأمين (2).
وكيف يرى أبا سفيان شيخ قريش؟! وهو عارها وشنارها وهو الملعون بنص النبي الأعظم بقوله: أللهم؟ العن التابع والمتبوع، أللهم، عليك بالأقيعس (3) يوم رأى أبا سفيان ومعه معاوية. وبقوله: أللهم العن القائد والسائق والراكب. يوم نظر إليه وهو راكب ومعه معاوية وأخوه أحدهما قائد والآخر سائق (4)
وكيف يراه شيخ قريش لدة شيخ الأبطح؟! وفيه قال علقمة:
وليت الخضري يقرأ كلمة المقريزي في النزاع والتخاصم ص 28 وهي: أبو سفيان قائد الأحزاب الذي قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد، وقتل من خيار أصحابه سبعين ما بين مهاجري وأنصاري منهم: أسد الله حمزة بن عبد المطلب بن هاشم، وقاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم الخندق أيضا وكتب إليه:
باسمك اللهم أحلف باللات والعزى وساف ونائلة وهبل، لقد سرت إليك أريد استئصالكم. فأراك قد اعتصمت بالخندق فكرهت لقائي ولك مني كيوم أحد.
وبعث بالكتاب مع أبي سلمة الجشمي فقرأه النبي صلى الله عليه وسلم أبي بن كعب رضي الله عنه فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قد أتاني كتابك وقديما غرك يا أحمق بني غالب وسفيههم
____________
(1) تفسير الطبري 15 ص 77، تاريخ الطبري 11 ص 356، تاريخ الخطيب 9 ص 44 ج 8 ص 280، تفسير النيسابوري هامش الطبري 15 ص 55، تفسير القرطبي 10 ص 283، النزاع والتخاصم ص 52، أسد الغابة 3 ص 14 من طريق الترمذي، الخصايص الكبرى 2 ص 118 عن الترمذي والحاكم والبيهقي، تفسير الخازن 3 ص 177.
(2) النزاع والتخاصم ص 52، 54، الخصايص الكبرى 2 ص 118.
(3) قال البراء بن عازب: يعني معاوية.
(4) كتاب نصر بن مزاحم في حرب صفين 244، 148، تاريخ الطبري 11 ص 357.
(5) كتاب نصر ص 219.
ولم يزل يحاد الله ورسوله حتى سار رسول الله صلى الله عليه وسلم لفتح مكة فأتى به العباس ابن عبد المطلب رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أردفه، وذلك أنه كان صديقه و نديمه في الجاهلية، فلما دخل به على رسول الله صلى الله عليه وسلم سأله أن يؤمنه فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: ويلك يا أبا سفيان؟ ألم يأن لك أن تعلم أن لا إله إلا الله؟ فقال: بأبي أنت وأمي ما أوصلك وأجملك وأكرمك، والله لقد ظننت أنه لو كان مع الله غيره لقد أغنى عني شيئا. فقال يا أبا سفيان؟ ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله؟ فقال: بأبي أنت وأمي ما أوصلك وأجملك وأكرمك، أما هذه ففي النفس منها شئ. فقال له العباس: ويلك؟ إشهد لشهادة الحق قبل أن تضرب عنقك. فشهد وأسلم. فهذا حديث إسلامه كما ترى، واختلف في حسن إسلامه فقيل: إنه شهد حنينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت الأزلام معه يستقسم بها، وكان كهفا للمنافقين، وإنه كان في الجاهلية زنديقا، وفي خبر عبد الله بن زبير إنه رآه يوم اليرموك قال: فكانت الروم إذا ظهرت قال أبو سفيان: إيه بني الأصفر، فإذا كشفهم المسلمون قال أبو سفيان:
فحدث به الزبير أباه فلما فتح الله على المسلمين فقال الزبير: قاتله الله يأبى إلا نفاقا، أو لسنا خيرا من بني الأصفر؟.
وذكر المدايني عن أبي زكريا العجلاني عن أبي حازم عن أبي هريرة قال: حج أبو بكر رضي الله عنه ومعه أبو سفيان بن حرب فكلم أبو بكر أبا سفيان فرفع صوته فقال: أبو قحافة اخفض صوتك يا أبا بكر عن ابن حرب. فقال: أبو بكر يا أبا قحافة إن الله بنى بالاسلام بيوتا كانت غير مبنية، وهدم به بيوتا كانت في الجاهلية مبنية وبيت أبي سفيان مما هدم. ا هـ.
وكان يوم بويع أبو بكر يثير الفتن ويقول: إني لأرى عجاجة لا يطفئها إلا دم، يا آل عبد مناف؟ فيم أبو بكر من أموركم؟ أين المستضعفان؟ أين الأذلان علي و
____________
(1) هذا البيت من جملة أبيات للنعمان بن امرئ القيس.
فزجره علي وقال: والله ما أردت بهذا إلا الفتنة، وإنك والله طالما بغيت للاسلام شرا، لا حاجة لنا في نصحك. (2) وجعل يطوف في أزقة المدينة ويقول:
فقال عمر لأبي بكر: إن هذا قد قدم وهو فاعل شرا، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يستألفه على الاسلام فدع له ما بيده من الصدقة. ففعل فرضي أبو سفيان وبايعه (3)
وقد سبق الخضري في رأيه هذا معاوية فقال فيما كتب إلى علي أمير المؤمنين: نحن بنو عبد مناف ليس لبعضنا على بعض فضل. فأجاب عنه أمير المؤمنين بقوله: لعمري إنا بنو أب واحد ولكن ليس أمية كهاشم. ولا حرب كعبد المطلب. ولا أبو سفيان كأبي طالب. ولا المهاجر كالطليق. ولا الصريح كاللصيق. ولا المحق كالمبطل. ولا المؤمن كالمدغل. ولبئس الخلف خلف يتبع سلفا هوى في نار جهنم، وفي أيدينا بعد فضل النبوة. (4)
(قال الأميني)
ألم يأتهم نبأ الذين من قبلهم؟! قل: هو نبأ عظيم أنتم عنه معرضون.
3 - قال: نقول إن فكر معاوية في اختيار الخليفة بعده حسن جميل، وإنه
____________
م (1) هو جرير بن عبد المسيح من بني ضبية، توجد ترجمته في (الشعر والشعراء) لابن قتيبة، و (معجم الشعراء).
(2) الكامل لابن الأثير 2 ص 135.
(3) العقد الفريد 2 ص 249.
(4) كتاب صفين لابن مزاحم 538، 539، الإمامة والسياسة 1 ص 100، مروج الذهب 2 ص 61، نهج البلاغة 2 ص 12، شرح بن أبي الحديد 3 ص 424، م - ربيع الأبرار للزمخشري باب 66).
وقال: ومما انتقد الناس معاوية أنه اختار ابنه للخلافة وبذلك سن في الاسلام سنة الملك المنحصر في أسرة معينة بعد أن كان أساسه الشورى ويختار من عامة قريش وقالوا: إن هذه الطريقة التي سنها معاوية تدعوا في الغالب إلى انتخاب غير الأفضل الأليق من الأمة، وتجعل في أسرة الخلافة الترف والانغماس في الشهوات والملاذ والرفعة على سائر الناس.
أما رأينا في ذلك فإن هذا الانحصار كان أمرا حتما لا بد منه لصلاح أمر المسلمين وألفتهم ولم شعثهم، فإنه كلما اتسعت الدائرة التي منها يختار الخليفة كثر الذين يرشحون أنفسهم لنيل الخلافة، وإذا انضم إلى ذلك اتساع المملكة الإسلامية، وصعوبة المواصلات بين أطرافها، وعدم وجود قوم معينين يرجع إليهم الانتخاب، فإن الانتخاب واقع، ونحن نشاهد أنه مع تفوق بني عبد مناف على سائر قريش، واعتراف الناس لهم بذلك وهم جزء صغير من قريش فإنهم تنافسوا الأمر وأهلكوا الأمة بينهم، فلو رضي الناس عن أسرة ودانوا لها بالطاعة واعترفوا باستحقاق الولاية لكان هذا خير ما يفعل لضم شعث المسلمين ص 124.
إن أعظم من ينتقد معاوية في تولية ابنه هم الشيعة مع أنهم يرون انحصار ولاية الأمر في آل علي، ويسوقون الخلافة في بنيه، بتركها الأب منهم للابن، وبنو العباس أنفسهم ساروا على هذه الخطة.
ج - لم ينتقد معاوية من ينتقده لمحض اختياره وإنما انتقده من ناحيتين: الأولى عدم لياقته للتفرد وهو كما قال أمير المؤمنين في كلام له: لم يجعل الله عز وجل له سابقة في الدين، ولا سلف صدق في الاسلام، طليق ابن طليق، حزب من هذه الأحزاب لم يزل لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم وللمسلمين عدوا هو وأبوه دخلا في الاسلام كارهين (1) وفي الأمة أهل الحل والعقد الذين اختاروا خلافة أبي بكر، ثم وافقوا
____________
(1) تاريخ الطبري 6 ص 4.
الثانية: عدم لياقة من عينه من بعده وهو ذلك الماجن المتخلع المتظاهر بالفجور إن لم نقل بالكفر والالحاد.
أما عدم تعيين أهل الاختيار فإن أراد عدم تعينهم فذلك بهتان عظيم لأن الموجودين في الصدر الأول في عاصمة الاسلام المدينة المنورة الذين تصدوا لتعيين الخليفة هم أهل الحل والعقد، وكان أكثرهم موجودين إلى ذلك العهد، وأما من توفي منهم فقد قيضت الظروف من بعدهم من يد مسدهم، فإن يكن هؤلاء مفوضا إليهم أمر الخلافة بادء بدء فهم المفوض إليهم أمرها مهما تناقلت الخلافة، فليس لأحد أن يختار من دون رضا منهم، وإن هؤلاء القوم تعينهم الظروف والأحوال والمقتضيات المكتنفة بهم، ولا يعينهم نص من الكتاب أو السنة.
وإن أراد عدم تعيين هؤلاء الخليفة من بعد معاوية فإن ظرف التعيين ساعة موت الخليفة لا قبله. نعم: قد تنعقد الضمائر على انتخاب من يرون له الأهلية في أبان الانتخاب، وما أدرى معاوية أنهم سوف يهملون أمر الأمة ساعة هلاكه؟ ولماذا تفرد بالانتخاب من دون رضى منهم؟ ولماذا خضع أفرادا من القوم بالتخويف وآخرين بالتطميع؟ ومتى أبعد انتخابه الاختلاف الذي هو شر على الأمة؟ وفي الملأ الديني أمم ينقمون منه ذلك، وجموع ينتقدونه، وشراذم يضمرون السخط ويتظاهرون به حذار بادرته. نعم: هناك زعانفة اشتروا رضى المخلوق بسخط الخالق، وأعمتهم الصرر والبدر، فأبدوا الرضا.
ولو كانت هذه الفكرة حسنة جميلة فلماذا فاتت رسول الله صلى الله عليه وآله حين دنت منه الوفاة؟ فلم يرحض عن أمته معرة الخلاف، وترك المراجل تغلي حتى اليوم. وهل ترى لو كان أوصى إلى معين من أمته بالخلافة يوجد هناك لأحد مطمع غير المنصوص عليه؟ ودعى سعد بن عبادة إلى نفسه؟ وقال قائل الأنصار منا أمير، ومنكم أمير؟ وهتف
وأي خلاف رفعه تعيين يزيد وعلى عهده كانت واقعة الطف، وتلاها فاجعة الحرة، وأعقبهما أمر ابن الزبير، وقصة البيت المعظم؟! كل ذلك من جراء ذلك الاختيار، وثمرة تلك الفكرة الفاسدة، وفي الناقمين سبط النبوة حسين العظمة صلوات الله عليه وبقية بني عبد مناف وعامة المهاجرين والأنصار في المدينة المنورة.
ثم إن كان معاوية لم يجد بدا من الاختيار فلماذا لم يختر صالحا من صلحاء الصحابة؟ وفي مقدمهم سبط رسول الله الإمام الطاهر، ولا معدل عنه في حنكة أو علم أو تقوى أو شرف.
وكيف راق (الخضري) أن يرى هذا الاختيار حسنا جميلا صالح الأمة ولم يره حيفا وجناية عليها وعلى إسلامها ورسولها وكتابها وسنتها؟! ورسول الله صلى الله عليه وآله يوقظ شعور أمته قبل ذلك بأعوام بقوله: إن أول من يبدل سنتي رجل من بني أمية (1) وقوله: لا يزال هذا الأمر معتدلا قائما بالقسط حتى يثلمه رجل من بني أمية يقال له يزيد (2).
م - وأخرج ابن أبي شيبة وأبو يعلى: إن يزيد لما كان أبوه أمير الشام غزا المسلمون فحصل لرجل جارية نفيسة فأخذها منه يزيد فاستعان الرجل بأبي ذر فمشى معه إليه وأمره بردها ثلاث مرات وهو يتلكأ فقال: أما والله لئن فعلت فقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أول من يبدل سنتي لرجل من بني أمية: ثم ولى، فتبعه يزيد فقال: أذكرك بالله أنا هو؟ فقال: لا أدري، وردها يزيد.
قال ابن حجر في تطهير الجنان هامش الصواعق ص 145: لا ينافي هذا الحديث
____________
(1) الخصايص الكبرى 2 ص 139، تطهير الجنان في هامش الصواعق ص 145
(2) الخصايص الكبرى 2 ص 139، تطهير الجنان في هامش الصواعق ص 145 وقال: مسند؟؟ رجاله رجال الصحيح إلا أن فيه انقطاعا.
وأما رأيه في حصر الخلافة باسرة فإنا لا نناقشه إلا من عدم جدارة الأسرة التي يجنح إليها (الخضري) للخلافة. نعم: لا بأس به إذا حصرت باسرة كريمة تتحلى باللباقة والحذق من الناحية الدينية والسياسية، ونحن لا نقول بلزوم الحصر المذكور مع عدم اللياقة، فإنه غير واف لقم جذور الفساد، وقمع حذوم الاختلاف، فالأمة متى وجدت من خليفتها الحيف والجنف تثور عليه وتخلعه، وبطبع الحال يطمع في الخلافة عندئذ من هو أزكى منه نفسا، وأطيب أرومة، وأكرم خلقا، وحتى من يساويه في الغرائز، فأي مفسدة اكتسحها حصر الخلافة والحالة هذه؟!.
جير: إذا حصرت بمن ذكرناه وشاهدت الأمة منهم التأهل، فإن فيه منقطع أطماع الخارجين عن الأسرة من ناحية خروجهم عن البيت المعين لها، ودحض معاذير الثوار والمشاغبين من ناحية عدم وجود أحداث توجب الثورة والخروج، وعندئذ تتأكد خضوع الأمة لخليفة شأنه ما ذكرناه، فتعظم شوكته، وتتسق أموره، وتمتثل أوامره، فلا يدع معرة إلا اكتسحها، ولا صلاحا إلا بثه، والشيعة لا تقول بحصر الخلافة في آل علي عليهم السلام إلا بعد إخباتها إلى سريان ناموس العصمة في رجالات بيتهم المعينين للخلافة المدعومة بالنصوص النبوية المتواترة راجع ص 79 - 82 من هذا الجزء.
4 - قال: وعلى الجملة فإن الحسين أخطأ خطأ في خروجه هذا الذي جر على الأمة وبال الفرقة والاختلاف، وزعزع عماد ألفتها إلى يومنا هذا، وقد أكثر الناس من الكتابة في هذه الحادثة لا يريدون بذلك إلا أن تشتعل النيران في القلوب فيشتد تباعدها، غاية ما في الأمر أن الرجل طلب أمرا لم يهيأ له، ولم يعد له عدته، فحيل بينه وبين ما يشتهي وقتل دونه، وقبل ذلك قتل أبوه، فلم يجد من
ج - ليت الرجل كتب ما كتب بعد الحيطة بشئون الخلافة الإسلامية و شروطها، وما يجب أن يكتنفه الخليفة من حنكة لتدبير الشئون، وملكة لتهذيب النفوس، ونزاهة عن الرذائل ليكون قدوة للأمة، ولا ينقض ما يدعو إليه ببوائقه؟؟، إلى أمثالها من غرائز يجب أن يكون حامل ذلك العبء الثقيل متحليا بها، لكنه كتب وهو يجهل ذلك كله، وكتبه على حين أنه لم يحمل إلا نفسا ضئيلة تقتنع بما يحسبه دعة تحت نير الاضطهاد، وعلى حين أن ضعف الرأي ودقة الخطر يحبذان له راحة مزعومة في ظل الاستعباد، فلا نفس كبيرة تدفعه إلى الهرب من حياة الذل، ولا عقل سليم يعرفه مناخ الضعة، ولا إحاطة بتعاليم الاسلام تلقنه دروس الآباء والشهامة، ولا معرفة بعناصر الرجال ليعلم من نفسياتهم الكم والكيف، فلا عرف يزيد الطاغية حتى يعلم أنه لا مقيل له في مستوى الخلافة. ولاعرف حسين السؤدد والشرف والإباء و والشهامة، حسين المجد والامامة، حسين الدين واليقين، حسين الفضل والعظمة، حسين الحق والحقيقة، حتى يخبت إلى أن من يحمل نفسا كنفسه لا يمكنه البخوع ليزيد الخلاعة والمجون، يزيد الاستهتار والفسوق، يزيد النهمة والشره، يزيد الكفر والالحاد لم ينهض بضعة المصطفى إلا بواجبه الديني، فإن كل معتنق للحنيفية البيضاء يرى في أول فرايضه أن يدافع عن الدين بجهاد من يريد أن يعبث بنواميسه، ويعيث في طقوسه، ويبدل تعاليمه، ويعطل أحكامه، وإن أظهر مصاديق كلي ينطبق عليه هذه الجمل هو: يزيد الجور والفجور والخمور، الذي كان يعرف بها على عهد أبيه كما قال مولانا الحسين
وقال عليه السلام لمعاوية أيضا: حسبك جهلك آثرت العاجل على الآجل. فقال معاوية: وأما ما ذكرت من: أنك خير من يزيد نفسا. فيزيد والله خير لأمة محمد منك. فقال الحسين: هذا هو الإفك والزور، يزيد شارب الخمر ومشتري اللهو خير مني؟ (4)
وفي كتاب المعتضد الذي تلي على رؤوس الاشهاد في أيامه ما نصه: ومنه: إيثاره (يعني معاوية) بدين الله، ودعاؤه عباد الله إلى ابنه يزيد المتكبر الخمير صاحب الديوك والفهود والقرود، وأخذه البيعة له على خيار المسلمين بالقهر والسطوة والتوعيد والاخافة والتهدد والرهبة، وهو يعلم سفهه، ويطلع على خبثه ورهقه، ويعاين سكرانه وفجوره وكفره، فلما تمكن منه ما مكنه منه ووطأه له وعصى الله ورسوله فيه، طلب بثارات المشركين وطوائلهم عند المسلمين، فأوقع بأهل الحرة الوقيعة التي لم يكن في الاسلام أشنع منها ولا أفحش مما ارتكب من الصالحين فيها، وشفى بذلك عبد نفسه وغليله، وظن أن قد انتقم من أولياء الله، وبلغ النوى لأعداء الله فقال مجاهرا بكفره ومظهرا لشركه:
____________
(1) المهارشة، تحريش بعضها على بعض.
(2) المعازف ج معزف: آلات يضرب بها كالعود.
(3) الإمامة والسياسة 1 ص 153.
(4) الإمامة والسياسة 1 ص 155.
هذا هو المروق من الدين، وقول من لا يرجع إلى الله وإلى دينه ولا إلى كتابه ولا إلى رسوله، ولا يؤمن بالله ولا بما جاء من عند الله، ثم من أغلط ما انتهك، و أعظم ما اخترم سفكه دم الحسين بن علي وابن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم مع موقعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ومكانه منه ومنزلته من الدين والفضل وشهادة رسول الله له ولأخيه بسيادة شباب أهل الجنة اجتراء على الله، وكفرا بدينه، وعداوة لرسوله ومجاهدة لعترته، واستهانة بحرمته، فكأنما يقتل به وبأهل بيته قوما من كفار أهل الترك والديلم، لا يخاف من الله نقمة، ولا يرقب منه سطوة، فبتر الله عمره، واجتث أصله وفرعه، وسلبه ما تحت يده، وأعد له من عذابه وعقوبته ما استحقه بمعصيته. إلخ.
راجع تأريخ الطبري 11 ص 358
وقبل هذه كلها ما مر ص 257 من قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من أن أول من يبدل سنته رجل من بني أمية، ولا يزال الأمر معتدلا قائما بالقسط حتى يثلمه رجل من بني أمية يقال له: يزيد.
وإلى مثل هذه كان يرمي كل من ينقم بيعة يزيد، فخلافة مثله وهو على هذه الحالة خطر عظيم على الدين والمسلمين من شتى النواحي:
1 - فقوم تتضعضع ضمايرهم عن الدين لما تمركز في الأدمغة من أن الخليفة يجب أن يكون مسانخا لمن يتخلف عنه، والناشئة الذين لم يدركوا عصر النبوة و لم يكهربهم التعاليم الصحيحة في العصور المظلمة، تخالجهم هذه الشبهة بأسرع ما يكون، فيحسبون أن قداسة النبي الأعظم كانت ملوثة (العياذ بالله) بأمثال هذه الأدناس من دون علم بأن الرجل خليفة أبيه لا خليفة رسول الله، وإنما سنمه ذلك العرش المطامع والشره من جانب، والتخويف والارهاب من جانب.
2 - قوم يروقهم اقتصاص أثر الخليفة في تهتكه لميل النفوس إلى الاستهتار ورفض القيود تارة، ومن جهة حب التشبه بالعظماء والساسة طورا، (والناس على دين مليكهم) والناس إذا استهوتهم الشهوات لا يقفون على حد، فتكثر فيهم الموبقات، وتشيع الفواحش، فمن فجور إلى مثله، ومن فاحشة إلى أخرى، فلا يمر يسير من
3 - وهناك أقوام ينكرون هذه المظاهر وقد أفلتت من أيديهم المظاهر الدينية، فهم بين حائر لا يدري أين يولي وجهه وممن يأخذ معالم دينه، وبين من تتسرب إليه الشبه خلال هاتيك الظلمات الدامسة، فلا يشعر حتى يرى نفسه في هلكة الجاهلية الأولى.
4 - إذا سادت الخلاعة بين أي أمة من ملوكها وسوقتها وأمرائها وزعمائها فهي بطبع الحال تلتهي عن الشئون الاجتماعية والإدارية ودحض الفوضى، ومقاومة القلاقل الداخلية، فهنالك يسود فيها الضعف اختلال نظامها، فتنبو عن الدفاع عن ثغورها واستقلالها، فتطمع فيها الأجانب، وتكثر عليها الهجمات، فلا يمر عليها ردح قصير من الزمن إلا وهو فريسة الضاري، وأكلة الجشع، وطعمة كل مخالف.
5 - إن نواميس الاسلام كانت بطبع الحال تبلغ إلى أمم نائية عن مملكته فيروقها جمالها البهيج، وحكمتها البالغة، وموافقتها العقل والمنطق، وأعمال رجالها المخلصين، فيكون فيهم من يتأثر بجاذبتها، أو يكون على وشك من اعتناقها، ولا أقل من الحب الممتزج لنفسياتهم، لكن بينما القوم على هذه الحالة إذا تعاقب تلك الأنباء ما يضادها من عادات هذا الدور الجديد الحالك، وأخبارها الموحشة تحت راية تلك الخلافة الجائرة، وبلغهم أن هاتيك التعاليم الوضيئة قد هجرت، والمطرد في مملكة الاسلام غيرها بشهوة من الخليفة، وانهماك من القواد. وتهالك من الزعامة، وتفان من السوقة، فسرعان ما تعود تلك السمعة مشوهة، ويعود ذلك الحب بغضا من غير تمييز بين الأصيل والدخيل من الأعمال، فتكون الحالة معثرة في سبيل سير الاسلام وتسريه إلى الأجانب.
6 - أضف إلى هذه كلها ما كان يظهر من فلتات ألسنة الأمويين، ويرى في فجوات أعمالهم من نواياهم السيئة على الدين والمسلمين، وقد علمنا من ذلك أنهم لم يقلعهم عن دينهم الوثني الأرل إلا خشية السيف، والطمع في الزعامة، فأقل شئ ينتظر منهم على ذلك عدم اهتمامهم بنشر معالم الدين إن لم يرد الأمة عن سيرها الديني
ثم إن نفس الخليفة إذا شاهد من استحوذ عليهم من الأمم على هذه الأحوال، و علم أنه قد ملك الرقاب ولا منكر عليه من بينهم على مأثم يرتكبها أو سيئات يجترحها فإنه بالطبع يتوغل في غلوائه، ويزداد في انهماكه، ويشتد في التفرعن والاستعباد.
فأي خطر (أيها الخضري) أعظم على المجتمع الديني من هذه الأحوال؟! وأي مصلحة أعظم من اكتساح هذه المعرة؟ تدفع كل ديني غيور إلى النهوض في وجه هذه السلطة القاسية، وأي (عسف شديد ينوء الناس بحمله) أو (جور ظاهر لا يحتمل) أشد مما ذكرنا؟! الذي يترك كل متدين أن يرى من واجبه الانكار عليه، والنهضة تجاهه ولو بمفرده، وإن علم أنه مقتول لا محالة، فإنه وإن يقتل في يومه لكن حياته الأبدية في سبيل الدين والشريعة لا تزال مضعضعة لأركان الدولة الظالمة، وهو فيها يتلو على الملأ صحيفة صاحبها السوداء، وإنه كان مغتصبا ذلك العرش المقدس، و إنه إنما وئد هذا الانسان دون إنكاره على جرائمه، ويتخذ الملأ الواقف على حديثه درسا راقيا من التضحية، والمفادات دون المبدء الصحيح، فيقتصون أثره، ويحصل هناك قوم يرقبون لهذا المضحي فينهضون لثاراته، وفي الأمة بقية ساخطة لمآثم المتغلب، وفتكه بالمنكر عليه، فتلتقي الروحان: الثائرة والساخطة، فتنهك هذه قوى الدولة الغاشمة، وتتثبط الأخرى عن مناصرتها، فيكون هناك بوار الظلم، وظهور الصالح العام.
وهكذا أثرت نهضة الحسين المقدسة حتى أجهزت على دولة الأمويين أيام حمارهم، وهكذا علمت الأمة دروسها الراقية، لكن (الخضري) ومن يلف لفه قد أعشى الجهل أبصارهم بصائرهم.
لم يكن حسين التضحية يريد ملكا عضوضا حتى كان خروجه قبل الأهبة خطأ عظيما كما يحسبه (الخضري) فيقول بملأ فمه: فحيل بينه وبين ما يشتهي وقتل دونه...
وإنما أراد الفادي الكريم والمجاهد الظافر التضحية في سبيل الدين، ليعلم الأمة
وما كان حسين العظمة بالذي تذهب أعماله إدراج الرياح لما هو المعلوم بين أمة جده من شموخ مكانته، ورفعة مقامه، وعلمه المتدفق، ورأيه الأصيل، وعدله الواضح، وتقواه المعلومة، وإنه ريحانه رسول الله صلى الله عليه وآله المستقي من تيار فضله، فلن تجد بين المسلمين من ينكر عليه شيئا من هذه المآثر وإن كان ممن لا يدين بخلافته، فما كانت الأمة تفوه بشئ حول نهضته القدسية قبل التنقيب والنظر، وقد نقبوا وترووا فيها فوجدوها طبقا لصالح المجتمع، فلم يسمع من أحدهم غير تقديس أو إكبار، ولذلك لم تسمع أذن الدهر من أي أحد ما تجرأ به (الخضري) بقوله: أخطأ.
إنهم يقولون منكرا من القول وزورا.
فالذي نستفيده من تاريخ السبط المفدى هو وجوب النهوض في وجه كل باطل ومناصرة كل حق، ولإبقاء هيكل الدين، ونشر تعاليمه، وبث أخلاقه، نعم: يعلمنا هذا التاريخ المجيد النزوع إلى إيثار الخلود في البقاء ولو باعتناق المنية على الحياة المخدجة تحت نير الاستعباد، والمبادرة إلى الانتهال من مناهل الموت لتخليص الأمة من مخالب الجور والفجور، ويلزمنا بسلوك سنن المفاداة دون الحنيفية البيضاء، والنزول على حكم الآباء دون مهاوي الذل، هذا غيض من فيض من دروس سيدنا الحسين عليه السلام التي ألقاها على أمة جده، لا ما جاء في مزعمة (الخضري) من أن التاريخ... إلخ.