الصفحة 225

ولا غروَ أن نال الشِفا منُه أنّهُأبو الفضلِ أهلَ للمكارِمِ والفَضْلِ

وله أيضاً:


ذا سعيد بالبرءِ أضحى سعيداًوحَباه الإله عُمْرَاً جديداً
من أبي الفضلِ بالشفا نالَ فَضْلاًوامتناناً ونالَ عَيْشاً رغيداً

وللأديب الكامل السيّد محمّد بن العلاّمة السيّد رضا الهندي (رحمه الله).


لَمْ أنسَ فضلكَ يا أبا الفضلِ الذىِهيهات أن يُحصى ثناه مُفصّلا
يكفيكَ يوم الطفِّ موقفُكَ الذيقَدْ كان ألمعَ ما يكون وأفضلا
ولقدْ نصرتَ بهِ النبىّ بسبطهِوغدوتَ في دنيا الشهادةِ أوّلا
وأَنا الذىِ قدْ كان دائي مُهلِكاًوأجرْتني لمّا استجرتُ مؤمِّلا
ألبستَني ثوبَ الشِفاء وعدتُحيّاً فيكَ يا ساقي عطاشى كربلا

وللخطيب الذاكر الفاضل الشيخ عبد علي الشيخ حسين.


سعيد التجى من ضرّهِ وسقامِهِبقبر أبي الفضلِ المفدّى فعافاه
لعمري ترى الأقدارَ طوعَ يمينهِكوالِدِهِ الكرّار يمناه يمناه


الصفحة 226

فآب وإبراهيم قرّت عيونُهُببرءِ سعيدِ الندبِ يشكر مولاه
سعيد سعيداً عش بظلِّ لوائِهِبأسعدِ يوم لا تزال وأهناه
بفضلِ أبي الفضلِ الفضيلة حزتهاولولاه لم تنجُو من الضرِّ لولاه

وللشيخ جعفر الطريفي:


عجزَ الطبيبُ لعلّتي وقلانيوعجزتُ من سقميِ وطولِ زماني
هجرَ الصديقُ زيارَتي وكأنّنيما زرتُه في سقمهِ فجفاني
حتّى إذا قالوا فقلّوا خفيةهجروا الأواني خيفةَ العدوان
فقصدتُ باباً للحوائج والشِفاالعبّاس باباً للشِفا فشَفاني
لَولاه واراني الترابُ بحفرتينِعمَ الطبيب الأوحد الربّاني

وللشيخ كاظم السوداني:


فكَمْ لأبي الفضلِ الأبيّ كراماتلها تليت عند البريّة آيات
وشاراته كالشَمس في الأفق شوهدتلها من نباتِ المجدِ أومت إشارات


الصفحة 227

سعيد سعيداً عادَ منها إلى الشفابه انسلّ عنه السِلّ إذ كم به ماتوا
أبو الفضلِ كَمْ فضل له ومناقبفيا جاحديه مثل برهانه هاتوا
هو الشبل شبل من عليّ وفي الوغىله أثر من بأسه وعلامات
لقد شعّت الأكوان من بدر فضلهبأنواره أرّخ (وفيها مضيئات)

وللخطيب الشيخ حسن سبتي:


ألا عش سعيداً يا سعيدَ منعّمامدى الدهرِ إذ عُوفيت من فتكة السلِّ
عتيق حسين كان جدّك أوّلالذا صرتَ ثانيه عتيقَ أبي الفضلِ

وللسيّد نوري ابن السيّد صالح ابن السيّد عبّاس البغدادي:


بُشرى لأبراهيم في نجلهِمن مرضِ السلِّ غدا سالما
أبرأه العبّاس من فضلِهِوفضلُهُ بينَ الورى دائِما

الخامسة:

حدّثني الشيخ العالم الثقة الثبت الشيخ حسن ابن العلاّمة الشيخ محسن ابن العلاّمة الشيخ شريف آل الشيخ المقدّس، صاحب الجواهر (قدس سره)، عن حاج منيشد ابن سلمان آل حاج عبودة، من أهل الفلاحيّة، وكان ثقة في النقل، عارفاً بصيراً، شاهد الكرامة بنفسه، قال:


الصفحة 228
كان رجل من عشيرة البراجعة يسمّى (مخيلف) مصاباً بمرض في رجليه، وطال ذلك حتّى يبستا وصارتا في رفع الأصبع، وبقي على هذا ثلاث سنين، وشاهده الكثير من أهل المحمّرة، وكان يحضر الأسواق ومجالس عزاء الحسين (عليه السلام)، ويستعين بالناس، وهو يزحف على إليتيه ويديه، وقد عجز عن المباشرة ويئس.

وكان للشيخ خزعل بن جابر الكعبي في المحمّرة (حسينية) يقيم فيها عزاء الحسين (عليه السلام) في العشرة الأولى من المحرم، ويحضر هناك خلق كثير، حتّى النساء يجلسن في الطابق الأعلى من الحسينية، والعادة المطردة في تلك البلاد ونواحيها أنّ (الخطيب النائح) إذا وصل في قراءته إلى الشهادة قام أهل المجلس يلطمون بلهجات مختلفة، وهكذا النساء في اليوم السابع من المحرم كان المتعارف أن تذكر مصيبة أبي الفضل العبّاس، وهذا الرجل أعني (مخيلف) يأتي الحسينية (ويجلس تحت المنبر لأنّ رجليه ممدودتان)(1)، وحينما وصل الخطيب إلى ذكر المصيبة أخذت الحالة المعتادة من في المجلس رجالاً ونساءً، وبينا هم على هذا الحال إذ يرون ذلك المصاب بالزمانة في رجليه (مخيلف) واقفاً معهم يلطم، ولهجته: " أنا مخيلف قيّمني العبّاس ".

وبعد أن تبيّن الناس هذه الفضيلة من أبي الفضل تهافتوا عليه وخرّقوا ثيابه للتبرّك بها، وازدحموا عليه يقبّلون رأسه ويديه، فأمر الشيخ خزعل غلمانه أن يرفعوه إلى إحدى الغرف ويمنعوا الناس

____________

(1) هذه الجمّلة التي بين قوسين حدّثني بها في دار الشيخ الجليل الشيخ حسن المذكور ملاّ عبد الكريم، وقد شاهد الرجل بعينه ذلك اليوم.


الصفحة 229
عنه، وصار ذلك اليوم في المحمّرة أعظم من اليوم العاشر من المحرّم، وصار البكاء والعويل والصراخ من الرجال، وأمّا النساء فمنهنّ من تهلهل، وأُخرى تصرخ، وغيرها تلطم.

وذكر لي ملاّ عبد الكريم الخطيب من أهل المحمّرة، وكان حاضراً وقت الحديث، أنّ الشيخ خزعل في كُلِّ يوم يصنع طعاماً لأهل المجلس في الظهر، وفي ذلك اليوم تأخّر الغداء إلى الساعة التاسعة من النهار لبكاء الناس وعويلهم.

وقال العلاّمة الشيخ حسن المذكور: ثُمّ إنّه سُئل مخيلف عمّا رآه وشاهده؟ فقال: بينا الناس يلطمون على العبّاس أخذتني سنة وأنا تحت المنبر، فرأيت رجلاً جميلاً طويل القامة، على فرس أبيض عال في المجلس وهو يقول: يا مخيلف لِمَ لا تلطم على العبّاس مع الناس؟

فقلت له: يا أغاتي لا أقدر وأنا بهذا الحال.

فقال لي: قم والطم على العبّاس!

قلت له: يا مولاي أنا لا أقدر على القيام.

فقال لي: قم والطم!

قلت له: يا مولاي أعطني يدك لأقوم؟

فقال: " أنا ما عندي يدين "!

فقلت له: كيف أقوم؟

قال: الزم ركاب الفرس وقم، فقبضت على ركاب الفرس وأخرجني من تحت المنبر وغاب عنّي، وأنا في حالة الصحة، وعاش سنتين أو أكثر ومات.


الصفحة 230
وحدّثني المهذّب الكامل ميرزا عباس الكرماني أنّه تعسّرت عليه حاجة، فقصد أبا الفضل واستجار بضريحه، فما أسرع أن فتحت له باب الرحمة وعاد بالمسرّة بعد اليأس مدّة طويلة فأنشأ:


أبا الفضل إنّي جئتكَ اليومَ سائلاًلتيسير ما أرجو فأنتَ أُخو الشبلِ
فلا غروَ إن أسعفتَ مثْلي بائِساًلأنّكَ للحاجات تُدعى أبو الفضلِ

هذا ما أردنا إثباته من الكرامات، وهو قطرة من بحر، فإنّ الإتيان عليها كُلِّها يحتاج إلى مجلّد كبير ; لأنّ اللّه سبحانه منح (حامي الشريعة) جزيل الفضل، وأجرى عليه من الفيض الأقدس ما لم يحوه بشر غير الأنبياء المقرّبين والأئمة المعصومين، جزاءً لذلك الموقف الباهر الذي لم يزل يرنّ رجع صداه المؤلم في مسامع القرون والأجيال، مذكّراً بما أبداه أبو الفضل من إباء وشمّم وكر وإقدام، وتضحية دون الشّرع القويم.


الصفحة 231

اللواء


اللواء: ما يُعقد على رمح أو عصا، ويقال له: (الراية)، كما يطلق عليهما (العلم)، هذا عند أهل اللغة.

وعند المؤرّخين أنّهما شيئان، فذكروا أنّ الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) عقد لحمزة بن عبد المطلب لواءً أبيض في رمضان أول الهجرة، وفيه يقول حمزة:


فما برحوا حَتّى انتدبت لغارةلهم حيث حلوا ابتغي راحة الفضل
بأمر رسول اللّه أول خافقعليه لواء لم يكن راح من قبل
لواء لديه النصر من ذي كرامةإله عزيز فضله أفضل الفعل

وأوّل راية عقدها للمسلمين في شوّال من هذه السنّة(1).

والمعقود على رمح أو غيره إن كان واسعاً فهو الراية، وإلاّ فاللواء، ويقال للعلم الكبير: البند والعقاب، إن خُصّ الثاني بما

____________

(1) السيرة النبوية لابن هشام 2: 428، الاستيعاب عبد البر 1: 370، تاريخ خليفة بن خياط: 34، المعارف لابن قتيبة: 422، تاريخ الطبري 2: 121. لكن ابن هشام وغيره قال: " وقد زعموا أنّ حمزة قد قال في ذلك شعراً يذكر فيه أنّ رايته أوّل راية عقدها رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم)، فإن كان حمزة قد قال ذلك فقد صدق إن شاء اللّه.. فأمّا ما سمعنا من أهل العلم عندنا فعبيدة بن الحارث أوّل عن عقد له ".


الصفحة 232
يعقده للولاة(1)، والتسمية بالعقاب اقتبسها العرب من الروم، فإنّ العقاب والنسر شارة الرومان يرسمونها على أعلامهم وينقشونها على أبنيتهم(2).

وكان أعلام الروم كباراً تحت كُلِّ علم عشرة آلاف أو أكثر(3).

وكانت راية كسرى يوم الجسر سنّة 13 هجرية من جلود النمر في عرض ثمانية أذرع، وطول اثني عشر ذراعاً، وهي المسمّاة " درفش كابيان "(4).

وهذه الراية كانت محفوظة في خزائنهم، ولم تكن بهذه السعة وإنّما زادوا عليها تبرّكاً، والأصل فيها أنّ الضحّاك بيوراسف خرجت من منكبيه سلعتان، فكان إذا اشتد عليه الألم طلاهما بدماغ إنسان يذبحه، فلاقى الناس منه عناء ونكد وجور، فأخذ ابنين لرجل من أهل أصبهان اسمه " كابي " فشقّ عليه، فدعا الناس للخروج على الضحّاك، وأخذ عصا وعلّق عليها جراباً وتبعه الناس، فتغلّب على الضحّاك وخلعوه عن الملك، واستراحوا من جوره، فعظّموا ذلك العلم، وتفألوا به، وزادوا فيه حتّى صار عند ملوك العجم العلم الأكبر الذي يتبرّكون به وسمّوه " درفش كابيان "(5).

____________

(1) تاج العروس بمادة عقب 2: 253، نقلاً عن لسان العرب لابن منظور 1: 621.

(2) المصدر غير موجود.

(3) لسان العرب 3: 97، تاج العروس 4: 366.

(4) تاريخ الطبري 2: 639، الكامل في التاريخ لابن الأثير 2: 438.

(5) تاريخ الطبري 1: 136، البداية والنهاية لابن كثير7: 33.


الصفحة 233
كما احتفظ الأمويون براية ابن زياد التي أخرجها يوم الطفّ، ففي تاريخ (يزد) للآيتي ص72: أن أبا العلاء الطوفي كان هو وأبوه من عمّال الأمويين، طاف البلاد لأخذ البيعة لهم فلقّب (بالطوفي)، وكان معلّماً لهشام بن عبد الملك، فلمّا ولي هشام المُلك أراد أن يكافأه على خدمته، فبعثه عاملاً (على يزد) ودفع إليه تلك الراية، فسار أبو العلاء إلى (يزد)، ونصب الراية في البستان المشهور باسمه، ودعا أهل يزد إلى بيعة الأمويين، وكانوا على طريقة أهل البيت (عليهم السلام)، وأخذهم على ذلك أخذاً شديداً، وعاملهم بالقسوة والجور، وبقوا يتقلّبون على حسك الظلم إلى أن ظهر أبو مسلم الخراساني أيّام مروان الحمار، وتصرّف في خراسان وفارس سنّة 132 وسنة 133 هجرية، فراسله اليزديّون وطلبوا إنقاذهم من مخالب الطوفي، فبعث أبو مسلم محمّد الزمجي إلى أصفهان ويزد.

وبلغ الطوفي إقباله بجيش جرار، وأن اليزديّين معه، فخرج ليلاً من يزد إلى قرية " ابرند آباد "، فبعث محمّد الزمجي جماعة فقبضوا عليه وأتوا به إلى يزد، وتجمهر اليزديّون رجالاً ونساء عليه، واستقرّ الرأي على إحراقه والراية معه، ففعل بهما ذلك وانتهبوا القصر والبستان.

وإنّ المصادر التاريخية لم ترشدنا إلى أوّل من رفع اللواء، ويقوي في الظن أنّ (كابي) المتقدّم أوّل من اتخذه، كما أنّ الخليل ابراهيم (عليه السلام) أوّل من اتخذ الرايات، وذلك لمّا غلب الروم على لوط

الصفحة 234
وأسروه رفع الخليل راية وسار لمحاربة الروم، فغلبهم واسترجع لوطاً(1).

ولمّا جاء الإسلام، وانتشر العرب في أنحاء الشام وفارس ومصر، وتعدّدت دولهم، كثرت ضروب الألوية عندهم، وتنوعت أشكالها، وتعدّدت ألوانها وأطالوها وسمّوها بأسماء مختلفة، حتّى تفاخروا بتعدادها، فقد بلغت رايات العزيز باللّه الفاطمي لمّا خرج إلى فتح الشام خمسمائة راية ومثلها البوقات.

وكانوا ينقشون على راياتهم أسماء الخُلفاء والسلاطين والقواد، أرهاباً وإعزازاً وتفاؤلاً بالظفر، فقد كتب ابن بشكم على رايته (الرائقي) نسبة إلى ابن رائق، وربما كتبوا آيات القرآن عليها، فقد وجد في دير الظاهر مدينة برغوس في الأندلس راية من الحرير الخالص مطرزة بالنقوش الجميلة وعليها آيات قرآنية(2).

وكتب أبو مسلم الخراساني بالحبر على لوائه: { أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ }(3)، ثُمّ إنّه عقد لواء بعثه إليه إبراهيم الإمام اسمه " الظل " على رمح طوله أربعة عشر ذراعاً، وعقد آخر بعث به إليه اسمه " السحاب " على رمح طوله ثلاثة عشر ذراعاً(4).

____________

(1) تهذيب الأحكام 6: 170، باب النوادر، مستدرك الوسائل 11: 9.

(2) التمدّن الإسلامي 1: 196. وفي الصفحة 168 ذكر اهتمام الفاطميين بالولاية والرايات والدرق، فمن ذلك أنّهم صنعوا بيتاً بمصر يقال له: " خزانة البنود " اختزنوا فيها الأعلام والرايات والأسلحة والسروج واللجم المذهبة والمفضّضة، وكانوا ينفقون عليها في كلّ سنة ثمانين ألف دينار، ولما احترقت الدار بما فيها قدّرت الخسارة بثمانية ملايين دينار، وكان في جملتها لواء يسموّنه: لواء الحمد.

(3) الحجّ: 39.

(4) تاريخ الطبري 6: 25.


الصفحة 235
أمّا الوان الألوية والرايات فلا يُعرف عنها شيء في الجاهلية سوى راية العقاب فإنّها سوداء، وكذلك راية النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ويقال: إنّ رايات العرب كانت بيضاء(1).

أمّا رايات النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في مغازيه فمختلفة، ففي بدر كانت راية حمزة حمراء وراية أمير المؤمنين صفراء، ويوم أُحد وخيبر اللواء والراية أبيضان(2)، وفي عين الوردة الراية بلقاء(3).

وكانت أعلام بني أُميّة حمر، وكُلّ من دعا إلى الدولة العلوية فعلمه أبيض، ومن دعا إلى الدولة العباسية فعلمه أسود، ويقرب في الظنّ أنّ شعار العلويين الخضرة حتّى في راياتهم، فإنّ المأمون لمّا عقد ولاية العهد للإمام الرضا (عليه السلام) ألزم الناس بالخضرة وترك شعار العباسيين.

نعم، لمّا عقد المتوكّل لبنيه البيعة عقد لكُلِّ واحد منهم لوائين، أحدهما أسود وهو لواء العهد، والآخر أبيض وهو لواء العمل(4).

وكيف كان، فالراية: عقد نظام العسكر وآية زحفهم، فلا يخالون انجفالاً ما دامت تسري أمامهم، فهي بتقدّمها شارة الظفر وعلامة الفوز، فلن تجد جحفلاً منثالاً وفيلقاً ملتاثاً إلاّ إذا انكفأت الراية أو أُصيب حاملها، فخرّت، ولذلك لا تُعطى إلاّ للأكفّاء الحُماة الغيارى على المبدأ، ممّن لا يجبّنه الخور أو يفشله الضعف أو يخذله الطمع.

____________

(1) آثار الدول للقرماني.

(2) مناقب آل أبي طالب 3: 84.

(3) تاريخ الطبري 4: 469.

(4) التمدّن الإسلامي 1: 166.


الصفحة 236
وفي قول سيّد الوصيّين (عليه السلام) شاهد عدل على هذا، فإنّه كان يحرّض الناس يوم صفين ويقول: " ولا تميلوا براياتكم ولا تزيلوا، ولا تجعلوها إلاّ مع شجعانكم، فإنّ المانع للذمار والصابر عند نزول الحقايق هم أهل الحفاظ.. واعلموا أنّ أهل الحفاظ هم الذين يحتفون براياتهم ويكتنفونها، ويصيرون حفافيها وورائها وأمامها، ولا يضيعونها، ولا يتأخّرون عنها فيسلمونها، ولا يتقدّمون عنها فيفردونها "(1).

ولقد كان حملة الرايات يتهالكون دون حملها إلى آخر قطرة تسقط من دمائهم، حذراً من وصمة الجبن، وشية العار، وسمة الخزي، ولا يدع لهم ثبات الجأش، وحمى الذمار، واصرة الشرف أن يلقوها ما دامت أيديهم تقلّها.


لا عَيبَ فيهم غَيرَ قَبضهم اللواعندَ اشتباكِ السُمر قبضَ ضَنين

من أجل ذلك كانت راية الإسلام مع أمير المؤمنين في جميع مغازي الرسول ولم يفته مشهد إلاّ " تبوك " حيث لم يقع فيها قتال(2)، وإلاّ لمّا تركه النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في المدينة مع ما يعلمه من بلائه وإقدامه.

وفي يوم بدر أعطاه الرسول (راية الإسلاّم)، فزحف بها والمسلمون خلفه ولمّا يبلغ الخامسة والعشرين من عمره، فأظهر أمير المؤمنين (عليه السلام) فيها من البسالة والنجدة والبأس ما أطاش

____________

(1) الكافي للكليني 5: 39، ونحوه في نهج البلاغة 2: 3، تاريخ الطبري 4: 11.

(2) السيرة الحلبية 3: 119، أمتاع الاسماع للمقريزي 9: 264، وكذلك يظهر من تاريخ الطبري 2: 373.


الصفحة 237
الألباب، وحيّر العقول، وجبّن الشجعان، ووضع من قدرها، فطار (أبو الحسن) بذكرها، وحاز مجدها، واستأثر بفضلها.

وإنّ عمله في هذا اليوم الذي كسر اللّه به شوكة المشركين، وفلّ خدهم، لمن خوارق العادة، وأجلّ الكرامات، إذ لم يباشر قبله حرباً ولا نازل قرناً، فعمل في ذلك الجمع من النكاية والقتل الذريع ما لم يشاهد مثله، مع أنّ أكثر الجمع قد مارس الحرب، وقاسى الأهوال، وخاض الغمرات، وبارز الشجعان.

وأمّا يوم أُحد فكان اللواء مع مصعب بن عمير من بني عبد الدار، وإنّما أعطاه النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) جبراً لقلوب من آمن به من بني عبد الدار، خصوصاً لمّا كان لواء المشركين مع قومهم من بني عبد الدار، وبعد أن فعل مصعب ذلك اليوم ما يبهر العقول وأدّى حقّ اللواء حتّى قطعت يده اليمنى، ثُمّ اليسرى، وإذ قطعت ضمّ اللواء إلى صدره حتّى طعن بالرمح في ظهره فسقط إلى الأرض قتيلاً، دفع النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) اللواء إلى صاحبه (أبي الريحانتين)، فكان لأمير المؤمنين (عليه السلام) من البلاء العظيم والمقامات المحمودة ما لم يكن لأحد قط، حتّى عجبت من ثباته وحملاته الملائكة بقتله أصحاب الألوية.

ولمّا كانت الدبرة على المسلمين كان له الموقف المشهود، أبصر النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) جماعة فقال لعلي: " فرّقهم "، ففرّقهم، وقتل عمرو بن عبد اللّه الجمحي، ثُمّ أبصر جماعة أُخرى فقال له: " فرّقهم "، فحمل عليهم، وقتل شيبة بن مالك، فقال جبرائيل: هذه المواساة.


الصفحة 238
قال النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " وما يمنعه، إنّه منّي وأنا منه ".

فقال جبرائيل: وأنا منكما.

وسمعوا صوتاً:


لا سَيْفَ إلاّ ذو الفِقارولا فَتىً إلاّ علي(1)

وفي يوم خيبر لمّا شاهد النّبي خور المسلمين وضعفهم وانتصار اليهود، لانكسار (الرجلين) في اليوم الأوّل والثاني، ساءه ذلك فقال: " لأعطينّ الراية غداً رجلاً يُحبّ اللّه ورسوله ويحبّه اللّه ورسوله "، فاستطالت لها أعناق الرجال رجاءً أن يُدعوا لها، فيحظون بالفتح والسعادة الخالدة.


فأتاه الوصيُّ أرمدَ عينفسقاها من ريقه فشفاها
ومضى يطلب الصفوف فولّتعنه علماً بأنّه أمضاها
وبرى مرحباً بكفّ اقتدارأقوياء الأقدار من ضعفاها
ودحى بابها بقوّة بأسلو حمتها الأفلاك منه دحاها

وأمّا يوم حنين فلم يلق المسلمون أشدّ منه، فلقد ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وبلغت القلوب الحناجر، وعاتبهم اللّه على فرارهم عن حبيبه وخاتم رسله، ولكن ظهرت في هذا اليوم عظمة (صاحب الراية)، ومكانته من الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وموقفه من الدّين، ومبلغه من الدفاع، وثباته في وجه الخطوب حتّى تراجع المسلمون.

____________

(1) تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر 42: 76، تاريخ الطبري 2: 197، شرح إحقاق الحقّ للمرعشي 6: 157، وقد نقل المصادر التي ذكرت ذلك.