الصفحة 88

الطيّار


وأما جعفر بن أبي طالب، فحسبه من العظمة شهادة الرسول الأقدس بأنّه يشبهه خلقاً وخلقاً، ذلك الخلق الكريم الموصوف في الذكر الحكيم بقوله عز شأنه: { وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُق عَظِيم }(1). وحيث لم ينصّ النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على صفة خاصة من أخلاقه، فلا جرم من شمول تلك الكلمة الذهبية: " أشبهت خَلقي وخُلقي " لجميع ما اتصف به الرسول حتّى الدنس من الرِّجس والآثام.

ولو تنازلنا عن القول بعموم التشبيه لهذه الخاصة فلا بدّ من القول بتحقّق أظهر صفات المشبّه به للمشبه، ولا شكّ في أنّ ذلك المعنى أظهر ما في خلقه الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم).

وغير خاف أنّ هذه الكلمة قالها النّبي لما تنازع عنده أمير المؤمنين وجعفر بن أبي طالب وزيد بن حارثة في ابنة حمزة بن عبد المطلب، وكان كُلّ منهم يريد القيام بتربيتها.

وذلك أن النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لما خرج من مكة بعد انقضاء الأجل بينه وبين أهل مكة في عمرة القضاء الواقعة في السنة السابعة للهجرة، تبعته ابنة حمزة تقول: يا عم خذني معك، فأخذها أمير المؤمنين ودفعها إلى فاطمة (عليها السلام)، وفي المدينة جرى ذلك النزاع بينهم، فقال رسول اللّه لزيد: " أنت أخوها ومولانا "، وقال لجعفر:

____________

(1) القلم: 4.


الصفحة 89
" اشبهت خَلقي وخُلقي "، وقال لأمير المؤمنين: " أنت منّي وأنا منّك "، ثُمّ قضى بها للخالة وهي أسماء بنت عميس(1).

هذا هو الحديث المذكور في الجوامع، والنظرة الصادقة فيه تفيدنا معرفة السرّ في اختلاف خطاب النّبي مع ابني عمّه، وكُلّ منهما نصح له في التلبية على الدعوى الإِلهية، وأخلص في المفاداة في سبيل تبليغ الرسالة خصوصاً مع معرفته بأساليب المحاورة ; لأنّه سيّد البلغاء { وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى }(2)، فلا جرم حينئذ من كون الوجه فيه هو الإشارة إلى صفة سامية تحلّى بها أمير المؤمنين وتخلّى عنها جعفر، وليست هي إلاّ خلافة اللّه الكبرى، فإنّ علياً (عليه السلام) حامل ما عند رسول اللّه الأعظم من علم متدفّق، وفقه ناجع، وخبرة شاملة، وتأمّل فيّاض، وخلق عظيم لا يستطيع البشر القيام به.

وهذا هو الذي تفيده المنزلة في قوله: " أنت منّي وأنا منك "، بعد فرض المباينة بينهما في الحدود الشخصية. والنّبي لا ينطلق ساهياً ولا لاهياً، فلا بدّ أن يكون قاصداً تلك المنزلة الكبرى التي لم يحوها جعفر وإن بلغ في خدمة الدين كُلّ مبلغ.

وهذا النزاع إنّما هو في الحضانة التي هي سلطنة وولاية على تربية الطفل وإدارة شؤونه، وقد كان لابنة حمزة يومئذ أربع سنين.

____________

(1) صحيح البخاري 3: 168، كتاب الصلح، باب إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود، المستدرك للحاكم 3: 120، السنن الكبرى للنسائي 8: 5، مجمع الزوائد للهيثمي 9: 258.

(2) النجم: 3.


الصفحة 90
وهذا القضاء ـ كما يفيدنا سقوط حضانة الأُم إذا تزوجت ـ يُفيدنا أولوية الخالة على العمّة، فإنّ عمّتها صفية كانت موجودة يومئذ وأُمها سلمى متزوجة بشداد بن الهادي الليثي حليف بني هاشم.

ويرشدنا طلب أمير المؤمنين الحضانة إلى أنّ أولوية الخالة على غيرها من الأقارب إنّما هو عند المخاصمة، وإلاّ فلم يخفِ الحكم على سيّد الوصيين، وهو مستقى الأحكام وينبوعها، وقد امتزجت ذاته المقدّسة بالمعارف الإلهية والأسرار الربوبية واستمدّ من اللوح المحفوظ.

ولعلّ السرّ الدقيق في مخاصمته معهما تعريف الأُمة مقامه الرفيع ومنزلته الكبرى التي لا يدانيها كُلّ أحد، والواجب عليه ـ بما أنّه المنقذ الأكبر وإمام الأُمة ـ إرشادها إلى الطريق اللاحب بأيّ نحو من أنحاء الكلام.

لقد كان جعفر ملازماً لصاحب الرسالة ملازمة الظلّ لديه، يرقب أفعاله وتروكه، ويسمع تعاليمه وعظاته، ويبصر أعماله وحكمه، ويقتصّ أثره منذ كان يصل جناح الرسول الأيسر في الصلاة بعد أمير المؤمنين وخديجة الكبرى.

وكانت قريش تخبط في غلواء جحودها، وتغلي مراجل بغضائها على الصادع بالدين الحنيف، وعلى كُلّ ذلك تمرّنه التعاليم النبويّة الخاصّة به، وتكهَربه تهذيبات المشرّع الأطهر، ولا تدعه جاذبة الدعوة الإلهية يلوي يميناً ولا شمالاً.


الصفحة 91
ومن هنا أئتمنه صاحب الرسالة على نشر كلمة التوحيد وعلى ضعفاء المسلمين يوم بعثه إلى الحبشة في السنة الخامسة من الهجرة، فأدّى النصيحة، ونهض بالدعوة حتّى استمال النجاشي إلى الإسلام، فآمن غير أن منيته حالت دون أُمنيته.

ولو لم يكن جعفر بتلك المنزلة الرفيعة لما تعاقبت مفاخرات أئمة الدين به، كما افتخروا بعمّه أسد اللّه وأسد رسوله في كثير من مفاخراتهم:

ففي احتجاج الطبرسي: أنّ أمير المؤمنين احتجّ على أهل الشورى بأنّ أخاه جعفر المزيّن بجناحين في الجنّة، يحلّ فيها حيث شاء، فلم يردّ عليه أحد، بل قابلوه بالتسليم والقبول.

وفي نهج البلاغة فيما كتب به إلى معاوية: أنّ قوماً قطعت أيديهم في سبيل اللّه، ولكُلّ فضل، حتّى إذا فعل بواحدنا ما فعل بواحدهم قيل له: الطيار في الجنّة وذو الجناحين.

فلو لم يكن كفاحه عن الدين عن بصيرة نافذة ويقين ثابت لما افتخر به المعصومون والعارفون بمآل العباد، حتّى جعلوا مواقفه في الدين ذريعة إلى التوسّل إلى مطلوبهم.

ولحزمه الثابت، ومواقفه المحمودة، وإصابته في الرأي، وقديم إيمانه أمّره النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في غزوة مؤتة على المسلمين، ولم يجعل عليه أميراً، فإذا قتل فالأمير زيد بن حارثة، فإن قتل فالأمير عبد اللّه بن رواحة(1).

____________

(1) مناقب آل أبي طالب 1: 176، إعلام الورى: 212.


الصفحة 92
فما ذهب إليه فريق من المؤرّخين من تقديم زيد وابن رواحة عليه، يدفعه صحيح الأثر والاعتبار الصادق.

وهذه العظمة هي التي تركت قدومه من الحبشة يوم فتح خيبر أعظم موهبة منح اللّه تعالى بها نبيّه، تعادل ذلك الفتح المبين، حتّى قال (صلى الله عليه وآله وسلم): " ما أدري بأيّهما أُسرّ بقدوم جعفر أم بفتح خيبر "، ثُمّ قال له: " ألا أحبوك، ألا أمنحك "؟ فظنّ الناس أنّه يعطيه ذهباً وفضّة ; لما فتح اللّه عليه من خيبر، فقال له جعفر: بلى يا رسول اللّه، فعلّمه صلاة التسبيح وهي المعروفة بصلاة جعفر(1).

وهذه الحبوة من الرسول الكريم لابن أخيه حيث علم أنّ من فرط قداسته لا يروقه إلاّ ما كان من عالم القدس، فخلع عليه بها، وجعله وسام شرف له، وهي من المتواترات بين العامّة والخاصّة، كما نصّ عليه المجلسي في البحار(2).

ولكن شرذمة من مناوئي أهل البيت لم يرق لهم ثبوت تلك المنحة لأخي أمير المؤمنين، وحيث لم يسعهم أن يلصقوها بواحد منهم زحزحوها إلى العبّاس بن عبد المطلب كما في شفاء السقام للسيّد جعفر الكتاني صفحة 20.

وقد كشفت الحقيقة عن نفسها، وأماطت ستار التمويه بافتعال هذه النسبة من عكرمة مولى ابن عباس الكذّاب بنصّ الذهبي في الميزان، وياقوت في المعجم، وابن خلكان في الوفيات بترجمته(3).

____________

(1) الكافي 3: 365، من لا يحضره الفقيه 1: 552، النوادر: 160، جمال الاسبوع: 182.

(2) بحار الأنوار 88: 212.

(3) ميزان الاعتدال 3: 94، ضعفاء العقيلي 3: 373، تاريخ الإسلام 7: 18، وغيرها من المصادر.


الصفحة 93

أُخوته


إنّ حاجة الباحث في تاريخ أبي الفضل (عليه السلام) ماسّة إلى معرفة أُخوته الأكارم لمناسبات هناك، فإنّ منهم من يعدّ قربه منه فضيلة رابية وشرفاً باذخاً فضلاً عن الأُخوة، وهما الإمامان على الأُمة إن قاما وإن قعدا(1).

وإذا كانت بنوتهما لأمير المؤمنين معدودة من فضائله، مع ما له من الفضائل التي لا يأتي عليها الحصر، كما يظهر من قوله (عليه السلام) يوم الشورى: " أنشدكم باللّه هل فيكم أحد له سبطان مثل سبطاي الحسن والحسين ابني رسول اللّه، وسيّدي شباب أهل الجنّة غيري "؟ قالوا: لا(2).

كما أنّه (عليه السلام) افتخر بهما يوم كتب إليه معاوية أنّ لي فضائل ; كان أبي سيّداً في الجاهلية، وصرت ملكاً في الإسلام، وأنا صهر رسول اللّه، وخال المؤمنين، وكاتب الوحي.

فكتب إليه أمير المؤمنين أبياتاً سبعة ذكر فيها مصاهرته من

____________

(1) كشف الغمة 2: 156، إعلام الورى: 407، روضة الواعظين: 156، الإرشاد 2: 30.

(2) الخصال: 555.


الصفحة 94
رسول اللّه، وأن عمّه سيّد الشهداء، وأخاه الطيّار مع الملائكة في الجنان، وسبقه إلى الإسلام، وأخذ البيعة له (يوم الغدير)، وأن ولديه سبطا رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم)(1).

وحينئذ فأخوة العبّاس لهما أولى أن تعقد منهما مآثره وفضائله. أضف إلى ذلك ما استفاده منهما من العلوم والمعارف الإلهية.

ومنهم من يجمعه وإياه جامع العقب، فإنّ المعقّبين من أولاد أمير المؤمنين الإِمامان والعبّاس ومحمّد بن الحنفية وعمر الأطرف.

ومنهم من شاركه في موقف الطفّ.

ومنهم من يعدّ هو وإياه تحت جامع الأمومة.

ومنهم من شاركه في الاسم.

وعليه فأولاد أمير المؤمنين الذكور ستة عشر:

الحسن والحسين والمحسن، أُمهم سيّدة نساء العالمين.

محمّد بن الحنفية، أُمّه خولة.

العبّاس وعبد اللّه وجعفر وعثمان، أُمّهم أُم البنين.

عمر الأطرف والعبّاس الأصغر، أُمهما الصهباء.

محمّد الأصغر، أُمه إمامة بنت أبي العاص.

يحيى وعون، أُمهما أسماء بنت عميس.

عبد اللّه وأبو بكر، أُمهما ليلى بنت مسعود.

____________

(1) روضة الواعظين: 87، الاحتجاج 1: 265، مناقب آل أبي طالب 2: 19، الغدير 2: 26، تاريخ مدينة دمشق 42: 521، الوافي بالوفيات 21: 184، البداية والنهاية 8: 9.


الصفحة 95
محمّد الأوسط، أُمّه أُم ولد(1).

أمّا الإِمامان فالأحرى أن نجعجع اليراع عن التبسّط في فضلهما وموقفهما من القداسة ومحلهما من الزلفى، وما أُوتيا من حول وطول، والبسطة في العلم، فإن الوقوف على كنه ذلك فوق مرتكز العقول.

وأما المُحَسّن ـ بتشديد السين كما في تاج العروس بمادة شبر(2)، والإصابة بترجمته(3) ـ وضمّ الميم، وسكون الحاء كما في حاشية السيّد محمّد الحنفي على شرح ابن حجر لهمزية البويصري ص 251.

فعند الإمامية أنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) سمّاه باسم ابن هارون مشبر كمحدث كما في القاموس(4) وغيره، وكان حملاً، وبعد وفاته أسقطته فاطمة الزهراء لستة أشهر، والروايات التي ذكرها ابن طاووس في (الطرف)(5) وغيره في غيرها تساعدهم.

____________

(1) تاريخ الطبري 4: 119، الكامل في التاريخ 3: 398، مع تفاوت يسير في بعض الابناء واسمائهم.

(2) تاج العروس 3: 289.

(3) الإصابة 6: 191.

(4) القاموس 2: 55.

(5) الطرف 1: 335.


الصفحة 96

ابن الحنفية


وأمّا محمّد الأكبر، الذي يجمعه وإياه جامع العقب، فيكنّى بابن الحنفية، وهي أُمه خولة بنت جعفر بن قيس من بني الدئل بن حنيفة بن لجيم، وأُمها بنت عمرو بن أرقم الحنفي.

واختلف في أمرها أنّها سبية أيام رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم)، لما بعث علياً إلى اليمن فأصاب خولة في بني زبيد، وقد ارتدّوا مع عمرو بن معد يكرب، وكانت زبيد سبتها من بني حنيفة في غارة لهم عليهم.

وقيل: إنّ خالد بن الوليد قاتل أهلها أيام أبي بكر فسباهم، فهي من جملة السبايا، فدفعها أبو بكر من سهمه في المغنم.

وقيل: إنّ بني أسد أغارت على بني حنيفة أيام أبي بكر فسبوا خولة وباعوها من علي (عليه السلام)، فبلغ قومها خبرها فجاءوا إلى علي (عليه السلام) فعرّفوه أنّها ابنتهم، فاعتقها وأمهرها وتزوّجها(1).

وقيل: إنّها سبيت أيام أبي بكر، فاشتراها أُسامة بن زيد وباعها من علي (عليه السلام).

وفي حديث أسماء بنت عميس: أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام)اشتراها من سوق ذي المجاز أوان مقدمه من اليمن، فوهبها فاطمة (عليها السلام)، فباعتها من مكمل الغفاري، فولدت منه عونة، ثُمّ باعها من علي (عليه السلام).

____________

(1) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 1: 244.


الصفحة 97
ويحكي ابن خلكان في الوفيات قولاً أنّها سندية، أمة لبني حنيفة، سوداء(1).

وحكاه الشيخ الجليل ابن إدريس الحلّي في مزار السرائر عن ابن حبيب النسابة وقال: إنّه جهل منه وقلّة تأمل(2).

ويروي القطب الراوندي في الخرائج: أنّها سبيت أيام أبي بكر، وأنّ الزبير وطلحة طرحا عليها ثوبيهما طلباً للاختصاص بهما، فصاحت: لا يملكني إلاّ من يخبرني بالرؤيا التي رأتها أُمي، وعن اللوح الذي كتبت فيه الرؤيا، وما قالته لي، فعجزوا عن معرفته إلاّ أمير المؤمنين أوضح لها في ملأ من المسلمين أمراً غيبياً، عجب منه الحاضرون، فعندها قالت: من أجلك سُبينا ولحبّك أصابنا ما أصابنا(3).

ولم يعبأْ السيّد المرتضى في (الشافي) بجميع ذلك فقال: " لم تكن الحنفية سبية على الحقيقة، ولم يستبحها (عليه السلام) بالسبا ; لأنّها بالإسلام قد صارت حرّة مالكة أمرها، فأخرجها من يد من استرقها، ثُمّ عقد عليها عقد النكاح "(4).

وما ذكره هو الصحيح المقبول، فإنّ الردّة المزعومة لا توجب أحكام الكفر ومنع الزكاة وأمثالها على التأويل، فليس فيه خروج عن ربقة الإسلام.

____________

(1) وفيات الأعيان 4: 169.

(2) السرائر 1: 657 والعبارة: " وهذا خطأ منه، وتغفيل، وقلة تحصيل ".

(3) الخرائج والجرائح للراوندي 2: 564، والكلام منقول بالمعنى في عامة الفاظه.

(4) الشافي للسيّد المرتضى 3: 371.


الصفحة 98
وأمّا ولادة محمّد فقيل: إنّها أيام أبي بكر، وقيل: أيام عمر، وخصّها ابن خلكان بأوّل المحرم لسنتين بقيتا من خلافة عمر(1). وإذا علمنا أنّ عمر مات سنة ثلاث وعشرين، كانت ولادته سنة إحدى وعشرين.

وأمّا على رأي ابن كثير في البداية ج9 ص38 وسبط ابن الجوزي في التذكرة من وفاته سنة أحدى وثمانين عن خمس وستين تكون ولادته سنة ستة عشر للهجرة(2).

وأما قبره فعند ابن قتيبة بالطائف(3)، وفي تذكرة الخواص بايلة مدينة مما يلي الشام، وفي حلية الأولياء ج3 ص173(4) وتهذيب التهذيب ج9 ص355(5) بالمدينة المنورة وعينه ابن كثير بالبقيع(6).

وفي معجم البلدان ج3 ص387(7): إن أهل جزيرة خارك ـ التي هي في وسط البحر الفارسي ـ يزعمون أنّ بها قبر محمّد بن الحنفية يقول الحموي: وقد زرت هذا القبر فيها ولكن التواريخ تأباه.

واعتقاد الكيسانية حياته في جبل رضوى يأتيه رزقه وله عودة، من الخرافات ; للاتفاق على موته.

____________

(1) وفيات الأعيان 4: 172.

(2) البداية والنهاية 9: 46.

(3) المعارف: 95.

(4) حلية الأولياء 3: 205.

(5) تهذيب التهذيب 9: 354.

(6) البداية والنهاية لابن كثير 9: 32.

(7) معجم البلدان 2: 337.


الصفحة 99
وإنّ كلمة الإمام الحسن السبط تدلّنا على فضله الشامخ، وورعه الثابت، ونزاهته عن كُلّ دنس، ومعرفته بالإمام الواجب اتباعه قال الشيخ الجليل الطبرسي من أعلام القرن السادس في (أعلام الورى):

" أرسل الحسن بن أمير المؤمنين قنبراً خلف محمّد بن الحنفية، فلمّا مثل بين يديه قال له: " اجلس " فليس يغيب مثلك عن سماع كلام يحيى به الأموات ويموت به الاحياء ; كونوا أوعية العلم ومصابيح الدجى، فإنّ ضوء النهار بعضه أضوء من بعض، أما علمت أنّ اللّه عزّ وجلّ جعل ولد إبراهيم (عليه السلام) أئمة، وفضّل بعضهم على بعض، وآتى داوود زبوراً، وقد علمت بما استأثر اللّه تعالى محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم)؟!

يا محمّد بن علي، لا أخاف عليك الحسد، وإنّما وصف اللّه به الكافرين فقال تعالى: { كُفَّاراً حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ }(1) ولم يجعل اللّه للشيطان عليك سلطاناً.

يا محمّد بن علي، ألا أخبرك بما سمعت من أبيك (عليه السلام) فيك؟ قال: بلى.

فقال: سمعت أباك يقول يوم البصرة: من أحبّ أن يبرّني في الدنيا والآخرة فليبرّ محمّداً.

يا محمّد بن علي، لو شئت أن أُخبرك وأنت في ظهر أبيك لأخبرتك.

____________

(1) البقرة: 109.


الصفحة 100
يا محمّد بن علي، أما علمت أنّ الحسين بن علي بعد وفاة نفسي ومفارقة روحي جسمي إمام من بعدي عند اللّه في الكتاب، وراثة النبي أضافها في وراثة أبيه وأُمه، علم اللّه أنكم خيرة خلقه فاصطفى منكم محمّداً، واختار محمّد علياً، واختارني علي للإِمامة، واخترت أنا الحسين ".

فقال له محمّد بن علي: أنت إمامي وسيدي، ألا وإنّ في رأسي كلاماً لا تنزفه الدلاء، ولا تغيّره الرياح، كالكتاب المعجم في الرقّ المنمنم، أهم بابدائه، فأجدني سبقت إليه سبق الكتاب المنزل، وما جاءت به الرسل، وإنه لكلام يكُلّ به لسان الناطق ويد الكاتب حتّى لا يجد قلماً، ويؤتوا بالقرطاس حمماً، ولا يبلغ فضلك وكذلك يجزي المحسنين ولا قوة إلاّ باللّه ; الحسين أعلمنا علماً، واثقلنا حلماً، وأقربنا من رسول اللّه رحماً، كان إماماً قبل أن يخلق، وقرأ الوحي قبل أن ينطق، ولو علم اللّه أنّ أحداً خيراً منّا ما اصطفى محمّداً، فلمّا اختار اللّه محمّداً واختار محمّداً علياً إماماً، واختارك عليّ بعده واخترت الحسين بعدك، سلمنا ورضينا بمن هو الرضا وممّن نسلم به من المشكلات(1).

وهذه الوصية تفيدنا عظمة ابن الحنفية من ناحية الإيمان وأنّه من عياب العلم ومناجم التقى، فأيّ رجل يشهد له إمام وقته بأنّ اللّه لم يجعل للشيطان عليه سلطاناً، وأنّه لا يخشى عليه من ناحية الحسد الذي لا يخلو منه أو من شيء من موجباته، أيّ أحد لم يبلغ درجة الكمال ثُمّ أي رجل أناط أمير المؤمنين البرّ به بالبرّ بنفسه التي يجب على كافة المؤمنين أن يبرّوا بها.

____________

(1) إعلام الورى بأعلام الهدى: 423.


الصفحة 101
على أنّ الظاهر من قول المجتبى: " أما علمت أنّ الحسين " هو أنّ علم محمّد بالإمامة لم يكن بمحض النصّ المتأخّر وإن أكده ذلك، وإنّما هو بعلم مخصوص برجالات بيت الوحي، مكنون عندهم بالإحاطة بالكتاب الماضي والقدر الجاري. ويرشدنا إلى هذا قول ابن الحنفية: " إنّ في رأسي... "، فإنّه أظهر من سابقه فيما قلنا، وكلماته الذهبية في الاعتراف بحقّ الإمامين تدلنا على ثباته المستقى من عين صافية بارشية من الحقّ، وما هي إلاّ ذلك اللوح المحفوظ.

أضف إلى ذلك ما جاء عن أمير المؤمنين (عليه السلام) من قوله: " تأبى المحامدة أن يعصى اللّه، وهم: محمّد بن الحنفية، ومحمّد بن جعفر الطيار، ومحمّد بن أبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة، وهو ابن خال معاوية بن أبي سفيان "(1).

____________

(1) رجال الكشي 1: 226 النصّ منقول بالمعنى. وفيه إنّ محمّد بن أبي حذيفة كان من أنصار علي وخيار الشيعة، وبعد شهادة علي حبسه معاوية دهراً حيث لم يتبرأ من المشايعة لعلي وولده، وبعد أنّ أخرجه حمله على البراءة منه والموالاة لعثمان فقال له: إنّي لا أعلم أحداً شرك في دم عثمان غيرك حيث استعملك وخالف المسلمين في رأيهم عليه بعزلك حتّى جرى عليه ما كان، وإنّ طلحة والزبير وعائشة هم الذين ألّبوا عليه وشهدوا عليه بالجريمة، وإنّي أشهد أنّك منذ عرفت في الجاهلية والإسلام لعلى خلق واحد ما زاد الإسلام فيك شيئاً، وعلامته أنّك تلومّني على حبّي لعلي وقد خرج معه كُلّ صوّام قوّام من المهاجرين والأنصار، كما خرج معك أبناء المنافقين والطلقاء. واللّه يا معاوية ما خفي عليك ما صنعت ولا خفي عليهم ما صنعوا، إذ أحلوا أنفسهم سخط اللّه بطاعتك، وإنّي لا أزال أحبّ علياً للّه ورسوله وأبغضك في اللّه ورسوله أبداً ما بقيت، ثُمّ ردّه إلى السجن فمات فيه. رجال الكشي 1: 228 والنصّ منقول بالمعنى.


الصفحة 102
وهذه شهادة من سيّد الأوصياء في حقّ ولده الكريم محمّد، قد أخذت مأخذها من الفضيلة وأحلّت محمّداً المحلّ الأرفع من الدين، وأقلّته سنام العزّ في مستوى الإيمان.

وإن شهادة أمير المؤمنين بأنّه ممّن يأبى أن يُعصى اللّه، تعرّفنا عدم ادعائه الإمامة لنفسه بعد الحسين، فإنّ تسليمه الإمامة للسجاد لا يختلف فيه اثنان، واستدعاؤه الإمام للمحاكمة عند الحجر الأسود من أكبر الشواهد على تفننه في تنبيه الناس لمن يجب عليهم الانقياد له.

وعدم حضوره مشهد الطفّ: إمّا لما يقوله العلاّمة الحلّي في أجوبة المسائل المهنائية من المرض، أو لما يروي محمّد بن أبي طالب في المقتل من إذن الحسين له في البقاء بالمدينة، يعرّفه بما يحدث هناك، فهو معذور مقبول.

ولبسالته المعلومة وموقفه من الحقّ أنزله أبوه يوم (الجمل) منزلة يده، فكان يخوض الغمرات أمامه ويمضي عند مشتبك الحرب قدماً، وكان يقول له عند أمره لمنازلة الأقران دون الإمامين: إنّهما عيناي وأنت يدي، أفلا أدفع بيدي عن عيني(1).

وناهيك من بلاغته المزيجة بالشجاعة خطبته يوم صفين، وقد برز بين الصفين فأومى إلى عسكر معاوية وقال:

____________

(1) في شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 1: 244: " قيل لمحمّد: لم يغرر بك أبوك في الحرب، ولا يغرر بالحسن والحسين (عليهما السلام)؟ فقال: إنّهما عيّناه وأنا يمينه، فهو يدفع عن عينيه بيمينه ".


الصفحة 103
" يا أهل الشام اخسئوا يا ذرية النفاق وحشو النار وحطب جهنم... "(1) إلى آخر كلامه المروي في تذكرة الخواص لسبط ابن الجوزي ص167، ومناقب الخوارزمي ص134(2).

فكان لهذه الخطبة البليغة موقع تام في ذلك الجيش اللجب والجمع المتكاثف، ولم يبق في الفريقين إلاّ من اعترف بفضله.

____________

(1) والنصّ باختلاف ألفاظه موجود في مناقب آل أبي طالب 3: 334، وعنه بحار الأنوار 46: 318.

(2) المناقب للخوارزمي: 210.


الصفحة 104

الأطرف


وأما عمر الأطرف، فكما شاركه في العقب، وقع الخلاف من أهل النساء في أيهما أسبق في الولادة، فالذي عليه ابن شهاب العكبري وأبو الحسن الاشناني وابن جداع تقدّم ولادة عمر، وعند شيخ الشرف العبيدلي والبغدادي وأبي الغنائم العمري تقدّم ولادة العبّاس (عليه السلام)(1).

ولا يمكننا الحكم بشيء بعد جهالة السنة التي توفّي فيها، وذكرها على الإجمال في زمن عبد الملك أو ابنه الوليد لا يغني، وإن عرفوا مقدار عمره بخمس وثمانين أو خمس وسبعين.

نعم، يظهر من المؤرّخين عند ذكر أولاد أمير المؤمنين (عليه السلام) أنّ العبّاس أكبر منه ; لأنّهم يقدّمون ذكر العبّاس وأخوته على عمر، على أن الداودي في العمدة ص354 يقول: كان عمر آخر من ولد من بني علي (عليه السلام).

وعلى كُلّ حال فالوجه في تسميته بالأطرف إنّما هو بعد ولادة عمر الأشرف ابن الإمام السجّاد (عليه السلام) أخو زيد الشهيد لأُمه، فإنّه سُمّي بالأشرف لجمعه الفضيلة من ولادة علي وفاطمة (عليهما السلام)، والأطرف حاز الفضل من طرف أبيه(2).

____________

(1) عمدة الطالب: 328.

(2) عمدة الطالب: 281.


الصفحة 105
ولم يحضر مع الحسين في الطفّ، ولا مع مصعب بن الزبير، وقد وهم من ذكره في المستشهدين يوم الطفّ، كما أخطأ الدينوري في الأخبار الطوال ص297 في عدّه من جملة من قُتل مع مصعب في الحرب القائمة بينه وبين المختار.

وأغرب منه عدّ اليافعي له في مرآة الجنان ج1 ص143 في جملة المقتولين مع المختار ; لأنّ المشهور بين المؤرّخين بقاؤه إلى بعد الحسين حتّى نازع السجّاد في الصدّقات إلى عبد الملك، فلم ينجح، كما نازع الحسن المثنى فيها عند الحجاج فطرده عبد الملك عنها(1).

ويروي السيّد ابن طاووس أنّه أشار على الحسين بالبيعة ليزيد، فقال له: إنّ أبي حدّثني عن رسول اللّه بقتله وقتلي، وإنّ تربتي إلى جنب تربته، أتظنّ أنك تعلم ما لم أعلمه، فواللّه لا أعطي الدنيّة من نفسي(2).

ولا أعلم السبب في تأخّره عن الطفّ، والظنّ لا يغني عن الحقّ شيئاً، وليس لنا إلاّ التسليم ما لم يقم دليل قطعي على المعاندة والمخالفة، خصوصاً بعد ما جاء الحديث عن الإمام الصادق (عليه السلام)، وفيه: " لا يخرج أحدنا من الدنيا حتّى يقرّ لكُلّ ذي فضل فضله ولو بفواق ناقة "(3).

فإنّه صريح في توبة من كان ظاهره الخلاف لأهل البيت (عليهم السلام)عند الممات، ولا إشكال في أنّ التوبة مكفّرة لما صدر من العصيان

____________

(1) عمدة الطالب (عند ذكر الحسن المثنى): 90.

(2) اللهوف في قتلى الطفوف: 20، والنصّ منقول بالمعنى.

(3) هذان حديثان ملفقان منقولان بالمعنى وهما في كمال الدين وتمام النعمة للشيخ الصدوق: 602، وقرب الإسناد للحميري: 24.


الصفحة 106
كما في صريح الكتاب المجيد وإجماع المسلمين والأخبار المتواترة التي توجب القطع بمضمونها، فالتهجّم على آل النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بمجرد تلك الأحاديث التي لا يعرف مأخذها، خروج عن طريقة الأئمة الطاهرين.

وأمّا عبيد اللّه بن النهشلية فلم يحضر الطفّ وجاء إلى المختار يطلب الرفد فلم يصله، فالتحق بمصعب، وجاء معه، فلمّا وصل المنار من سواد البصرة وجد في فسطاطه مذبوحاً ولم يعلم قاتله(1).

والمشارك معه في يوم الطفّ أبو بكر، وأُمه ليلى بنت مسعود النهشلية، قال ابن جرير: وابن الأثير شكّ في قتله(2).

وفي نفس المهموم ص173: وجد في ساقية قتيلاً لا يعلم قاتله(3).

وكأنّه لمّا حمل آل أبي طالب بعد قتل عبد اللّه بن مسلم بن عقيل جملة واحدة فصاح بهم الحسين: " صبراً على الموت يا بني عمومتي، فواللّه لا رأيتم هواناً بعد هذا اليوم أبداً "(4).

سقط فيهم عون بن الطيار، وأَخوه محمّد وعبد الرحمن بن

____________

(1) قال ابن إدريس الحلّي في السرائر 1: 656: " وقد ذهب أيضاً شيخنا المفيد في كتاب الإرشاد إلى أنّ عبيد اللّه بن النهشلية قتل بكربلاء مع أخيه الحسين (عليه السلام). وهذا خطأ محض بلا مراء ; لأنّ عبيد اللّه بن النهشلية كان في جيش مصعب بن الزبير، ومن جملة أصحابه، قتله أصحاب المختار.

(2) تاريخ الطبري 4: 351، الكامل في التاريخ 4: 92.

(3) مقاتل الطالبيين: 57.

(4) بحار الأنوار 45: 36 والعبارة: " صبراً يا بني عمومتي، صبراً يا أهل بيتي، لا رأيتم هواناً بعد هذا اليوم أبداً ".


الصفحة 107
عقيل، وأَخوه جعفر ومحمّد بن مسلم بن عقيل وأبو بكر هذا، فلذلك لم يعرف قاتله.

ومحمّد الأوسط، وأُمه أم ولد، قتله رجل من بني أبان بن دارم واحتزّ رأسه(1).

وعبد اللّه المولود سنة 36 هـ، وجعفر المولود سنة 33 هـ، وعثمان المولود سنة 40 هجرية، فقتل هاني بن ثبيت الحضرمي عبد اللّه وجعفر، ورمى خولي بن يزيد الأصبحي عثمان واحتزّ رأسه رجل من بني أبان بن دارم(2) وهؤلاء جمعهم وإياه الأُمومة أيضاً.

والمشارك له في الاسم عباس الأصغر، نصّ عليه النسابة السيّد محمّد كاظم اليماني في النفحة العنبرية، قال: وكان شقيقاً لعمر الأطرف، وفي ناسخ التواريخ ذكر العبّاس الشهيد والعبّاس الأصغر، ويؤيّده أنّ النسابة العمري في المجدي وابن شهرأشوب في المناقب والشبلنجي في نور الأبصار والمحبّ الطبري في ذخائر العقبى وصفوا الشهيد بالعبّاس الأكبر(3).

وهذا التعبير في عرف النسّابين يقع لمن يكون له أخ أصغر منه شاركه في الاسم لا فيمن هو أكبر أُخوته مطلقاً ولو لم يشاركه في الاسم، والظاهر أنّ العبّاس الأصغر درج في أيام أبيه ; لأنّه ليس له ذكر في الوارثين لأمير المؤمنين من ولده.

____________

(1) الكامل في التاريخ 4: 92.

(2) مقاتل الطالبيين: 55.

(3) أنساب الأشراف: 192، المجدي في أنساب الطالبيين: 232، الجريرة في أصول أنساب العلويين: 12.