وأنى يبقى موضوعا للصلات والصدقات وفروض الانسانية؟ لكن روايات أبي ذر تثبت كل ذلك.
6 أمرني خليلي صلى الله عليه وآله بسبع أمرني بحب المساكين والدنو منهم، وأمرني أن أنظر إلى من هو دوني ولا أنظر إلى من هو فوقي.
وفي لفظ: أوصاني حبي بخمس: أرحم المساكين وأجالسهم وأنظر إلى من هو تحتي ولا أنظر إلى من هو فوقي (2).
ومما لا غبار عليه إن المراد من الدون والتحت في الحديثين: من هو دونه في المال ليشكر الله سبحانه على تفضيله عليهم، ولا ينظر إلى من فوقه لئلا يشغله الاستياء أو الحسد على تفضيل غيره عليه عن الذكر والشكر والنشاط في العبادة، وأما الأعمال والطاعات والملكات الفاضلة، فينبغي للانسان أن ينظر إلى من هو فوقه فيها ليتنشط على مثل عمله فيتحرى شأوه، ولا ينظر إلى من هو دونه فيفتر عن العمل ويقعد عن اكتساب الفضائل والفواضل، وربما داخله العجب.
ففي الحديثين إثبات المالية والتفاضل فيها بالرغم من المبدأ الشيوعي.
7 ليس من فرس عربي إلا يؤذن له مع كل فجر يدعو بدعوتين يقول: اللهم خولتني من خولتني من بني آدم فاجعلني من أحب أهله وماله إليه. أو: أحب أهله وماله إليه (3).
نحن لا نحتج هنا بدعوة الفرس ورأيه لكن بما أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله من إلهام
____________
(1) مسند أحمد 5: 154، 167، 178، صحيح مسلم 3: 82، سنن البيهقي 4: 188.
(2) مسند أحمد 5: 159، 173، حلية أبي نعيم 1: 160.
(3) مسند أحمد 5: 170.
هذه جملة من روايات أبي ذر الصدوق المصدق تضاد بنصها ما اتهم به من المبدأ الممقوت، وإن هي إلا نداء القرآن الكريم وما صدع به الرسول الأمين.
نظرة في الكلمات
الواردة في إطراء أبي ذر هل تلائم ما اتهم به؟
أما ثناء الصحابة عليه بعد نفيه ودؤبه على ما هتف به فحسبك من ذلك قول مولانا أمير المؤمنين عليه السلام: إنك غضبت لله فارج من غضبت له، إن القوم خافوك على دنياهم وخفتهم على دينك. إلى آخر ما مر في صفحة 300.
صدرت هذه الكلمة الذهبية من الإمام عليه السلام في منصرم ما صعد به أبو ذر وصوب فليس له بعد هذا إلا طفائف سمعها منه من زاره بالمنفى الربذة فلم يكن لها شأن كبير، وفي الكلمة صراحة بأن غضب أبي ذر كان لله فعليه أن يرجو من عضب له، وهو فرع رضا الله سبحانه على ما ناء به ودعا إليه، وإن ما لهج به مما أغضب القوم كانت كلمة دينية محضة تجاه الدنيوية المحضة التي خافها أبو ذر على دينه وخافها القوم على دنياهم، فامتحنوه بالقلى ونفوه إلى الفلا، وإن هو الرابح غدا، وإنما القوم حاسدوه، وأي من هذه تلتئم مع الشيوعية التي هي مادية محضة ليس بينهما وبين مرضاة الله تعالى أي صلة؟.
أتحسب إن مولانا امير المؤمنين عليه السلام أطرى أبا ذر بهذا الإطراء البالغ ويقول في كلمته الأخرى لعثمان: إتق الله سيرت رجلا صالحا من المسلمين فهلك في تسييرك فيراه صالحا ويرى هلاكه في ذلك التسيير حوبا لا يصدر من المتقي، إنه أطراه وهو غير مستشف لنظريته؟ ولا عارف بنفسيته؟ وهو كروحه التي بين جنبيه، أو أنه يوافقه على المذهب الشيوعي؟ أو أنه يراغم أعداءه مع حيطته بباطله؟ وقد قال لعثمان " وهو الصادق الأمين ": والله ما أردت مساءت ولا الخلاف عليك ولكن أردت به قضاء حقه.
وأي حق للشيوعي متحري الفساد في الجامعة وباخش حقوق الأمة؟ وإنما الحق للمؤمن الكامل في نفسه، المحق في دعاءه، الصالح في رأيه.
وهناك ما هو أصرح من ذلك في كون أبي ذر محقا وإن نظرية من خالفه من الباطل المحض وهو قول الإمام في ذيل كلمته في توديع أبي ذر! يا أبا ذر! لا يؤنسنك إلا
فترى الإمام المعصوم يتذمر مما أصاب أبا ذر من القوم ويأمره بالصبر المقابل بالأجر الجزيل، وأنه سيلقى رسول الله صلى الله عليه وآله وهو عنه راض، وهل تجد توفيقا بين الرسول ومعتقد الإمام المجتبى وبين الشيوعية؟ ذلك المعول الهدام لأساس دين المصطفى وسنة الله التي لن تجد لها تحويلا.
واشفع الكلمتين بقول الإمام السبط الشهيد أبي عبد الله لأبي ذر: قد منعك القوم دنياهم ومنعتهم دينك، فاسأل الله الصبر والنصر.
وهذه الكلمة لدة كلمات أبيه وأخيه صلوات الله عليهم في المصارحة بأن دعوة أبي ذر كانت دينية ولم يكن فيها أي شذوذ، ودعوة مناوئيه دنيوية، والمرجع في الإفراج عنه إزاء ما انتابه من المحن هو الله، لرضاه سبحانه بدعوة المنكوب وسخطه على من نال منه، ولا يحسب عاقل إن شيئا من ذلك يلتأم مع الاشتراكية الممقوتة وبعد تلكم الكلمات الذهبية خطاب عمار بن ياسر أبا ذر بقوله: لا آنس الله من أوحشك ولا آمن من أخافك، والله لو أردت دنياهم لآمنوك، ولو رضيت أعمالهم لأحبوك.
أيجوز لمسلم عادي فضلا عن مثل عمار الذي لا يفارق الحق ولا يفارقه نصا من النبي الكريم أن يدعو على أناس نكبوا بعائث في المجتمع الديني المقلق فيهم السلام بذلك الدعاء المجهد؟ ويحكم عليهم بأنهم أهل دنيا غرتهم الأماني، وإن أعمالهم غير مرضية، وانهم خسروا الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين؟.
يدعو عليهم بذلك في مشهد إمام معصوم خشن في ذات الله كمولانا أمير المؤمنين وشبليه السبطين الحسنين ثم لا ينكر ذلك عليه احد منهم. إن هذا لا يكون.
وإن مشايعة القوم لأبي ذر قبل هذه الكلمات كلها مع العلم بنهي الخليفة عنها إشادة بأمره، وتصديق لمقاله، والإمام يرى إن النهي عن مشايعته معصية أو أنه خلاف
كانت الصحابة كلهم المهاجرون منهم والأنصار ينقمون ما نيل به أبو ذر من النفي والتعذيب، وكان قيل النقمة بين شفافهم، وفي طيات قلوبهم، وأسطر خطاباتهم، يوم التجمهر ويوم الدار، وكانت إحدى العلل المعدة لما جرى هنالك من مغبات الأعمال، فلم تكن الغضبة عمن ذكرنا أسماءهم بدعا من جمهرة الأصحاب غير إن منهم من صبها في بوتقة الاطراء لأبي ذر، ومنهم من أفرغها في قالب العيب على من نال منه، ولهم هنالك لهجات مختلفة في الصورة متحدة في المآل، ولذلك عد المؤرخون مما أنكر الصحابة من سيرة عثمان تسييره أبا ذر. وقال البلاذري: قد كانت من عثمان قبل هنات إلى عبد الله بن مسعود وأبي ذر وعمار فكان في قلوب هذيل وبني زهرة وبني غفار وأحلافها من غضب لأبي ذر (2)
وهذه النقمة العامة المنبعثة عن مودة القوم لأبي ذر مودة خالصة دينية وإخاء في الإيمان وولاء في الطريقة المثلى كل ذلك أخذا بما وعوه عن رسول الله صلى الله عليه وآله في أبي ذر وهديه وسمته ونسكه وتقواه وإيمانه وصدقه. لا تلتأم مع شئ مما قذفوا به أبا ذر من الشيوعية، أو تقول: أن الصحابة كلهم شيوعيون. أعوذ بالله من الفرية الشاينة ولو كان أبو ذر شيوعيا؟ كان في الحق نفيه عن أديم الأرض لا عن المدينة فحسب، و كان من واجب الصحابة أن يرضوا بذلك الحكم البات. قال الله تعالى: إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم (3) وأي فساد في الأرض أعظم من هذا المبدأ التعيس المضاد للكتاب والسنة؟
وفي الكتاب الكريم قوله سبحانه: أهم يقسمون رحمة ربك، نحن قسمنا بينهم معيشتهم
____________
(1) راجع صفحة 297 و 303.
(2) أنساب البلاذري 5: 26، تاريخ اليعقوبي 2: 150، مروج الذهب 1: 438، 441 ، الرياض النضرة 2: 124، تاريخ ابن خلدون 2: 385، الصواعق ص 68، تاريخ الخميس 2: 261.
(3) سورة المائدة: 33.
* ثناء النبي صلى الله عليه وآله عليه وعهد إليه *
أما ما أثر عن نبي الاسلام من ذلك فقد قدمنا شطرا منه في صفحة 319312 ولا منتدح من أن نقول: إن نبي العظمة كان جد عليم بواسع علم النبوة بما سوف ينوء به أبو ذر في خواتيم أيامه بأقوال وأعمال تبهظ مناوئيه، وكان يعلم أيضا إن أمته سيتخذون كل ما لهج به أصولا متبعة، فلو كان يعلم في أبي ذر شذوذا. لما أغرى الأمة بموافقته بتلكم الكلم الدرية، على أنه صلى الله عليه وآله عهد إليه وأخبره إن ما يصيبه من الكوارث من جراء ما يدعو إليه في الله وبعينه، فلا يعقل أن يكون في رأيه شذوذ عن طريقة الدين، بل كان من واجبه صلى الله عليه وآله أن ينبهه على خطأه في الرأي وغلطه في الدعوة، فإذ لم يفعل واشفع ذلك بثنائه البالغ عليه وعهده إليه علمنا أن أبا ذر هو ذلك البر التقي، ورجل الاصلاح، ومثال العطف والحنو على ضعفاء الأمة، وطالب الخير والسعادة لأقوياءها، ولقد تحمل الشدائد لينقذ المكبين على الدنيا من مغبة العمل السئ، وليسعد آخرين برغد العيش وبلهنية الحياة، موصولة حلقات حياتهم الدنيا بدرجات الآخرة العليا، لكن جهلوه وجهلوا أمره وجهلوا حقه، وأضاعوه وإي فتى أضاعوا؟ وأضاعوا فيه وصية نبيه صلى الله عليه وآله وناوءه قوم ليسوا له بأكفاء.
نظرة في مقال
أصدرته لجنة الفتوى بالأزهر
جاء في جريدة الوقت المصرية العدد الثاني لسنتها الأولى الموافقة سنة 1367 ما نصه:
(لجنة الفتوى بالأزهر تقول: " لا شيوعية في الاسلام " عن الأهرام الغراء)
كانت وزارة الداخلية قد أحالت إلى فضيلة الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر كتابا وتنال فيه مؤلفه مذهب العالم الصحابي أبي ذر الغفاري غفر الله له، وخلص من بحثه إلى القول بوجود (الشيوعية في الاسلام) وذلك لكي تعرف الوزارة رأي الدين في ذلك، وما إذا كان هذا الكتاب يمكن تداوله. وقد أحال فضيلة الأستاذ الأكبر هذا الموضوع إلى لجنة الفتوى في الأزهر، فاجتمعت برئاسة فضيلة الأستاذ الشيخ عبد المجيد سليم المفتي السابق ورئيس هذه اللجنة، وبحثت موضوع الكتاب بحثا مستفيضا، ثم أصدرت فيه فتواها وقد تلقت وزارة الداخلية هذه الفتوى من فضيلة الأستاذ الأكبر. وهذا نصها بعد الديباجة:
* لا شيوعية في الاسلام *
إن من مبادئ الدين الاسلام احترام الملكية ولن لكل امرئ أن يتخذ من الوسائل والسبل المشروعة لاكتساب المال وتنميته ما يحبه ويستطيعه ويتملك بهذه السبل ما يشاء، هذا وقد ذهب جمهور من الصحابة وغيرهم من الفقهاء المجتهدين إلى أنه لا يجب في مال الأغنياء إلا ما أوجبه الله من الزكاة والخراج والنفقات الواجبة بسبب الزوجية أو القرابة وما يكون لعوارض موقتة وأسباب خاصة كإعانة ملهوف وإطعام جائع مضطر، وكالكفارات وما يتخذ من العدة للدفاع عن الأوطان وحفظ النظام إذا كان ما في بيت مال المسلمين لا يكفي لهذا، ولسائر المصالح العامة المشروعة كما هو مفصل في كتب التفسير وشروح السنة وكتب الفقه الاسلامي. هذا هو الواجب. غير إن الاسلام يدعو كل قادر من المسلمين أن يتطوع بما شاء من ماله يصرفه في وجوه البر
هذا هو مذهب أبي ذر ولا يعلم أن أحدا من الصحابة وافقه عليه. وقد تكفل كثير من علماء المسلمين برد مذهبه وتصويب ما ذهب إليه جمهور الصحابة والتابعين بما لا مجال للشك معه في أن أبا ذر رضي الله عنه مخطئ في هذا الرأي. والحق إن هذا مذهب غريب من صحابي جليل كأبي ذر وذلك لبعده عن مبادئ الاسلام وعما هو الحق الظاهر الواضح، ولذلك استنكره الناس في زمنه واستغربوه منه، قال الآلوسي في تفسيره بعد ما بين مذهبه ما نصه: (وكثر المعترضون على أبي ذر في دعواه تلك وكان الناس يقرأون له آية المواريث ويقولون: لو وجب إنفاق كل المال لم يكن للآية وجه.
وكانوا يجتمعون عليه مزدحمين حيث حل مستغربين منه ذلك. ا ه.
ومن هذا يتبين إن هذا الرأي خطأ وصاحبه مجتهد مغفور له خطؤه بل مأجور على اجتهاده، ولكنه لا يتابع فيما أخطأ فيه بعد تبيين إنه خطأ لا يتفق هو وما يدل عليه كتاب الله وسنة رسوله وقواعد الدين الاسلامي.
ولما كان مذهبه داعيا إلى الاخلال بالنظام والفتنة بين الناس طلب معاوية والي الشام من الخليفة عثمان رضي الله عنه أن يستدعيه إلى المدينة وكان أبو ذر وقتئذ في الشام فاستدعاه الخليفة فأخذ أبو ذر يقرر مذهبه ويفتي به ويذيعه بين الناس فطلب منه عثمان: أن يقيم بجهة بعيدة عن الناس فأقام (بالربذة) (مكان بين مكة والمدينة) قال ابن كثير في تفسيره: كان من مذهب أبي ذر رضي الله عنه تحريم ادخار ما زاد على نفقة العمال. وكان يفتي بذلك ويحثهم عليه ويأمرهم به ويغلظ في خلافه فنهاه معاوية فلم ينته فخشي أن يضر بالناس في هذا فكتب يشكوه إلى عثمان وأن يأخذه إليه فاستقدمه عثمان إلى المدينة وأنزله بالربذة وحده وبها مات رضي الله عنه في خلافة عثمان.
ومما ذكرنا يتبين إن ما في هذا الكتاب (الشيوعية في الاسلام) لا يتفق هو ومبادئ الاسلام وقواعده. كما يتبين إنه لا شيوعية في الاسلام بالمعنى الذي يفهمه الناس، والذي صرح به صاحب هذا الكتاب وسماه (شيوعية الاسلام) ومن أجل هذا نرى ألا يذاع مثل هذا الكتاب بين الناس لئلا يتخذها المفسدون في الأرض الهدامون للنظم الصالحة ذريعة للاخلال بالنظام وإفساد عقول ضعفاء الإيمان والجاهلين بمبادئ الاسلام.
* (قال الأميني) *:
إن الوزارة الداخلية أو شيخ الأزهر لو أحال كل منهما النظر في هذه المهمة إلى لجنة عارفة بحال أبي ذر، واقفة على مقاله، مطلعة على كتب الحديث والسير والتفاسير، بصيرة على ما فيها من الغث والثمين، خالية عن الأغراض، بعيدة عن النعرات الطائفية، لحكمت بما هو الحق الصراح، وعرفت إن ما دعا إليه أبو ذر لم يكن خارجا عما سردته هي في مفتتح مقالها من اعتبار المالكية لكل إنسان، وما يجب عليه إنفاقه من المال، وما يتطوع به الرجل من النفقات، وقد أوقفناك قبل هذا على كل ذلك، وأن هياجه لم يكن موجها إلا إلى أناس معلومين كانوا يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقون منها في سبيل الله، ويحرمون الأمة من منافعها المفروضة لها فضلا عن المندوب إليها والمرغب فيها. وبذلك كله تعرف إن ما عزت إليه اللجنة الحاكمة من غير بصيرة من وجوب إنفاق ما فضل من المال على حاجة الانسان ونفقته ونفقة عياله زور من القول، وفند من الرأي، وليتها أشارت إلى مصدر ما ادعته من مذهب أبي ذر الذي حسبته مخالفا لجمهور الصحابة والتابعين، وقد أسلفنا لك جملة مما أثر عنه في ذلك، وليس في شئ منه أي دلالة على ما ادعته من العز والمختلق، وليتها بينت العلماء الذين تصدوا لنقض مذهب أبي ذر، وأشارت إلى ما جاءوا به في تدعيم حجتهم، ولعلها أرادت بهم المؤرخ محمد الخضري، وأحمد أمين، وصادق إبراهيم عرجون، وعمر أبي نصر، ومحمد أحمد جاد المولى بك، وعبد الحميد بك العبادي، وأمثالهم من المحدثين
وأسلفنا لك أيضا قول عظماء الصحابة في أبي ذر وموافقتهم له على حقيقة رأيه، واستيائهم لما نكب به من جراء ذلك، وإجماع صلحائهم على إن ما جاء به كان رايا صحيحا دينيا محضا مستفادا من الكتاب والسنة.
وعجيب استغرابها مذهب أبي ذر وهي لا تعرفه، وأعجب منه اعتذارها له ببعده عن مبادئ الاسلام وعما هو الحق الظاهر الواضح مع قولها باجتهاد أبي ذر، أي اجتهاد هذا من عيلم أخذ المبادئ من مشرعها يبعد حامله عن مبادئ الاسلام وعما هو الحق الظاهر الواضح؟ نعم: كم وكم عند القوم من المجتهدين البعداء آرائهم عن مبادئ الاسلام كابن ملجم قاتل الإمام أمير المؤمنين، وأبي الغادية قاتل عمار، وابني هند والنابغة قائدي الفئة الباغية، وأمثالهم؟ (1) لكن شتان بين هؤلاء وسيد غفار؟.
أو ليس مما يضحك الثكلى ويبكي كل مسلم؟ أن يحسب إن مذهب أبي ذر بعيد عن مبادئ الاسلام وعما هو الحق الظاهر الواضح، وهو الذي لم يعبد الصنم قبل إسلامه وصلى سنين قبل المبعث الشريف موليا وجهه إلى الله وهو محسن، وهو ربع الاسلام ورابع المسلمين، وقد طوى جل سنيه على عهد النبوة في صحبة الرسول الأعظم ولم يفتأ متعلما منه، مصيخا إلى كل ما يدعو إليه ويهتف به، فتنتقش كل تلكم المثل العليا في نفسه كما تنتقش الصور في المرآة الصافية، بل تثبت فيها كما تثبت في العدسة اللاقطة.
كان صلى الله عليه وآله يدنيه دون الصحابة إذا حضر، ويتفقده إذا غاب، وكان شحيحا على دينه حريصا على العلم، وقد سال رسول الله صلى الله عليه وآله عن كل شئ حتى عن مس الحصى في الصلاة، وقد صب صلى الله عليه وآله في صدره ما صبه جبريل وميكائيل في صدره صلى الله عليه وآله، وعرفه صلى الله عليه وآله لأمته بأنه شبيه عيسى هديا وسمتا ونسكا وبرا وصدقا و خلقا وخلقا (2).
وما ظنك برجل قال فيه باب مدينة علم النبي مولانا أمير المؤمنين عليه السلام لما
____________
(1) ممن أسلفنا ذكرهم في الجزء السابع ص 105، 106 ط 2.
(2) راجع في كل ذلك صفحة 316312 من هذا الجزء.
أو ليس من العجب العجاب إن من هو هكذا وهو في عهد النبوة لم يزل في مدينة الرسول يتلقى منه صلى الله عليه وآله كل إفاضاته، ويستقي من مستقى الوحي يكون مذهبه بعيدا عن مبادئ الاسلام وعما هو الحق الواضح، ويكون رأي كعب الأحبار اليهودي حديث العهد بالاسلام أو من بعده بعد لأي من عمر الدهر وقد نمى وترعرع وشب و شاب في عاصمة الفراعنة يوم غشيت الحقايق ظلمات بعضها فوق بعض قريبا منها و يكون صاحبه عارفا بها حاكما على مثل أبي ذر بما حكم، كأن الحقايق الإسلامية نصب عينه دون سيد غفار، أو معلقة على شحمة أذنه يسمع رنتها دون ذلك الصحابي العظيم؟.
هب أنا تنازلنا للجنة الحاكمة عن كل ما قلناه، ولكن هل يسعنا التغاضي عما جاء به الحفاظ وأئمة الحديث من طرق صحيحة عن نبي الاسلام صلى الله عليه وآله في إطراء الرجل والثناء عليه وإكباره وتقرير هديه وهداه مع عدم استثناء شئ من أطواره في أولياته أو أخرياته؟ وهو العارف بعلم النبوة بكل ما ينهض به أبو ذر بعده، فهلا بدر صلى الله عليه وآله إلى ردعه عما سينوء به؟ بدل أمره إياه بالصبر على ما ينتابه من جراء ما قام به ودعا إليه، بدل عده ما أصابه من المحن مما هو لله وفيه، بدل إخباره بكل ما يجري عليه من النفي والجلاء مقصورا على ذلك من غير ردع.
ونسائل اللجنة الحاكمة عن الذين استنكروا مذهب أبي ذر واستغربوه منه من الصحابة أهم من علية الصحابة أو من أذنابها؟ وبطبع الحال إنها ستجيبنا إنهم الحكم بن أبي العاص، وأخوه الحارث بن الحكم، ومروان بن الحكم، والوليد بن عقبة، ومعاوية بن أبي سفيان، وسعيد بن العاص، وعبد الله بن خالد، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح، وإن شئت قلت حثالة من بني أمية البعداء عن مبادئ الاسلام وعما هو الحق الواضح وهن حذا حذوهم في الإكباب علي حطام الدنيا واكتناز المال من غير حله ممن أقلقوا السلام، وجروا الويلات إلى خليفة الوقت، وحرموا ضعفاء الأمة عن حقوقهم، وولغوا في الدماء المحرمة وأثاروها حروبا دامية، وألقحوها فتنة شعواء، فلم تزل عداء محتدما
____________
(1) راجع ص 311 من هذا الجزء.
* (حن قدح ليس منها) *
لقد جرأ تقحم هذه اللجنة الجائرة في حكمها " جبران ملكون " الصحافي النصراني صاحب جريدة الأخبار العراقية في سنتها العاشرة 1368 ه في عددها المتسلسل 2503 الصادر في جمادى الأولى، فطفق يرقص لما هنالك من مكاء وتصدية، والمسكين لا يعرف مبادئ الاسلام ولو عرفها لا تبعها، ولا مبالغ رجالات المسلمين ولو عرفهم لنزههم وذب عنهم، لكنه حسب ما لفقوه حقيقة راهنة وصبها في بوتقة من القول هو أربى في إفادة ما حاولوه غير إنه يطفو عليه القوارص ولواذع قال:
لكن أبا ذر الغفاري يعتقد إنه يتعين على كل فرد أن ينفق في سبيل الله كل ما يفيض عن حاجته وحاجة أسرته، ولكن لم يعرف إن أحدا من الصحابة شاطره هذا الرأي، وإنما عارض الكثير من عقلاء المسلمين وحكمائهم في هذا المبدأ، فلا شك إذن في أن أبا ذر كان مخطئا في رأيه، ولا ينبغي إتباعه بعد أن ثبت أنه خطأ، وإن رأيه لا يتفق مع القرآن ولا السنة ولا المبادئ الإسلامية وتعاليمها. ا ه.
ونحن هاهنا لا نعاتبه ولا نستعتبه، أما الأول فإن الرجل كما قلناه بعيد عن كل ما يجب أن يقرب منه في أمثال هذه المباحث حتى يتسنى له الحكم البات فيها، وإنا أحسن ظنه بأولئك المتقولين زاعما إنهم هم الأقرباء من المبادئ الإسلامية العرفاء بحقيقة ما حكموا به، ولو كان الأمر كما زعم لكان الحق معهم، وإن كان لنا أن نؤاخذه بأن مرحلة حسن الظن لا يكتفى بها في باب القضاء الحاسم على عظيم من عظماء الأمة، فكان من واجبه أن يستفرغ وسعه في تحقيق تلكم المزاعم وهو في عاصمة من عواصم الاسلام " بغداد " وبمطلع الأكمة منه عاصمة الدنيا في العلم والدين " النجف الأشرف " وفيها العلماء، والمؤلفون، والمحققون، والجهابذة، وعباقرة الوقت في كل جيل، فكان من السهل عليه أن يستحفي الخبر هنالك أو هاهنا، ولهذا لسنا نستعتبه
شهود اللجنة
لقد استشهدت اللجنة على ما أرادت بكلام الآلوسي وابني كثير وحجر كأنها لم تجد في أبي ذر كلاما لغير هؤلاء من ناصبي العداوة لأهل البيت عليهم السلام وشيعتهم وما أذهلها أو تذاهلت هي عما قدمناه من الكلمات فيه؟ وما كان أغناه عن الركون إلى هذه التافهات المختلقة المائنة؟ لكنا نعذرها على ذلك لأنها تتحرى ما يدعم دعواها، وما أشرنا إليه من الكلمات السابقة تنقض تلكم الدعوى وتدحرها، ولذلك اقتصرت في النقل على بعض تلكم الكلم، وإنما أسقطت البعض الآخر مما لفقوه للتهافت الظاهر بينها، فكأنها شعرت بذلك فحذفته، وهي تحسب أن البحاثة لا تراجع تلك الكتب ولا تقف على تناقضها، أو أن الآراء لا مناقشة في حسابها وليس ورائها محاسب ولو بعد حين، فنقول هاهنا: أما الآلوسي فإليك تمام كلامه في تفسيره 10: 87 قال: في تفسير قوله تعالى: والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم.
أخذ بظاهر الآية فأوجب إنفاق جميع المال الفاضل عن الحاجة أبو ذر رضي الله عنه، وجرى بينه لذلك وبين معاوية رضي الله عنه في الشام ما شكاه له إلى عثمان رضي عنه في المدينة، فاستدعاه إليها فرآه مصرا على ذلك حتى أن كعب الأحبار رضي الله عنه قال له: يا أبا ذر! إن الملة الحنيفية أسهل الملل وأعدلها وحيث لم يجب إنفاق كل المال في الملة اليهودية وهي أضيق الملل وأشدها كيف يجب فيها؟ فغضب رضي الله تعالى عنه وكانت فيه حدة وهي التي دعته إلى تعيير بلال رضي الله عنه بأمه وشكايته إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وقوله فيه: " إنك امرؤ فيك جاهلية " فرفع عصاه ليضربه وقال
لو وجب إنفاق كل المال لم يكن للآية وجه، وكانوا يجتمعون عليه مزدحمين حيث حل مستغربين منه ذلك، فاختار العزلة فاستشار عثمان فيها، وأشار إليه بالذهاب إلى الربذة، فسكن فيها حسبما يريد، وهذا ما يعول عليه في هذه القصة، ورواها الشيعة على وجه جعلوه من مطاعن ذي النورين وغرضهم بذلك إطفاء نوره ويأبى الله إلا أن يتم نوره. ا ه
* في هذه الكلمة مواقع للنظر *
1 - قوله: أخذ بظاهر الآية. الخ. ليس للآية ظاهر غير باطنها وليس فيها إيجاب لإنفاق جميع المال المؤد زكاته الفاضل عن الحاجة، فأي ظهور فيها يعاضد ما عزوه إلى أبي ذر؟ حتى يسعه الأخذ به والتعويل عليه، وإنما هي زاجرة عن الاكتناز الذي بيناه في صفحة 320 ولم يؤثر قط عن أبي ذر المصارحة ولا الإشارة إلى شئ مما عزاه إليه، بل أوقفناك على أن كل ما روي عنه أو فيه مناف لذلك.
2 - ما رتبه على ذلك من وقوع النزاع بينه وبين معاوية وقد أسلفنا في صفحة 295 عن صحيح البخاري من أن النزاع بينهما كان في نزول الآية لا في مفادها فكان معاوية يزعم إنها نزلت في أهل الكتاب وأبو ذر يعمهما عليهم وعلى المسلمين، ومر أيضا مراد أبي ذر من الانفاق ومقدار المنفق من المال وإنه ليس ما فضل عن الحاجة وإنما هو ما ندب إليه الشرع واجبا أو تطوعا، ولم يكن إنكار إلا على الاكتناز الذي هو لدة الاحتكار في الأطعمة يحر الملأ عن منافع النقدين ونمائهما، ويحرم الفقراء خاصة عن حقوقهم المجعولة فيهما من ناحية الدين، وقد فصلنا القول في هذه كلها.
3 - ما رواه من قصة كعب الأحبار. لقد أقرأناك المأثور من هذه القصة و كيفية الحال فيها واختلاف ألفاظها وليس في شئ منها أكثر ما لفقه الآلوسي من قول الرجل لأبي ذر: إن الملة الحنيفة. الخ. ومن استعاذته بظهر عثمان، وعدم اكتراث أبي ذر لذلك ووقوع الضربة على عثمان، ووليته ذكر لما تقوله مصدرا ولو من
ونذكر لك هنالك لفظ أحمد في مسنده 1 ا: 63 من طريق مالك بن عبد الله الزيادي عن أبي ذر: إنه جاء يستأذن على عثمان بن عفان رضي الله عنه فأذن له و بيده عصاه فقال عثمان رضي الله عنه: يا كعب! إن عبد الرحمن توفي وترك مالا، فما ترى فيه؟ فقال: إن كان يصل فيه حق الله فلا باس. فرفع أبو ذر عصاه فضرب كعبا وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: ما أحب لو أن لي هذا الجبل ذهبا أنفقه ويتقبل مني أذر خلفي منه ست أواق. أنشدك الله يا عثمان! اسمعته؟ ثلاث مرات. قال: نعم.
ومنه يتجلى إنها قضية في واقعة ترجع إلى مال عبد الرحمن بن عوف الذي ترك ذهبا قطع بالفؤس حتى مجلت أيدي الرجال منه، وبلغ ربع ثمنه ثمانين ألفا، وقد أعطي له ذلك بغير استحقاق من مال الله الذي يستوي فيه المسلمون، فكانت أثرة ممقوتة واكتنازا منهيا عنه، وما كانت فتوى كعب تبرر شيئا من عمله لأنه لم يكن من نماء زرع أو نتاج ماشية أو ربحا من تجارة حتى يطهره إخراج حقوق الله منه، وإنما كان المال كله لله، وأفراد المسلمين فيه شرع سواء، وإن كان لابن عوف فيه حقا فعلى زنة بقية المسلمين فحسب.
والعجب من هذا الاستفتاء ومن توجيهه إلى كعب خاصة وهو يهودي قريب العهد بالاسلام وفي المنتدى مثل أبي ذر عالم الصحابة، والمستفتي جد عليم بحقيقة ذلك المال لأنه هو الذي أدره عليه جزاء حسن اختياره للخلافة يوم الشورى، ولم تكن ثروته الشخصية تفي لتلكم العطايا الجزيلة، فليس لها مدر إلا مال الله، فعلى أبي ذر البصير بمواقع أحكام الشرع أن ينكر تلكم المنكرات على من استباح ذلك العطاء، وعلى من استباح أخذه واكتنازه، وعلى من حاول أن يبرر تلكم الأعمال.
ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون.
وإن كانت توجب نظرية أبي ذر هذه الشيوعية أو الاشتراكية؟ فقد سبقه إليها
وأخرجه ابن حزم في المحلى 6: 158 فقال: هذا إسناد في غاية الصحة والجلالة وفي عصر المأمون 1: 2: حرم عمر بن الخطاب على المسلمين اقتناء الضياع والزراعة لأن أرزاقهم وأرزاق عيالهم وما يملكون من عبيد وموال، كل ذلك يدفعه لهم من بيت المال، فما بهم إلى اقتناء المال من حاجة.
نعم: عزبت عن اللجنة نظرية الخليفة الثاني في ناحية المال أو أن عظمة الخلافة صدتهم عن الجرأة عليه لكن أبا ذر لم يكن خليفة، فتمنعهم عظمته عن التقول عليه، وقد مات في المنفى فريدا وحيدا لا يجد من يعينه أو يدافع عنه أو يجهزه بعد موته فيتوثب عليه حتى الخنافس والديدان، غير إن له يوما آخر يحشر فيه أمة واحدة هنالك تبلى السرائر ويعلم ما ارتآه أبو ذر وما رمي به. ذلك يوم مشهود له الناس، والحكم هنالك لله الواحد القهار.
4 - ما عزا إليه من الحدة وهو ينافي تشبيه رسول الله صلى الله عليه وآله إياه بعيسى بن مريم في هديه وخلقه ونسكه وزهده (1) فهو ممثل المسيح عليه السلام في هذه الأمة، و أنى تقع الحدة منه؟ إلا أن يدعوه إليها الدين كما هو من خصال المؤمنين الموصوفين بالوداعة بينهم، والخشونة في ذات الله، وأبو ذر في الرعيل الأول منهم، فليس من المستطاع أن نخضع لصحة هذه الرواية وفيها الوقيعة من أبي ذر فيمن يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وآله يقربه ويدنيه ويحبه.
فلا تكاد تنهض حجة على مفادها ولو جاءت بسند صحيح لأن المعلوم من حال أبي ذر هو ما أخبر بن النبي الصادق الأمين، وعلى فرض صحتها قضية في واقعة لا تعدو أن تكون فلتة ليست لها لدة، ولعلها صدرت منه قبل تحريم ذلك كما ذهب إليه شراح صحيح البخاري (2) وبمثلها لا يمكن أن تثبت لأبي ذر غريزة الحدة فيحمل ما صدر
____________
(1) راجع ص 312 314 من هذا الجزء.
(2) راجع فتح الباري لابن حجر، وإرشاد الساري للقسطلاني، وعمدة القاري للعيني.