الصفحة 271

وقد صرحت بعض المصادر برجوع ثمانية آلاف منهم من دون تفصيل(1).

وذكرت مصادر أخرى رجع ألفين منهم بسبب مناظرات ابن عباس لهم(2).

لكن بعض المصادر أطلقت القول بأن الراجعين من «الخوارج» كانوا أربعة آلاف(3).

وادعى بعضهم أنه قد بقي من الأربعة آلاف ألف وثمان مئة، وقتل منهم ألف وخمس مئة(4).

وعند ابن كثير: أنه لم يبق منهم إلا ألف أو اقل(5).

وصرح عبد الرزاق بأن الراجعين منهم كانوا عشرين ألفاً(6).

وفصل ابن كثير فادعى: أن «الخوارج» كانوا ستة عشر ألفاً، أو اثني عشر ألفاً.. فناظرهم علي (عليه السلام) حتى رجعوا معه إلى الكوفة.

____________

(1) راجع: كشف الغمة ج1 ص 266 والفتوح لابن أعثم ج4 ص 125 والفصول المهمة لابن الصباغ ص 193 وغير ذلك..

(2) الجوهرة في نسب علي (عليه السلام) وآله ص 108 وشذرات الذهب ج1 ص 50 وبهج الصباغة ج7 ص 166 عن كامل المبرد وتذكرة الخواص ص 99 وتلبيس إبليس ص 93 وانساب الأشراف [بتحقيق المحمودي] ج2 ص 361 و355 والمناقب للخوارزمي ص 185.

(3) راجع: مناقب الإمام علي (عليه السلام) لابن المغازلي ص 413 وتهذيب تاريخ دمشق ج7 ص 304 والبداية والنهاية ج7 ص 281 و282 والمصنف لعبد الرزاق ج10 ص 148.

(4) بهج الصباغة ج7 ص 168.

(5) البداية والنهاية ج 7 ص 289.

(6) المصنف ج10 ص 160.


الصفحة 272
وذلك يوم عيد الفطر، أو الأضحى ـ شك الراوي ـ ثم جعلوا يعرّضون له في الكلام، ويسمعونه شتما..

ثم خرجوا إلى النهروان، فكان هناك ما هو معلوم(1).

وبذلك يتضح: عدم صحة ما ذكره المعتزلي، من أن «الخوارج» لم يرجعوا؛ لأن علياً حاججهم بالقرآن حيث قال: «ولذلك لم يرجعوا، والتحمت الحرب، وإنما رجع باحتجاجه نفر منهم»(2).

فإن احتجاجه بالقرآن لا يمكن أن يكون هو السبب في عدم رجوعهم.. وقد عرفنا رجوع الألوف منهم حتى لم يبق سوى أربعة آلاف من أصل ستة وعشرين ألفاً، أو ما يقرب من ذلك، فهل هؤلاء «نفر منهم» على حد تعبيره؟.

خوف «الخوارج» من المناشدات والاحتجاجات:

وقد أصبح «الخوارج» يخشون تأثير، احتجاجات ومناشدات علي (عليه السلام) لهم، ويحذرون بعضهم بعضاً من التاثر بها. إذ أن ذلك أوجب ردهم عن الحرب أكثر من مرة.

وقد جاء: أن الراسبي الخارجي قال لأصحابه: «القوا الرماح، وسلوا سيوفكم من جفونها، فإني أخاف أن يناشدوكم كما ناشدوكم يوم حروراء، فترجعوا، فوحشوا برماحهم..» (3).

____________

(1) البداية والنهاية ج7 ص 282.

(2) شرح نهج البلاغة ج 18 ص 72.

(3) المصنف للصنعاني ج10 ص 148 وفي هامشه عن البيهقي ج8 ص 170 وعن مسلم والبداية والنهاية ج7 ص 291 والرياض النضرة ج3 ص 225 وكفاية الطالب ص 177 ونزل الأبرار ص 60 عن مسلم ج2 ص 748 و749 ونظم درر السمطين ص 117 لكنه قال: إن ذلك هو قول علي (عليه السلام) وكنز العمال ج11 ص 280 و281 [عن مسلم ج1 ص 343 وعن عبد الرزاق وخشيش، وأبي عوانة، وابن أبي عاصم، والبيهقي] وفرائد السمطين ج1 ص 276..


الصفحة 273
وعن زيد بن وهب، قال: خطبنا علي (عليه السلام) بقنطرة الديرخان، فقال: أن قد ذكر لي بخارجة تخرج من قبل المشرق، وفيهم ذو الثدية، فقاتلهم.

فقالت الحرورية بعضها لبعض: فردّكم كما يردكم يوم حروراء، فشجر بعضهم بعضاً بالرماح(1).

شذرات من المناظرات والاحتجاجات:

وقد ذكرت الروايات التاريخية نصوصاً متنوعة لما جرى بين علي (عليه السلام) وأصحابه من جهة، وبين «الخوارج» من الجهة الأخرى، ونحن نورد هنا بعضاً من تلك الاحتجاجات، فنقول:

ورد في النصوص: أن علياً (عليه السلام) قد أمر قنبراً، فقال لهم: ما نقمتم على أمير المؤمنين؟! ألم يعدل في قسمتكم، ويقسط في حكمكم، ويرحم مسترحمكم، لم يتخذ مالكم دولاً؟.

ولم يأخذ منكم إلا السهمين اللذين جعلهما الله: سهماً في الخاصة، وسهماً في العامة(2).

ويقول نص آخر:

____________

(1) خصائص علي بن أبي طالب (عليه السلام) للنسائي ص 143 وراجع: تاريخ بغداد ج7 ص 237 وج1 ص 159.

(2) مناقب الإمام علي (عليه السلام) لابن المغازلي ص 407.


الصفحة 274
ثم إنهم خرجوا بحروراء، أولئك العصابة من «الخوارج» بضعة عشر ألفاً، فأرسل إليهم علي ينشدهم الله، فأتوا (فأبوا) عليه. فأتاهم صعصعة بن صوحان وقال:

علام تقاتلون خليفتكم؟!

قالوا: مخافة الفتنة.

قال: فلا تعجلوا ضلالة العام مخافة فتنة عام قابل.

فرجعوا، وقالوا: نسير على ما جئنا، فإن قبل علي القضية قاتلنا على ما قاتلنا يوم صفين. وإن نقضها قاتلنا معه حتى بلغوا النهروان.

فافترقت منهم فرقة، فجعلوا يهدون الناس ليلاً، قال أصحابهم: ويلكم، ما على هذا فارقنا علياً.

فبلغ علياً أمرهم، فخطب الناس، فقال: ما ترون؟ نسير إلى أهل الشام؟ أم نرجع؟! (1).

هل قصّر ابن عباس في الاحتجاج؟

وعلى كل حال.. فإن «الخوارج» يروون أنهم قد أفحموا ابن عباس، وأنه قد رجع إليهم. وقبل بمقالتهم.. وسيأتي ذلك إن شاء الله تعالى.. وسنبين أنه كلام مزيف وغير مقبول..

وبغض النظر عن ذلك، فإننا نجد أنهم يذكرون: أن علياً (عليه السلام) قد نهى ابن عباس عن مناظرتهم في غيبته فتسرع، ودخل معهم في حوار ظهر فيه أنه غير قادر على رد الحجة بأقوى منها..

فتولى علي (عليه السلام) ذلك..

____________

(1) مجمع الزاوئد ج6 ص238.


الصفحة 275
ولا نريد أن نقول: إن ذلك مكذوب على ابن عباس من الأساس..

بل نحتمل احتمالاً معقولاً: أن يكون رحمه الله، قد فوجئ ببعض مقولاتهم، واضطرب في إجاباته عنها. ثم تدارك مواقع ضعفه، بما عرفه وسمعه من أمير المؤمنين (عليه السلام)، الذي أسقط كل ما تعلقوا به من طحلب الأوهام، وأزاح كل ما أثاروه من غبار شبهات واهية.

بل ذكرت بعض النصوص: أنه (عليه السلام) كان في بعض مواقف الاحتجاج عليهم، على مقربة من ابن عباس يلقنه ما يقوله لهم، ويلقي إليه ما يحتج به عليهم.

ونذكر فيما يلي للقارئ الكريم بعض ما يوضح ما قلناه، فنقول:

إن بعض النصوص تذكر: أن علياً (عليه السلام) نهى ابن عباس عن مجادلتهم، حتى يأتيه. لكن ابن عباس لم يصبر عن جوابهم، فدخل معهم في نقاش لم يكن موفقاً فيه.

فجاء علي (عليه السلام) وهو يخاصمهم ويخاصمونه، فقال له علي (عليه السلام): ألم أنهك عن كلامهم؟!.

فكلم علي (عليه السلام) ابن الكواء زعيمهم الخ(1).

وحسب نص آخر: أن ابن عباس خاطب «الخوارج» بحضور علي (عليه السلام)، فلما فرغوا من احتجاجهم قال: يا أمير المؤمنين قد سمعت ما قال القوم، وأنت أولى بالجواب مني.

____________

(1) راجع: نور الأبصار ص 98 و99 والفصول المهمة لابن الصباغ ص 84 و85 والكامل في التاريخ ص 327 و328.


الصفحة 276
فقال علي (عليه السلام): [لا ترتابن، قد ظفرت بهم، والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة](1).

هل هذه الاحتجاجات موضوعة؟!

قال ابن الاسكافي، وغيره..

لما رجع علي (عليه السلام) إلى الكوفة، لم يدخل معه أصحاب البرانس، واعتزلوه، وأتوا حروراء، ونزل بها منهم اثنا عشر ألفاً.

وبعث علي (عليه السلام) بعبد الله بن عباس إلى «الخوارج»، وقال له: لا تعجل إلى جوابهم وخصومتهم حتى آتيك.

فلما لقيهم جعلوا يكلمونه، فلم يصبر حتى سألهم، فقال لهم: كيف نقمتم على الحكمين، وقد قال الله تعالى: (فابعثوا حكماً من أهله، وحكماً من أهلها، إن يريدا إصلاحاً يوفق الله بينهما)(2).

فزعموا: أن «الخوارج» قالت: كلما جعل الله حكمه إلى الناس، وأمرهم بالنظر فيه، فهو إليهم. وما نفذ حكم الله فيه فليس لهم رده، وعليهم إمضاؤه، وكذلك عليهم الإمضاء على محاربة أهل البغي.

فقال ابن عباس: وأنتم الذين وادعتم وشككتم دوننا.

وذكروا: أن ابن عباس قال لهم: فإن الله تعالى يقول: (يحكم به ذوا عدل منكم)(3).

____________

(1) مناقب الإمام علي (عليه السلام) لابن المغازلي ص 406 وراجع الفتوح لابن أعثم ج4 ص 122 ولم يذكر جوابه (عليه السلام) لابن عباس وراجع الاحتجاج ج1 ص 99 ـ 100.

(2) سورة النساء الآية 35.

(3) سورة المائدة، الآية 95.


الصفحة 277
فقالت «الخوارج»: فعدل عندك عمرو وأبو موسى؟! هذه الآية بيننا، فإن كان عمرو عدلاً فنحن غير عدول.

فقال لهم: ابن عباس: فقد قال الله: فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها أرأيتم، إن كانت المرأة يهودية، أليس قد دارت حكومة أهلها، وهم غير عدول(1).

الحجة الدامغة هي حجة علي (عليه السلام):

وقال ابن الإسكافي وغيره: إن علي بن أبي طالب (عليه السلام) خرج إلى «الخوارج»، فأتى فسطاط يزيد بن قيس، فدخله، فتوضأ فيه، وصلى ركعتين. ثم خرج حتى انتهى إليهم، وهم يخاصمون ابن عباس، فقال علي لابن عباس: انته عن كلامهم. ألم أنهك، رحمك الله؟!.

ثم تكلم علي، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال:

إن هذا مقام من فتح الله فيه،كان أولى بالفتح يوم القيامة. ومن نطق فيه وأوعب، فهو في الاخرة أعمى وأضل سبيلا.

ثم قال لهم: من زعيمكم؟

قالوا: ابن الكواء.

قال علي: فما أخرجكم من حكمنا؟!

قالوا: حكومتكم يوم صفين.

قال: نشدتكم بالله، أتعلمون أنهم حيث رفعوا المصاحف، فقلتم: نجيبهم إلى كتاب الله. قلت لكم: إني أعلم بالقوم منكم، إنهم ليسوا بأصحاب دين، ولا قرآن، فإني قد صحبتهم، وعرفتهم أطفالاً ورجالاً،

____________

(1) راجع: المعيار والموازنة ص 194 ـ 196.


الصفحة 278
فكانوا شر أطفال، وشر رجال. امضوا على حقكم وصدقكم، فإنما رفع القوم لكم هذه المصاحف خديعة، ووهنا، ومكيدة.

فرددتم علي رأيي، وقلتم: لا بل نقبل منهم.

فقلت لكم: اذكروا قولي، ومعصيتكم إياي، فلما أبيتم إلا الكتاب اشترطت على الحكمين أن يحييا ما أحيا القرآن، وأن يميتا ما أمات القرآن، فإن حكما بحكم القرآن، فليس لنا أن نخالف حكم من حكم بما في الكتاب، وإن أبيا فنحن من حكمهما براء.

فهل قام إليَّ رجل، فقال: يا علي، إن هذا الأمر أمر الله، فلا تعطه القوم؟

قالوا: لا.

قالوا: فأخبرنا، أتراه عدلاً تحكيم الرجال في الدماء؟

قال: إنا لسنا الرجال حكّمنا، وإنما حكّمنا القرآن، وهو خط مسطور بين لوحين، لا ينطق حتى يتكلم به الرجال. وأنتم حكمتم أبا موسى، وجئتموني، وأتيتموني به مبرنساً. وقلتم: لا نرضى إلا به. ومعاوية حكم عمروا!..

[ثم قال]: وأخبرني عنك يا ابن الكواء، متى سمي أبو موسى حكماً؟! أحين أرسل؟ أم حين حكم؟

قال: حين حكم.

قال: فقد سار وهو مسلم، وأنت ترجو ان يحكم بما أنزل الله.

قال: نعم.

قال: فلا أرى الضلال في إرساله، إذ كان عدلاً.


الصفحة 279
قالوا: فخبرنا عن الأجل لم جعلته بيننا وبينهم؟

قال: ليتعلم الجاهل، ويثبّت العالم. ولعل الله أن يصلح في تلك المدة بين الأمة.

ثم قال علي: أرأيتم، لو أن رسول الله (عليه السلام) أرسل رجلاً مؤمنا يدعو قوماً مشركين إلى كتاب الله، فارتد على عقبه كافرا، كان يضر النبي صلى الله عليه شيئاً؟

قالوا: لا.

قال: فما ذنبي، إن ضل أبو موسى، ولم أرض بحكومته إذ حكم، ولا بقوله إذ قال.

قالوا: أفرأيت كتابك باسمك واسم أبيك، وتركك اسمك الذي سماك الله به بإمرة المؤمنين؟!.

قال علي: على يدي دار مثل هذا الحديث.

كتب النبي (عليه السلام): هذا كتاب من محمد رسول الله.

وقال أبو سفيان، وسهيل بن عمرو: لا نقر ولا نعرف أنك رسول الله، لقد ظلمناك إذاً إن شهدنا أنك رسول الله، ثم قاتلناك، ولكن اكتب باسمك واسم أبيك.

فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) اكتب من محمد بن عبد الله، فإن ذلك لا يضر نبوتي شيئاً.

فكتبها رسول الله (صلى الله عليه وآله) لآبائهم، وكتبتها أنا لابنائهم.

قالوا: صدقت. ولكن بقيت خصلة: إنا قد علمنا أنك لم ترض بحكمهم حتى شككت، وكتبت في كتابك: إن جرني كتاب الله إليك

الصفحة 280
تبعتك، وإن جرك إلي تبعتني. تعطي هذا القول وقد أحصا [لعل الصواب: خاضت] خيلنا في دمائهم؟! وما فعلت هذا حتى شككت.

فقال علي: نبئني أنت ومن معك أولى بأن لا تشكّوا في دينكم أم المهاجرون والأنصار؟

أم أنا أولى بالشك، أم معاوية؟

قال ابن الكواء: النبي (عليه السلام) أولى باليقين منك.. وأهل الشام خير من مشركي قريش. والمهاجرون والأنصار خير منا.

قال: أفرأيت الله حين يقول لرسوله: (قل: فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما اتبعه إن كنتم صادقين).

أشك النبي (عليه السلام) فيما هو عليه حين يقول هذا؟ أم أعطاهم إنصافاً؟!

فقال ابن الكواء: خصمتنا ورب الكعبة، وأنت أعلم منا بما صنعت.

فقال علي (عليه السلام): ادخلوا مصركم رحمكم الله.

فلم يبرح علي (عليه السلام) حتى تفرقوا، ودخلوا معه، وقلبوا أترستهم(1).

نص آخر:

وقد روى ابن المغازلي عن:

____________

(1) راجع: المعيار والموازنة ص 198 ـ 201.


الصفحة 281
عبيدة بن بشر الخثعمي عن أبيه قال: خرج عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) يريد «الخوارج» إذ أقبل رجل يركض حتى انتهى إلى أمير المؤمنين علي (عليه السلام) فقال: يا أمير المؤمنين البشرى!

قال: هات ما بشراك؟

قال: قد عبر القوم النهروان لما بلغهم عنك،؟ وقد منحك الله أكتافهم.

فقال: الله، لأنت رأيتهم قد عبروا؟

فقال: والله، لأنا رأيتهم حين عبروا.

فحلّفه ثلاث مرات في كل ذلك يحلف له.

فقال له أمير المؤمنين: كذبت والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ما عبروا النهروان، ولن يبلغوا الأثلاث ولا قصر بوران، حتى يقتلهم الله على يديّ، لا ينجو منهم تمام عشرة، ولا يقتل منا عشرة: عهداً معهوداً، وقدراً مقدوراً، وقضاء مقضياً، وقد خاب من افترى.

ثم أقبل أيضاً آخر، حتى جاءه ثلاثة، كلهم يقولون مقالة الأول، ويقول لهم مثل ذلك.

ثم ركب، فأجال في ظهر بغلته، ونهض الشاب، وأجال في ظهر فرسه، وهو يقول في نفسه، والله لأنطلقن مع علي، فان كان القوم قد عبروا لأكونن من أشد الناس على علي (عليه السلام)، فلما انتهى إلى النهروان أصابوا القوم قد كسروا جفون سيوفهم، وعرقبوا دوابهم، وجثوا على ركبهم، وحكموا بحكم رجل واحد، واستقبلوا علياً بصدور الرماح، فقال علي (عليه السلام): حكم الله أنتظر فيكم.


الصفحة 282
فنزل إليه الشاب فقال: يا أمير المؤمنين إني قد شككت في قتال القوم، فاغفر ذلك لي.

فقال علي: بل يغفر الله الذنوب، فاستغفره.

ثم نادى علي (عليه السلام) قنبر، فقال: يا قنبر، ناد القوم ما نقمتم على أمير المؤمنين؟ ألم يعدل في قسمتكم، ويقسط في حكمكم، ويرحم مسترحمكم؟ لم يتخذ مالكم دولاً، ولم يأخذ منكم إلا السهمين اللذين جعلهما الله: سهماً في الخاصة وسهماً في العامة؟

فقالت «الخوارج»: يا قنبر، إن مولاك رجل جدل؟، ورجل خصم، وقد قال الله تعالى: بل هم قوم خصمون، وهو منهم، وقد ردّنا بكلامه الحلو في غير موطن، وجعلوا يقولون: والله لا نرجع حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين.

قال علي (عليه السلام): يا ابن عباس انهض إلى القوم فادعهم بمثل الذي دعاهم به قنبر، فاني أرجو أن يجيبوك.

فقال ابن عباس: يا أمير المؤمنين ألقي عليّ حلتي، وألبس عليّ سلاحي؟ فإني أخاف على نفسي.

قال: بلى، فانهض إليهم في حلتك، فمن أيّ يوميك من الموت تفرّ؟ يوم لم يقدر أو يوم قد قدر؟

قال: فنهض ابن عباس إليهم، وناداهم بمثل الذي أمره به.

فقالت طائفة: والله لا نجيبه حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين.

وقال أصحاب الحجج في أنفسهم منهم: والله لنجيبنه، ولنخصمنّه، ولنكفرنّه وصاحبه لا ينكر ذلك.


الصفحة 283
فقالوا: ننقم عليه خصالاً كلها موبقة، وإما مكفرة، أما أولهن فإنه محا اسمه من أمير المؤمنين، حيث كتب إلى معاوية، فإن لم يكن أمير المؤمنين فانه أمير الكافرين، لأنه ليس بينهما منزلة، ونحن مؤمنون، وليس نرضى أن يكون علينا أميراً.

ونقمنا عليه أن قسم علينا يوم البصرة ما حوى العسكر، وقد سفك الدماء، ومنعنا النساء والذراري، فلعمري إن كان حلّ هذا فما حرم هذا؟

ونقمنا عليه يوم صفين أنه أحب الحياة وركن إلى الدنيا جبنا؛ منعنا أن نقاتل معه وأن ننصره، حيث رفعت لنا المصاحف؛ فهلا ثبت وحرّض على قتال القوم، وضرب بسيفه حتى يرجع إلى أمر الله، ونقاتلهم، والله يقول: (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله).

وننقم عليه أنه حكم الحكمين فحكما بجور لزمه وزره.

ونقمنا عليه أنه ولى الحكم غيره، وهو عندنا من أحكم الناس.

ونقمنا عليه أنه شك في نفسه حين أمر الحكمين أن ينظرا في كتاب الله: فإن كان معاوية أولى بالأمر ولوه. فإن شك في نفسه فنحن أعظم فيه شكاً.

ونقمنا عليه أنه كان وصياً فضيّع الوصية.

ونقمنا عليك يا بن عباس حيث جئت ترفل إلينا في حلة حسنة تدعونا إليه.

فقال ابن عباس: يا أمير المؤمنين قد سمعت ما قال القوم، وأنت أولى بالجواب مني! فقال علي (عليه السلام): لاترتابن ظفرت بهم والذي فلق الحبة وبرأ النسمة نادهم:


الصفحة 284
ألستم ترضون بما أنبؤكم به من كتاب الله، لا تجهلون به، وسنة رسول الله (صلى الله عليه وآله) لا تنكرونه؟

قالوا: اللهم بلى.

قال: أبدأ بما بدأتم به، عليّ مدار الأمر، أنا كاتب رسول الله (صلى الله عليه وآله)، حيث كتب بسم الله الرحمن الرحيم: من محمد رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى سهيل بن عمرو، وصخر بن حرب ومن قبلهما من المشركين عهداً إلى مدة.

فكتب المشركون: إنا لو علمنا أنك رسول الله ما قاتلناك، فاكتب إلينا باسمك اللهم، فإنه الذي نعرف، واكتب إلينا ابن عبد الله.

فأمرني، فمحوت: رسول الله، وكتبت: ابن عبد الله.

وكتبت إلى معاوية: من عليّ أمير المؤمنين إلى معاوية بن أبي سفيان، وعمرو بن العاص، ومن قبلهما من الناكثين عهداً إلى مدة.

فكتبوا: إنا لو علمنا أنك أمير المؤمنين ما قاتلناك، فاكتب إلينا من علي بن أبي طالب نجبك.

فمحوت: أمير المؤمنين وكتبت: ابن أبي طالب، كما محا رسول الله (صلى الله عليه وآله) وكما كتب، فإن كنتم تلغون بسم الله الرحمن الرحيم أن محاها، وتلغون رسول الله أن محاها، ولا تثبتونه. فالغوني ولا تثبتوني، وإن أثبتموه، فإن الله تعالى قال: ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا، وقال: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة، فاستننت برسول الله (صلى الله عليه وآله).

قالوا: صدقت هذه بحجتنا هذه.


الصفحة 285
قال: وأما قولكم إني قسمت بينكم ما حوى العسكر يوم البصرة، فأحللت الدماء ومنعتكم النساء والذرية، فإني مننت على أهل البصرة لما افتتحتها وهم يدعون الإسلام، كما منّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) على أهل مكة وهم مشركون لما افتتحها، وكانوا أولادهم، ولدوا على الفطرة قبل الفرقة بدينهم، وإن عدوا علينا أخذناهم بذنوبهم، فلم ناخذ صغيراً بذنب كبير، وقد قال الله تعالى في كتابه: ومن يغلل يأت بما غلّ يوم القيامة. وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): لو أن رجلاً غل عقالاً من الحرب لأتى الله يوم القيامة وهو مغلول به، حتى يؤديه.

وكانت أم المؤمنين أثقل من عقال، فلو غللتها، وقسمت سوى ذلك، فإنه غلول.

ولو قسمتها لكم، وهي أمكم لاستحل منها ما حرم الله فأيكم كان يأخذ أم المؤمنين في سهمه وهي أمه؟

قالوا: لا أحد، وهذه بحجتنا هذه.

قال: وأما قولكم: إني حكمّت الحكمين، فقد عرفتم كراهتي لهما إلا أن تكذبوا وقولي لكم: ولُّوها رجلاً من قريش.

فإن قريش لا تخدع، فأبيتم إلا أن وليتموها من وليتم.

فإن قلتم: سكت حيث فعلنا ولم تنكر.. فإنما جعل الله الإقرار على النساء في بيوتهن. ولم يجعله على الرجال في بيوتهم.

فإن كذبتم وقلتم: أنت حكمت ورضيت، فإن الله قد حكم في دينه الرجال وهو أحكم الحاكمين، فقال: (يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم، ومن قتله منكم متعمداً فجزاء مثل ما قتل من النعم، يحكم به ذوا عدل منكم) وقال: (وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا

الصفحة 286
حكماً من أهله وحكماً من أهلها)، فإنما على الانسان الاجتهاد في استصلاح الحكمين، فإن عدلا كان العدل فيما أرياه أولى، وإن لم يعدلا فيه وجارا، كان الوزر عليهما، (ولا تزر وازرة وزر أخرى) قالوا: صدقت وهذه بحجتنا هذه.

قال: وأما قولكم: اني حكمت، وأنا أولى الناس بالحكم، فقد حكم رسول الله (صلى الله عليه وآله) سعد بن معاذ يوم اليهود، فحكم بقتل مقاتليهم و سبي ذراريهم، وجعل أموالهم للمهاجرين دون الأنصار.

فقالوا: صدقت وهذه بحجتنا هذه.

قال: وأما قولكم: إني قلت للحكمين: انظروا في كتاب الله، فإن كان معاوية أحق بها مني فأثبتوه، وإن كنت أولى بها فأثبتوني.

فلو أن الحكمين اتقيا الله ونظرا في القرآن، عرفا أني كنت من السابقين بإسلامي قبل معاوية، و معاوية مشرك، وعرفت أنهم إذا نظروا في كتاب الله وجدوني يجب لي على معاوية الاستغفار لأني سبقته بالإيمان، ولا يجب لمعاوية عليّ الاستغفار، ووجدوني يجب لي على معاوية خمس ما غنمتم، لأن الله تبارك وتعالى أمر بذلك إذ يقول: (واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه) الآية.

فإذا حكما بما أنزل الله أثبتوني ولو قلت: احكموا وأثبتوني، ابى معاوية. لكني أظهرت لهم النصفة حتى رضي، كما أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) لو قال: أجعل لعنة الله عليكم، أبوا أن يباهلوا، ولكن جعل لعنة الله على الكاذبين، فهم الكاذبون، واللعنة عليهم، ولكن أظهر لهم النّصفة، فقبلوا.


الصفحة 287
قالوا: صدقت هذه بحجتنا هذه.

قال: وأما قولكم: إن كان معاوية أهدى مني فأثبتوه. فإنني قد عرفت أنهم لا يجدونه أهدى مني، وقد قال تعالى لنبيه: (قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه)، فقد عرفتم أنهم لا يأتون بكتاب من عند الله هو أهدى من القرآن، فكذلك عرفت أنهم لا يجدون معاوية أهدى مني.

وأما قولكم: إن الحكمين كانا رجلي سوء فلم حكمتهما؟ فإنهما لو حكما بالعدل لدخلا فيما نحن فيه، وخرجا من سوئهما، كما أن أهل الكتاب لو حكموا بما أمر الله حيث يقول: (وليحكم أهل الانجيل بما أنزل الله فيه) خرجوا من كفرهم إلى ديننا.

قالوا: صدقت وهذه بحجتنا هذه.

قال: وأما قولكم: إني كنت وصيا فضيعت الوصية، فإن الله تعالى قال في كتابه: (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً). ولو ترك الحج من استطاع إليه سبيلا كفر، ولم يكن البيت ليكفر، ولو تركه الناس لا يأتونه، ولكن كان يكفر من كان يستطيع إليه السبيل فلا يأتيه، وكذلك أنا: إن أكن وصياً فإنكم كفرتم بي، لا أنا كفرت بكم بما تركتموني.

قالوا: صدقت هذه بحجّتنا هذه.

قال: وأما قولكم: إن ابن عباس جاء يرفل في حلة حسنة يدعوكم إلى ما يدعوكم إليه، فقد رأيت أحسن منها على رسول الله (صلى الله عليه وآله) يوم حرب.


الصفحة 288
فرجع اليه من «الخوارج» أكثر من أربعة آلاف، وثبت على قباله أربعة آلاف. وأقبلوا يحكِّمون.

فقال علي (عليه السلام): حكم الله أنتظر فيكم. يا هؤلاء؟ أيُّكم قتل عبدالله بن خبّاب بن الأرت وزوجته وابنته؟ يظهر لي أقتله بهم، وأنصرف، عهدا إلى مدة، حكم الله أنتظر فيكم.

فنادوا: كلنا قتل ابن خبّاب وزوجته وابنته، وأشرك في دمائهم.

فناداهم أمير المؤمنين (عليه السلام): أظهروا لي كتائب وشافهوني بذلك، فإني أكره أن يقر به بعضكم في الضوضاء ولا يقر بعض، ولا أعرف ذلك في الضوضاء ولا أستحل قتل من لم يقر بقتل من أقر. لكم الأمان حتى ترجعوا إلى مراكزكم كما كنتم.

ففعلوا، وجعلوا كلما جاء كتيبة سألهم عن ذلك، فإذا أقروا عزلهم ذات اليمين، حتى أتى على آخرهم.

ثم قال (عليه السلام): ارجعوا إلى مراكزكم. فلما رجعوا ناداهم ثلاث مرات: رجعتم كما كنتم قبل الأمان من صفوفكم؟

فنادوا كلهم: نعم!

فالتفت إلى الناس فقال (عليه السلام): الله أكبر! الله أكبر! والله لو أقرّ بقتلهم أهل الدنيا وأقدر على قتلهم لقتلتهم، شدُّوا عليهم، فأنا أوّل من شدّ عليهم. وعزل بسيف رسول الله (صلى الله عليه وآله) ثلاث مرات، كل ذلك يسوِّيه على ركبتيه من اعوجاجه ثم شدَ الناس معه، فقتلوهم، فلم ينج منهم تمام عشرة.

فقال (عليه السلام): آتوني بذي الثُدية، فإنه في القوم، فقلب الناس القتلى فلم يقدروا عليه، فأتي. فأُخبر بذلك، فقال (عليه السلام): الله

الصفحة 289
أكبر، والله ما كذبت، ولا كذبت، وإنه لفي القوم.

ثم قال: ائتوني بالبغلة فانّها هادية مهدية، فركبها ثم انطلق حتى وقف على قليب، ثم قال: قلّبوا.

فقلّبوا سبعة من القتلى، فوجدوه ثامنهم، فقال: الله أكبر! هذا ذو الثُدية الذي خبَّرني رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه يقتل مع شر خيلٍ.

ثم قال (عليه السلام): تفرقوا. فلم يقاتل معه الذين كانوا اعتزلوا، كانوا وقوفا في عسكره على حدة (1).

جولة جديدة من الاحتجاجات:

قال الزهراوي: خاصمت الحرورية علياً ستة أشهر, فقالوا! شككت في أمر الله الذي ولاك, وحكمت عدوك , ووهنت في الجهاد.

____________

(1) مناقب الإمام علي (عليه السلام) لابن المغازلي ص406 ـ 414 وقد قال المعلق على الكتاب ما يلي:

احتجاج علي (عليه السلام) مع «الخوارج» وهكذا احتجاج ابن عباس لهم مشهورة رواها النسائي في الخصائص ص 48 إلى 50 والمحب الطبري في الرياض النضرة ج2 ص 240 مقتصرا على ثلاث حجج منها.

وأخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد ج6 ص236 من طريق أبي يعلى قال: ورجاله ثقات وفي ص 237 من طريق أبي يعلى أيضاً وقال: رجاله رجال الصحيح وفي ص238 و239 من طريق أبي يعلى والبزار وقال: رجال أبي يعلى ثقات ومن طريق الطبراني وأحمد وقال: رجالهم رجال الصحيح. وهكذا ذكره أبو العباس المبرد في كتابه الكامل ص942 ـ 945 وخرّجه عنه الشارح المعتزلي في شرح النهج ج1 ص204 وأخرجه من أعلام الإمامية أبو منصور الطبرسي في الإحتجاج ص 99 ـ 100 وألفاظه أشبه بما رواه المؤلف في الصلب وأخرجه أبو جعفر السروي في مناقب آل أبي طالب ج3 ص188 ـ 189 بغير هذا اللفظ.