الصفحة 237

فقاتلناهم بعد أن ناشدناهم الله وكتابه.

فقالوا: كفر عثمان، وعلي، وعائشة، ومعاوية.

فلم نزل نحاربهم، وهم يتلون القرآن، فقاتلناهم وقاتلونا، وولى منهم من ولّى.

فقال علي: لا تتبعوا مولياً.

فأقمنا ندور على القتلى، حتى وقفت بغلة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعلي راكبها، فقال:

إقلبوا القتلى، فأتيناه، وهو على نهر فيه القتلى فقلبناهم، حتى خرج في آخرهم رجل أسود على كتفه مثل حلمة الثدي.

فقال علي: الله أكبر، والله، ما كذبت ولا كذبت، كنت مع النبي (صلى الله عليه وآله)، وقد قسم فيئاً فجاء هذا، فقال: يا محمد، اعدل، فوالله ما عدلت منذ اليوم.

فقال النبي (صلى الله عليه وآله): ثكلتك أمك، ومن يعدل عليك إذا لم أعدل؟!

فقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله، ألا اقتله؟.

فقال النبي (صلى الله عليه وآله): لا، دعه فإن له من يقتله.

وقال صدق الله ورسوله.

قال: فقالت عائشة: ما يمنعني ما بيني وبين علي أن أقول الحق. سمعت النبي (صلى الله عليه وآله) يقول: تفترق أمتي على فريقين، تمرق بينهما فرقة محلقون رؤوسهم، محفون شواربهم، أزرهم إلى أنصاف سوقهم، يقرؤون القرآن، لا يتجاوز تراقيهم، يقتلهم أحبهم إلي، وأحبهم إلى الله تعالى.


الصفحة 238
قال: فقلت: يا أم المؤمنين، فأنت تعلمين هذا! فلم كان الذي منك؟

قالت: يا أبا قتادة، وكان أمر الله قدراً مقدوراً، وللقدر أسباب(1).

نظرة في اعتذار عائشة:

ونقول: إن من جملة ما يلفت النظر فيما يرتبط بالنصوص المتقدمة التالية:

1 ـ إن الظاهر هو أن الشيخ المفيد رحمه الله تعالى قد أخذ قوله بأن من أسباب حرب الجمل، هو حقد عائشة على أمير المؤمنين (عليه السلام)، بسبب موقفه (عليه السلام) في قصة الإفك ـ أخذه ـ من هذه الرواية، ومن عائشة نفسها.

لكننا قد أثبتنا في الجزء الثاني عشر من كتابنا [الصحيح من سيرة النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله)]، وفي كتاب مستقل أسميناه [حديث الإفك]، وهو مطبوع في بيروت: أن هذه القضية مزيفة، ولا يمكن أن تصح، وأن الإفك إنما كان على مارية لا على عائشة.. وأن نسبة ذلك إلى عائشة قد كان بسعي من أم المؤمنين نفسها لتفوز بالبراءة الإلهية.. وربما لغير ذلك من أسباب.. وقد أخذه الشيخ المفيد، وهو غافل عن حقيقة الأمر، ومن دون تحقيق علمي كاف.

وها هي عائشة هنا تحاول التأكيد على هذا الأمر بادعاء أنها كانت واجدة على علي (عليه السلام) بسبب موقفه من حديث الافك.

فإذ قد ثبت أن القصة مفتعلة، فكل الآثار التي يراد ترتيبها عليها،

____________

(1) تاريخ بغداد ج 1 ص 160.


الصفحة 239
تصبح بلا قيمة، وتدخل في دائرة الكيد الإعلامي والسياسي الذي لا يعود بعائدة، ولا يفيد أية فائدة على صعيد تحقيق الحق، وإثبات ما هو واقع..

ولعل أم المؤمنين قد حقدت على أمير المؤمنين، من أجل تبرئته لمارية بالطريقة القاطعة لأي عذر والمزيلة لأي شبهة أو ريب. وكان موقفه (عليه السلام) هو النكير على الافكين الحقيقيين، وإظهار زيفهم، وإسقاط الأقنعة عن وجوههم.

2 ـ قد وردت عدة نصوص عن عائشة، تدين فيها «الخوارج»، وتذكر ما سمعته عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) في ذمّهم، ومدح من يقتلهم..

والذي نعهده من عائشة هو حرصها الأكيد على عدم ذكر أي شيء في فضل علي (عليه السلام). كما ظهر من حديثها الذي تذكر فيه خروج النبي (صلى الله عليه وآله) في مرضه الذي توفي فيه إلى الصلاة متوكئاً على الفضل بن العباس، ورجل آخر [لم تذكر اسمه بغضاً] منها له، هو علي (عليه السلام).

غير أنها هنا لم تملك نفسها فصرحت بفضيلة كبرى لعلي علي السلام.. ولعل ذلك بسبب انفعالها وحماسها الذي أثاره ما سمعته عن «الخوارج» من أنهم يسبونها، ويكفرونها، والله هو العالم بحقيقة الدوافع والنوايا..

3 ـ واللافت هنا: أننا نجد بعض النصوص تقول:

إن علياً (عليه السلام) قال: «لقد علم أولو العلم من آل محمد، وعائشة بنت أبي بكر، فاسألوها: إن أصحاب ذي الثدية ملعونون على لسان النبي الأمي (صلى الله عليه وآله)».


الصفحة 240
وفي رواية: «إن أصحاب النهروان»(1).

فهو (عليه السلام) يوجه الأنظار إلى موقف عائشة، الذي سيأخذه محبوها وغيرهم على مأخذ الجد أكثر من مواقف غيرها من الصحابة، وهي العدوة اللدود لعلي (عليه السلام)، والتي لا تطيق أن تذكره بخير أبداً، وهي زوجة النبي وبنت الخليفة الأول، ومدللة الخليفة الثاني، ولها امتداد واسع ونفوذ قوي لدى جميع المخالفين لأمير المؤمنين (عليه السلام)، والذين ما فتئوا يعملون على تقويض حكمه وطمس فضائله، وتعظيم أعدائه وإطرائهم.

4 ـ قد ظهر من النص المتقدم نقله عن علي (عليه السلام)، فيما يرتبط بما ينقله الصحابة وعائشة عن رسول الله في ذم أصحاب ذي الثدية: أن علياً (عليه السلام) يريد أن يرسخ الاعتقاد بالإخبارت الغيبية التي تحكي قضيته مع أعدائه، وتؤكد حقانية موقفه..

وما ركوبه لبغلة رسول الله (صلى الله عليه وآله) في حربه للخوارج وإصراره على الاخبارات الغيبية المتنوعة في أكثر من مورد في حربه مع «الخوارج» وغيرهم إلا للتأكيد على صلته برسول الله (صلى الله عليه وآله) واختصاصه به، ولتكذيب ما يحاول أعداؤه ومناوؤوه أن يكيدوه به.

5 ـ إن عائشة تعتذر عما فعلته مع علي (عليه السلام)، حينما واجهته بالحرب، التي حصدت الألوف من المسلمين ـ تعتذر عن ذلك بالجبر الإلهي، وهي العقيدة التي أسسها عمر بن الخطاب، ثاني الحكام بعد رسول الله، وتبعه في ذلك، معاوية ثم يزيد فيما يرتبط بقتله للإمام

____________

(1) مجمع الزوائد ج 6 ص 239 وقال: رواه الطبراني في الصغير والاوسط بأسنادين وقال: رجال أحدهما ثقات. وتاريخ بغداد ج 13 ص 282 وليس فيه ذكر عائشة.


الصفحة 241
الحسين (عليه السلام). وهكذا فعل غيرهم من الحكام والأمراء من الأمويين وغيرهم، وأصبح ذلك جزءاً من عقائد فريق كبير من الناس في داخل المجتمع الإسلامي.

وهي عقيدة مأخوذة من اليهود، وكانت مستقرة في عقول المشركين. فراجع كتابنا «أهل البيت في آية التطهير» وغيره.

موقف عائشة من «الخوارج»:

وقد ذكر عاصم بن كليب عن أبيه: أن رجلاً أراد أن يكلم أمير المؤمنين (عليه السلام) في أمر، فشغل (عليه السلام) عنه، فسألوا ذلك الرجل عن ذلك.

فقال: إني كنت في العمرة، فدخلت على أم المؤمنين عائشة، فقالت: ما هؤلاء الذين خرجوا قبلكم، يقال لهم: حروراء.

فقلت: قوم خرجوا إلى أرض قرية منا، يقال لها حروراء.

قالت: فشهدت هلكتهم؟!

قال عاصم: فلا أدري ما قال الرجل: نعم، أم لا.

فقالت عائشة: أما إن ابن أبي طالب لو شاء حدثكم حديثهم.

فجئت أسأله عن ذلك.

فلما فرغ علي مما كان فيه، قال: أين الرجل المستأذن؟.

فقام فقص عليه ما قص علينا. قال: فأهلّ علي وكبر، وقال: دخلت [على] رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وليس عنده غير عائشة، فقال: كيف أنت يا ابن أبي طالب؟ وقوم كذا وكذا؟!

فقلت: الله ورسوله أعلم.


الصفحة 242
فأعادها، فقلت: الله ورسوله أعلم.

قال: قوم يخرجون من قبل المشرق، ويقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم(1).

عائشة تطلب البينة على المخدج:

عن مسروق قال:

قالت عائشة: يا مسروق، انك من ولدي، وإنك من أحبهم إلي، فهل عندك علم من المخدج؟.

قال: قلت: نعم، قتله علي بن أبي طالب على نهر يقال لأعلاه: تامرّا، ولأسفله النهراون بين حقايق وطرفاء.

قالت: إبغني على ذلك بينة.

فأتيتها بخمسين رجلاً من كل خمسين بعشرة ـ وكان الناس إذ ذاك أخماساً ـ يشهدون: أن علياً (عليه السلام) قتله على نهر يقال لأعلاه: تامرا، ولأسفله النهروان بين حقايق وطرفاء.

فقلت: يا أمّه، أسألك بالله، وبحق رسول الله صلى الله عليه، وبحقي ـ فإني من ولدك ـ أي شيء سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول فيه؟!.

قالت: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: هم شر الخلق والخليقة، يقتلهم خير الخلق والخليقة، وأقربهم عند الله وسيلة.(2)

____________

(1) كشف الأستار ج2 ص 362 و363، ومجمع الزوائد ج6 ص238 عنه وعن أبي يعلى ورجاله ثقات.

(2) مناقب علي ابن أبي طالب لابن المغازلي ص 56 وفي هامشه عن مجمع الزوائد ج6

=>


الصفحة 243
وهذه الحادثة هي غير ما جرى لها مع عبد الله بن شداد، وهي التالية:

ابن شداد يروي لعائشة:

وقد روى أحمد بسنده عن عبيد الله بن عياض بن عمرو القاري، قال: جاء عبد الله بن شداد، فدخل على عائشة (رض) ونحن عندها جلوس ـ مرجعه من العراق ليالي قتل علي رضي الله عنه ـ فقالت له:

يا عبد الله بن شداد، هل أنت صادقي عما أسألك عنه؟ تحدثني عن هؤلاء القوم الذين قتلهم علي رضي الله عنه.

قال: ومالي لا أصدقك؟!

قالت: فحدثني عن قصتهم.

قال: فان علياً لما كاتب معاوية، وحكم الحكمان، خرج عليه ثمانية آلاف من قراء الناس، فنزلوا بأرض يقال لها حروراء من جانب الكوفة، وإنهم عتبوا عليه، فقالوا:

انسلخت من قميص ألبسكه الله تعالى، واسم سماك الله تعالى به. ثم انطلقت فحكمت في دين الله، فلا حكم إلا لله تعالى.

فلما ان بلغ علياً رضي الله عنه ما عتبوا عليه، وفارقوه عليه، فأمر مؤذناً فأذن ان لا يدخل على أمير المؤمنين إلا رجل قد حمل القرآن.

فلما أن امتلأت الدار من قراء الناس، دعا بمصحف إمام عظيم، فوضعه بين يديه، فجعل يصكّه بيده، ويقول:

____________

<=

ص239 وقال: رواه الطبراني، وتراه في أرجح المطالب ص599 ط لاهور وفيه [فأتيتها من كل سبع برجل]. وشرح النهج للمعتزلي ج2 ص267، والبحار ج38 ص15 و16..


الصفحة 244
أيها المصحف! حدّث الناس!

فناداه الناس، فقالوا: يا أمير المؤمنين: ما تسأل عنه؟ إنما هو مداد في ورق، ونحن نتكلم بما روينا منه، فماذا تريد؟!

قال: أصحابكم هؤلاء الذين خرجوا بيني وبينهم كتاب الله.

يقول الله تعالى في كتابه، في امرأة ورجل:

وإن خفتم شقاق بينهما، فابعثوا حكماً من أهله، وحكماً من أهلها، إن يريدا إصلاحاً يوفق الله بينهما.

فأمة محمد (صلى الله عليه وآله) أعظم دماً وحرمة من امرأة ورجل. ونقموا عليّ: أن كاتبت معاوية: كتب علي بن أبي طالب، وقد جاءنا سهيل بن عمرو، ونحن مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالحديبية حين صالح قومه قريشاً، فكتب رسول الله (صلى الله عليه وآله): بسم الله الرحمن الرحيم.

فقال سهيل بن عمرو: لا تكتب بسم الله الرحمن الرحيم.

فقال: كيف نكتب؟

فقال: أكتب باسمك اللهم.

فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): فاكتب: محمد رسول الله.

فقال: لو أعلم أنك رسول الله لم أخالفك.

فكتب: هذا ما صالح محمد بن عبد الله قريشاً.

يقول الله تعالى في كتابه: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو لقاء الله واليوم الآخر).

فبعث إليهم علي عبد الله بن عباس رضي الله عنه، فخرجت معه، حتى إذا توسطنا عسكرهم قام ابن الكواء يخطب الناس، فقال:


الصفحة 245
يا حملة القرآن، إن هذا عبد الله بن عباس (رض) فمن لم يكن يعرفه، فأنا أعرّفه من كتاب الله ما يعرفه به. هذا ممن نزل فيه وفي قومه: قوم خصمون؛ فردوه إلى صاحبه، ولا تواضعوه كتاب الله.

فقام خطباؤهم، فقالوا: والله، لنواضعنه كتاب الله؛ فإن جاء بحق نعرفه لنتبعه. وإن جاء بباطل لنبكتنّه بباطله.

فواضعوا عبد الله بن عباس الكتاب ثلاثة أيام.

[وقد ذكرت رواية ابن عساكر أنهم ذكروا أنهم نقموا على أمير المؤمنين: انه قاتل ولم يسب ولم يغنم، فإن كان القوم كفاراً فقد أحل الله دماءهم ونساءهم، وإن كانوا غير ذلك فقد استحل ما صنع بهم.

ثم إنه حكم الرجال في دين الله، والله يقول: إن الحكم إلا لله. وإنه محا اسمه من امرة المؤمنين فإن لم يكن أمير المؤمنين فهو أمير الكافرين.

فأجابهم ابن عباس بنحو كلام أمير المؤمنين السابق، وأنه قد حكم في الصيد وبين الزوجين، وأن النبي (صلى الله عليه وآله) قد محا كلمة [رسول الله] يوم الحديبية، وأنه لا يحل سبي عائشة.

فإن قلتم: إنما يستحل منها ما يستحل من المشركات بعد قول الله تعالى: وأزواجه امهاتهم فقد خرجتم من الإسلام انتهت زيادات ابن عساكر.

فرجع منهم أربعة الاف، كلهم تائب، فيهم ابن الكواء، حتى ادخلهم على عليّ الكوفة.

فبعث علي (رض) إلى بقيتهم، فقال: قد كان من أمرنا وأمر الناس ما قد رأيتم؛ فقفوا حيث شئتم، حتى تجتمع امة محمد (صلى الله عليه وآله) بيننا

الصفحة 246
وبينكم أن لا تسفكوا دما حراماً، أو تقطعوا سبيلاً، أو تظلموا ذمّة (الأمة)، فإنكم إن فعلتم فقد نبذنا إليكم الحرب على سواء؛ (إن الله لا يحب الخائنين).

فقالت له عائشة (رض): يا ابن شداد، فلم قتلهم؟

فقال: والله، ما بعث إليهم حتى قطعوا السبيل، وسفكوا الدم، واستحلوا أهل الذمة.

فقالت: آلله؟

قال: آلله الذي لا إله إلا هو لقد كان.

قالت: فما شيء بلغني عن أهل الذمة يتحدثونه، يقولون: ذو الثدي، وذوالثدي؟

قال: قد رأيته، وقمت مع علي رضي الله عنه عليه في القتلى، فدعا الناس؛ فقال: أتعرفون هذا؟

فما أكثر من جاء يقول: قد رأيته في مسجد بني فلان يصلي، ورأيته في مسجد بني فلان يصلي.. ولم يأتوا فيه بثبت يعرف إلا ذلك..

قالت: فما قول علي رضي الله عنه حين قام عليه كما يزعم أهل العراق؟

قال: سمعته يقول: صدق الله ورسوله قال: هل سمعت منه: أنه قال غير ذلك؟!.

قالت: اللهم لا.

قالت: أجل، صدق الله ورسوله، يرحم الله علياً رضي الله عنه:

إنه كان من كلامه، لا يرى شيئاً يعجبه إلا قال: صدق الله ورسوله،

الصفحة 247
فيذهب أهل العراق يكذبون عليه، ويزيدون عليه في الحديث(1).

وفي نص آخر: عن يزيد بن أبي زياد قال: سألت سعيد بن جبير عن أصحاب النهر، فقال: حدثني مسروق.

قال: سألتني عائشة رضي الله عنها [و] عنهم، فقالت: هل أبصرت أنت الرجل الذي يذكرون، ذو الثدية؟!

قال: فقلت: لم أره، ولكن شهد عندي من قد رآه.

قالت: فإذا قدمت الأرض فاكتب إلي بشهادة نفر قد رأوه.

قال فجئت والناس أسباع، قال: فكلمت من كل سبع عشرة ممن قد رآه.

قال.فقلت: كل هؤلاء عدل رضى؟!

فقالت: قاتل الله فلاناً. فإنه كتب إلي أنه أصابه بمصر(2).

وفي نص آخر: «لعن الله عمرو بن العاص فإنه كتب إلي يخبرني: أنه قتله بالإسكندرية، إلا أنه ليس يمنعني ما في نفسي أن أقول ما سمعته من رسول الله (صلى الله عليه وآله)، يقول: يقتله خير أمتي بعدي»(3).

____________

(1) مسند أحمد ج1 ص86 ـ 87 وترجمة الامام علي من تاريخ دمشق ج 3 ص 153 ـ 157 وتهذيب تاريخ دمشق ج7 ص 304 و 305 والمصنف للصنعاني ج10 ص 148 والبداية والنهاية ج7 ص280 و281 وراجع كنز العمال ج 11 ص 278 ـ 280 عن أحمد والعدني وابن عساكر وغير ذلك. وفي هامشه عن منتخب كنز العمال أيضاً. ومجمع الزوائد ج 6 ص 235ـ37 عن أبي يعلى ورجاله ثقات ومستدرك الحاكم ج 2 ص 152 ـ 154 وتلخيصه للذهبي بهامشه.

(2) الجوهرة ص110 وراجع البداية والنهاية ج7 ص 305 عن دلائل النبوة للبيهقي.

(3) شرح النهج للمعتزلي ج2 ص268 والبحار ج38 ص15.


الصفحة 248

ملاحظات على ما تقدم:

ونسجل هنا ما يلي:

1 ـ قد ظهر مما تقدم: أن هناك محاولة للتشكيك في أمر ذي الثدية وكون علي (عليه السلام) قد أصابه في النهروان، حتى أن البعض يكتب لأم المؤمنين: أنه قد أصابه بمصر. في محاولة وقحة للتزوير، والتجني على الحقيقة والتاريخ، وعلى أمير المؤمنين (عليه السلام) بالخصوص.

2 ـ إن عمرو بن العاص يحاول أن يكذب وينسب إلى نفسه قتل ذي الثدية، بهدف الفوز بالثناء النبوي العظيم على قاتله. ويبعد ذلك عن أمير المؤمنين (عليه السلام). رغم أن أمر ذي الثدية ـ وانه قتل مع «الخوارج» كالنار على المنار، وكالشمس في رابعة النهار.

3 ـ إن أمير المؤمنين (عليه السلام) لم يكن بحاجة إلى ذي الثدية، فله (عليه السلام) من الفضائل والمناقب، ما لا يمكن حصره وعده.. ولكن الناس هم المحتاجون لذلك لكي يعرفوا الحق. ويفوزوا برضى الله، وبنصرة وليه المظلوم.

أضف إلى ذلك: أن الناس لو كانوا واعين لحقائق الدين، وأحكامه، لظهر لهم: أن حرب «الخوارج» من أعظم القربات، وأجلها، وأن التواني عن ذلك خسران عظيم، ومخالفة لأحكام الله.. وخروج عن جادة الحق والدين..

إن الأمة هي التي كانت بحاجة إلى الهداية وإلى البيان، وكان هذا البيان الغيبي الذي يقهر العقل، ويتصل بالوجدان مباشرة، هو الأسلوب الأمثل في مورد يحتاج إلى السرعة في اتخاذ القرار، وإلى المبادرة، وإلى

الصفحة 249
الموقف الحازم والحاسم.

4 ـ إن عائشة قد اعترفت بأن أهل العراق كانوا يكذبون على علي أمير المؤمنين (عليه السلام)، ويزيدون عليه في الحديث.

5 ـ إن حديث ابن شداد يشير إلى أن من جملة الأمور التي دفعت بأمير المؤمنين (عليه السلام) إلى حرب «الخوارج» أنهم قد استحلوا أهل الذمة.. مع أن من المعروف عنهم هو تحرّجهم من قتل أهل الذمة، وذلك يعني: أنهم قد تجاوزوا في الفساد والافساد كل حد، حتى تلك الحدود التي الزموا بها أنفسهم بصورة حازمة وصارمة.

مع وجود احتمال: أن يكونوا في بدايات ظهورهم، لم يكونوا قد وضعوا تلك الحدود، ولا قالوا بتلك المقولات التفصيلية، وإنما كانت تصدر منهم قضايا جزئية وتصرفات فردية. ثم أصبحت فيما بعد نهجاً وسمات عامة لهم بمرور الزمن.

مفارقات في مواقف عائشة:

ونسجل هنا ملاحظة على مواقف عائشة، فإنها حين تسمع بأن «الخوارج» يكفرونها تندفع للافصاح عما سمعته من رسول الله (صلى الله عليه وآله) وسلم من ذم للخوارج، ومن ثناء على قاتلهم.. ثم هي تبرؤه (عليه السلام) من أكاذيب أهل العراق، وزياداتهم في الحديث عليه.

مع أننا نعرف:

أولاً: إنها في حديث منع الرسول (صلى الله عليه وآله) لأبيها عن إكمال الصلاة، وخروجه ـ وكان (صلى الله عليه وآله) مريضاً ـ وهو يتوكأ على رجلين من أهل بيته أحدهما الفضل العباس، تقول الرواية: فقال عبد الله بن عباس لعكرمة:


الصفحة 250
فلم تسم لك الآخر؟.

قال: لا والله ما سمته.

قال: أتدري من هو؟

قال: لا.

قال: ذلك علي ابن أبي طالب. وما كانت أمنا تذكره بخير، وهي تستطيع(1).

فعائشة إذن لا تطيب نفسها بذكر اسم علي (عليه السلام)، حتى ولو بمثل أن يعتمد عليه رسول الله (صلى الله عليه وآله) في مشيته، وهو في مرض موته، لأنها لا تحب أن تذكره بخير أبداً.. هي نفسها عائشة التي تذكر حديث الرسول (صلى الله عليه وآله) ومدحه العظيم لقاتل «الخوارج».

وثانياً: إنها حين سمعت بقتل أمير المؤمنين علي (عليه السلام) على يد خارجي ـ وهي التي تروي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): أن «الخوارج» شر الخلق والخليقة، وان علياً خير الخلق والخليقة، وانه (صلى الله عليه وآله) قال عن قاتل ذي الثدية: يقتله خير أمتي بعدي. وعلي (عليه السلام) هو الذي قتله..

نعم إنها حين سمعت بقتل ابن ملجم الخارجي، لعلي (عليه السلام).. لم تتمالك نفسها عن إبداء الفرح العظيم.. فبادرت إلى عتق غلام لها أسود وسمته: عبد الرحمن، حباً منها بعبد الرحمن بن ملجم، حسب

____________

(1) الجمل ط سنة 1413 هـ. ص158، وطبقات ابن سعد ج2 ص231 و232 ط سنة 1405 هـ. ومسند أحمد ج6 ص38 و288، والمستدرك على الصحيحين ج3ص56، والسنن الكبرى ج1ص31، والإحسان ج8 ص198، وصحيح البخاري ج1ص162 ط سنة 1401 هـ. دار الفكر بيروت. وصحيح مسلم [بشرح النووي] ج4 ص138 و139، والصوارم المهرقة. ص105 والإرشاد ص164.


الصفحة 251
قولها(1).

وسجدت لله شكراً(2).

وفرقت أربعين ديناراً في ضعفة مبغضي أمير المؤمنين من تيم وعدي(3).

وقالت:


فألقت عصاها واستقر بها النوىكما قر عينا بالإياب المسافر(4)

وحين سمعت بنعيه (عليه السلام) استبشرت أو تمثلت بقول الشاعر:


فإن تك ناعياً فلقد نعـــــاهنعي ليس في فيه التـــراب

ثم قالت: من قتله؟

فقيل: رجل من مراد.

فقالت: رب قتيل الله بيدي رجل من مراد.

فقالت لها زينب بنت أبي سلمة: أتقولين مثل هذا لعلي؟ في سابقته وفضله؟

فتضاحكت أو فضحكت، وقالت بسم الله، إذا نسيت ذكريني(5).

____________

(1) راجع: تلخيص الشافي ج4 ص 158 والجمل ـ ط النجف ـ ص 84 والبحار ج22 ص234 وج32 ص341 و342 وقاموس الرجال ج10 ص475 والشافي ج4 ص356.

(2) مقاتل الطالبيين ص 47 والجمل ص 159 ط سنة 1413 هـ.

(3) الهداية الكبرى ص 197.

(4) راجع: تاريخ الأمم والملوك ط دار المعارف بمصرج5 ص 150 ومقاتل الطالبيين ص 42 والكامل في التاريخ ص 394 وطبقات ابن سعد ج3 ص 40 ط سنة 1405هـ. وتلخيص الشافي ج4 ص 157 والجمل ص 159 والبحار ج32 ص 340 و341 والصراط المستقيم للبياضي ج3 ص 164 عن ابن مسكويه وتاريخ الطبري. والهداية الكبرى ص196 و197 والشافي ج4 ص355.

(5) راجع المصادر المتقدمة في الهامش السابق وأخبار الوفقيات ص 131 والاغاني.


الصفحة 252
وبعدما تقدم نقول:

لا ندري كيف نوفق بين هذه المواقف، وبين ما نقلته عن رسول الله من أن «الخوارج» هم شر الخلق والخليقة، وأن من يقتلهم ـ وهو علي (عليه السلام) ـ خير الخلق والخليقة..

ثالثاً: لنفترض: أن عائشة قد انساقت هنا وراء انفعالاتها الشخصية وحالاتها العاطفية.. غير أننا نقول:

ألف: إن ذلك أيضاً لا يمكن أن يبرر ذلك منها.. فان شماتتها بعلي لا تبرر حبها لعبد الرحمن بن ملجم، وعتق العبيد، وتسميتهم باسمه. وهو شر الخلق والخليقة!!.

ب: لقد قتل خارجي آخر عزيزاً على قلبها، وهو صهرها، وقائد جيشها، ومحارب عدوها.. ألا وهو الزبير بن العوام، فكيف أحبت «الخوارج»، وسمّت العبيد بأسمائهم، وهم يكفرونها، ويقتلون أعز الناس عليها، خصوصاً من كان لقتله المزيد من الإذلال لها، وإسقاط هيبتها، وكسر شوكتها؟!!

ج: إن علياً قد حكم بالنار لقاتل ذلك الحبيب، حيث قال: بشر قاتل ابن صفية بالنار ـ حسبما روي(1).

وقد كنا ننتظر منها أن تحزن لقتل خير الخلق والخليقة، حسبما ذكرته هي. وأن تبغض الخارجي الذي قتله، وهو ابن ملجم. وتبغض الخارجي الآخر الذي قتل مع «الخوارج» في النهروان. وكان من أركانهم

____________

(1) مصادر هذا الحديث كثيرة، فراجع على سبيل المثال: مسند أحمد ج1 ص 89 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج1 ص 236.


الصفحة 253
وهو عمرو بن جرموز(1).

ولأجل ذلك بشره علي (عليه السلام) بالنار، لا لأجل قتله للزبير، وهو منهزم.. وبشارته (عليه السلام) له بذلك تأتي في سياق إخباراته (عليه السلام) عن الغيب.

ولكن الأمور تأتي من قبل أم المؤمنين ليس فقط على خلاف الشرع، وإنما على خلاف الطبيعة والسجية في أحيان كثيرة.

الزبير قتل وهو منهزم:

قلنا إن الزبير قد قتل وهو منهزم وإن بشارته (عليه السلام) لابن جرموز بالنار، إنما هو إخبار بالغيب عما سيؤول إليه أمره من المروق من الدين وصيرورته خارجياً، وليس لاجل أن الزبير قد تاب وانصرف عن الحرب، ولو كان لأجل ذلك لكان أقاده به، ولما طلَّ دمه.

وإنما قلنا: إنه قتل وهو منهزم، استناداً إلى نصوص كثيرة، نذكر منها ما يلي:

1 ـ إنه حينما ذكّر علي (عليه السلام) الزبير بقول رسول (صلى الله عليه وآله) له: «أما انك ستحاربه، وأنت ظالم له».

رجع الزبير إلى صفوفه، واتهمه ولده عبد الله بالجبن وقال له:

ما أراك إلا جبنت عن سيوف بني عبد المطلب، إنها لسيوف حداد، تحملها فتية أنجاد.

فقال الزبير: ويلك، أتهيجني على حربه؟! أما إني قد حلفت ألا

____________

(1) تلخيص الشافي ج4 ص 145 وشرح نهج البلاغة ج1 ص 236 وج2 ص 168 والفصول المختارة للشيخ المفيد ص 108 و109.