الصفحة 66

صورة الصفحة الأُولى من كتاب " البلاغ المبين "
الطبعـة الأُولى


الصفحة 67

صورة الصفحة الأُولى من رسالة " الردّ على الوهّابية " الطبعـة الأُولى


الصفحة 68

صورة الصفحة الأخيرة من رسالة " الردّ على الوهّابية " الطبعـة الأُولى


الصفحة 69


( 1 )


مسـألة في
الـبَـــداء





الصفحة 70

الصفحة 71

بسم الله الرحمن الرحيم
وله الحمـد وهو المسـتعان

إنّ الله جلّ شأنه قد اقتضت حكمته ولطفه بعباده ـ في دلالتهم على مقام إلهـيّـته في علمه وقَـدَرِه وإرادته ـ أن يجعل نظام العالَم ـ في أحواله وأدواره ومواليده ـ مبنيّـاً ـ نوعاً ـ على قوانين الأسـباب والتسـبيب في المسـبّبات، المرتبطة بالغايات والحِكَم، والدالّـة على قصـدها.

وهو الخالقُ للسـبب والمسـبّب، والجاعلُ للتسـبيب، وبيده الأسـباب وتسـبيباتها، في وجودها وبقائها وتأثيرها، وتحكيم بعضها على بعض، فقد يُـعْدِمُ السـببَ، وقد يُبْـطِلُ تأثيـرَه، وقد يَمنـعُ تأثيـرَه بسـبب آخر، وقد يُعدِمُ ما يحسـب الناسُ أنّه موضوعُ القانونِ المقـرّرِ ويُقيمُ غيـرَه مقامَـه.

وهذا هو مقام الـبَـداء والمحو والإثبات.

وهو ـ جلّ شأنه ـ عالِمٌ منذ الأزل بما تؤدّي إليه مشـيئته

الصفحة 72
من المحو والإثبات، وهذا العلم هو: (أُمّ الكتاب)(1).

فالمحـو إنّما هو لِما لَه نحو ثبوت بتقدير الأسـباب وتسـبيباتها، وسـيرها في التسـبيب.

وعلى ذلك يجري ما روي في " أُصول الكافي "، في صحيحة هشام وحفص، عن أبي عبـد الله (عليه السلام):

" [ و ] هل يُمحى إلاّ ما كان ثابتاً؟!... " الرواية(2).

إذ لا يُعقل محو ما هو ثابتُ الوقوعِ بعينه في علم الله وأُمّ الكـتاب.

وأمّا كون المراد من المحو هو إفناء الموجود، ومن الإثبات إيجاد المعدوم، أو إبقاء الموجود، كما ذُكر في صدر السـؤال(3):

فيدفعه أوّلا: أنّه خلافُ ظاهر الآية الكريمة وسوقها ; لأنّ اسـتعمال المحو ومقابلته بأُمِّ الكتاب إنّما يناسـب مقام التسـجيل والكـتابة، التي هي كناية عن التقدير والتسـجيل بسـير الأسـباب

____________

1- سورة الرعد 13: 39 ; وتمام الآية الكريمة: (يَمْحُو اللهُ ما يَشاءُ ويُـثْـبِـتُ وَعِنْـدَهُ أُمُّ الكِتاب).

2- الكافي 1 / 114 ح 2، وتتمّـته: " وهل يُثبت إلاّ ما لم يكن؟! " ; وانظر: التوحيـد: 333 ح 4.

3- يشـير المؤلف ـ نـوَّر الله مرقده ـ إلى ورود سؤال عن " الـبَـداء " إليه، وإلى تحرير هذه الرسالة جواباً عن ذلك السؤال.


الصفحة 73
ـ وإن كان نوعيّـاً ـ.

ولا يناسـب في المقام إفناء العين الموجودة، مضافاً إلى أنّه عند إرادة الإفناء لا يبقى لقوله تعالى: (وعِنـدَه أُمُّ الكِتاب) معنىً تأسـيسـيٌّ ترتبط به أطرافُ الكلام في الآية ويناسـب ذِكرَ المحو والإثبات، كما لا ينبغي أن يخفى.

ويدفعه ثانياً: احتجاج الإمام (عليه السلام) بهذه الآية للـبَـداء، وكذا الكـثير من اسـتـشـهادات الأئمّـة بهذه الآية.


*  *  *

وأمّـا الـبَـداء، فهو بمعنى الظهور ; مأخوذٌ مِن: بَـدا يَـبْـدُو بَـدْواً وبُـدُوّاً وبَـداءةً وبَـداءً وبُـدُوءاً، فيقال: فلانٌ بَـدا لـه في الرأي، أي ظهر له ما كان مخفـيّـاً عنه، وفلانٌ برزَ فَـبَدا لـه من الشجاعة ما كان مخفـيّـاً عن الناس(1).

فمعنى " بَـدا " في المثالين واحد، ولكنّ الاختلاف فيهما جاء من ناحية اللام وربطها للظهور.

فالـبَـداء المنسوب إلى الله جلّ شأنه إنّما هو بمعنى

____________

1- انظر مادّة " بدا " من: الصحاح 6 / 2278، لسان العرب 1 / 347، ومادّة " بدو " من تاج العروس 19 / 189 ـ 190.


الصفحة 74
المثال الثاني. أي: ظهر لله من المشـيئة ما هو مخفيٌّ على الناس، وعلى خلاف ما يحسـبون(1).

هـذا ما يقتضيـه العقـل.

ويشـهد له من صريح الأحاديث ما رواه في " أُصول الكافي "، في صحيح عبـد الله بن سـنان، عن أبي عبـد الله (عليه السلام):

" ما بَـدا لله في شيء إلاّ كان في علمه قبل أن يبـدو لـه "(2).

ورواية عمرو بن عثمان، عنـه (عليه السلام):

" إنّ الله لم يَـبْـدُ له مِن جهل "(3).

وصحيحة فضيـل ـ الآتية ـ، عن أبي جعفر (عليه السلام)(4).

وصحيحة منصور بن حازم: " سألت أبا عبـد الله (عليه السلام): هل يكون اليوم شيءٌ لم يكن في علم الله بالأمـس؟

قال (عليه السلام): لا، مَن قال هذا فأخـزاه الله!

قلتُ: أرأيتَ ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة، أليس في علم الله؟!

____________

1- بمعنى أنّه ظهر من مشـيئة الله إلى الناس ما كان مخفـيّـاً عليهم، وخلاف ما كانوا يحسـبون.

2- الكافي 1 / 114 ح 9.

3- الكافي 1 / 115 ح 10.

4- تأتي في الصفحـة 78.


الصفحة 75
قال (عليه السلام): بلى، قبل أن يخلق الخلق "(1).

أقـول:

وإنّ قوله تعالى: (يَمْحُو اللهُ ما يَشاءُ ويُثْبِتُ وَعِنْـدَهُ أُمُّ الكِتاب) ينادي بأنّ مقام المحو والإثبات هو غير مقام أُمّ الكتاب، وعلم الله المكنون، ومشـيئته وإرادته الأزلية..

بل هو في مقام الظاهر في سـير الأسـباب وتسـبيباتها..

فقد تقتضي مشـيئته ـ جلّ اسمه ـ أن يمنع أسـباب البقاء وطول العمر عن الزاني وقاطع الرحم، وقد يمنع الأسـباب المهلكة عن واصل الرحم والمتصدّق والداعي ـ مثلا ـ ; فيمحو في هـذه المـوارد ما جعلـه لنوع الأسـباب من التسـبيب، وقـد لا يمحوه في بعض الموارد لحكمة أُخرى، فيكون قد أثبته، أي أبقاه ثابتـاً.

وقد يراد من قوله تعالى: (يُـثْبِتُ) أنّه يثبت حين المحـو خلاف المحو ; والله العالِم.

قد كان الناس يحسـبون أنّ إسماعيل ابن الصادق (عليه السلام) هو الإمام بعد أبيه ; لِما علموه من أنّ الإمامة للولد الأكبر ما لم يكن ذا عاهة ; ولأنّ الغالب في الحياة الدنيا وأسـباب البقاء أن يبقى

____________

1- الكافي 1 / 115 ح 11 ; وانظر: التوحيـد: 334 ح 8.


الصفحة 76
إسماعيل بعد أبيه (عليه السلام)، فـبَـدا وظهَرَ بموت إسماعيل أنّ الإمام هو الكاظم (عليه السلام) ; لأنّ عبـد الله كان ذا عاهة، فظهر لله(1) وبَـدا للناس ما هو في علمه المكـنون(2).

وكـذا في موت محمّـد ابن الهادي عليهما السلام، حيث ظهر للشـيعة أنّ الإمام بعـد الهادي هو الحسـن العسـكري (عليه السلام).

وهذا الظهور للشـيعة هو الأمرُ الذي أحدثه اللهُ بموت محمّـد، كما قال الهـادي للعسـكري عليهما السلام عنـد موت محمّـد: " أَحْـدِث لله شكراً، فقد أَحْـدَثَ فيكَ أمراً "(3).

فالإمامة ثابتة للكاظم والعسكري منذ الأزل، وقد جاء في الأحاديث البالغة حدّ التواتر ـ أو ما يقاربه ـ عن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)والأئمّـةِ ممّن هو قبل الكاظم والعسكري (عليهم السلام) ما يتضمّن النصّ على إمامتهما في جملة الأئمّـة (عليهم السلام)، وقد ذُكر(4) بعضُ هذه

____________

1- أي: من الله إلى الناس.

2- قال الإمام الصادق (عليه السلام): " ما بَـدا لله بَـداءٌ كما بَـدا له في إسماعيل ابني ".

قال الشيخ الصدوق (قدس سره): " يقول: ما ظهر لله أمرٌ كما ظهر له في إسماعيل ابني، إذ اخترمه قبلي ليُعلم بذلك أنّه ليـس بإمام بعدي ".

التوحيـد: 336 ح 10.

3- الكافي 1 / 262 ح 4 و 5 و 8.

4- أحال الشيخ البلاغي (قدس سره) هنا على كتابه " نصائح الهدى " ولم ينسـبه إلى نفسه تواضعاً ونكراناً للذات كما هي عادته.

راجع الصفحة 58 هـ 1.


الصفحة 77
الأخبار بنحو الإشارة إليها في كتاب " نصائح الهدى "(1).

وإلى ما ذكرناه في معنى الـبَـداء والمحو يرشد ما رواه في " أُصول الكافي ":

كصحيحـة زرارة، عن أحدهمـا عليهما السلام:

" ما عُـبِـدَ اللهُ بشيء مثل الـبَـداء "(2).

ومعتبـرة هشام بن سالم، عن أبي عبـد الله (عليه السلام):

" ما عُـظِّـمَ اللهُ (بشيء مثل) الـبَـداء "(3).

وصحيحـة الريّـان، عن الرضـا (عليه السلام):

" ما بَعث الله نبيّـاً قطّ إلاّ بتحريم الخمر، وأن يقـرّ لله بالـبَـداء "(4).

____________

1- نصائح الهدى: 64 وما بعدها.

وراجع في أمر النصّ على إمامة الإمامين موسى الكاظم والحسن العسـكري عليهما السلام: الكافي 1 / 245 ـ 248 و ص 261 ـ 264 و ص 441 ح 1 و ص 442 ح 3، كفاية الأثر: 255 ـ 263 و ص 282 ـ 288 ومواضـع أُخرى مختلفة منه، الإرشـاد 2 / 216 ـ 220 و ص 314 ـ 320، إعلام الورى 2 / 7 ـ 15 و ص 133 ـ 136.

2- الكافي 1 / 113 ح 1 ; وانظر: التوحيـد: 331 ـ 332 ح 1.

3- الكافي 1 / 113 ذ ح 1 ; وانظر: التوحيـد: 333 ح 2، وفيهما بدل ما بين القوسـين: " بمثـل ".

4- الكافي 1 / 115 ح 15 ; وانظر: التوحيـد: 333 ـ 334 ح 6.


الصفحة 78
ونحوها معتبرتا مرازم وجهم، عن أبي عبـد الله (عليه السلام)(1).

فإنّ الاعتراف بمجرّد أنّه يَظهرُ لله من الأُمور ما لم يكن محتسَـباً ـ بل كان المحتسَـب غيـره ـ ليـس له أهمّـيّة بالنسـبة إلى جـلال الله.

إذاً، فالفضل المذكور والأهمّـيّة الكبرى للاعتراف بالـبَـداء ما هو إلاّ لأنّه يرجع إلى الاعتراف بحقيقة الإلهيّـة، وأنّ الموجِد للعالَم إنّما هو إلهٌ موجِدٌ بالإرادة والقدرة على مقتضى الحكمة، متصرِّفٌ بقدرته بما يتراءى من العلل وتعليلاتها التي هي من صنعه وإيجاده، والخاضعة لتصرّف مشـيئته فيها، لا أنّ وجودَ العالَمِ منوطٌ بالتعليلات الطبيعيةِ ومحضِ اقتضاءِ الطبيعةِ العمياء فاقدةِ الشعورِ والإرادةِ ; تعالى الله عمّـا يقولون.

وعلى ذلك تجري صحيحـة محمّـد بن مسلم، عن أبي عبـد الله (عليه السلام):

____________

1- قال مرازم: سمعت أبا عبـد الله (عليه السلام) يقول: " ما تنبّـأ نبيٌّ قطّ حتّى يقـرّ لله بخمس خصال: بالـبَـداء، والمشـيئة، والسجود، والعبودية، والطاعة ".

الكافي 1 / 115 ح 13 ; وانظر: التوحيـد: 333 ح 5.

وقال جهم، عمّن حدّثه: قال أبو عبـد الله (عليه السلام): " إنّ الله عزّ وجلّ أخبر محمّـداً (صلى الله عليه وآله وسلم) بما كان منذ كانت الدنيا، وبما يكون إلى انقضاء الدنيا، وأخبره بالمحتوم من ذلك، واسـتـثنى عليه في ما سواه ".

الكافي 1 / 115 ح 14.


الصفحة 79
" ما بعث الله نبيّـاً حتّى يأخذ عليه ثلاث خصال: الإقرار [ له ] بالعبودية، وخلع الأنداد، وأنّ الله يقدّم ما يشاء ويؤخّـر ما يشاء "(1).

فالـبَـداء، وأنّ الله يمحو ما يشاء ويثبِت، وعنده أُمّ الكتاب، يكون الاعتراف بحقيقتها المعقولة ومدلول الأحاديث، هو الفارق بين الإلهيّـة والطبيعية، وهو الفارق بين الاعتراف بحقيقة الإلهيّـة وبين المزاعم المسـتحيلة في مسألة العقول العشرة(2)، المبنية على التقليد الأعمى للفلسفة اليونانية ومزاعم

____________

1- الكافي 1 / 114 ح 3 ; وانظر: التوحيـد: 333 ح 3.

2- العقول العشرة هي:

1 ـ العقل بالفعل: هو الذي من شأنه إدراك المعقولات الثانية، أي العلوم الكسـبية.

2 ـ العقل بالملَـكة: هو الذي من شأنه إدراك المعقولات الأوّلية، أي البَدهيّـة والعلوم الضرورية.

3 ـ العقل العملي: هو الذي من شأنه الاسـتعداد المحض من غير حصول علم ضروريّ أو كسـبيّ.

4 ـ العقل الغريزي: هو الذي يتعلّق به التكليف، ويلزم به التعبّـد.

5 ـ العقل الفطري: هو الذي يحكم بالبَدهيّات ; ككون الكلّ أعظم من جزئه.

6 ـ العقل الفـعّـال: هو الذي تكون فيه جميع المعقولات مرسّـمة، وتخرج العقول الإنسانية من القـوّة إلى الفعل.

7 ـ العقل المسـتفاد: هو حصول العلوم الكسـبية بالفعل، المتعلّـقة بالأُمور العلمية والعملية.

8 ـ العقل المكتـسَـب: هو الذي يؤدّي إلى صحّة الاجتهاد وقـوّة النظر.

9 ـ العقل النظري: به يدرك الإنسان التصوّرات والتصديقات، ويعتقد الحقّ والباطل في ما يعقل ويدرك.

10 ـ العقل الهيولاني: هو الذي من شأنه الاسـتعداد المحض من غير حصول علم ضروري أو كسـبيّ.

انظر: شرح المصطلحات الكلامية: 220 ـ 224.


الصفحة 80
أوهامها، مع الخبط في أمر الإيجاد بالإرادة والتعليل الطبيعي.

ثمّ إنّ مقتـضى دلالة العقل والنقل هو أنّ الـبَـداء والمحـو لا يقعان في ما أخبر اللهُ به أنبـياءَه وأوصياءَهم، وأخبروا به عنه جـلّ اسـمه.

أمّا دلالة العقل ; فلأنّ وقوع ذلك يسـتلزم عدم وثوق الناس بهم وبأخبارهم، وحمل الناس لهم على الجهل والكذب على الله، فيسقط محلّهم، وينتقض الغرض من نصبهم للنبوّة والإمامة ; ونقض الغرض قبيـح ومحـال على الله جلّ اسمه.

وأمّا النقل ; فمنه ما رواه في " أُصول الكافي "، في صحيحـة الفضيل، عن أبي جعفـر (عليه السلام):

" العِلم عِلمـان:

فعِلمٌ عند الله مخزون لم يُطلِـع عليه أحداً مِن خلقه..

وعِلمٌ علّمه ملائكتَه ورسلَه، فما علّمه ملائكته ورسله

الصفحة 81
فإنّه سـيكون، لا يكذّب اللهُ نفسَه ولا ملائكتَه ولا رسلَه..

وعِلمٌ(1) عنده مخزون يقـدِّم منه ما يشاء، ويؤخّر منه مـا يشاء، ويثبِت ما يشاء "(2).

ونحوهـا صحيحتـه الأُخرى عن أبي جعفـر (عليه السلام)(3)، وروايـة أبي بصيـر، عن أبي عبـد الله (عليه السلام)(4).

وأيضاً: إنّ الأنبياء والأئمّـة لا يخبرون عن المغيّبات من اطّلاعهم على الأسـباب وقوانينها، التي هي مَعرضٌ للـبَـداء والمحو ـ كما يسمّيها الناس بـ " النفوس الفلكـيّـة والألواح القدريّـة "، إنْ هي إلاّ أسماء ـ، فإنّه اعتماد على الظنّ، وهو خلاف وظيفتهم الكريمة، ويلزم من ذلك أن يجعلوا أنفسـهم معرضاً لعدم الوثوق بهم، وعَـدّ الناس لهم من الكاذبين حينما

____________

1- هذا بيـانٌ من الإمام (عليه السلام) وتفصيلٌ لعِلم الله المخـزون، المتقـدّم آنفـاً.

2- الكافي 1 / 114 ح 6.

3- قال الفضيل: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: " من الأُمور أُمورٌ موقوفة عند الله، يقـدِّم منها ما يشاء، ويؤخّر منها ما يشاء ".

الكافي 1 / 114 ح 7.

4- قال أبو بصير: قال أبو عبـد الله (عليه السلام): " إنّ لله عِلمين، عِلمٌ مكنون مخزون، لا يعلمه إلاّ هو، مِن ذلك يكون الـبَـداء، وعِلمٌ علّمه ملائكـتَه ورسلَه وأنبـياءَه، فنحن نعلمه ".

الكافي 1 / 114 ح 8.


الصفحة 82
يظهر خلاف ما أَخبروا به، وهذا نقضٌ لغرضهم في دعوة الناس إلى الله وإلى قبول أقوالهم وإرشادهم وتصديقهم، ونقض الغرض قبيـح مسـتحيل على المعصوم.

إذاً، فلا يخبرون الناس بالغيب اعتماداً على الأسـباب أو الألواح القدريّة ـ كما يقال ويُزعم ـ، وإن كانوا أكمل البشر في تلك العلوم.

وممّا يشهد لذلك ما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) من قوله في بعض المواطن:

" ولولا آيةٌ سـبقت في كتاب الله ـ وهي قوله تعالى: (يَمْحُو الله ما يَشاءُ ويُـثْبِتُ وَعِنـدَهُ أُمُّ الكِتابِ) ـ لأخبرتُـكم بما يكون إلى يوم القيامـة "(1).

يريد ـ صلوات الله عليه ـ أنّ هذه العلوم المسـتندة إلى سـير الأسـباب والتسـبيبات والتقدير هو أعلم الناس بها، وأكملهم فيها، ولكـنّه لا يعتمد عليها، ولا يخبر الناس بمداليلها، لأنّها مَـعْـرضٌ للمحو.

____________

1- ورد الحديث باختلاف يسـير في المصادر التالية: التوحيد: 305 ح 1، الأمالي ـ للصدوق ـ: 280 ب 55 ح 1، الاحتجاج: 258، قرب الإسناد: 353 ح 1266، وعنها في بحار الأنوار 4 / 97 ح 4 و 5.


الصفحة 83

فالمحصّـل ممّـا ذكرنـاه:

أنّ المحو والإثبات في الآية الكريمة ليـس المرادُ منها إفناءَ الموجودِ وإبقاءَه، أو تجديدَ موجود آخر.

وأنّ الـبَـداء والمحوَ لا يتعلّق بما في أُمّ الكتاب، ولا بما يخبر اللهُ به أنبـياءَه والأئمّـة، ولا بما يخبرون به عن الله من أنباء الغيب ; ولا يخبرون عمّا هو معرضٌ للـبَـداء والمحو، صلوات الله وسـلامه عليهم.

والحمـد لله أوّلا وآخـراً

*  *  *


الصفحة 84

الصفحة 85


( 2 )


نسـمات الهدى
ونفحـات المهديّ





الصفحة 86

الصفحة 87

[ تـمـهـيـد ]

قد وقفنا اتّـفاقاً على صورة مقالة انتشرت في العدد 96 من مجلّة " السياسة " المصرية، في سنتها الثانية، عنوانها: " المهديّ المنتظَر.. نشأته، وأطواره في التاريخ " بتوقيع: زكي نجيب محمـود(1)..

فكان من واجب الحقيقة الدينية والتاريخية أن نعلّق على بعض كلماتها على وجه الإيجاز..

____________

1- فيلسوف مفكّر، من دعاة التغريب، وُلد في إحدى قرى محافظة دمياط بمصر سنة 1323 هـ / 1905 م، وتوفّي في إحدى مسـتـشـفيات القاهرة سنة 1414 هـ / 1993 م، نال شهادة الدكتوراه في الفلسفة من جامعة لندن، تولّى رئاسة تحرير مجلّة " الفكر المعاصر " منذ إنشائها، وكذا مجلّة " الثقافة "، ألّف وترجم كتباً عديدة في الفلسفة والثقافة والأدب، أدرج في كتبه ومقالاته أفكاره المعادية للدين والشرع الحنيف، ممّا حدا بالكثيرين للتصدّي له والردّ عليه وتفنيد ادّعاءاته ودحض شبهاته، كالعلاّمة البلاغي ـ في الرسالة التي بين يديك ـ، والشيخ محمّـد متولّي الشعراوي، وكمال المليجي.

انظر: تتمّة الأعلام 1 / 192، ذيل الأعلام: 88، إتمام الأعلام: 102، تكملة معجم المؤلّفين: 195.


الصفحة 88

[ التشكيك بالمهديّ (عليه السلام) ]

  فمن كلماته قوله: " كثيراً ما تعـترض الإنسـانية أزمنـة يكـثر فيها الأحزاب والفوضى، فسرعان ما تسود الفكرة عند الشـعوب الساذجة أنّ السماء سـتُـنزل رجلا يعيد النظام وينشر الأمن والعدل بين الناس..

فالعقول البسيطة إذا حلّت كارثة لا تلجأ إلاّ إلى القوّة الإلهية ; وقد حدث ذلك عند اليهود والمسـيحيّـين والمسلمين على السواء..

إلى أن قال: وهذه الفكرة لعبت دوراً كبيراً في الإسلام، حتّى إنّـها لا تـزال ـ إلى اليـوم ـ تسـتولي على معـظـم العـقـول " ; انـتهى.

يا للعجب!! قد كـنّا نسمع من طنين الإلحاد ـ في رواية تاريخ الأديان ـ ما اختلقته الأفكار الشاذّة من أوهام الأهواء، أخذاً عن نزعات المبادئ المادّية، وهو:

إنّ البشر لمّا أرعبتهم الأهوال الكونية بصدفة الطبيعة، اختلقوا لهم ما وراء الطبيعة إلهاً، افترضوه قادراً على التصرّف بإرادته في العالم ; وذلك لكي يلتجئوا إليه ويسـتغيثوا به عند

الصفحة 89
عروض الأهوال والكوارث، ليخلّصهم منهـا.

وعلى نَعْرة(1) هذه الرواية قد طبّل المطبّلون وزمّر المزمّرون، وإنّ هذا الكاتب لم يحترم الحقائق، ولا أهل الأديان في مبادئهم، بل تحمّل المسؤولية الكبرى لشرف الحقيقة!

ولكـنّا نحترمه فلا نقول: إنّه ضرب على ذلك الوتر، وترنّم بتلك النغمة، وترنّح على ذلك الإيقاع! بل ننشد عن لسان حاله:


عيونُ المها بين الرُّصافَةِ والجسرِجَلبنَ الهوى من حيثُ أدري ولا أدري(2)

على رِسْلك أيّها الكاتب! إنّ أهل الأديان الّذين يقولون بنحو ما تذكره عنهم، هم إلهيّون متديّنون، قد أخذوا قولهم هذا من البشائر الإلهيّـة بواسطة النبوّات..

ويا ليتما يتّضح لنا أنّ المناقشة معهم في هذا القول ـ شكّـاً أو جحـوداً ـ هـل هي في الإلهيّـة التي هي مركز الحقائـق، أو

____________

1- النعرة: صوت في الخيشوم على الاسـتعارة هنا ; انظر: تاج العروس 7 / 543 ـ 544 مادّة " نعـر ".

2- البيت من شعر علي بن الجهم، والرصافة هي الجانب الشرقي من بغـداد، وفيها مقابر خلفاء بني العبّـاس.

انظر مادّة " رصف " في: معجم البلدان 3 / 53 رقم 5503، تاج العروس 12 / 230.


الصفحة 90
في صدق النبـوّات، أو في صدور هذا النبـأ عنها؟!

أمّا المناقشة في المركز المذكور، فيلزم فيها المصارحة بتعديل صفوف البحث، ليجري الكلام على مجاريه.

وكذا الكلام في صدق النبـوّات..

وأمّا صدور هذا النبأ عنها ; فإنّ كلّ أُمّة تملي عليك من كتب وحيها وتقاليدها البشرى بذلك شـيئاً كثيراً.

وعلينا ـ معاشر المسلمين ـ أن نملي عليك بعض ما جاء في ديننا عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) في شأن المهديّ، ممّا يَجْـبَـهُ(1)الريبَ والتشـكيك..


*  *  *

____________

1- جَبَهَهُ جَبْهاً: صَكَّ جَبهتَه ; وَجَبَه الرجلَ يَجْبَـهُهُ جَبْهاً: رَدَّه عن حاجته واستقبله بما يكره ; وجَبَهْتُ فلاناً إذا استقبلته بكلام فيه غِلظة ; وجَبَهْتُه بالمكروه إذا اسـتقبلته بـه.

انظر: لسان العرب 2 / 172 ـ 173 مادّة " جبه ".

والمعنى: أنّه يردّ الشكوك والشـبهات ويدحضها.