الصفحة 257

المشهد المطهَّر


ممّا لا شكّ فيه أنّ الإمام الشهيد أبا عبد اللّه (عليه السلام) لم يترك القتلى في حومة الميدان، وإنّما كان يأمر بحملهم إلى الفسطاط الذي يقاتلون دونه، وهذا وإن لم نجده صريحاً في كُلّ واحد من المستشهدين إلاّ أنّ التأمّل فيما يؤثر في الواقعة يقتضيه، وإنّ طبع الحال يستدعيه، ويؤيّده ما في البحار من حمل الحرّ حتّى وضع بين يديّ الحسين، وعند سقوط علي الأكبر أمر الحسين فتيانه أن يحملوه إلى الفسطاط الذي يقاتلون دونه، وقد حمل القاسم بنفسه المقدّسة حتّى وضعه مع ابنه الأكبر، وقتلى حوله من أهل بيته.

هذا لفظ ابن جرير وابن الأثير، ومن البعيد جداً أن يحمل سيّد الشهداء أهل بيته خاصّة إلى الفسطاط ويترك أُولئك الصفوة الأكارم الذين قال فيهم: " لا أعلم أصحاباً أولى ولا خيراً من أصحابي "، ففضّلهم على كُلِّ أحد حتّى على أصحاب جدّه وأبيه، وإن كُلّ أحد لا يرضى من نفسه هذه الفعلة، فكيف بذلك السيّد الكريم الذي علّم الناس الشمّم والإباء والغيرة؟!

على أنّ الفاضل القزويني يحكي في تظلّم الزهراء (عليها السلام)ص118 عن غيّبة النعماني: أنّ أبا جعفر الباقر (عليه السلام) يقول: " كان الحسين يضع قتلاه بعضهم مع بعض، ويقول: قتلة مثل قتلة النبيّين وآل النبيّين "(1).

____________

(1) الغيبة للنعماني: 219 والنصّ: " كان الحسين بن علي يضع قتلاه بعضهم إلى بعض ويقول: قتلانا قتلى النبيّين ".


الصفحة 258
نعم، ممّا لا شكّ فيه أنّه (عليه السلام) ترك أخاه العبّاس في محلّ سقوطه قريباً من المسنّاة، لا لما يمضي في بعض الكتب من كثرة الجروح وتقطع الأوصال، فلم يقدر على حمله، لأنّ في وسع الإمام أن يحرّك ذلك الشلو المبضع إلى حيث أراد ومتى شاء.

وإلاّ لِما قيل: من أنّ العبّاس أقسم عليه بجدّه الرسول أن يتركه في مكانه ; لأنّه وعد سكينة بالماء ويستحي منها(1) ; لعدم الشاهد الواضح على كُلِّ منهما.

بل إنّما تركه لسرّ دقيق، ونكتة لا تخفى على المتأمّل ومن له ذوق سليم، ولولاه لم يعجز الإمام عن حمله مهما يكن الحال، وقد كشفت الأيام عن ذلك السرّ المصون وهو: أن يكون له مشهد يقصد بالحوائج والزيارات، وبقعة يزدلف إليها الناس، وتتزلّف إلى المولى سبحانه تحت قبته التي تحك السماء رفعة وسناء، فتظهر هنالك الكرامات الباهرة، وتعرف الأُمة مكانته السامية ومنزلته عند اللّه، فتقدّره حقّ قدره، وتؤدّي ما وجب عليهم من الحبّ المتأكّد، والزورة المتواصلة، ويكون (عليه السلام) حلقة الوصل بينهم وبين اللّه تعالى، وسبب الزلفى لديه.

فشاء المهيمن تعالى شأنه وشاء وليه وحجّته أن تكون منزلة أبي الفضل الظاهرية شبيهة بالمنزلة المعنوية الآخروية، فكان كما شاءا وأحبا.

____________

(1) الدمعة الساكبة 4: 324 قال: " أقول: وفي بعض الكتب المعتبرة: إن من كثرة الجراحات الواردة على العبّاس (عليه السلام) لم يقدر الحسين (عليه السلام) أن يحمله إلى محل الشهداء، فترك جسده في محلّ قتله ورجع باكياً حزيناً إلى الخيام ".


الصفحة 259
ولو حمله سيّد الشهداء إلى حيث مجتمع الشهداء في الحائر الأقدس لغمره فضل الإمام الحجّة (عليه السلام)، ولم تظهر له هذه المنزلة التي ضاهت منزلة الحجّج الطاهرين، خصوصاً بعد ما أكّد ذلك الإمام الصادق (عليه السلام) بإفراد زيارة مختصّة به، وإذناً بالدخول إلى حرمه الأطهر، كما شرع ذلك لأئمة الهدى غير ما يزار به جميع الشهداء بلفظ واحد، وليس هو إلاّ لمزايا اختصّت به.

وقد أرشدتنا آثار أهل البيت (عليهم السلام) على هذا الموضع من مرقده الطيّب، ففي كامل الزيارة لابن قولويه ص256 بسند صحيح عن أبي حمزة الثمالي عن الصادق (عليه السلام) قال: " إذا أردت زيارة العبّاس بن علي وهو على شطّ الفرات بحذاء الحير، فقف على باب السقيفة وقل: سلام اللّه وسلام ملائكته... ".

وحكى المجلسي أعلى اللّه مقامه في مزار البحار عن الشيخ المفيد وابن المشهدي زيارة أُخرى له في هذا المشهد، الذي أشار إليه الصادق برواية، غير مقيّدة بوقت من الأوقات.

وهكذا حكي عن المفيد والشهيد والسيّد ابن طاووس في زيارة النصف من رجب، وليلة القدر، ويومي العيدين، ومثله العلاّمة النوري في تحيّة الزائر.

وعبارة المفيد في الإرشاد صريحة فيما نصّت به رواية أبي حمزة الثمالي، فإنّه قال عند ذكر من قتل من آل الحسين: " وكلّهم مدفونون ممّا يلي رجلي الحسين (عليه السلام) في مشهده، حفر لهم حفيرة وأُلقوا فيها جميعاً.. إلاّ العبّاس بن علي رضوان اللّه عليه، فإنّه دفن في موضع مقتله على المسنّاة بطريق الغاضرية، وقبره ظاهر،

الصفحة 260
وليس لقبور أخوته وأهله الذين سمّيناهم أثر، وإنّما يزورهم الزائر من عند قبر الحسين، ويومئ إلى الأرض التي نحو رجليه بالسلام، وعلي ابن الحسين في جملتهم، ويقال: إنّه أقربهم دفناً إلى الحسين (عليه السلام).

فأمّا أصحاب الحسين الذين قُتلوا معه، فإنّهم دفنوا حوله، ولسنا نحصل لهم أجداثاً على التحقيق، إلاّ أنا لا نشكّ أنّ الحائر محيط بهم.. "(1).

وعلى هذا مشى العلماء المحقّقون والمنقّبون في الآثار من كون مشهده بحذاء الحائر الشريف، قريباً من شطّ الفرات، نصّ عليه الطبرسي في إعلام الورى ص147، والسيّد الجزائري في الأنوار النعمانية ص344، والشيخ الطريحي في المنتخب، والسيّد الداودي في عمدة الطالب ص349، وحكاه في رياض الأحزان ص39 عن كامل السقيفة(2).

وهو الظاهر من ابن إدريس في السرائر، والعلاّمة في المنتهى، والشهيد الأوّل في مزار الدروس، والأردبيلي في شرح الإرشاد، والسبزواري في الذخيرة، والشيخ آغا رضا في مصباح الفقيه، فإنّهم نقلوا كلام المفيد ساكتين عليه(3).

____________

(1) الإرشاد للشيخ المفيد 2: 126.

(2) مناقب آل أبي طالب 3: 256.

(3) السرائر 1: 342، منتهى المطلب 1: 395، ذخيرة العباد: 413، غنائم الأيام 2: 132، جواهر الكلام 14: 340، مصباح الفقيه 2: 761، كتاب الصلاة للشيخ الحائري: 655، مستمسك العروة الوثقى للحكيم 8: 188.

وفي مزار الدروس 2: 25: ".. ثمّ يزور الشهداء، ثمّ يأتي العبّاس بن علي (عليه السلام) فيزوره.. ".


الصفحة 261

ملاحظة


تقدّم في نقل البحار أنّ الحرّ الرياحي حُمل من الميدان ووضع أمام الحسين (عليه السلام)، وعليه يكون مدفوناً في الحائر الأطهر.

ولكن في الكبريت الأحمر ج3 ص124 جاءت الرواية عن مدينة العلم للسيّد الجزائري: أنّ السجّاد دفنه في موضعه، منحازاً عن الشهداء، وفي ص75 ذكر أنّ جماعة من عشيرته نقلوه عن مصرع الشهداء لئلا يوطأ بالخيل إلى حيث مشهده، ويقال: إنّ أُمه كانت معه، فأبعدته عن مجتمع الشهداء.

وإذا صحّ حمل العشيرة إياه إلى حيث مشهده، فلا يتمّ ما في مدينة العلم من دفن السجّاد له، فإنّه من البعيد جداً أن تحمله العشيرة ثُمّ تترك عميدها في البيداء عرضة للوحوش، بل لم يعهد ذلك في أي أُمّة وملّة.

وعلى كُلّ، فهذا المشهد المعروف له ممّا لا ريب في صحته ; للسيرة المستمرة بين الشيعة على زيارته في هذا المكان، وفيهم العلماء والمتديّنون.

ويظهر من الشهيد الأوّل المصادقة عليه، فإنّه قال في مزار الدروس: " وإذا زار الحسين فليزر علي بن الحسين وهو الأكبر على الأصح، وليزر الشهداء وأخاه العبّاس والحرّ بن يزيد "(1).

____________

(1) الدروس للشهيد الأوّل 2: 11 والعبارة بالمعنى، الينابيع الفقهية 30: 493.


الصفحة 262
ووافقه العلاّمة النوري في اللؤلؤ والمرجان ص115، واعتماد السلطنة محمّد حسن المراغي ـ من رجال العهد الناصري ـ في حجّة السعادة على حجة الشهادة ص56 طبع تبريز.

وقال المجلسي في مزار البحار عند قوله (عليه السلام) في زيارة الشهداء العامّة: " فإنّ هناك حومة الشهداء "، المراد منه معظمهم أو أكثرهم، لخروج العبّاس والحرّ عنهم(1).

ويشهد له ما في الأنوار النعمانية ص345 أنّ الشاه إسماعيل لما ملك بغداد، وزار قبر الحسين (عليه السلام)، وبلغه طعن بعض العلماء على الحرّ، أمرَ بنبشه لكشف الحقيقة، ولمّا نبشوه رآه بهيئته لمّا قتل، ورأى على رأسه عصابة قيل له: إنّها للحسين، فلمّا حلّها نبع الدم كالميزاب، وكُلّما عالج قطعة بغيرها لم يتمكّن، فأعادها إلى محلّها، وتبيّنت الحقيقة، فبنى عليه قبة، وعيّن له خادماً، وأجرى لها وقفاً.

____________

(1) بحار الأنوار 45: 65، و98: 369، المزار للمشهدي: 486، إقبال الأعمال 3: 73.


الصفحة 263

الحائر


جاء في حديث الصادق (عليه السلام) لفظ الحَيْر فإنّه قال: " وهو على شطّ الفرات بحذاء الحَيْر ".

والحير، بالفتح فالسكون كالحائر: هو المكان المنخفض الذي يسيل إليه ماء الأمطار ويجتمع فيه.

وفي تاج العروس بمادة حور: الحائر: اسم موضع فيه مشهد الإمام المظلوم الشهيد أبي عبد اللّه الحسين(1).

ولم تحدث التسمية بالحائر من استدارة الماء حول القبر المقدّس حين أُجري عليه بأمر المتوكل العباسي ; لأنّ لفظ الحائر والحير وقع في لسان الصادق والكاظم قبل استخلاف المتوكّل.

نعم، إنّ اللّه سبحانه أكرم حجّته، ووليه المذبوح دون دينه القويم، ممنوعاً من ورود الماء الذي جعل شرع سواء لعامة المخلوقات ; باستدارة الماء حول قبره يوم أُجري عليه، لإعفاء أثره ومحو رسمه (ولن يزداد أثره إلاّ علواً)(2).

____________

(1) لسان العرب 4: 223، تاج العروس 6: 321، مجمع البحرين 1: 605.

(2) أقول: (وأنا العبد الفقير إلى اللّه تعالى محقّق هذا الكتاب محمّد الحسّون) من بعد غيبة طويله وفراق مرير انجلت سحب الآهات عن قلبي، وارتوى ضماي بمعين النظر إلى قبر ضمّ خير ناصر لأبي الأحرار الحسين (عليه السلام)، وشفي غليلي بالنزول بقعوةِ مغيّبهِ، فاستشممتُ عطرَ الملائكة الحافّين بتربته، حيث وفقني الباري تعالى أن أزور قبر قمر بني هاشم أبي الفضل العبّاس (عليه السلام)، الواقع في السرداب المقدّس الكائن تحت القبة الشريفة، فتغشتني رحمة ربي تعالى بمشاهدة الماء الذي يأتي في سَاقية من جهة قبر سيّد الشهداء أبي عبداللّه الحسين (عليه السلام) ـ الذي لم يذق من برده شربةً، وقد مضى بقلب حزّته أشفارُ الضما كما حزّ خنجرُ الضبابي منحَره الشريف ـ ثمّ يدور حول قبر السّقاء الذي آثر ألم الضما على الرواء، وارتوى بروح الوفاء لأخيه وابن بنت رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث الكلمة الخالدة
يا نفس من بعد الحسين هونيوبعده لا كنت أن تكوني
هذا حسين وارد المنونوتشربين بارد المعين
واللّه ما هذا فعال دينيولا فعال صادق اليقين

ومن بعد قرون متطاولة يستمر دوران الماء دورة كاملة حول قبر الشهيد الضامي والأخ المواسي لأخيه، ثمّ يخرج من خلال ساقية إلى خارج كربلاء المقدّسة.


الصفحة 264
ولقد شعّت هذه الآية الباهرة، فاستضاءت منها الحقف والأعوام، واهتزّت لها الأندية والمحافل ارتياحاً، وتناقلها العلماء المنقّبون في جوامعهم، منهم الشهيد الأوّل في الذكرى، والأردبيلي في شرح الإرشاد، والسبزواري في الذخيرة، والشيخ الطريحي في المنتخب، والشيخ المحقّق في الجواهر.

وكم لآل الرسول من براهين كاثرت النجوم بكثرتها، وقد اجتهد أهل العناد في إغفالها أو افتعال نظائرها لأئمتهم، حقداً وحسداً { وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ }(1).


مَن يباريهم وفى الشمس معنىمجهد متعب لمن باراها
ورثوا من محمّد سبق أولاها وحازوا مالم تحز اخراها
قادة علمهم ورأي حجاهممسمعاً كلّ حكمة منظراها
علماء أئمة حكماءيهتدي النجم باتباع هداها

____________

(1) التوبة: 32.


الصفحة 265
يتحدّث اليافعي في مرآة الجنان ج4 ص273 عن كرامة لأحمد بن حنبل فيقول: " زادت دجلة زيادة مفرطة حتّى خربت مقبرة أحمد بن حنبل، سوى البيت الذي فيه ضريحه، فإنّ الماء دخل في الدهليز علوّ ذراع ووقف بإذن اللّه، وبقيت البواري عليها الغبار حول القبر، صح الخبر ".

هكذا يرتاح لهذه الكرامة ويصحّح الخبر، ولكنّه يتوقّف عن إثبات تلك الكرامة لسيّد شباب أهل الجنّة، وفلذة كبد الإسلام، وريحانة النبىّ الأعظم.

وما أدري بماذا يعتذر يوم جرفت دجلة قبر ابن حنبل ومحت أثره حتّى لم يعرف له ضريح إلى اليوم(1).

وقد أجاد العلاّمة الشيخ محمّد السماوي إذ يقول:


ألا من عذيري يا بني العلم والحجىمن اليافعي الحنبلي المجلّلِ
يكذّبني إن قلت: قبر ابن فاطمعليه استدار الماء للمتوكّلِ
ويزعم حارَ الما ولم تجل غبرةعلى حصر كانت بقبر ابن حنبل

وإنّ لأمثال ذلك في كتبهم أُنشىء الكثير، أرادوا به المقابلة لما صدر من آل النّبي المعصومين، والإشارة إلى بعض ما أوقفنا البحث عليه وإن يخرجنا عن وضع الرسالة، إلاّ أنّ الغرض تعريف القارئ بأنّ العداء كيف يأخذ بالشخص إلى إنكار البديهي والتعامي عن النيرات.

____________

(1) بغداد في عهد العباسيين: 146.


الصفحة 266
ذكر اليافعي في مرآة الجنان ج3 ص113: " إنّ أبا إسحاق الشيرازي المتوفّى سنة 476 هجرية لمّا ورد بلاد العجم، خرج أهلها إليه بنسائهم وأطفالهم للتبرّك به، فكانوا يمسحون أردانهم به، ويأخذون من تراب نعله فيستشفون به ".

وإذا صحّ مثل هذا، فلماذا كان الاستشفاء بتربة الحسين (عليه السلام) ـ وهو سيّد شباب أهل الجنّة ـ بدعة وضلالة؟!

ثُمّ في ج3 ص133 منه يعدّ من فضائل أحمد وكراماته، وما حباه اللّه عن خدمته في الدّين: " إنّ إبراهيم الحربي رأى في المنام بشر الحافي خارجاً من مسجد الرصافة، وفي كمّه شيء، فسأله عنه، فقال: لمّا قدم علينا روح أحمد بن حنبل نثر عليه الدر والياقوت، فهذا ممّا التقطته ".

أصحيح أن تُعدّ هذه الرؤيا من الكرامات، ويُعدّ من الباطل حديث الرسول الأعظم في حقّ سيّد الوصيّين، ومن هو منه بمنزلة هارون من موسى، ولولاه لما قام للدّين عمود، ولمّا أخضّر له عود، وذلك لما تزوّج أمير المؤمنين من سيّدة نساء العالمين، بأنّ اللّه تعالى أمر شجرة طوبى أن تحمل صكاكاً فيها براءة لمحبّي علي وفاطمة من النار، وأنشأ تحتها ملائكة التقطوا ما نثرته عليهم، يحفظونه إلى يوم القيامة، كرامة لعلي وفاطمة؟!

ثُمّ يرمي راوي هذه الكرامة بالجهالة والرفض ويعدّ الحديث من الموضوعات(1)، مع شهرة الحديث بين المحدّثين والمنقبين في الآثار.

____________

(1) اللألئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة للسيوطي 1: 364.


الصفحة 267
وجاء السبكي فعد في طبقات الشافعية ج1 ص215 من فضائل أحمد بن نصر الخزاعي، الذي قتله الواثق على مسألة خلق القرآن: تكلّم رأسه بالقرآن لمّا قُطع وبقي يقرأه إلى أن أُلحق بالجسد ودفن.

وإذ سمعوا بأنّ رأس الحسين الذي قُتل في سبيل الدعوة الإلهية وإحياء الدّين يتكلّم بالقرآن، لإتمام الحجّة، وتعريفاً للأُمة طغيان أُولئك الأُمراء، ولئلاّ تذهب تلك التضحية المقدّسة أدراج التمويهات، طعنوا في الحديث، ونسبوا راويه إلى الرفض والجهالة، مع أنّ الحسين لم يخرج عن كونه ابن الرسول، وقد شهد الصادق الأمين له ولأخيه المجتبى بأنّهما إماما هذه الأُمة، إن قاما وإن قعدا، وأنّهما سيّدا شباب أهل الجنّة، ولم يخرج أشراً ولا بطراً، ولا ظالماً للعباد، ولا غاصباً للحقوق.

ولم يقتنع بذلك حتّى ادّعى كرامة لإسماعيل الحضرمي وأنّها من المستفيض، قال في ج5 ص51 من طبقات الشافعية: " إنّ إسماعيل بن محمّد ابن إسماعيل الحضرمي كان في سفر ومعه خادمه، فأشرفت الشمس على الغروب، فقال لخادمه: قُلْ للشمس تقف حتّى نَصل المنزل ونصلّي! فقال الخادم: إنّ الفقيه إسماعيل يقول لك: قفِ، فوقفت حتّى بلغ المنزل وصلّى، ثُمّ قال للخادم: أما تطلق ذلك المحبوس، فأمرها الخادم بالغروب، فغابت وأظلم الليل في الحال!!

هكذا يقول الخبر من المستفيض في رجل قصارى ما يتخيّل فيه أنّه أحد الأولياء، وينكر حديث ردّ الشمس لأمير المؤمنين، وكان من أعلام النبوّة!


الصفحة 268
ويرتاح الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد ج4 ص423 إلى حديث الوركاني بوقوع المآتم والنوح في أربعة أصناف من الناس: المسلمين، واليهود، والنصارى، والمجوس، يوم وفاة أحمد بن حنبل!(1) ولا يكون هذا من البدعة والشناعة والخروج عن أخلاق المؤمنين! كما تحاملوا بذلك على الشيعة في إقامتهم المآتم والنياحة على سليل الرسول وريحانته حتّى قال الغزالي في مكاشفة القلوب ص187: " إياك أن تشتغل ببدع الرافضة من الندب والنياحة والحزن، فإنّ ذلك ليس من أخلاق المؤمنين "!!

وضرب على وتره غير واحد من المؤرّخين.

وما ذنب الشيعة والمشرّع الأعظم بكى على ولده الحسين وهو حيّ يرزق لمجرّد تذكّر ما يجري عليه، فيخرج إلى المسجد ودموعه جارية، فتبكي الصحابة لبكائه، وفيهم: أبو بكر، وعمر، وأبو ذر، وعمّار، ويسأل عن سبب بكائه؟ فيقول: " الآن حدّثني جبرائيل بما يجري على الحسين "(2).

ويمرّ أمير المؤمنين بوادي كربلاء في ذهابه إلى صفّين، فيقف هناك ويرسل عبرته ويقول: " هذا مناخ ركابهم، ومهراق دمائهم، طوبى لكِ من تربة تراق عليك دماء الأحبة "(3).

____________

(1) تاريخ بغداد 5: 188، الجرح والتعديل للرازي 1: 313، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر 5: 333، تهذيب الكمال للمزي 1: 468.

(2) الخصائص الكبرى للسيوطي 2: 125.

(3) قرب الإسناد: 26، كامل الزيارات: 453، ذخائر العقبى: 97، بحار الأنوار 41: 295، كشف الغمة 2: 222، الخصائص الكبرى للنسائي 2: 126، الفصول المهمة لابن الصباغ المالكي: 761، جواهر المطالب في مناقب الامام علي للدمشقي: 263، باختلاف الألفاظ.


الصفحة 269
إذن، فهلاّ تحسن مواساة صاحب الشريعة ووصيّه المقدّم بعد وقوع الحادثة على فلذة كبده صاحب النهضة المقدّسة، واللّه عزّ وجلّ يقول: { لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ }(1).

على أنّ الأحاديث الصحيحة عندهم عن أئمتهم تحثّهم على التظاهر بما فيه إحياء أمرهم من الدعوة إلى سبيل الدّين، وإظهار الجزع والبكاء والنوح على سيّد شباب أهل الجنّة.

ويقول الإمام الصادق (عليه السلام) في دعائه الطويل وهو ساجد: " اللهمّ ارحم تلك الصرخة التي كانت لنا، اللهمّ إنّ أعداءنا عابوا عليهم خروجهم إلينا، فلم ينههم ذلك عن الشخوص إلينا، رغبة في برّنا، وصلة لرسولك، وخلافاً منهم على ما خالفنا، اللهمّ أعطهم أفضل ما يأملون في غربتهم عن أوطانهم، وما أثرونا به على أبنائهم "(2).

ويقول (عليه السلام) لحمّاد الكوفي: " بلغني أنّ أُناساً من الكوفة وغيرهم من نواحيها يأتون قبر الحسين في النصف من شعبان، فبين قارئ يقرأ، وقاصّ يقصّ، ومادح يمدح، ونساء يندبنه "؟

فقال حمّاد: قد شهدت بعض ما تصف.

فقال (عليه السلام): " الحمد للّه الذي جعل في شيعتنا من يفد إلينا ويمدحنا ويرثي لنا، وجعل في عدوّنا من يقبّح ما يصنعون "(3).

____________

(1) الأحزاب: 21.

(2) كامل الزيارات: 228، والدعاء فيه تقديم وتأخير.

(3) كامل الزيارات: 539، وسائل الشيعة 14: 599، بتقديم وتأخير.


الصفحة 270
ولمّا قال له ذريح المحاربي: إنّي إذا ذكرت فضل زيارة الحسين لقومي وبنيّ كذبوني؟ فقال: " دع الناس يذهبون حيث شاؤوا وكن معنا "(1).

فإذا كان هذا وأمثاله الكثير ممّا أوجب فعل الشيعة لتلك المظاهر، فلماذا يُطعن عليهم عند إيمانهم بها، وما ذنبهم؟! أفلا يتأوّل عملهم والحال هذا كما أوّلوا عمل خالد وغيره؟ أين المنصفون؟

نعم، ليس السرّ فيما حكموا به على الشيعة من الرياء والتصنّع والشنعة والبدعة إلاّ قيامهم بهذه الشعائر التي فيها إظهار مظلومية أهل البيت العلوي، وتفظيع أعمال المناوئين لهم، وإعلام الملأ بما نشروه من الجور، واسترداد الجاهلية الأُولى، كما اعترف به ابن كثير في البداية والنهاية ج8 ص202 قال: " إنّ الشيعة لم يريدوا بهذه الأعمال إلاّ أن يشنّعوا على دولة بني أُمية، لأنّه قتل في دولتهم "(2).

وعليه فلا يكون العمل المستلزم للتشنيع على عمل الجبابرة وطواغيت الأُمة بقتلهم سيّد شباب أهل الجنّة، وتلاعبهم بالدّين الحنيف تلاعب الصبيان بالإكر ; مقرباً للمولّى زلفة، ورضىً لربِّ العالمين.

____________

(1) كامل الزيارات: 272، بحار الأنوار 98: 75.

(2) البداية والنهاية لابن كثير 8: 220.


الصفحة 271

نهر العلقمي


لم يذكر أصحاب المعاجم هذا الوصف، وأهمله المؤرّخون، كما لم يصفه حديث الصادق (عليه السلام) في الزيارة المتقدّمة فإنّ فيها: " وهو مدفون بشط الفرات بحذاء الحير "(1).

لكن شيخنا الطريحي ذكر في المنتخب ص91: أنّ رجلاً من أهل الكوفة حدّاد قال: خرجت في البعث الذي سار إلى كربلاء، فخيّمنا على شاطئ العلقمي، وحموا الماء عن الحسين ومن معه حتّى قُتِلوُا، وأهله وأنصاره عطاشا، ثُمّ رجعنا إلى الكوفة، وبعد أنّ سيّر ابن زياد السبايا إلى الشام رأيت في المنام كأنّ القيامّة قامت، والناس يموجون، وقد أخذهم العطش، وأنا أعتقد بأنّي أشدّهم عطشاً، مع شدّة حرارة الشمس، والأرض تغلي كالقار، إذ رأيت رجلاً عمّ الموقف نوره، وفي أثره فارس، وجهه أنور من البدر، وبينا أنا واقف إذ أتاني رجل وقادني بسلسلة إليه فقلت له: أُقسم عليك بمن أمرك مَن تكون؟

قال: أنا من الملائكة.

قلت:ومن هذا الفارس؟

قال: هذا علي أمير المؤمنين.

قلت: ومَن ذلك الرجل؟

قال: محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم).

____________

(1) كامل الزيارات: 440، بحار الأنوار 98: 277، والعبارة: " إذا أردت زيارة قبر العبّاس (عليه السلام)، وهو على شط الفرات بحذاء الحائر.. ".


الصفحة 272
ثُمّ رأيت عمر بن سعد وقوماً لم أعرفهم في أعناقهم سلاسل من حديد، والنار تخرج من أعينهم وآذانهم، ورأيت النبيّين والصدّيقين قد أحدقوا بمحمّد (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقال رسول اللّه لعلّي: " ما صنعتَ "؟

قال: " لم أترك أحداً من قاتلي الحسين إلاّ جئت به "، فقدموهم أمام رسول اللّه وهو يسألهم عمّا صنعوا بولده يوم كربلاء، فواحد يقول: أنا حميت الماء عنه.

والآخر يقول: أنا رميته.

والثالث يقول: أنا وطأت صدره.

ورابع يقول: أنا قتلت ولده.

وهو يبكي حتّى بكى مَن حوله لبكائه، ثمّ أمر بهم إلى النار، وجي برجل قال له: ما صنعت؟

قال كنت نجاراً، وما حاربت، ولا قتلت.

فقال: " لقد كثّرت السواد على ولدي "، فأمر به إلى النار.

ثُمّ قدّموني إليه، فحكيت له فعلي، فأمر بي إلى النار، فلمّا قصّ الرؤيا على من حضر عنده، يبس لسانه، ومات نصفه، وهلك بأسوأ حال، وقد تبرّأ منه كُلّ من سمع وشاهد.

وفي مدينة المعاجز ص263 باب 127 روي عن رجل أسدي قال: " كنت زارعاً على نهر العلقمي بعد ارتحال عسكر بني أمُية، فرأيت عجائباً لا أقدر أن أحكي إلا بعضاً منها: إذ هبت الريح تمّر علىّ نفحات كنفحات المسك والعنبر، وأرى نجوماً تنزل من السماء وتصعد مثلها من الأرض، ورأيت عند غياب الشمس أسداً هائل المنظر، يتخطّى القتلى حتّى وقف على جسد جلّله الأنوار،

الصفحة 273
فكان يمرّغ وجهه وجسده بدمه، وله صوت عال، ورأيت شموعاً معلّقة، وأصواتاً عالية، وبكاء وعويلاً، ولا أرى أحداً "(1).

وفي مناقب ابن شهرآشوب ج2 ص190: روى جماعة من الثقات: أنّه لمّا أمر المتوكّل بحرث قبر الحسين، وأن يجري عليه الماء من العلقمي، أتى زيد المجنون وبهلول المجنون إلى كربلاء ونظرا إلى القبر لم يتغيّر بما صنعوا(2).

وفي هذا دلالة على وصف النهر بالعلقمي في تلك الأيام، ويؤكّد ذلك ما في مزار البحار ص161 عن مزاري المفيد وابن المشهدي من ورود رواية بزيارة العبّاس (عليه السلام) غير مقيّدة بوقت، وفيها: " إذا وردتَ أرض كربلاء فأنزل منهما بشاطئ العلقمي، ثُمّ اخلع ثياب سفرك واغتسل غسل الزيارة مندوباً وقل... "(3).

وفي تحيّة الزائر ص135 ذكر عنهما وعن الشهيد الأوّل وابن طاووس، ورود رواية بزيارة للحسين وقالوا: " إذا وردت قنطرة العلقمي فقل: إليك اللهمّ قصد القاصد.. "(4).

والظاهر منه ورود لفظ العلقمي في الرواية وليس من كلام العلماء، خصوصاً بعد العلم بأنّهم لا يذكرون إلا ما يعتمدون عليه في الروايات، ومنه نعرف أن نهر العلقمي كان معروفاً في الأزمنة السابقة على زمان ابن العلقمي الذي هو في القرن السابع.

____________

(1) مدينة المعاجز 4: 70، الباب 127، بحار الأنوار 45: 193.

(2) مناقب آل أبي طالب 3: 221، وعنه بحار الأنوار 45: 401، والعوالم: 727.

(3) المزار للشيخ المفيد: 99، المزار للمشهدي: 370.

(4) المزار للمشهدي: 418، بحار الأنوار 98: 232.


الصفحة 274
وجاء في نصّ الشيخ الطوسي، ففي مصباح المتهجد ص499: " إنّ الصادق (عليه السلام) قال لصفوان الجمّال: إذا أتيت الفرات (أعني شرعة الصادق بالعلقمي) فقل: اللهمّ أنت خير من وفد.. "(1).

وعلى هذا يكون قول الفاضل السيّد جعفر الحلّي على الحقيقة:


وهَوى بجنبِ العَلقمّي فليتَهللشاربين بِه يداف العلقم

نعم، لم يُعرف السبب في التسمية به، وما قيل في وجهها: (إنّ الحافر للنهر رجل من بني علقمة، بطن من تميم، ثُمّ من دارم جدّهم علقمة بن زرارة بن عدس) لا يعتمد عليه، لعدم الشاهد الواضح.

ومثله في ذكر السبب كثرة العلقم حول حافتي النهر، وهو كالقول بأنّ عضد الدولة أمر بحفر النهر ووكله إلى رجل اسمه علقمة، فإنّها دعاوى لا تعضدها قرينة، على أنّك عرفت أنّ التسمية كانت قبل عضد الدولة.

وحكي في الكبريت الأحمر ج2 ص112 عن السيّد مجد الدين محمّد المعروف بمجدي من معاصري الشيخ البهائي في كتابه زينة المجالس المؤلّف سنة 1004: " أنّ الوزير السعيد ابن العلقمي لمّا بلغه خطاب الصادق (عليه السلام) للنهر: " إلى الآن تجري وقد حُرم جدي منك" أمر بسدّ النهر وتخريبه، ومن أجله حصل خراب الكوفة، لأنّ ضياعها كانت تسقى منه ".

____________

(1) مصباح المتهجد للشيخ الطوسي: 718، المزار للشهيد الأوّل: 118.