الصفحة 105
العلقة الاعتبارية الاجتماعية، ومن المعلوم أنّ المطلّقة لا تطلق، والمسرَّحة لا تسرح.

وربّما يقال: إنّ المطلقة ما زالت في حبالة الرجل وحكمها حكم الزوجة، فعندئذ يكون للصيغة الثانية والثالثة تأثير بحكم هذه الضابطة. ولكن الإجابة عنه واضحة، وذلك لأنّ الصيغة الثانية لغوٌ جداً، لأنّ الزوجة بعدها أيضاً بحكم الزوجة. وإنّما تخرج عنه إذا صار الطلاق بائناً وهو يتحقّق بالطلاق ثلاثاً.

والحاصل: أنّه لا يحصل بهذا النحو من التطليقات الثلاث، العدد الخاص الذي هو موضوع للآية التالية، أعني قوله سبحانه: (فَإنْ طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ) وكيف لا يكون ذلك، وقد قال (صلى الله عليه وآله) : "لا طلاق إلاّ بعد نكاح"، وقال: "لا طلاق قبل نكاح"(1).

فتعدّد الطلاق رهن تخلّل عقدة الزواج بين الطلاقين، ولو بالرجوع، وإذا لم تتخلّل يكون التكلّم أشبه بالتكلّم بكلام لغو.

قال السماك: إنّما النكاح عقدة تعقد، والطلاق يحلّها، وكيف تُحل عقدة قبل أن تعقد؟!(2)

3 ـ قوله سبحانه: (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ)

إنّ قوله سبحانه: (الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ)، وارد في الطلاق الذي يجوز فيه الرجوع(3). ومن جانب آخر دلّ قوله سبحانه: (إذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ

____________

1- البيهقي، السنن الكبرى 7: 318 - 321 ـ الحاكم، المستدرك 2: 24.

2- المصدر نفسه 7: 321.

3- فخرج الطلاق البائن كطلاق غير المدخولة، وطلاق اليائسة من المحيض الطاعنة في السن وغيرهما.


الصفحة 106
لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ) (الطلاق/1). على أنّ الواجب في حقّ هؤلاء هو الاعتداد واحصاء العدّة، من غير فرق بين أن نقول: إنّ "اللام" في (عِدَّتِهِنَّ)للظرفية بمعنى "في عدّتهنّ" أو بمعنى الغاية، والمراد لغاية أن يتعددن، إذ على كلّ تقدير يدلّ على أنّ من خصائص الطلاق الذي يجوز فيه الرجوع، هو الاعتداد واحصاء العدّة، وهو لا يتحقّق إلاّ بفصل الأوّل عن الثاني، وإلاّ يكون الطلاق الأوّل بلا عدّة وإحصاء ولو طلّق اثنتين مرّة. ولو طلّق ثلاثاً يكون الأوّل والثاني كذلك.

وقد استدلّ بعض أئمّة أهل البيت بهذه الآية على بطلان الطلاق ثلاثاً:

روى صفوان الجمّال عن أبي عبد الله (عليه السلام) : أنّ رجلا قال له: إنّي طلّقت امرأتي ثلاثاً في مجلس؟ قال: ليس بشيء، ثمّ قال: أما تقرأ كتاب الله: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُ إذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ ـ إلى قوله سبحانه ـ لَعَلَّ اللهُ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً) ثمّ قال: كلّ ما خالف كتاب الله والسنّة فهو يرد إلى كتاب الله والسنّة(1).

أضف إلى ذلك: أنّه لو صحّ التطليق ثلاثاً فلا يبقى لقوله سبحانه: (لَعَلَّ اللهُ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً) فائدة لأنّه يكون بائناً ويبلغ الأمر إلى ما لا تحمد عقباه، ولا تحلّ العقدة إلاّ بنكاح رجل آخر وطلاقه مع أنّ الظاهر أنّ المقصود حلّ المشكل من طريق الرجوع أو العقد في العدّة.

ثانياً: الاستدلال بالسنّة

تعرّفت على قضاء الكتاب في المسألة، وأمّا حكم السنّة، فهي

____________

1- عبد الله بن جعفر الحميري، قرب الاسناد: 30 ـ ورواه الحرّ العاملي في وسائل الشيعة ج 15، الباب 29، الحديث 25، من أبواب مقدّمات الطلاق.


الصفحة 107
تعرب عن أنّ الرسول كان يعدّ مثل هذا الطلاق لعباً بالكتاب.

1 ـ أخرج النسائي عن محمود بن لبيد قال: أُخبر رسول الله عن رجل طلّق امرأته ثلاث تطليقات جميعاً، فقام غضباناً ثمّ قال: أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم؟ حتى قام رجل وقال: يا رسول الله ألا أقتله؟(1). إنّ محمود بن لبيد صحابي صغير وله سماع، روى أحمد باسناد صحيح عنه قال: أتانا رسول الله (صلى الله عليه وآله) فصلّى بنا المغرب في مسجدنا فلمّا سلّم منها...(2).

ولو سلمنا عدم سماعه كما يدّعيه ابن حجر في فتح الباري(3) فهو صحابي ومراسيل الصحابة حجة بلا كلام عند الفقهاء، أخذاً بعدالتهم أجمعين.

2 ـ روى ابن اسحاق عن عكرمة عن ابن عباس قال: طلّق ركانة زوجته ثلاثاً في مجلس واحد فحزن عليها حزناً شديداً، فسأله رسول الله: كيف طلّقتها؟ قال: طلقتها ثلاثاً في مجلس واحد. قال: إنّما تلك طلقة واحدة فارتجعها(4).

والسائل هو ركانة بن عبد يزيد، روى الإمام أحمد باسناد صحيح

____________

1- النسائي، السنن 6: 142 ـ والسيوطي، الدر المنثور 1: 283.

2- أحمد بن حنبل، المسند 5: 427.

3- ابن حجر، فتح الباري 9: 315، ومع ذلك قال: رجاله ثقات، وقال في كتابه الآخر بلوغ المرام، 224: رواته موثّقون، ونقل الشوكاني في نيل الأوطار 7: 11 عن ابن كثير أنّه قال: اسناده جيد، أُنظر " نظام الطلاق في الإسلام " للقاضي أحمد محمد شاكر: 37.

4- ابن رشد، بداية المجتهد 2: 61 ـ ورواه آخرون كابن قيم في إغاثة اللهفان: 156 ـ والسيوطي في الدرّ المنثور 1: 279 وغيرهم.


الصفحة 108
عن ابن عباس قال: طلّق ركانة بن عبد يزيد أخو بني مطلب امرأته ثلاثاً في مجلس واحد فحزن عليها حزناً شديداً قال: فسأله رسول الله: كيف طلّقتها؟ قال: طلّقتها ثلاثاً. قال، فقال: في مجلس واحد؟ قال: نعم. قال: فإنّما تلك واحدة فرجعها إن شئت. قال: فأرجعها فكان ابن عباس يرى إنّما الطلاق عند كلّ طهر(1).

الاجتهاد مقابل النص

التحق النبيّ الأكرم بالرفيق الأعلى وقد حدث بين المسلمين اتّجاهان مختلفان، وصراعان فكريان، فعليّ ومن تبعه من أئمّة أهل البيت، كانوا يحاولون التعرّف على الحكم الشرعي من خلال النصّ الشرعي آية ورواية، ولا يعملون برأيهم أصلا، وفي مقابلهم لفيف من الصحابة يستخدمون رأيهم للتعرّف على الحكم الشرعي من خلال التعرّف على المصلحة ووضع الحكم وفق متطلّباتها.

إنّ استخدام الرأي فيما لا نصّ فيه، ووضع الحكم وفق المصلحة أمر قابل للبحث والنقاش، إنّما الكلام في استخدامه فيما فيه نصّ، فالطائفة الثانية كانت تستخدم رأيها تجاه النص، لا في خصوص ما لا نصّ فيه من كتاب أو سنّة بل حتى فيما كان فيه نصّ ودلالة.

يقول أحمد أمين المصري: ظهر لي أنّ عمر بن الخطاب كان يستعمل الرأي في أوسع من المعنى الذي ذكرناه، وذلك أنّ ما ذكرناه هو

____________

1- أحمد بن حنبل، المسند 1: 265.


الصفحة 109
استعمال الرأي حيث لا نصّ من كتاب ولا سنّة، ولكنّا نرى الخليفة سار أبعد من ذلك، فكان يجتهد في تعرّف المصلحة التي لأجلها نزلت الآية أو ورد الحديث، ثمّ يسترشد بتلك المصلحة في أحكامه، وهو أقرب شيء إلى ما يعبّر عنه الآن بالاسترشاد بروح القانون لا بحرفيّته(1).

إنّ الاسترشاد بروح القانون الذي أشار إليه أحمد أمين أمر، ونبذ النص والعمل بالرأي أمر آخر، ولكن الطائفة الثانية كانوا ينبذون النصّ ويعملون بالرأي، وما روي عن الخليفة في هذه المسألة، من هذا القبيل. وإن كنت في ريب من ذلك فنحن نتلو عليك ما وقفنا عليه:

1 ـ روى مسلم عن ابن عباس، قال: كان الطلاق على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر: طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر بن الخطاب: إنّ الناس قد استعجلوا في أمر قد كانت لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم، فأمضاه عليهم(2).

2 ـ وروى عن ابن طاووس عن أبيه: أنّ أبا الصهباء قال لابن عباس: أتعلم انّما كانت الثلاث تجعل واحدة على عهد النبي (صلى الله عليه وآله) وأبي بكر وثلاثاً من (خلافة عمر)؟ فقال: نعم(3).

3 ـ وروى أيضاً: أنّ أبا الصهباء قال لابن عباس: هات من هناتك، ألم يكن الطلاق الثلاث على عهد رسول الله وأبي بكر واحدة؟ قال: قد كان ذلك فلمّا كان في عهد عمر تتابع الناس في الطلاق فأجازه عليهم(4).

____________

1- أحمد أمين، فجر الإسلام: 238، نشر دار الكتاب.

2 و 3- مسلم، الصحيح: 4 باب الطلاق الثلاث، الحديث 1 و 2.

4- مسلم، الصحيح: 4 باب الطلاق الثلاث، الحديث 3. التتابع: بمعنى الاكثار من الشر.


الصفحة 110
4 ـ روى البيهقي، قال: كان أبو الصهباء كثير السؤال لابن عباس، قال: أما علمت أنّ الرجل كان إذا طلّق امرأته ثلاثاً قبل أن يدخل بها، جعلوها واحدة على عهد النبي (صلى الله عليه وآله) وأبي بكر (رضي الله عنه) وصدراً من إمارة عمر(رضي الله عنه) فلمّا رأى الناس قد تتابعوا فيها، قال: أجيزوهنّ عليهم(1).

5 ـ أخرج الطحاوي من طريق ابن عباس أنّه قال: لمّا كان زمن عمر (رضي الله عنه) قال: يا أيّها الناس قد كان لكم في الطلاق أناة وإنّه من تعجل أناة الله في الطلاق ألزمناه إيّاه(2).

6 ـ عن طاووس قال: قال عمر بن الخطاب: قد كان لكم في الطلاق أناة فاستعجلتم أناتكم وقد أجزنا عليكم ما استعجلتم من ذلك(3).

7 ـ عن الحسن: أنّ عمر بن الخطاب كتب إلى أبي موسى الأشعري: لقد هممت أن أجعل إذا طلّق الرجل امرأته ثلاثاً في مجلس أن أجعلها واحدة، ولكنّ أقواماً جعلوا على أنفسهم، فألزِم كلّ نفس ما ألزَمَ نفسه. من قال لامرأته: أنتِ عليَّ حرام، فهي حرام، ومن قال لامرأته: أنتِ بائنة، فهي بائنة، ومن قال: أنتِ طالق ثلاثاً، فهي ثلاث(4).

هذه النصوص تدلّ على أنّ عمل الخليفة لم يكن من الاجتهاد فيما لا نصّ فيه، ولا أخذاً بروح القانون الذي يعبّر عنه بتنقيح المناط واسراء الحكم الشرعي إلى المواضع التي تتشارك المنصوص في

____________

1- البيهقي، السنن 7: 339 ـ والسيوطي، الدر المنثور 1: 279.

2- العيني، عمدة القارئ 9: 537، وقال: اسناده صحيح.

3 و 4- المتقي الهندي، كنز العمال 9: 676، برقم 27943.


الصفحة 111
المسألة، كما إذا قال: الخمر حرام، فيسري حكمه إلى كلّ مسكر أخذاً بروح القانون، وهو أنّ علّة التحريم هي الإسكار الموجودة في المنصوص وغير المنصوص، وانّما كان عمله من نوع ثالث وهو الاجتهاد تجاه النصّ ونبذ الدليل الشرعي، والسير وراء رأيه وفكره وتشخيصه، وقد ذكروا هنا تبريرات لحكم الخليفة، منها:

لمّا كان الحكم الصادر عن الخليفة يخالف نصّ القرآن أو ظاهره، حاول بعض المحقّقين تبرير عمل الخليفة ببعض الوجوه حتّى يتبرّر حكمه ويصحّحه ويخرجه عن مجال الاجتهاد مقابل النصّ بل يكون صادراً عن دليل شرعي، ومن تلك الوجوه:

1 ـ نسخ الكتاب بالاجماع الكاشف عن النص:

إنّ الطلاق الوارد في الكتاب منسوخ، فان قلت: ما وجه هذا النسخ وعمر (رضي الله عنه) لا ينسخ، وكيف يكون النسخ بعد النبي (صلى الله عليه وآله) ؟ قلت: لمّا خاطب عمر الصحابة بذلك فلم يقع إنكار، صار إجماعاً، والنسخ بالاجماع جوّزه بعض مشايخنا، بطريق أنّ الإجماع موجب علم اليقين كالنص فيجوز أن يثبت النسخ به، والإجماع في كونه حجّة أقوى من الخبر المشهور.

فان قلت: هذا إجماع على النسخ من تلقاء أنفسهم فلا يجوز ذلك في حقهم، قلت: يحتمل أن يكون ظهر لهم نص أوجب النسخ ولم ينقل إلينا(1).

____________

1- العيني، عمدة القارئ 9: 537.


الصفحة 112
يلاحظ عليه أولا: أنّ المسألة يوم أفتى بها الخليفة، كانت ذا قولين بين نفس الصحابة، فكيف انعقد الاجماع على قول واحد، وقد عرفت الأقوال في صدر المسألة. ولأجل ذلك نرى البعض الآخر ينفي انعقاد الإجماع البتة ويقول: "وقد أجمع الصحابة إلى السنة الثانية من خلافة عمر على أنّ الثلاث بلفظ واحد واحدة، ولم ينقض هذا الإجماع بخلافه، بل لا يزال في الأُمّة من يفتي به قرناً بعد قرن إلى يومنا هذا"(1).

وثانياً: أنّ هذا البيان يخالف ما برّر به الخليفة عمله حيث قال: إنّ الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم، فأمضاه عليهم، ولو كان هناك نصّ عند الخليفة، لكان التبرير به هو المتعيّن.

وفي الختام نقول: أين ما ذكره صاحب العمدة ممّا ذكره الشيخ صالح بن محمد العمري (المتوفى 1298) حيث قال: إنّ المعروف عند الصحابة والتابعين لهم باحسان إلى يوم الدين، وعند سائر العلماء المسلمين: أنّ حكم الحاكم المجتهد إذا خالف نصّ كتاب الله تعالى أو سنّة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وجب نقضه ومنع نفوذه، ولا يعارض نصّ الكتاب والسنّة بالاحتمالات العقليّة والخيالات النفسيّة، والعصبيّة الشيطانية بأن يقال: لعلّ هذا المجتهد قد اطّلع على هذا النصّ وتركه لعلّة ظهرت له، أو أنّه اطّلع على دليل آخر، ونحو هذا ممّا لهج به فرق الفقهاء المتعصّبين وأطبق عليه جهلة المقلّدين(2).

____________

1- تيسير الوصول 3: 162.

2- العمري، ايقاظ همم أُولي الأبصار: 9.


الصفحة 113

2 ـ تعزيرهم على ما تعدّوا به حدود الله:

لم يكن الهدف من تنفيذ الطلاق ثلاثاً في مجلس، إلاّ عقابهم من جنس عملهم، وتعزيرهم على ما تعدّوا حدود الله، فاستشار أُولي الرأي، وأُولي الأمر وقال: إنّ الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم؟ فلمّا وافقوه على ما اعتزم أمضاه عليهم وقال: أيّها الناس قد كانت لكم في الطلاق أناة وأنّه من تعجّل أناة الله ألزمناه إيّاه(1).

لم أجد نصّاً فيما فحصت في مشاورة عمر أُولي الرأي والأمر، غير ما كتبه إلى أبي موسى الأشعري بقوله: "لقد هممت أن أجعل إذا طلّق الرجل امرأته ثلاثاً في مجلس أن أجعلها واحدة..."(2) وهو يخبر عن عزمه وهمّه ولا يستشيره، ولو كانت هنا استشارة كان عليه أن يستشير الصحابة من المهاجرين والأنصار القاطنين في المدينة وعلى رأسهم عليّ بن أبي طالب، وقد كان يستشيره في مواقف خطيرة ويقتفي رأيه.

ولا يكون استعجال الناس، مبرّراً لمخالفة الكتاب والسنّة بل كان عليه ردع الناس عن عملهم السيّئ بقوّة ومنعة، وكيف تصحّ مؤاخذتهم بما أسماه رسول الله لعباً بكتاب الله(3).

يقول ابن قيم: إنّ هذا القول قد دلّ عليه الكتاب والسنّة والقياس والاجماع القديم، ولم يأت بعده اجماع يبطله ولكن رأى أمير المؤمنين

____________

1- أحمد بن حنبل، المسند 1: 314، برقم 2877، وقد مرّ تخريج الحديث أيضاً، لاحظ نظام الطلاق في الإسلام لأحمد محمد شاكر: 79.

2- المتقي الهندي، كنز العمال 9: 676، برقم 27943.

3- السيوطي، الدر المنثور 1: 283.


الصفحة 114
عمر (رضي الله عنه) أنّ الناس قد استهانوا بأمر الطلاق وكثر منهم إيقاعه جملة واحدة، فرأى من المصلحة عقوبتهم بإمضائه عليهم ليعلموا أنّ أحدهم إذا أوقعه جملة بانت منه المرأة، وحرمت عليه، حتى تنكح زوجاً غيره نكاح رغبة، يراد للدوام لا نكاح تحليل، فإذا علموا ذلك كفوا عن الطلاق المحرِّم، فرأى عمر أنّ هذا مصلحة لهم في زمانه، ورأى أنّ ما كانوا عليه في عهد النبيّ وعهد الصدّيق، وصدراً من خلافته كان الأليق بهم، لأنّهم لم يتابعوا فيه وكانوا يتّقون الله في الطلاق، وقد جعل الله لكلّ من اتّقاه مخرجاً، فلمّا تركوا تقوى الله وتلاعبوا بكتاب الله وطلّقوا على غير ما شرّعه الله ألزمهم بما التزموه عقوبة لهم فإنّ الله شرّع الطلاق مرّة بعد مرّة، ولم يشرّعه كلّه مرّة واحدة(1).

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره من التبرير لعمل الخليفة غير صحيح، إذ لو كانت المصالح المؤقتة مبرّرة لتغيّر الحكم فما معنى "حلال محمد حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة" ولو صحّ ما ذكره لتسرّب التغيّر إلى أركان الشريعة، فيصبح الإسلام اُلعوبة بيد الساسة، فيأتي سائس فيحرِّم الصوم على العمال لتقوية القوّة العاملة في المعامل.

وفي الختام فقد تنبّه بعض علماء أهل السنّة في هذه العصور لما في تنفيذ هذا النوع من الطلاق، ولأجل ذلك تغيّر قانون محاكم مصر الشرعيّة، وخالفت مذهب الحنفية بعد استقلالها وتحرّرها عن سلطنة الدولة العثمانية.

____________

1- ابن قيم، اعلام الموقعين 3: 36.


الصفحة 115
وللأسف أنّ كثيراً من مفتي أهل السنّة على تنفيذ هذا النوع من الطلاق، ولأجل ذلك يقول مؤلّف المنار بعد البحث الضافي حول المسألة: "ليس المراد مجادلة المقلّدين أو إرجاع القضاة والمفتين عن مذاهبهم، فإنّ أكثرهم يطّلع على هذه النصوص في كتب الحديث وغيرها ولا يبالي بها، لأنّ العمل عندهم على أقوال كتبهم دون كتاب الله وسنّة رسوله"(1).

____________

1- السيد محمد رشيد رضا، المنار 2: 3861، ط الثالثة 1376 هـ.


الصفحة 116

المسألة السابعة
النهي عن متعة الحج
أو الاجتهاد تجاه النصّ


إنّ الكاتب المصري أحمد أمين، يصف الخليفة عمر بن الخطاب بأنّه كان ممّن يأخذ بروح القانون لا بلفظه(1). وهو يريد بذلك تفسير ما شوهدت منه في بعض الموارد المخالفة للنصوص، ولو صحّ ما ذكره في بعضها فانّ البعض الآخر غير صحيح. ونحن نرى أنّه كان ممّن يجتهد تجاه النص، ويأخذ بالرأي، مكان الأخذ بالدليل.

إنّ العاطفة الدينية هي التي دفعت الكاتب المصري إلى ذلك التفسير، ولو أنّه تأمّل فيما سبق من تنفيذ الطلاق الثلاث، وما يأتي منه

____________

1- أحمد أمين، فجر الإسلام 2: 238 نشر دار الكتاب.


الصفحة 117
في هذه المسألة من تحريم حجّ التمتّع، وحصره في القران والافراد، يقف على أنّه كان ممّن يقدّم المصلحة المزعومة على الذكر الحكيم وتنصيص النبيّ الأكرم، وإنّه ما نهى عن متعة الحج وما هدّد بفاعلها إلاّ أنّه كان يكره أن يغتسل الحاج تحت الأراك ثم يفيض منه إلى الحجّ ورأسه يقطر ماءً، لأنّ التحلّل من محظورات الإحرام بين العمرة والحج، من لوازم ذاك النوع من الحج، وهو ممّا كان لا يروقه.

وإن كنت في شكّ فاقرأ ما نتلوه عليك:

اتّفق الفقهاء على أنّ أنواع الحجّ ثلاثة: تمتّع، وقران، وافراد.

والمقصود من الأول، هو إحرام الشخص بالحج في أشهره (شوال وذي القدة وذي الحجة). والإتيان بأعمالها، والتحلّل من محظورات الإحرام بالفراغ منها، ثمّ الإحرام بالحج من مكّة والإتيان بأعماله من الوقوف بعرفات والإفاضة إلى المشعر و...

ويصحّ هذا النوع من الحج ممّن كان آفاقياً، أي من لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام ويبتعد بيته عن مكّة بمقدار يجوز فيه تقصير الصلاة. وعند الإماميّة من نأى عن مكة 84 ميلا من كلّ جانب وهو لا يتجاوز عن 61 فرسخاً.

وأمّا القسمان الآخران، فالقران عند أهل السنّة هو الإحرام بالحج والعمرة معاً ويقول: لبّيك اللّهمّ بحجّ وعمرة، فيأتي بأعمال الحجّ أولا ثمّ العمرة بإحرام واحد. وهو القران الحقيقي.

وهناك قسم يسمّى بالقران الحكمي، وهو أن يدخل إحرام الحج في إحرام العمرة ثمّ يجمع بين أعمالها. وذلك بأن يحرم بالعمرة أولا،

الصفحة 118
وقبل أن يطوف لها، إمّا أربعة أشواط، أو قبل أن يشرع فيه يحرم للحج، على اختلاف بين الحنفية والشافعية، وهل يكتفي بطواف وسعي واحد، أو لكلٍّ طوافه وسعيه؟ فيه اختلاف.

وأمّا الافراد، فهو أن يُحرم بالحجّ من ميقاتِ بلده، وبعد الفراغ من أعماله، يُحرِم بالعمرة. والقران والافراد، يشترك فيهما جميع الناس ولا يختص بغير الآفاقي.

هذا لدى أهل السنّة وأمّا الإماميّة، فالقران والافراد واجب على من لم يكن بين مكة وبيته، 84 ميلا، وأمّا النائي عن هذا الحد، فواجبه هو حجّ التمتع.

والقران والافراد، ليسا أمرين متغايرين عندهم، بل يتمتع كلّ منهما بإحرام للحج وإحرام للعمرة، غير أنّ الإحرام في الأوّل يقترن بسوق الهدي دون الثاني، وعلى ذلك لا يجوز عندهم الإتيان بالحجّ والعمرة بإحرام واحد، ولا إدخال إحرام الحجّ في إحرام العمرة، كما في القران الحكمي(1).

والأصل حجّ التمتع، كما في قوله سبحانه: (فَإذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ اِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فِصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّام فِي الْحَجِّ وَسَبْعَة إذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (البقرة/196).

وتفسير الآية: انّ من "تمتع" بسبب الإتيان "بالعمرة" بما يحرم

____________

1- لاحظ المختصر النافع للمحقّق الحلّي: 78 ـ والجامع لأحكام القرآن للقرطبي 2: 391 ـ والمغني لابن قدامة 3: 233 ـ والفقه على المذاهب الأربعة للجزيري 2: 684 وغيرها.


الصفحة 119
على المحرم، كالطيب والمخيط والنساء ومتوجّها "الى الحجّ" فعليه "ما استيسر من الهدي" من البدنة أو البقرة أو الشاة. ثمّ بيّن كيفية الصيام وقال: "ثلاثة أيّام في الحجّ" متواليات و "سبعة إذا رجعتم" إلى أوطانكم "تلك عشرة كاملة وذلك" أي التمتع بالعمرة إلى الحجّ فرض على من لم يكن أهله باعتبار موطنه ومسكنه، "حاضري المسجد الحرام" أي لم يكن من أهل مكة وقراها "واتّقوا اللهَ" فيما أُمرتم به ونهيتم عنه في أمر الحج "واعلموا أنّ الله شديد العقاب".

والآية صريحة في جواز التمتّع بمحظورات الإحرام بعد الإتيان بأعمال العمرة، وقبل التوجّه إلى الحج، ولم يدّع أحد كونها منسوخة بآية، أو قول أو فعل، بل أكّد النبيّ الأكرم تشريعه بعمله.

روى أهل السير والتاريخ: انّ رسول الله خرج في العام العاشر من الهجرة إلى الحجّ لخمس ليال بقين من ذي القعدة، وقالت عائشة: لا يُذكَر ولا يَذكُر النّاسُ إلاّ الحجّ حتى إذا كان بسرف وقد ساق رسول الله (صلى الله عليه وآله) معه الهدي، وأشراف من أشراف الناس، أمر الناس أن يحلّوا بعمرة إلاّ من ساق الهدي ـ إلى أن قالت: ـ ودخل رسول الله مكة فحلّ كلّ من كان لا هدي معه، وحلّت نساؤُه بعمرة، ـ إلى أن قال: ـ لمّا أمر رسول الله نساءه أن يحلُلن بعمرة قلن: فما يمنعك يا رسول الله أن تحلّ معنا؟ فقال: إنّي أهديتُ ولبّوت فلا أُحلّ حتى أنحَرَ هديي.

إنّ رسول الله كان بعث علياً (رضي الله عنه) إلى نجران فلقيه بمكّة وقد أحرم فدخل على فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) فوجدها قد حلَّتْ وتهيّأت فقال: ما لك يا بنت رسول الله؟ قالت: أمرنا رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن نحلّ بعمرة

الصفحة 120
فحللنا، ثمّ أتى رسول الله فلمّا فرغ من الخبر عن سفره قال له رسول الله (صلى الله عليه وآله) : إنطلق فطف بالبيت وحلّ كما حلّ أصحابك، قال: يا رسول الله إنّي أهللتُ كما أهللتَ فقال: إرجع فاحلل كما حلّ أصحابُك، قال: يا رسول الله إنّي قلت حين أحرمت: اللّهمّ إنّي أُهلُّ بما أهلَّ به نبيُّك وعبدُك ورسولُك (صلى الله عليه وآله) قال: فهل، معك من هدي؟! قال: لا. فأشركه رسول الله في هديه وثبتَ على إحرامه مع رسول الله حتى فرغا من الحجّ، ونحر رسول الله الهدي عنهما(1).

هذا هو الذكر الحكيم المدعم بالسنّة وإجماع الأُمة، ومع ذلك نرى أنّ بعض الصحابة لا يروقه متعة الحج لا في عصر الرسالة ولا بعده بل يفتي بتحريمها! وإليك البيان:

1 ـ روى أبو داود انّ النبيّ أمر أصحابه أن يجعلوها عمرة، يطوفوا ثمّ يُقصِّروا ويُحلِّوا إلاّ من كان معه الهدي فقالوا: أننطلق إلى منى وذكورنا تقطر، فبلغ ذلك رسول الله فقال: "لو أنّي استقبلت من أمري ما استدبرت ما أهديت ولولا أن معي الهدي لأحللت"(2).

2 ـ روى مالك، عن محمد بن عبد الله أنّه سمع سعد بن أبي وقاص والضحّاك بن قيس عام حجّ معاوية بن أبي سفيان وممّا يذكران أن التّمتّع بالعمرة إلى الحج. فقال الضحاك بن قيس: لا يفعل ذلك إلاّ من جهل أمر الله عزّوجلّ. فقال سعد: بئس ما قلت يا ابن أخي، فقال الضحاك: إنّ عمر بن الخطاب قد نهى عن ذلك، فقال سعد: قد صنعها

____________

1- ابن هشام، السيرة النبوية 2: 601 ـ 602 و 4: 248 ـ 249 (ط ج).

2- أبو داود، السنن 2: 156، رقم 1789.


الصفحة 121
رسول الله وصنعناها معه(1).

3 ـ وروي عن عبد الله بن عمر أنّه قال: والله لأن أعتمر قبل الحجّ وأهدي أحبّ إليّ من أن أعتمر بعد الحج في ذي الحجّة(2).

4 ـ روى الترمذي عن سالم بن عبد الله أنّه سمع رجلا من أهل الشام وهو يسأل عبد الله بن عمر عن التمتّع بالعمرة إلى الحج فقال عبد الله بن عمر: هي حلال، فقال الشامي: إنّ أباك قد نهى عنها! فقال عبد الله بن عمر: أرأيت إن كان أبي نهى عنها وصنعها رسول الله (صلى الله عليه وآله) أم أمر أبي نتبع أم أمر رسول الله؟ فقال الرجل: بل أمر رسول الله، فقال: لقد صنعها رسول الله(3).

5 ـ روى مسلم عن أبي نضرة قال: كان ابن عباس يأمر بالمتعة، وكان ابن الزبير ينهى عنها، قال: فذكرت ذلك لجابر بن عبد الله فقال: على يديّ دار الحديث وتمتّعنا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) فلمّا قام عمر قال: إنّ الله كان يُحلّ لرسوله ما شاء، بما شاء، وإنّ القرآن قد نزل منازلهُ، فأتمّوا الحجّ والعمرة لله كما أمركم الله ـ إلى أن قال في الحديث: ـ فأفصلوا حجّكم من عمرتكم، فانّه أتمّ لحجّكم وأتمّ لعمرتكم(4).

ومن العجب أنّ الزرقاني يقوم بتصويب فتوى الخليفة ويعلّق على الرواية ويقول: الإتمام في قوله سبحانه: (فَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ

____________

1- الإمام مالك، الموطأ، كتاب الحج رقم 60 ـ والترمذي، السنن، كتاب الحج رقم 823.

2- المصدر نفسه، رقم 61.

3- الترمذي، الصحيح، كتاب الحج، باب ما جاء في التمتع رقم 824.

4- مسلم، الصحيح 4: 38، كتاب الحج، باب في المتعة بالحج والعمرة.


الصفحة 122
للهِ) يقتضي استمرارَ الإحرام إلى فراغ الحج ومنع التحلّل، والمتمتّع متحلّل ويستمتع بما كان محظوراً عليه(1).

يلاحظ عليه أولا: لو صحّ ما ذكره من التفسير تلزم المعارضة بين صدر الآية، أعني قوله: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ للهِ) وبين ذيلها الدالّة على جواز التمتّع بين الإحرامين بقوله: (فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةَ اِلَى الْحَجِّ) وهو كما ترى.

وثانياً: أنّ الإتمام يهدف إلى فعل كلّ من الحج والعمرة تماماً، بمعنى: إذا شرعتم في فعلِ كلّ فأتمّوه، مثل قوله: (وَاِذَا ابْتَلَى اِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَات فَأَتَمَّهُنَّ) (البقرة/124) وقوله سبحانه: (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ اِلَى اللَّيْلِ)(البقرة/187)، لا إلى الاستمرار.

وثالثاً: إذا كان التفسير تبريراً لنهي الخليفة، فهو في الوقت نفسه تخطئة للنبيّ الأكرم، حيث أمر أصحابه وأهل بيته بالتحلّل، وإنّما هو لم يتحلّل لسوقه الهدي.

نعم أراد الخليفة من قوله: "فافصلوا حجّكم من عمرتكم"، هو الإيتان بالعمرة في غير أشهر الحج. روى الجصاص عن ابن عمر أنّ عمر قال: أن تفرّقوا بين الحج والعمرة فتجعلوا العمرة في غير أشهر الحج، أتمّ لحجّ أحدكم(2).

6 ـ روى الإمام أحمد عن أبي نضرة عن جابر قال: متعتان كانتا

____________

1- تعليقة الزرقاني، المطبوعة على هامش صحيح مسلم 4: 38.

2- الجصاص، أحكام القرآن 1: 285.


الصفحة 123
على عهد النبيّ فنهانا عنها عمر (رضي الله عنه) فانتهينا(1).

7 ـ روى ابن حزم في المحلّى بسنده قال: قال عمر بن الخطاب: متعتان كانتا على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأنا أنهى عنهما وأضرب عليهما ـ ثمّ قال: ـ هذا لفظ أيوب، وفي رواية خالد: أنا أنهى عنهما وأُعاقب عليهما: متعة النساء ومتعة الحج(2).

8 ـ لم يكن نهي الخليفة عن متعة الحج مستنداً إلى دليل شرعي وانّما نهى عنه لما كرهه أن يظلّوا معرّسين بهنّ في الأراك، ثمّ يروحون بالحج تقطر رؤوسهم(3).

وهذا هو الذي نوّهنا عنه في صدر البحث: أنّ الخليفة ومن لفّ لفّه، كانوا يقدّمون المصالح المزعومة على النصوص الشرعية مهما تضافرت وتواترت.

ثمّ إنّ المتأخّرين قاموا بحفظ كرامة الخليفة، فحرّفوا الكلم عن مواضعه وأوّلوا نهي الخليفة بوجهين:

1 ـ قالوا: إنّ ما حرّمه وأوعد عليه، غير هذا، وإنّما هو أن يحرم الرجل بالحجّ حتى إذا دخل مكة فسخ الحجّ إلى العمرة، ثمّ حُلّ وأقام حلالا حتى يهلّ بالحجّ يوم التروية(4).

وهذا كما ترى، لا يوافق ما مرّ من النصوص، خصوصاً ما نقلناه

____________

1- الإمام أحمد، المسند 1: 52 ـ و 3: 325.

2- ابن حزم، المحلّى 7: 107 ـ الجامع لأحكام القرطبي 2: 392.

3- الامام أحمد، المسند 1: 50 ـ ابن ماجة، السنن 2، كتاب الحج، باب التمتع بالعمرة إلى الحج، 2979 ـ والبيهقي، السنن 5: 20.

4- القرطبي، الجامع لأحكام القرآن 2: 2092.


الصفحة 124
من المناظرة بين سعد والضحاك بن قيس من صحيح مسلم. ومن يقف على النصوص الكثيرة، والمناظرة الدائرة بين النبيّ وأصحابه، وبين الصحابة أنفسهم يطمئنّ انما نهى عن حجّ التمتع.

وقد روى البخاري عن مروان بن الحكم قال: شهدتُ عثمانَ وعليّاً ـ رضي الله عنهما ـ، وعثمان ينهى عن المتعة وأن يجمع بينهما، فلمّا رأى عليٌّ (النهي) أهلّ بهما: لبّيك بعمرة وحجّة قال: ما كنت لأدع سنّة النبي (صلى الله عليه وآله) لقول أحد(1).

2 ـ إنّ نهي الخليفة عن متعة الحجّ لاختصاص إباحة المتعة بالصحابة في عمرتهم مع رسول الله فحسب.

ويكفينا في الردّ عليه قول ابن القيم: "إنّ تلكم الآثار الدالّة على الاختصاص بالصحابة بين باطل لا يصحّ، عمّن نُسب إليه البتة، وبين صحيح عن قائل غير معصوم لا يعارض به نصوص المشرَّع المعصوم، ففي صحيحة الشيخين وغيرهما عن سراقة بن مالك قال: مُتعتُنا هذه يا رسول الله ألعامنا هذا أم للأبد؟ قال: لا بل للأبد(2).

قال العيني في قوله سبحانه: (فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ اِلَى الْحَجِّ): أجمع المسلمون على إباحة التمتّع في جميع الأعصار، وأمّا السنّة فحديث سراقة: "المتعة لنا خاصة أم هي للأبد؟ قال: بل للأبد"، وحديث جابر المذكور في صحيح مسلم في صفة الحج نحو هذا. ومعناه أنّ أهل

____________

1- العيني، عمدة القارئ 5: 198.

2- صحيح البخاري 3: 148 كتاب الحج، باب عمرة التنعيم ـ مسند أحمد 3: 388 و 4: 175 ـ سنن البهيقي 5: 19.


الصفحة 125
الجاهلية كانوا لا يجيزون التمتّع، ولا يرون العمرة في أشهر الحج، فبيّن النبيّ (صلى الله عليه وآله) أنّ الله قد شرّع العمرة في أشهر الحج وجوّز المتعة إلى يوم القيامة(1).

الحمدلله ربّ العالمين وصلّى الله على سيّدنامحمدوآله الطاهرين وعلى عباد الله الصالحين.


جعفر السبحاني   
22 رمضان 1415 هـ

____________

1- العيني، عمدة القارئ 5: 198.