الصفحة 144

السقا


الماء حياة العالم، وليست حاجة أي جزء من أجزائه أمسّ من الآخر، فلا جزء ولا جزيء في الكون إلاّ وهو خاضع له، في وجوده، وفي نشوئه وبقائه، وقد أعرب عنه سبحانه بقوله: { وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيء حَيّ }(1).

وإليه استند ابن عباس في حلّ لغز ملك الروم، فإنّه وجّه إلى معاوية قارورة يطلب منه أن يضع فيها من كُلّ شيء، فتحيّر معاوية واستعان بابن عباس في كشف الرمز، لعلمه بأنّه يستقي من بحر أمير المؤمنين (عليه السلام) المتموّج بالحكم والأسرار، فقال ابن عباس: " لتملأ له ماء، فإنّ اللّه يقول { وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيء حَيّ }، فأدهش ملك الروم وتعجّب وقال: للّه أبوه ما أدهاه "(2).

فلا يخالج اليقين بأهمّيته الكبرى في دور الحياة أي شكّ.

وإن من يكون معروفه الذي تندى به أنامله، وتسوقه إليه جبلته، هذه المادة الحيوية، لعلى جانب ممنع من الفضل، وقد عرقت فيه شائج الرقة، وتحلّى بغريزة العطف، ونبض فيه عرق الحنان، ولا يكون إسداء مثله إلاّ عن لين ورأفة على الوجود، وإن تفاوتت المراتب بالنسبة إلى الموجدات الشريفة وما دونها، ولا

____________

(1) الأنبياء: 30.

(2) الكامل للمبرد 1: 308، والعبارة فيها تقديم وتأخير.


الصفحة 145
يعدو الشرف والشهامة هذا المتفضّل بسرّ الحياة، فهو شريف يحب الإبقاء على مثله، أو عطوف لا يجد على الاغاثة منه، ولا على قدرته في الإعانة لسائر الموجودات جهداً ولا عطباً.

وإذا كانت الشريعة المطهّرة حثّت على السقاية ذلك الحثّ المتأكد، فإنّما تلت على الناس أسطراً نوريّة، ممّا جبلوا عليه، وعرفت الأُمة بأنّ الدين يطابق تلك النفسيات البشرية والغرائز الطبيعية، وأرشدتهم إلى ما يكون من الثواب المترتّب على سقي الماء في الدار الآخرة، ليكونوا على يقين من أنّ عملهم هذا موافق لرضوان اللّه وزلفى للمولّى سبحانه، يستتبع الأجر الجزيل، وليس هو طبيعي محضّ.

وهذا ما جاء عن النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته المعصومين (عليهم السلام)، من فضل بذل الماء في محلّ الحاجة إليه وعدمها، كان المحتاج إليه حيواناً، أو بشراً، مؤمناً كان، أو كافراً.

ففي حديث النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم): أفضل الأعمال عند اللّه أبراد الكبد الحرى من بهيمة وغيرها(1)، ولو كان على الماء، فإنّه يوجب تناثر الذنوب كما تنتثر الورق من الشجر(2)، وأعطاه اللّه بكُلّ قطرة يبذلها قنطاراً في الجنّة، وسقاه من الرحيق المختوم، وإن كان في فلاة من الأرض ورد حياض القدّس مع النبيّين(3).

____________

(1) بحار الأنوار 71: 369.

(2) تذكرة الموضوعات للفتني: 147.

(3) مستدرك الوسائل للنوري 7: 253.


الصفحة 146
وسأله رجل عن عمل يقرّبه من الجنّة فقال: " اشتر سقاء جديداً ثُمّ اسق فيه حتّى تخرقه، فإنّك لا تخرقه حتّى تبلغ به عمل الجنّة "(1).

وقال الصادق (عليه السلام): " من سقى الماء في موضع يوجد فيه الماء كان كمن أعتق رقبة، ومن سقى الماء في موضع لا يوجد فيه الماء كان كمن أحيى نفساً، ومن أحيى نفساً فكأنّما أحيى الناس أجمعين "(2).

وقد دلّت هذه الآثار على فائدة السقي بما هو حياة العالم ونظام الوجود، ومن هنا كان الناس فيه شرع سواء كالكلاء والنار، فلا يختصّ اللطف منه جلّ وعلا بطائفة دون طائفة.

وقد كشف الإمام الصادق (عليه السلام) السرّ في جواب من قال له: ما طعم الماء؟ فقال (عليه السلام): " طعم الحياة "(3).

فالسقاية أشرف شيء في الشريعة المطهّرة، تلك أهميتها عند الحقيقة، ومكانتها من النفوس، ولهذه الأهمية ضرب المثل " بكعب بن مامة الأيادي "(4).

وأضحت السقاية العامة لا ينوء بعبئها إلاّ من حلّ وسطاً من السؤدد والشرف وأعالي الأُمم لاساقتها، ولذا أذعنت قريش لقصي بسقاية الحاج، فكان يطرح الزبيب في الماء ويسقيهم الماء المُحلّى كما كان يسقيهم اللبن(5).

____________

(1) الأمالي للشيخ الطوسي: 310، الكافي للكليني 4: 57، ح3، من لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق 2: 64.

(2) المعجم الكبير للطبراني 12: 82، مجمع الزوائد للهيثمي 3: 132.

(3) الكافي 6: 381، ح7، مناقب آل أبي طالب 2: 203.

(4) الأعلام للزركلي 5: 229، معجم البلدان للحموي 3: 266.

(5) السيرة الحلبية 1: 21.


الصفحة 147
وكان ينقل الماء إلى مكة من آبار خارجها، ثُمّ حفر بئراً اسمها (العجول) في الموضع الذي كانت دار أُم هاني فيه، وهي أوّل سقاية حفرت بمكة، وكانت العرب إذا استقوا منها ارتجزوا:


نروي على العجول ثُمّ نَنطلقإنّ قصياً قد وفى وقد صدق(1)

ثُمّ حفر قصي بئراً سمّاها (سجلة) وقال فيها(2):


أنا قُصّي وحَفرتُ سِجلةتروي الحجيج زغلة فزغلة

وكان هاشم أيام الموسم يجعل حياضاً من آدم في موضع زمزم لسقاية الحاج ويحمل الماء إلى منى لسقايتهم، وهو يومئذ قليل(3).

ثُمّ إنّه حفر بئراً سمّاها (البندر)(4) وقال: " إنّها بلاغ للناس فلا يمنع منها أحداً "(5).

وأمّا عبد المطلب فقد قام بما كان آباؤه يفعلونه من سقاية الحاج، وزاد على ذلك أنّه لمّا حفر زمزم وكثر ماؤها أباحها للناس، فتركوا الآبار التي كانت خارج مكة، لمكانها من المسجد الحرام، وفضلها على من سواها لأنها بئر إسماعيل(6)، وبنى عليها

____________

(1) معجم البلدان 4: 88، فتوح البلدان للبلاذري 1: 56، سبل الهدى والرشاد 1: 275.

(2) معجم ما استعجم للأندلسي 3: 724.

(3) السيرة الحلبية 1: 22.

(4) معجم البلدان 1: 361، تاج العروس 6: 68 وقال: " قالوا: هو من التبذير وهو التفريق، فلعل ماءها كان يخرج متفرقاً من غير مكان واحد.. ".

(5) في معجم البلدان 1: 361، ومعجم ما استعجم 1: 235: " وقال حين حفرها: انبطت بذراً بماء قلاس جعلت ماءها بلاغاً للناس.

(6) تاريخ الطبري 2: 12، تاريخ ابن الأثير 2: 12، سيرة ابن إسحاق: 5، السيرة الحلبية 1: 51.


الصفحة 148
حوضاً، فكان هو وابنه الحرث ينزعان الماء ويملأن الحوض، فحسدته قريش على ذلك، وعمدوا إلى الحوض بالليل فكسروه، فكان عبد المطلب يصلحه بالنهار وهم يكسرونه بالليل، فلمّا أكثروا عليه إفساده دعا عبد المطلب ربّه سبحانه وتعالى، فرأى في المنام قائلاً يقول: " قل لقريش إنّي لا أحلّها لمغتسل، وهي لشارب حلّ وبل "، فنادى في المسجد بما رأى، فلم يفسد أحد من قريش حوضه إلاّ رمي بداء بجسده حتّى تركوا حوضه وسقايته(1)، وفي ذلك يقول خويلد بن أسد(2):


أقولُ ومَا قَولِي عَليهمُ بسبّةإليكَ ابنُ سَلمّى أنتَ حَافِرُ زَمزَمُ
حَفيرةُ إبراهِيمَ يَومَ ابنِ هَاجَروَركضَةَِ جِبريِل عَلى عَهد آدَمِ

ولمّا وافق قريشاً على المحاكمة عند كاهنة بني سعد بن هذيم، وكان بمشارف الشام، وسار عبد المطلب بمن معه من قومه، حيث إذا كانوا بمفازة لا ماء فيها ونفد ماؤهم استسقوا ممّن كان معهم من قريش، فأبوا أن يسقوهم، حفظاً على الماء، فأمر عبد المطلب أصحابه أن يحفروا قبوراً لهم ويدفن من يموت منهم عطشاً في حفرته ويبقى واحد، فضيعة واحد أيسر من ضيعة جماعة، وبعد أن فرغوا من الحفر قال عبد المطلب: " إنّ هذا منّا لعجز، لنضربنّ في الأرض عسى اللّه أن يرزقنا ماءً، فركب راحلته،

____________

(1) المصنّف للصنعاني 5: 114، تاريخ اليعقوبي 1: 247، تاريخ ابن خلدون 2: 338، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 15: 216، السيرة النبوية لابن كثير 1: 173، السيرة الحلبية 1: 57.

(2) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 15: 217، معجم البلدان للحموي 3: 149، سبل الهدى والرشاد للصالحي الشامي 1: 191.


الصفحة 149
فلمّا انبعث نبع من تحت خفها ماء عذب، فكبّر عبد المطلب، وشرب أصحابه وملؤوا أسقيتهم، ودعا قريشاً أن يستقوا من الماء، فأكثروا منه، ثُمّ قالوا: إنّ اللّه قد قضى لك علينا ولا نخاصمك في زمزم، إنّ الذي سقاك في هذه الفلاة هو الذي سقاك زمزم، فارجع راشداً.

وزاد عبد المطلب في سقاية الحاج بالماء أن طرح الزبيب فيه، وكان يحلب الإبل، فيضع اللبن مع العسل في حوض من ادم عند زمزم، لسقاية الحاج "(1).

ثُمّ قام أبو طالب مقامه بسقي الحاج(2)، وكان يجعل عند رأس كُلِّ جادة حوضاً فيه الماء ليستقي منه الحاج، وأكثر من حمل الماء أيام الموسم، ووفّره في المشاعر فقيل له: (ساقي الحجيج).

أمّا أمير المؤمنين فقد حوى أكثر ممّا حواه والده الكريم من هذه المكرمة، وكم له من موارد للسقاية لا يستطيع أحد على مثلها، وذلك يوم بدر، وقد أجهد المسلمين العطش، وأحجموا عن امتثال أمر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في طلب الماء، فرقاً من قريش، لكن نهضت بأبي الريحانتين غيرته الشماء، وثار به كرمه المتدفق، فلبّى دعاء الرسول، وانحدر نحو القليب، وجاء بالماء حتّى أروى المسلمين(3).

____________

(1) السيرة الحلبية 1: 55، السيرة النبوية لابن هشام 1: 94، السيرة النبوية لابن كثير 1: 169، سبل الهدى والرشاد للصالحي الشامي 1: 189، الكامل في التاريخ 2: 13، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 15: 229.

(2) السيرة الحلبية 3: 52.

(3) مناقب آل أبي طالب لابن شهراشوب 2: 80.


الصفحة 150
ولا ينسى يوم صفين وقد شاهد من عدوه ما تندى منه جبهة كُلِّ غيور، فإنّ معاوية لمّا نزل بجيشه على الفرات منع أهل العراق من الماء، حتّى كضهم الضمأ، فأنفذ إليه أمير المؤمنين صعصعة بن صوحان وشبث بن ربعي، يسألانه أن لا يمنع الماء الذي أباحه اللّه تعالى لجميع المخلوقات، وكُلّهم فيه شرع سواء، فأبى معاوية إلاّ التردي في الغواية والجهل، فعندها قال أمير المؤمنين: " ارووا السيوف من الدماء ترووا من الماء "(1)، ثُمّ أمر أصحابه أن يحملوا على أهل الشام حملة واحدة، فحمل الأشتر والأشعث في سبعة عشر ألفاً والأشتر يقول:


مِيعَادُنَا اليَومَ بَياضُ الصُبْحِهَل يَصلُحُ الزَادُ بغَيرِ مِلحِ؟

والأشعث يقول:


لأورِدنّ خَيلِي الفُرَاتَاشِعثَ النَواصِي أو يُقَالَ مَاتَا

فلمّا أجلوهم أهل العراق عن الفرات ونزلوا عليه وملكوه، أبى صاحب النفسية المقدّسة التي لا تعدوها أي مأثرة، أن يسير على نهج عدوه، حتّى أباح الماء لأعدائه، ونادى بذلك في أصحابه(2)، ولم يدعه كرم النفس أن يرتكب ما هو من سياسة الحرب من التضييق على العدوّ بأيّ صورة.

هذه جملة من موارد السقاية الصادرة من شرفاء سادة، متبوّئين على منصّات المجد والخطر، متكئين على أرائك العزّ

____________

(1) مناقب آل أبي طالب 2: 351.

(2) المعيار والموازنة للاسكافي: 146، الفتوح لابن أعثم الكوفي 3: 5.


الصفحة 151
والمنعة، وما كانت تدعهم دماثة أخلاقهم، وطهارة أعراقهم، أن يكونوا أخلوا من هذه المكرمة، وقد افتخر بذلك عبد مناف على غيرهم.

وأنت إذا استشففت الخصوصيات المكتنفة بكُلِّ منها، فإنّ الصراحة لا تدعك إلاّ أن تقول بتفاوت المراتب فيها من ناحية الفضيلة.

كما لا تجد منتدحاً عن تفضيل الحسين على غيره يوم سقى الحر وأصحابه في " شراف "(1)، وهو عالم بحراجة الموقف، ونفاذ الماء بسقي كتيبة فيها ألف رجل مع خيولهم، ووخامة المستقبل، وإنّ الماء غداً دونه تسيل النفوس، وتشق المرائر، لكن العنصر النبوّي، والأصرة العلوية لم يتركا صاحبهما إلاّ أن يحوز الفضل.

وأني أحسب أنّ ما ناء به أبو الفضل (عليه السلام) في أمر السقاية لا يوازنه شيء من ذلك، يوم ناطح جبالاً من الحديد ببأسه الشديد، حتّى اخترق الصفوف، وزعزع هاتيك الألوف، وليس له هَمّ في ذلك المأزق الحرج إلاّ إغاثة شخصيّة الرسالة، المنتشرة في تلك الأمثال القدّسية من الذرية الطيّبة، ولم تقثعه هذه الفضيلة حتّى أبت نفسيته الكريمة أن يلتذّ بشيء من الماء قبل أن يلتذّ به أخوه الإمام وصبيته الأزكياء.

____________

(1) موضع، وقيل: ماء لبني أسد. راجع لسان العرب 9: 174، ويذكر المؤرّخون ـ كالطبري 4: 302، وابن الأثير في الكامل 4: 46 وغيرها ـ أنّه التقى مع جيش الحرّ بعد الخروج من (شراف).


الصفحة 152
هنالك حداه إيمانه المشفوع باليقين، وحنانه المرتبط بالكرم إلى أن ينكفىء إلى المخيّم ولا يحمل إلاّ مزادة من ماء، يدافع عنها بصارمه الذكر، ويزينه المثقف ولواء الحمد يرفّ على رأسه، غير أنّ ما يحمله هو أنفس عنده من نفسه الكريمة، بلحاظ ما يريده من المحافظة على تلك المزادة الملأى.

وراقه أن تكون هي الذخيرة الثمينة، مشفوعة بما هو أعظم عند اللّه تعالى، فسمح بيمينه وشماله ـ وكلتاهما يمن ـ أن تقطعا بعين اللّه، في كلاءة ما يتهالك دونه، لينال الأُمنيّة قبل المنيّة، وما خارت عزيمة العبّاس (عليه السلام) إلاّ حين أحبّ أن لو كانت المراقة نفسه لا القربة. فيا أبعد اللّه سهماً أسال ماءها، ولم يكن " سعد العشيرة " طالباً للحياة بعده لو لم يأته العمود الطائش، ألا لعنة اللّه على الظالمين.

ومن أجل مجيئه بالماء إلى عيال أخيه وصحبه في الأيام العشرة سُمّي " السقا "، نصّ عليه أبو الحسن في المجدي، والداودي في عمّدة الثالب، وابن إدريس في مزار السرائر، وأبو الحسن الديار البكري في تاريخ الخميس ج2 ص317، والنويري في نهاية الأرب ج2 ص341، والشبلنجي في نور الأبصار ص93، والعلاّمة الحجة محمّد باقر القايني في الكبريت الأحمر ج2 ص34(1).

____________

(1) عمدة الطالب لابن عنبة: 356، مقاتل الطالبيين: 55، الأنوار العلوية للنقدي: 441، السرائر 1: 656.


الصفحة 153
ولصاحب هذا اللقب فيوضات على الأُمة لا تحد، وبركات لا تحصر:


هو البَحرُ مِن أيّ النَواحِي أتَيتَهُفِلجتُهُ المَعرُوفِ والجُودِ سَاحِله

ومن ذلك ما ذكره العلاّمة السند السيّد محمّد بن آية اللّه السيّد مهدي القزويني (قدس سره) في كتاب " طروس الإنشاء " قال:

" في سنة 1306 هـ انقطع نهر الحسينية، وعاد أهل كربلاء يقاسون شحّة الماء، وكضّة الظمأ، فأمرت الحكومة العثمانية بحفر نهر في أراضي السيّد النقيب السيّد سلمان، فمنع النقيب ذلك، واتفق أن زرت كربلاء، فطلب أهلها أن أكتب إلى النقيب، فكتبت إليه ما يشجيه، وعلى حالهم يبكيه:


في كَربلا لَك عُصبةُ تَشكُوا الظَمَامِن فَيضِ كَفِّكَ تستمِدُ رَوُاءهَا
وأراكَ يَا سَاقِي عُطَاشى كَربَلاوأبوُكَ سَاقِي الحَوضَ تَمنعُ مَاءَها(1)

فأجاز النقيب حفر النهر، وانتفع أهل كرلاء ببركة هذا اللقب الشريف (السقا).

____________

(1) نقل جزء من القصة السيّد محسن الأمين في أعيان الشيعة 10: 72.


الصفحة 154

نشأته


ممّا لا شكّ فيه أنّ لنفسيات الآباء ونزعاتهم وكمياتهم من العلم والخطر أو الانحطاط والضعة دخلاً تاماً في نشأة الأولاد وتربيتهم، إنّ لم نقل إنّ مقتضاهما هو العامل الوحيد في تكيّف نفسيات الناشئة، بكيفيات فاضلة أو رذيلة، فلا يكاد يرتأي صاحب أي خطة إلاّ أن يكون خلفه على خطته، ولا أن الخلف يتحرّى غير ما وجد عليه سلفه، ولذلك تجد في الغالب مشاكلة بين الجيل الأول والثاني في العادات والأهواء والمعارف والعلوم، اللهمّ إلاّ أن يوسد هناك تطوّر يكبح ذلك الاقتضاء.

وعلى هذا الناموس يسعنا أن نعرف مقدار ما عليه أبو الفضل (عليه السلام) من العلم والمعرفة وحسن التربية بنشوئه في البيت العلوي، منبثق أنوار العلم، ومحط أسرار اللاهوت، ومختبأ نواميس الغيب، فهو بيّت العلم والعمل، بيت الجهاد والورع، بيت المعرفة والإيمان:


بَيّتُ عَلاَ سَمكُ الضِراحُ رِفعَةًفَكانَ أعَلاَ شَرفَاً وأمَنعَا
أعزَهُ اللّهُ فَما تَهبِطُ فِيكَعبَتهِ الأملاكُ إلاّ خَضعَاً
بَيّتُ مِن القدّس ونَاهيِك بِهِمَحطُ أسرِارِ الهُدى ومَوضِعَا
وكَان مأوى المُرتَجي والمُلتَجىفَما أعزّ شَأنهُ وأرفَعَا(1)

____________

(1) من قصيدة للعلاّمة السيّد محمّد حسين الكيشوان (رحمه الله).


الصفحة 155
وبسيف صاحب هذا البيت المنيع انجلت غواشي الإلحاد، وببيانه تقشّعت غيوم الشبّه والأوهام.

إذن، فطبع الحال يدلّنا على أنّ سيّد الأوصياء لم يبغِ بابنه بدلاً في حسن التربية الإلهية، ولا أنّ شظية الخلافة يروقه غير اقتصاص أثر أبيه الأقدّس، فلك هاهنا أن تحدّث عن بقيّة أمير المؤمنين في أيّ ناحية من نواحي الفضيلة، ولا حرج.

لم تكن كُلِّ البصائر في أبي الفضل (عليه السلام) اكتسابية، بل كان مجتبلاً من طينة القدّاسة التي مزيجها النور الإلهي، حتّى تكونت في صُلّب من هو مثال الحقّ، ذلك الذي لو كشف عنه الغطاء ما ازداد يقيناً، فلم يصل أبو الفضل (عليه السلام) إلى عالم الوجود إلاّ وهو معدن الذكاء والفطنة، وأُذن واعية للمعارف الإلهية، ومادة قابلة لصور الفضائل كُلّها، فاحتضنه حجر العلم والعمل، حجر اليقين والإيمان، وعادت أرومته الطيّبة هيكلاً للتوحيد، يغذّيه أبوه بالمعرفة، فتشرق عليه أنوار الملكوت، وأسرار اللاهوت، وتهب عليه نسمات الغيب، فيستنشق منها الحقائق.

دعاه أبوه (عليه السلام) في عهد الصبا وأجلسه في حجره وقال له:

" قل واحد! فقال: واحد، فقال له: قل إثنين! قال: استحي أن أقول إثنين باللسان قلت واحداً إثنان "(1).

وإذا أمعنّا النظر في هذه الكلمة ـ وهو على عهد نعومة من أظفاره في حين أنّ نظراءه في ألسن لا يبلغون إلى ما هو دون ذلك الشأو البعيد ـ فلا نجد بدأ من البخوع بأنّها من أشعة تلك

____________

(1) مستدرك الوسائل 15: 215، مقتل الحسين للخوارزمي 1: 179.


الصفحة 156
الإشراقات الإلهية، فما ظنّك إذن حينما يلتقي مع المبادئ الفيّاضة من أبيه سيّد الوصيين، وأخويه الإمامين سيّدي شباب أهل الجنّة، فلا يقتني من خزائن معارفهم إلاّ كُلّ دُرّ ثمين، ودرّي لامع.

وغير خفيّ ما أراده سيّدنا العبّاس، فإنّه أشار إلى أنّ الوحدانية لا تليق إلاّ بفاطر السموات والأرضين، ويجلّ مثله المتفرّع من دوح الإمامة أن يجري على لسانه الناطق بالوحدانية لباري الأشياء صفة تنزّه عنها سبحانه وتعالى وعنها ينطق كتابه المجيد: { لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاّ اللّهُ لَفَسَدَتَا }(1).

وممّا زاد في سرور أبيه أمير المؤمنين أنّ زينب العقيلة كانت حاضرة حينذاك وهي صغيرة فقالت لأبيها أتحبّنا؟ قال: بلى، فقالت: لا يجتمع حبّان في قلب مؤمن: حبّ اللّه، وحبّ الأولاد، وإن كان ولا بدّ فالحبّ للّه تعالى والشفقة للأولاد، فأعجبه كلامها وزاد في حُبّه وعطفه عليهما(2).

أمّا العلم ; فهو رضيع لبانه، وناهيك في حجر أبيه مدرسة يتخرّج منها مثل أبي الفضل (عليه السلام)! وما ظنّك بهذا التلميذ المصاغ من جوهر الاستعداد، وذلك الأُستاذ الذي هو عيّبة العلم الإلهي، وعلبة أسرار النبوّة، وهو المقيّض لنشر المعارف الربوبية، وتعلم الأخلاق الفاضلة، ونشر أحكام الإسلاّم، ودحض الأوهام والوساوس.

____________

(1) الأنبياء: 22.

(2) مقتل الحسين للخوارزمي 1: 179 ; باختلاف الألفاظ، وفي مستدرك الوسائل 15: 215 قال: " وقيل: بل القائل الحسين (عليه السلام) ".


الصفحة 157
وإذا كان الإمام (عليه السلام) يُربّي البعداء الأجانب بتلك التربية الصحيحة المأثورة، حتّى استفادوا منه آسار التكوين، ووقفوا على غامض ما في النشأتين، وكان عندهم بواسطة تلك التربية علم المنايا والبلايا، كحبيب بن مظاهر، وميثم التمّار، ورشيد الهجري، وكميل بن زياد، وأمثالهم ; فهل من المعقول أن يذر قرّة عينّه، وفلذة كبده خلواً من أي علم؟!

أو أن قابلية المحلّ تربى بأولئك الأفراد دون سيّدنا العبّاس (عليه السلام)؟

لا واللّه، ما كان سيّد الأوصياء يضنّ بشيء من علومه، لا سيّما على قطعة فؤاده، ولا أنّ غيره ممّن انضوى إلى أبيه علم الهداية يشقّ له غباراً في القابلية والاستعداد.

فهنالك التقى مبدأ فيّاض، ومحلّ قابل للإفاضة، وقد ارتفعت عامّة الموانع، فذلك برهان على أنّ " عباس اليقين " من أوعيّة العلم، ومن الراسخّين فيه.

ثُمَّ هلمّ معي إلى جامعتين للعلوم الإلهية، ملازمتين للجامعة الأُولى في نشر المعارف، وتقيضهما لإفاضة التعاليم الحقّة لكُلِّ تلميذ، والرقي به إلى أوج العظمة في العلم والعمل، ألا وهما " كليّتا " السبطين الحسن والحسين (عليهما السلام). وانظر إلى ملازمته لأخويه بعد أبيه سيّد الأوصياء، ملازمة الظلّ لديه، فهناك يتجلّى لكَ أنّ سماء علمهما لم تهطل وبالاً إلاّ وعاد لؤلؤاً رطباً في نفسه، ولا أنفقا شيئاً من ذلك الكنز الخالد إلاّ واتخذه ثروة علميّة لا تنفد.


الصفحة 158
أضف إلى ذلك ما كان يرويه عن عقيلة بيت الوحي، زينب الكبرى، وهي العالمة غير المعلّمة بنصّ الإمام زين العابدين(1).

وبعد هذا كُلِّه، فقد حوى أبو الفضل من صفاء النفس، والجبلّة الطيّبة، والعنصر الزاكي، والإخلاص في العمل، والدؤوب على العبادة ; ما يفتح له أبواباً من العلم، ويوقفه على كنوز المعرفة، فيتفرّع من كُلِّ أصل فرع، وتنحلّ عنده المشكلات.

وإذا كان الحديث ينصّ على أنّ مَن أخلص للّه أربعين صباحاً انفجرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه، إذن فما ظَنّك بمن أخلص للّه سبحانه طيلة عمره، وهو متخلّ عن كُلِّ رذيلة، ومتحلِّ بكُلِّ فضيلة، فهل يبقى إلاّ أن تكون ذاته المقدّسة متجلّية بأنوار العلوم والفضائل، وإلاّ أن يكون علمه تحقّقاً لا تعلّقاً؟!

وبعد ذلك فما أوشك أن يكون علمه وجدانياً، وإن برع في البرهنة وتنسيق القياس، ومن هنا جاء المأثور عن المعصومين (عليهم السلام): " إنّ العبّاس بن علي زُقَّ العِلمُ زقاً "(2).

وهذا من أبدع التشبيه والاستعارة، فإنّ الزقّ يستعمل في تغذية الطائر فرخه حين لم يقوِ على الغذاء بنفسه، وحيث استعمل الإمام (عليه السلام) ـ وهو العارف بأساليب الكلام ـ هذه اللفظة هنا، نعرف أنّ أبا الفضل (عليه السلام) كان محلّ القابلية لتلقي العلوم والمعارف، منذ كان طفلاً ورضيعاً، كما هو كذلك بلا ريب.

____________

(1) الاحتجاج للطبرسي 2: 31.

(2) أسرار الشهادة: 324.


الصفحة 159
فلم يكن أبو الفضل بِدْعَاً من أهل هذا البيت الطّاهر الذي حوى العلم المتدفّق منذ الصغر، كما شهد بذلك أعداؤهم، ففي الحديث عن الصادق (عليه السلام):

أنّ رجلاً مرّ بعثمان بن عفان وهو قاعد على باب المسجد، فسأله، فأمر له بخمسة دراهم، فقال له الرجل: أرشدني، قال عثمان: دونك الفتية الذين تراهم، وأومأ بيده إلى ناحية من المسجد فيها الحسن والحسين وعبد اللّه بن جعفر، فمضى الرجل نحوهم وسألهم، فقال له الحسن: يا هذا، المسألة لا تحلّ إلاّ في ثلاث: دم مفجع، أو دين مقرح، أو فقر مدقع، أيّتها تسأل؟ فقال: في واحدة من هذه الثلاث، فأمر له الحسن بخمسين ديناراً، والحسين بتسعة وأربعين ديناراً، وعبد اللّه بن جعفر بثمانية وأربعين، فانصرف الرجل ومرّ بعثمان، فحكى له القصّة وما أعطوه، فقال له: ومَن لك بمثل هؤلاء الفتية، أولئك فطموا العلم فطماً، وحازوا الخير والحكمة.

قال الصدوق بعد الخبر: " معنى (فطموا العلم): أي قطعوه عن غيرهم وجمعوه لأنفسهم "(1).

وجاء في الأثر: أنّ يزيد بن معاوية قال في حقّ السجاد: " إنّه من أهل بيت زقوا العلم زقاً ".

ومن أجل ذلك قال العلاّمة المحقّق الفقيه المولى محمّد باقر ابن المولى محمّد حسن ابن المولى أسد اللّه ابن الحاج عبد اللّه ابن

____________

(1) الخصال: 135 باختلاف في بعض الألفاظ.


الصفحة 160
الحاج علي محمّد القائني، نزيل برجند، في كتاب الكبريت الأحمر ج3 ص45: " إنّ العبّاس من أكابر وأفاضل فقهاء أهل البيت، بل إنّه عالم غير متعلّم، وليس في ذلك منافاة، لتعليم أبيه (عليه السلام) إياه ".

وكان هذا الشيخ الجليل ثبتاً في النقل، منقّباً في الحديث، يشهد بذلك كبريته، تتلمذ (رحمه الله) في العراق على الفاضل الإيرواني، وميرزا حبيب اللّه الرشتي، والسيّد الشيرازي، وفي خراسان على السيّد مرتضى القائني، والعلاّمة محمّد تقي البجنردي، وكان له أربعة وثلاثون مؤلفاً.

ومن مستطرف الأحاديث ما حدّثني به الشيخ العلاّمة ميرزا محمّد علي الأُردبادي، عن حجّة الإسلاّم السيّد ميرزا عبد الهادي آل سيّد الأُمة الميرزا الشيرازي (قدس سره)، عن العالم البارع السيّد ميرزا عبد الحميد البجنردي، أنّه شاهد في كربلاء المشرّفة رجلاً من الأفاضل قد اغترّ بعلمه، وبلغ من غلوائه في ذلك أنّه كان في منتدى من أصحابه وجرى ذكر أبي الفضل، وما حمله من المعارف، الإلهية التي امتاز بها على سائر الشهداء، فصارح الرجل بأفضليته على العبّاس! واستغرب من حضر هذه الجرأة، وانكروا عليه، ولا موه على هذه البادرة، فطفق الرجل يبرهن على تهيئته بتعداد مآثره وعلومه، وما ينوء به من تهجّد وتنفل وزهادة، وقال: إن كان أبو الفضل العبّاس يفضل بأمثال هذه فعنده مثلها، والشهادة يوم الطفّ لا تقابل ما تحمله من العلوم الدينية وأُصولها ونواميسها.


الصفحة 161
فقام الجماعة من المجلس والرجل على ذلك الغرور والغلواء، غير نادم ولا متهيب.

ولمّا أصبحوا لم يكن لهم هَمّ إلاّ معرفة خبر الرجل، وأنّه هل بقي على غيّه أو أنّ الهداية الإلهية شملته؟ فقصدوا داره وطرقوا الباب، فقيل لهم: إنّ الرجل في حرم العبّاس، فتوجّهوا إليه ليستبروا خبره، فإذا الرجل قد ربط نفسه في الضريح الأقدّس بحبل شدّ طرفه بعنقه والآخر بالضريح، وهو تائب نادم ممّا فرط.

فسألوه عن شأنه وخبره؟ فقال: لمّا نمت البارحة، وأنا على الحال الذي فارقتكم عليه، رأيت نفسي في مجتمع من أهل الفضل، وإذا رجل دخل النادي وهو يقول: إنّ أبا الفضل قادم عليكم، فأخذ ذكره من القلوب مأخذاً حتّى دخل (عليه السلام) والنور الإلهي يسطع من أسارير جبهته، والجمال العلوي يزهو في محيّاه، فاستقرّ على كرسي في صدر النادي، والحضور كُلّهم خاضعون لجلالته، وخصتني من بينهم رهبة عظيمة، وفرق مقلق، لما أتذكّره من تفريطي في جنّب ولي اللّه، فطفق (عليه السلام) يحيّي أهل النادي واحداً واحداً حتّى وصلت النوبة إليّ.

ثُمّ قال لي: ماذا تقول أنت؟ فكاد أن يرتجّ عليّ القول، ثُمّ راجعت نفسي وقلت: في المصارحة منتدحاً عن الارتباك وفوزاً بالحقيقة، فأنهيت إليه ما ذكرته لكم بالأمس من البرهنة.

فقال (عليه السلام): أمّا أنا فقد درست عند أبي أمير المؤمنين وأخوي الإمامين الحسن والحسين (عليهما السلام)، وأنا على يقين من ديني بما تلقّيته من مشيختي من الحقائق ونواميس الإسلاّم، وأنت شاكّ في دينك، شاك في إمامك، أليس الأمر هكذا؟ فلم يسعني إنكار ما يقوله.


الصفحة 162
ثُمّ قال (عليه السلام): وأمّا شيخك الذي قرأت عليه، وأخذت منه فهو أتعس منك حالاً، وما عسى أن يكون عندك من أُصول وقواعد مضروبة للجاهل بالأحكام، يعمل بها إذا أعوزه الوصول إلى الواقع، وإنّي غير محتاج إليها، لمعرفتي بواقع الأحكام من مصدر الوحي الإلهي.

ثُمّ قال (عليه السلام): وفيّ نفسيات كريمة، وأخذ يعددها: من كرم، وصبر، ومواساة، وجهاد إلى غيرها، ولو قسّمت على جميعكم لما أمكنك حمل شيء منها.

على أنّ فيك ملكات رذيلة من حسد، ومراء، ورياء، ثُمّ ضرب بيده الشريفة على فمّ الرجل، فانتبه فزعاً نادماً، معترفاً بالتقصير، ولم يجد منتدحاً إلاّ بالتوسل بهِ، والإنابة إليه، صلوات اللّه عليه وعلى آبائه.