على أن أبا هريرة كان كثيراً مايقول: إن ابا هريرة لايكتم ولايكتب (1) فكيف يجتمع هذا القول منه مع قوله: حفظت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعاءين: فاما أحدهما فبثثته، وأما الآخر قطع هذا البلعوم. إلى آخر أقواله في هذا المعنى الصريحة بأنه كان يكتم!؟.
ولنسأل أولى البحث عن الاسرار الالهية التي أفضاها صلى الله عليه وآله وسلم الى أبي هريرة فكان يكتمها خوفاً على حياته، أو اشفاقاً على كرامته، فهل كانت من سنخ الأسرار التي عهد بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الى وليه ووصيه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أموراً تتعلق بالخلافة وتختص بالخلفاء من بعده؟! أم كانت من سنخ آخر؟. فان كانت من السنخ الأول فلماذا كان منصرفاً عنها كل الانصراف مخالفاً لمقتضياتها كل الخلاف؟؟ وكان رأيه فيما هنالك رأى الجمهور، مسترسلاً معهم في كل الأمور، وإن كانت النسخ الثاني فلا خوف عليه وان حدث بالطامات أو جاء بالمخزيات!.
ألم يحدث بنوم النبي عن صلاة الصبح؟ وعروض الشيطان له صلى الله عليه وآله وسلم وهو في الصلاة ليقطعها عليه؟!.
ألم يروانه سهى فصلى الرباعية ثنائية! فقيل له: انسيت أم قصرت الصلاة فقال: لم أنس ولم نقصر؟.
ألم يخبر أنه كان صلى الله عليه وآله وسلم يؤدي ويسب ويلعن ويجلد على الغضب من لا يستحق ذلك؟.
____________
(1) اخرجه ابن سعد: 119 من القسم الثاني من الجزء الثاني من طبقاته عند ذكر أبي هريرة في باب أهل العلم والفتوى من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
ألم يصم الأنبياء بما لا يجوّزه عليهم شرع ولا عقل؟ حتى روى عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم انه قال: نحن احق بالشك من ابراهيم، وروى عن لوط ما يستلزم ضعف ثقته بالله تعالى.
ألم يتسور على آدم؛ ونوح؛ وابراهيم؛وموسى؛ وعيسى بما يجب تنزيههم عنه؟.
ألم ينسب الى كليم الله ونجيه موسى عليه السلام: انه لطم ملك الموت ففقأ عينه وانه اشتد يركض مرة وهو عريان فمر على بني اسرائيل فنظروا إلى سواته؟
ألم يحدث عن سليمان بن داود انه نقض حكم أبيه؟ وانه أبى أن يعلق امره على مشيئة الله تعالى ففشل في أمره.
ألم يحدث عن الله عز وجل بما لايجوز عليه شرعاً ولاعقلا؟ كقوله؟ لا تمتلئ جهنم حتى يضع الله رجله فيها؟ وكقوله في حديث أهل المحشر: فيأتيهم الله في غير الصورة التي يعرفون فيقول: أنا ربكم فيقولون: نعود بالله منك ثم يأتيهم في الصورة التي يعرفون: فيقولون: أنت ربنا؟ وكقوله: خلق آدم على صورة الرحمن! وقوله: خلق الله آدم على صورته طوله ستون ذراعاً في سبعة اذرع عرضاَ؟
الى كثير مما ستسمعه في الفصل الآتي من هذه الفظائع التي تقطع البلعوم فما باله يحدث بها مطمئناً كل الاطمئنان؟. بل ممتناً بها على الأمة كل الامتنان وقد حدث بالخرافات، فلم يرجم بحجر، ولم يرم بقشع ولا بعر كما يعلمه من ألمّ بأحواله، ولكن منينا بقوم لا ينصفون، فانا لله وانا اليه راجعون.
ومما نلفت اليه أولى النظر من كل بحاثة: ان أبا هريرة كان يقول (1):
____________
(1) فيما حدث به وهب بن منبه عن اخيه همام عن ابي هريرة، واخرجه البخاري في باب كتابه العلم من كتاب العلم: 1/22 من صحيحه.
يعترف ان عبد الله هذا كان اكثر منه حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما ترى؛ وقد بحثنا عن حديث عبد الله بن عمرو فوجدناه سبعمائة مسند لايزيد على هذا العدد شيئاً (1).
فهو دون السبع من حديث أبي هريرة كما لايخفى.
وقد أرتج على العلماء الاعلام باب الاعتذار عن أبي هريرة في هذا التهافت، لكن ابن حجر القسطلاني والشيخ زكريا الانصاري قد اعتذرا عند انتهائهما الى هذا الحديث في شرحيهما (2) بأن عبد الله بن عمرو بن العاص سكن مصر؛ وكان الواردون اليها قليلا فقلت روايته، بخلاف أبي هريرة، فانه استوطن المدينة وهي مقصد المسلمين من كل جهة؛ فكثرت روايته.
وأنت تعلم ان كلام أبي هريرة بظاهره، بل بصريحه يحبط هذا الاعتذار الاتراه يقول: ما من أصحاب النبي أحد أكثر حديثاً عنه مني الا ما كان من عبد الله بن عمرو، فان معناه ـ كما في ارشاد الساري وفي تحفة الباري كليهما ـ ما أحد من أصحاب النبي حديثه أكثر من حديثي الا أحاديث حصلت من عبد الله فانها اكثر من حديثي. واذا كان رجل يعترف بأن الاحاديث التي حصلت من عبد الله اكثر من حديثه فأي وجه لما اعتذر به الشارحان؟.
على أن مقام عبد الله في مصر كان ادعى لكثرة روايته اذ كان له ثمة
____________
(1) وقد ضبطه القسطلاني في شرح هذا الحديث من كتابه ـ ارشاد الساري في شرح صحيح البخاري:373 من جزئه الاول ـ فكان بهذا العدد.
وهما ارشاد الساري للقسطلاني وتحفة الباري لزكريا الانصاري وقد طبعا معا في اثنى عشر جزءاً. ووضع بالهامش متن صحيح مسلم وشرحه للنووي. والعذر المذكور تجده في: 373 من الجزء الأول.
والحق ان أبا هريرة إنما اعترف لعبد الله في اوائل امره بعد رسول الله صلى الله عليه وآله حين لم يكن مفرطاً هذا الافراط الفاحش؛ فانه انما تفاقم افراطه، وطغى فيه على عهد معاوية، حيث لا أبو بكر ولا عمر ولا علي ولا غيرهم من شيوخ الصحابة الذين كان يخشاهم أبو هريرة كما اشرنا اليه وسنوضحه في محله من هذا الاملاء ان شاء الله تعالى.
____________
(1) كان ابو هريرة يتذمر منهم ويشكوهم الى الله فيما اخرجه البخاري عنه في آخر المزارعة من الجزء الثاني من صحيحه.
(2) لأن أبا هريرة توفي ـ كما في آخر ترجمة من الاصابة ـ سنة سبع وخمسين وقيل سنة ثمان وخمسين، وقيل سنة تسع وخمسين أما عبد الله بن عمرو بن العاص فقد مات ـ كما في ترجمة من الاصابة ـ سنة خمس وستين، وقيل سنة ثمان وستين وقيل سنة تسع وستين، وقيل ـ كما في ترجمة من كتاب القيسراني في رجال الصحيحين ـ مات سنة اثنين وتسعين، والله تعالى أعلم.
كيفية حديثه
الأذواق الفنية لا تسيغ كثيراً من أساليب أبي هريرة في حديثه والمقاييس العلمية عقلية لاتقرها. وحسبك عنواناً لهذه الحقيقة اربعون حديثاً صحت عنه، اتلوها الآن عليك لتمعن فيها وفيما علقناه عليها متحرراً متجرداً ولك بعد ذلك رأيك: ـ
1ـ خلق الله آدم على صورته
أخرج الشيخان البخاري ومسلم (1) من طريق عبد الرزاق عن معمر عن همام بن منبه قال: هذا ما حدثنا به أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: خلق الله آدم على صورته طوله ستون ذراعاً. وزاد أحمد (2) من طريق سعد بن المسيب عن أبي هريرة مرفوعاً: في سبعة أذرع عرضاً، قال: فلما خلقه قال: اذهب فسلم على اولئك النفر من الملائكة جلوس فاستمع ما يحيونك فانها تحيتك وتحية ذريتك. قال: فذهب فقال: السلام عليكم. فقالوا السلام عليك ورحمة الله، قال: فزادوه ورحمة الله، فكل من يدخل الجنة على صورة آدم وطوله ستون ذراعاً، فلم يزل الخلق ينقص بعده حتى الآن أهـ.
____________
(1) راجع من البخاري الحديث الأول من كتاب الاستئذان في ص57 من جزئه الرابع. ومن صحيح مسلم باب يدخل الجنة اقوام افئدتهم مثل افئدة الطير من كتاب الجنة وصفة نعيمها: 481 من جزئه الثاني. واخرجه الامام احمد من حديث أبي هريرة في 2/315 من مسنده من حديث طويل يشتمل على امور كثيرة.
(2) كما آخر: 7/90 من ارشاد الساري في باب خلق آدم وذريته من كتاب بدء الخلق.
وهذا مما لا يجوز على رسول الله صلى الله عليه وآله ولا على غيره من الأنبياء ولا على أوصيائهم عليهم السلام. ولعل أبا هريرة أنما أخذه عن اليهود (1) بواسطة صديقه كعب الأحبار أو غيره، فان مضمون هذا الحديث إنما هو عين الفقرة السابعة والعشرين من الاصحاح الأول من أصحاحات التكوين من كتاب اليهود ـ العهد القديم ـ واليك نصها بعين لفظه قال: فخلق الله الانسان على صورته، على صورة الله خلقه ذكراً وانثى خلقهم أ هـ.
تقدس الله عن الصورة والكيفية والشبيه. وتعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً. وربما تاولوا الحديث فارجعوا ضمير صورته إلى آدم نفسه لا إلى الله تبارك وتعالى فيكون المعنى ان الله عز وجل وعلا خلقه في الجنة على صورته التي كان عليها بعد هبوطه منها إذ نشأه تامأ مستوياً طوله ستون ذراعاً وعرضه سبعه اذرع لم يتغير من حال الى حال. ولم يتطور أطواراً مختلفه كذريته فلم يكن نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظاماً كسيت لحماً ثم جنيناً ثم رضيعاً ثم فطيما ثم مراهقاً ثم رجلاً حتى تم طوله وعرضه. بل خلقه دفعة واحدة على صورته التي رآه عليها بنوه في الأرض.
هذا غاية ما يمكن أن يقوله أهل التنزيه في تأويل هذا الحديث لولا وروده عن أبي هريرة مرفوعاً بلفظ: خلق آدم صورة الرحمن (2) ومجيؤه من
____________
(1) وكان في كثير من حديثه عيالا على اليهود، الا تراه يرسل قوله: ان سيحان وجيحان والفرات ونيل مصر كلها من الجنة، أخرج هذا عنه الخطيب في ترجمة محمد بن الحسين المطبخي في ص235 من المجلد الثاني من تاريخ بغداد وهذا مأخوذ عن العهد القديم.
(2) هذا الحديث بهذا اللفظ مستفيض عن أبي هريرة وقد جعله القسطلاني قرينة على ان الهاء من (صورته) في قول ابي هريرة: خلق الله آدم على صورته انما هي لله تعالى لا لآدم فراجع: 10/491 من ارشاد الساري في شرح صحيح البخاري.
وهذا ما اخرج الجمهور ولم يبق لمدافعتهم عن أبي هريرة بالتأويل الذي قلناه محلا، ولذا أسلموا باعادة الضمير في صورته الى الله تعالى متأولين تاولا آخر.
وحاصله ان المراد من قوله: خلق الله آدم على صورته؛ وقوله؛ خلق آدم على صورة الرحمن، وقوله في الحديث الأخير: خلقتهم على صورتي: أنه تعالى خلق آدم وبنيه على صفة الله. فان الله عز وجل حيٌّ سميع بصير متكلم عالم مريد كاره وكذلك آدم وبنوه.
وأنت تعلم انهم وقعوا فيما فروا منه لأن صفة الله عز وجل تنزهت عن التشبيه باجماع أهل التنزيه. ولا سيما على قولنا بأن صفاته عين ذاته، وهو الحق بحكم العقل والنقل كما هو مقرر في محله من اصولنا.
على أن أبا هريرة قد تطور في هذا الحديث كما هي عادته فتارة رواه كما سمعت، وتارة رواه بلفظ: إذا قاتل أحدكم أخاه فليجتنب الوجه فان الله خلق آدم على صورته (2)، ومرة رواه بلفظ: إذا ضرب أحدكم فليجتنب الوجه ولا يقل: قبح الله وجهك ووجه من اشبه وجهك فان الله خلق أدم على صورته أ هـ (3).
____________
(1) اورده ابن قتيبة في ص280 من كتابه تأويل مختلف الحديث وجعله دليلا على ان صمير صورته في قوله: خلق الله آدم على صورته راجع الى الله لا إلى آدم.
(2) اخرجه بهذه الالفاظ عن ابي هريرة بطرق اليه كثيرة غير واحد من حفظة الآثار، فراجع: 2/397 من صحيح مسلم في باب النهي عن ضرب الوجه تجده بعين لفظه.
(3) اخرجه البخاري في الأدب المفرد ورواه احمد بالطرق الصحيحة عن ابي هريرة: 2/434 من مسنده.
ولا يخفي انه قطع بهذا على اوليائه خط الرجعة الى كل من التأويل فانك تعلم انه لايصح ارجاع الضمير في صورته الى آدم في كل من الروايتين بل لابد من ارجاعه الى الله عز وجل ليستقيم الكلام، ويصح تعليل النهي عن ضرب الوجه وتقبيحه (1) وتعلم ايضاً ان خلق آدم حياً سميعاً بصيراً متكلما عالماً مريداً كارها لا يوجب اختصاص الوجه بالصون دون باقي الجوارح، فحمل تينك الروايتين على واحد من ذينك التأويلين مما لا وجه له بل لا يكون للروايتين معنى إلا اذا اريد بهما صون وجه الانسان، لكونه يشبه وجه الله. تعالى الله وتقدست ذاته وصفاته وأسماؤه.
ولذلك تحير المحققون من أهل التنزيه من الجمهور، وتوقفوا في معاني هذه الأحاديث كلها، واحالوا العلم بالمراد منها الى الله تعالى الذي أحاط بكل شئ علما، كما صرح به شارحوا الصحيحين عند انتهائهم الى هذا الحديث من شروحهم فراجع (2).
تنبيهان
(أحدهما): انه إذا كان طول أدم ستين ذراعاً يجب مع تناسب اعضائه
____________
(1) ليت ابا هريرة علل النهي عن ضرب الوجه بلطفه وجماله وجمعه للاعضاء النفيسة من السمع والبصر والأنف والفم والشفتين والأسنان والحاجبين والجبهة وغيرها فان اكثر الادراك انما يكون بها فقد يعطلها الضرب أو ينقصها وقد يشوه الوجه وتشويه الوجه لكونه بارزاً لا يمكن ستره لكن ابا هريرة انما يؤثر التحريف من حيث يدري اولياؤه أو لا يدرون فانا لله وانا اليه راجعون.
(2) قال الامام النووي: وان من العلماء من يمسك عن تأويل هذه الأحاديث كلها ويقول: نؤمن بانها حق وان ظاهرها غير مراد ولها معان تليق بها قال: وهذا مذهب جمهور السلف وهو احوط وأسلم الى آخر كلامه. فراجعه في شرح صحيح مسلم وهو مطبوع في هامش شرحي البخاري وما نقلناه عنه هنا موجود في ص18 من الجزء 12 من الشرح في باب النهي عن ضرب الوجه، ونقل القسطلاني نحوه في: 10/491 من ارشاد الساري في شرح صحيح البخاري. ثم قال: وهذا اسلم قلت: هذا بناء منهم على صحة هذه الاحاديث وهيهات ذلك ـ وان اوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون ـ.
(ثانيهما): ان تحية السلام انما شرعت في دين الاسلام، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله (1) ما حسدكم اليهود على شئ كما حسدوكم على السلام، فلولا اختصاصه بهذه الأمة ما اختصوهم بالحسد عليه فما بال أبي هريرة يقول في هذا الحديث: فلما خلق الله آدم قال اذهب فسلم على أولئك النفر من الملائكة فاستمع ما يحيونك فانها تحيتك وتحية ذريتك؟ وما رأى أولى النظر في هذا الخبر!؟ وماذا يقولون في قول أبي هريرة: فلم يزل الخلق ينقص بعده حتى الآن؟!.
2ـ رؤية الله يوم القيامة بالعين الباصرة في صور مختلفة
أخرج الشيخان (2) بالاسناد الى أبي هريرة قال: قال أناس: يارسول الله
____________
(1) فيما أخرجه ابن ماجة في صحيحه وصحيحه ابن خزيمة بالاسناد إلى عائشة مرفوعاً ونقله القسطلاني في: 10/492 من ارشاد الساري في شرح صحيح البخاري أثناء شرح حديث أبي هريرة هذا.
(2) أما البخاري فأخرجه في آخر: 4/92 من صحيحه في باب الصراط جسر جهنم من كتاب الرقاق، واخرجه أيضاَ في: 1/100 من صحيحه في باب فضل السجود من كتاب الاذان ـ وأما مسلم فأخرجه ـ في ص86 من الجزء الاول من صحيحه في باب اثبات رؤية المؤمنين ربهم الآخرة وأخرجه أحمد في ص275 من الجزء الثاني من مسنده.
____________
(1) يجيز لغة في يجوز يقال: جاز وأجاز بمعنى واحد، كذا قال في النهاية الاثيرية.
وقد أخرجه مسلم بسند آخر (1) ومما جاء فيه عنده: ان الله عز وجل يأتي يوم القيامة هذه الأمة وفيها البر والفاجر وهو في ادنى صورة من التي رأوه فيها فيقول لهم: انا ربكم، فيقولون نعوذ بالله منك! فيقول هل بينكم وبينه آية فتعرفونه بها؟ فيقولون: نعم فيكشف عن ساق! فلا يبقى من كان يسجد لله من تلقاه نفسه الا إذن الله له بالسجود ولا يبقى من يسجد اتقاء ورثاء الا جعل الله ظهره طبقة واحدة كلما اراد ان يسجد خر على قفاء ثم يرفعون رؤوسهم فيرون الله وقد تحول في صورته التي رأوه فيها أول مرة فقال: انا ربكم! فيقولون: أنت ربنا ثم يضرب الجسر على جهنم الحديث، وهو طويل وقد اختصره البخاري في تفسير سورة نون من صحيحه (2) ولفظه ثمة: سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: يكشف ربنا عن ساق! فيسجد له كل مؤمن ومؤمنة ويبقى من يسجد في الدنيا رئاء وسمعة فيذهب ليسجد فيعود ظهره طبقاً واحداً أ هـ.
وهذا حديث مهول الفت اليه ارباب العقول فهل يجوز عندهم ان تكون
____________
(1) في ص88 والتي بعدها من الجزء الأول من صحيحه في باب إثبات رؤية المؤمنين في الآخرة من أواخر كتاب الإيمان.
(2) ص138 من جزئه الثاني.
كلمة في الرؤية
أما رؤية الله عز وجل بالعين الباصرة فقد أجمع الجمهور على امكانها في الدنيا والآخرة، وأجمعوا أيضاً على وقوعها في الآخرة؛ وان المؤمنين والمؤمنات سيرونه يوم القيامة بأبصارهم، وان الكافرين والكافرات لا يرونه أبداً، واكثر هؤلاء على أن الرؤية لاتقع في الدنيا، وربما قال بعضهم بوقوعها أيضاً، ثم ان المجسمة من هؤلاء زعموا أنهم سيرونه يوم القيامة باتصال الأشعة من أبصارهم بجسمه ماثلا أمامهم فينظرون اليه كما ينظر بعضهم إلى بعض لا يمارون فيه كما لا يمارون في الشمس والقمر ليس دونهما سحاب على ما يقتضيه حديث أبي هريرة وقد خالف هؤلاء حكم العقل والنقل؛ وخرقوا اجماع الامة بأسرها، وخرجوا عليها. ومرقوا من الدين، وخالفوا ما علم منه بحكم الضرورة الاسلامية. فلا كلام لنا معهم.
وأما غيرهم من الجمهور وهم المنزهون من الأشعرية فقد قالوا بأن الرؤية قوة سيجعلها الله تعالى يوم القيامة بابصار المؤمنين والمؤمنات خاصة لا تكون باتصال الأشعة، ولا بمقابلة المرئي ولا بتخبزه ولا بتكيفه، ولا، ولافهي على غير الرؤية المعهودة للناس، بل هي رؤية خاصة تقع من أبصار المؤمنين والمؤمنات على الله عز وجل لا كيف فيها ولا جهة من الجهات الست.
وهذا محال لا يعقل، ولا يمكن أن يتصور متصور إلا اذا اختص الله المؤمنين في الدار الآخرة ببصر آخر لاتكون فيه خواص الأبصار المعهودة في الحياة الدنيا على وجه تكون فيه الرؤية البصرية كالرؤية القلبية وهذا خروج عن محل النزاع في ظاهر الحال، ولعل النزاع بيننا وبينهم في الواقع ونفس الأمر لفظي.
3 ـ لا تمتلئ النار حتى يضع الله تعالى رجله فيها
وأخرج الشيخان من طريق عبد الرزاق عن معمر عن همام عن أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم تحاجت الجنة والنار فقالت النار: أو ثرت بالمتكبرين والمتجبرين!. وقالت الجنة: مالي لايدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطتهم قال الله تبارك وتعالى للجنة: أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي. وقال للنار إنما أنت عذاب اعذب بك من أشاء من عبادي. ولكل واحدة منهما ملؤها فأما النار فلا تمتلئ حتى يضع رجله قط قط فهناك تمتلئ ويزوي بعضها الى بعض الحديث (1).
إن أبا هريرة كلما أزداد مثاله زاده الله رعالة (2) رأى ان جهنم أوسع من أن تمتلئ بالعصاة وان الله عز وجل أخبر بامتلائها إذ قال (فالحق والحق أقول لاملأن جهنم) فوقف أبو هريرة أمام هذين الأمرين وقفة الحائر يفكر في الجمع بينهما حتى انتهى به الفكر الى حل المشكلة بادخال رجل الله في جهنم لأن رجل الله تعالى ـ على رأي أبي هريرة ـ لابد أن تكون أفخم وأعظم من جهنم
____________
(1) أخرجه البخاري في تفسير سورة ق: 3/127 من صحيحه وأخرجه مسلم في: 2/482 من صحيحه في باب النار يدخلها الجبارون والجنة يدخلها الضعفاء أخرجه من خمسة طرق عن أبي هريرة، وأخرجه أحمد من حديث أبي هريرة آخر: 2/314 من مسنده.
(2) مثل يضرب لمن كان كلما أزداد رزقاً زاده الله حمقاً.
وعلى كل: فان هذا الحديث محال ممتنع بحكم العقل والشرع، وهل يؤمن مسلم ينزه الله تعالى بأن لله رجلا؟. وهل يصدق عاقل بأنه يضعها في جهنم لتمتلئ بها؟! وما الحكمة بذلك؟! وأي وزن لهذا الكلام البارد!؟ وبأي لسان تتحاج النار والجنة!؟ وبأي حواسهما ادركتا ما ادركتاه وعرفتا من دخلهما وأي فضل للمتجبرين والمتكبرين لتفخربهم النار وهم يومئذ في اسفل سافلين؟ وكيف تظن الجنة ان الفائزين بها من سقطة الناس وهم من الذين انعم الله عليهم بين نبي وصديق وشهيد وصالح ما أظن الجنة والنار قد بلغ بهما الجهل والحمق والخرف الى هذه الغاية؟.
4 ـ نزول ربه كل ليلة إلى سماء الدنيا تعالى الله
ـ أخرج الشيخان من طريق ابن شهاب عن أبي عبد الله الأغرو أبي سلمة ابن عبد الرحمان عن أبي هريرة مرفوعاً قال: ينزل ربنا كل ليلة الى سماء الدنيا حين تبقى الثلث الاخير يقول: من يدعوني فأستجيب له الحديث (2).
تعالى الله عن النزول والصعود والمجئ والذهاب والحركة والانتقال
____________
(1) فالحق مبتدأ، خبره محذوف، تقديره: فالحق قسمى أو يميني لأملأن جهنم والحق أقول أعتراض بين المقسم به والمقسم عليه معناه: لا أقول إلا الحق.
(2) أخرجه البخاري في باب الدعاء نصف الليل: 4/68 من صحيحه في كتاب الدعوات، واخرجه أيضاً في آخر: 1/136 من صحيحه في باب الدعاء والصلاة من آخر الليل في كتاب الكسوف، وأخرجه مسلم في: 1/283 من صحيحه في باب الترغيب في الدعاء والذكر في آخر الليل وأخرجه احمد بن حنبل من حديث ابي هريرة في: 2/258 من مسنده.
5 ـ نقض سليمان حكم أبيه داود
أخرج الشيخان (2) بالاسناد الى أبي هريرة مرفوعاً قال: كانت امرأتان
____________
(1) التي حضرها الرحالة ابن بطوطة بنفسه ورآها بعينه وسجلها في: 1/57 من رحلته عند ذكره قضاة دمشق فراجع.
(2) اما البخاري فقد أخرجه في اول: 2/166 من صحيحه في باب قوله تعالى: (ووهبنا لداود سليمان نعم العبد انه اواب) من كتاب بدء الخلق واما مسلم فاخرجه في: 2/57 من صحيحه في باب بيان اختلاف المجتهدين من كتاب الأقضية، وأخرجه احمد بن حنبل من حديث ابي هريرة في: 2/322 من مسنده.
(أحدها): ان داود عليه السلام خليفة الله في ارضه، ونبيه المرسل الى عباده وقد أمره الله ان يحكم بين الناس بالحق فقال عز من قائل: (يا داود انا جعلناك خليفة في الارض فاحكم بين الناس بالحق) وقد أثنى عليه في الذكر الحكيم والفرقان العظيم فقال عز من قائل: (واذكر عبدنا داود ذا الايد انه اواب انا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والاشراق والطير محشورة كل له اواب وشددنا ملكه وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب) الى ان قال عز سلطانه: (وان له عندنا لزلفى وحسن مآب) وقال عز وعلا: (ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض وآتينا داود زبورا) فداود ممن فضله الله بزبوره فهو معصوم من الخطأ ولا سيما في القضاء والحكم بما أنزل الله تعالى: (ومن لم يحكم بما انزل الله فاولئك هم الظالمون) وولده سليمان وارث علمه وحكمه؛ وهو نبي معصوم أيضاً فكيف ينقض حكم ابيه وهو أعرف الناس بعصمته؟ ولو ان حاكماً في هذه الايام من قضاة الشرع جامعاً لشرائط الحكومة الشرعية حكم بين اثنين ترافعا اليه لوجب على سائر حكام الشرع اعتبار حكمه بدون توقف الا مع العلم بخطئه والخطأ هنا مأمون لوجوب عصمة الأنبياء، فلا يجوز على سليمان وهو من أنبياء الله ان ينقض حكم أبيه الذي ارتضاه الله ورسولا لعباده وحاكما بينهم لان نقضه رد على الله تعالى وسوء ادب مع أبيه بل عقوق له.
(ثانيها): ان هذا الحديث صريح بتناقض الحكمين الصادرين من هذين
(ثالثها): ظاهر هذا الحديث ان داود عليه السلام حكم بالولد للكبرى بدون بينة ولا مستند غير أنّها كبرى وهذا لا يصدر إلا من جاهل بالموازين الشرعية بعيد عن قوانين المحاكمات تعالى الله وتنزهت انبياؤه عن ذلك.
(رابعها): ان هذا الحديث صريح في ان سليمان انما حكم به للصغرى بمجرد اشفاقها عليه من الشق بالسكين وهذا بمجرده لا يكون ميزاناً لحكمه، ولا سيما بعد اقرارها به للكبرى؛ وبعد حكم أبيه بذلك.
(خامسها): لا ينقضي والله عجبي ممن يسعه تصديق أبي هريرة في قوله: والله ان سمعت بالسكين الا يومئذ وما كنا نقول الا المدية، وى أن السكين اكثر دوراناً في كلام العرب من المدية بكثير! وما اظن أحداً منهم يجهل معنى السكين بخلاف المدية؛ فان اكثر العامة لا يعرفونها وى كأن أبا هريرة لم يقرأ ولم يسمع قوله تعالى في سورة يوسف وهي مكية: (وآتت كل واحدة منهن سكيناً) (1).
وكأنه لم يرو عن رسول الله صلى الله عليه وآله قوله: من جعل قاضياً بين الناس فقد ذبح بغير سكين (2).
____________
(1) سورة يوسف كلها نزلت في مكة إلا اربع آيات منها نزلت في المدينة ثلاث من اولها والرابعة: (لقد كان يوسف وأخواته آيات للسائلين) وابو هريرة إنما اسلم بعد نزولها بأكثر من سبع سنين وكانت محفوظة يرتلها المسلمون آناء الليل واطراف النهار، وقد سمعهم يقرؤونها في صلواتهم وخلواتهم وفي كثير من اوقاتهم.
(2) بلى قد رواه وأخرجه عنه الامام احمد في: 2/230 من مسنده من طريق محمد بن جعفر عن شعبة عن العلاء عن ابيه عن ابي هريرة مرفوعاً.
تنبيه
ظن أبو هريرة أن داود وسليمان (إذ يحكمان في الحرث) كانا متناقضين في الحكم فهان عليه تزوير تلك القصة الخيالية ولم يدر أنهما انما كانا على الصواب وان حكم كل منهما وعلمه انما كان من لدن ربّ الارباب.
ومجمل قضيتهما أن غنماً أصابت في الليل حرثاً وكان كرماً قد بدت عناقيده (1) فاكلته فترافع صاحب الحرث وأصحاب الغنم الى داود عليه السلام فكان بمقتضى شرعه الموحي اليه من الله تعالى أن يحكم بالغنم لصاحب الحرث لأن قيمة الغنم كانت على قدر النقصان في الحرث، فلما أراد أن يحكم بذلك نسخه الله تعالى على لسان سليمان وكان شريكه في النبوة فأفهمه الله أن الحكم أصبح في مثل تلك الواقعة أن تدفع الغنم الى أهل الحرث ينتفعون بألبانها وأُصوافها ويدفع الحرث الى أرباب الغنم يقومون عليه حتى يعود كهيئته قبل عيث الغنم فيه ثم يترادان.
جعل الله في هذا الحكم انتفاع صاحب الحرث بالغنم بازاء ما فاته من الانتفاع بحرثه من غير أن يزول ملك المالك عن الغنم واوجب على أصحاب الغنم أن يعملوا في الحرث حتى يزول الضرر والنقصان؛ فلما أفهم الله عز وجل سليمان ذلك رفعه الى أبيه فعزم أبوه عليه ليحكمن بما أنزل الله عليه فحكم به.
هذا ملخص ما كان يومئذ بينهما لا تناقص فيه ولا اختلاف شأن كل حكمين عن الله تعالى نسخ ثانيهما الاول.
وأنا أتلو عليك من محكمات الفرقان ما يلمسك هذه الحقيقة قال تبارك وتعالى: (وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث اذ نفشت (2) فيه غنم القوم وكنا
____________
(1) فيما روى عن الامامين الباقرين الصادق أبي جعفر وأبي عبد الله عليه السلام.
(2) النفش هو الانتشار في الليل.
لكن من رأي أبي هريرة ان أنبياء الله يجوز عليهم الحكم بمجرد الاجتهاد لذلك جوز عليهم الخطأ فيما يحكمون به كسائر المجتهدين.
(ما قدروا الله حق قدره) إذ جوزوا الاجتهاد والعمل بالظن على مهابط وحي الله، ومختلف ملائكته، وجوزوا الخطأ عليهم حتى في القضاء الشرعي والحكم عن الله عز وجل: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فاولئك هم الكافرون).
ولو ثابت اليهم أحلامهم لعلموا أن العمل بالاجتهاد واستفراغ الوسع محال على الأنبياء لانه لا يوصل غالباً إلا الى الظن، والأنبياء لا يعولون عليه لنمكنهم من العلم بسبب الوحي، وانما يحوز ذلك لمجتدي الأمة لأنه أقصى ما يتمكنون منه.
ولو جاز الاجتهاد على الأنبياء لجاز لغيرهم من المجتهدين أن يعارضوهم فيما يصدعون به من أحكام الله وحينئذ لاتبقى للنبوة منزلتها؛ ولا للنبيين الشأن لا يلحقه لاحق ولا يطمع من غيرهم فيه طائع، وهل يجرأ مؤمن من المجتهدين أن يعارض النبي وينقض حكمه صلى الله عليه وآله كلا! انه الكفر بالاجماع.
على أن القرآن العظيم والذكر الحكيم صريح بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما يعمل بالوحي: (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى) وهكذا سائر الانبياء والمرسلين صلوات الله عليهم أجمعين.
____________
(1) أي ففهمنا هذه الحكومة سليمان فكانت ناسخة للحكومة التي كان الله من ذي قبل فهمها داود عليها السلام.
6 ـ طواف سليمان بمائة امرأة في ليلة
أخرج الشيخان بالاسناد الى أبي هريرة مرفوعاً قال: سليمان ابن داود لأطوفنّ الليلة بمائة أمرأة! تلد كل غلاماً! يقاتل في سبيل الله! فقال له الملك: قل إن شاء الله فلم يقل!! فأطاف بهن! فلم تلد إلا امرأة نصف انسان! (قال أبو هريرة): قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لو قال ان شاء الله لم يحنث وكان أرجى لحاجته.
(قلت): وفي هذا أيضاً نظر من وجوه:ـ
(أحدها): ان القوة البشرية لتضعف عن الطواف بهن في ليلة واحدة مهما كان الانسان قوياً، فما ذكره أبو هريرة من طواف سليمان عليه السلام بهن مخالف لنواميس الطبيعة لايمكن عادة وقوعه أبداً.
(ثانيها): انه لا يجوز على نبي الله تعالى سليمان عليه السلام أن يترك التعليق على المشيئة، ولا سيما بعد تنبيه الملك إياه إلى ذلك. وما يمنعه من قول ان شاء الله؟ وهو من الدعاة إلى الله والأدلاء عليه، وانما يتركها الغافلون عن الله عز وجل، الجاهلون بأن الأمور كلها بيده فما شاء منها كان وما لم يشأ لم يكن، وحاشا أنبياء الله عن غفلة الجاهلين إنهم عليهم السلام لفوق مايظن المخرّفون.
(ثالثها): أن أبي هريرة قد اضطرب في عدة نساء سليمان، فتارة روى انهن مائة امرأة كما سمعت (1)، وتارة روى انهن تسعون (2)، وتارة روى انهن
____________
(1) وقد أخرجه البخاري في باب قول الرجل: لأطواف الليلة على نسائي في آخر: 3/176 من صحيحه في الورقة الأخيرة من كتاب النكاح، وأخرجه أحمد من حديث أبي هريرة: 2/229، 270 من مسنده.
(2) كما أخرجه البخاري عنه في: 4/107 من صحيحه في باب الاستثناء في الايمان من كتاب الايمان والنذور.
7 ـ لطم موسى عين ملك الموت
أخرج الشيخان صحيحيهما بالاسناد إلى أبي هريرة قال: جاء ملك الموت الى موسى عليهما السلام فقال له: أحب ربك. قال فلطم موسى عين ملك الموت فقفأها: قال: فرجع الملك الى الله تعالى فقال: أنك ارسلتني الى عبد لك لا يريد الموت ففقأ عيني. قال فرد الله اليه عينه وقال ارجع الى عبدي فقل: الحياة تريد فان كنت تريد الحياة فضع يدك على متن ثور: فما توارت بيدك من شعرة فانك تعيش بها سنة الحديث. (3).
____________
(1) كما أخرجه البخاري بالاسناد اليه في: 2/165 من صحيحه في باب قوله تعالى: (ووهبنا لداود سليمان نعم العبد انه اواب) من كتاب بدء الخلق.
(2) كما أخرجه مسلم بالاسناد اليه في باب الاستثناء من كتاب الايمان ـ: 2/23 من صحيحه، وأخرج مسلم أيضاً في ذلك الباب نفسه حديثاً من طريق آخر عن ابي هريرة انهن سبعون واخرج فيه من طريق ثالث انهن تسعون فراجع.
(3) اوردناه بلفظ مسلم وقد اخرجه ـ عن ابي هريرة بطرق كثيرة ـ في باب فضائل موسى من كتاب الفضائل من صحيحه: 2/309، وأخرجه البخاري في باب وفاة موسى من كتاب بدء الخلق بعد حديث الخضر بأقل من صفحتيين من صحيحه فراجع: 2/163 واخرجه أيضاً في باب من احب الدفن في الأرض المقدسة من ابواب الجنائز من صحيحه فراجع: 1/158.
وأخرجه أحمد من حديث أبي هريرة في مسنده (1) وفيه: أن ملك الموت كان يأتى الناس عياناً: قال: فأتى موسى فلطمه ففقأ عينه الحديث، وأخرجه ابن جرير الطبري في الجزء الأول من تاريخه (2) عن أبي هريرة ولفظه عنه: أن ملك الموت كان ياتي الناس عياناً حتى أتى موسى فلطمه ففقأ عينه وفي آخره ان ملك الموت جاء إلى الناس خفياً بعد موت موسى (3).
وأنت ترى ما فيه مما لا يجوز على الله تعالى، ولا على انبيائه. ولا على ملائكته، أبليق بالحق تبارك وتعالى ان يصطفي من عباده من يبطش على الغضب بطش الجبارين؟؟، ويوقع بأسه حتى في ملائكة الله المقربين ويعمل عمل المتمردين؟: ويكره الموت كراهة الجاهلين؟: وكيف يجوز ذلك على موسى؟ وقد اختاره الله لرسالته، وائتمنه على وحيه، وآثره بمناجانه، وجعله من سادة رسله، وكيف يكره الموت هذا الكره مع شرف مقامه؟ ورغبته في القرب من الله تعالى والفوز بلقائه؟ وما ذنب ملك الموت عليه السلام؟ وانما هو رسول الله اليه. وبما استحق الضرب والمثلة فيه بقلع عينه؟ وما جاء إلا عن الله وما قال له: سوى أجب ربك أيجوز على أولي العزم من الرسل اهانة الكروبيين من الملائكة؟ وضربهم حين يبلغونهم رسالات الله وأوامره عز وجل!؟. تعالى الله وتعالت أنبياؤه وملائكته عن ذلك علواً كبيراً.
ونحن لم برئنا من أصحاب الرس، وفرعون موسى، وأبي جهل، وأمثالهم ولعناهم بكرة وأصيلا؟. أليس ذلك لأنهم آذوا رسل الله حين جاؤوهم بأوامره
____________
(1): 2/315.
(2) وذلك حيث ذكر وفاة موسى في كتابه تاريخ الامم والملوك.
(3) لو ان ملك الموت كان يأتي عياناً قبل وفاة موسى لطفحت به الاخبار واشتهر اشتهار الشمس في رابعة النهار فما بال المحدثين والمؤرخين واهل الاخبار من جميع الامم اغفلوا هذا الخبر لو كان له اثر، وما بال القصاصين والمخرفين ما حام خيالهم حوله، فهل تركوا الامتياز به لأبي هريرة؟
ثم إن من المعلوم أن قوة البشر بأسرهم، بل قوة جميع الحيوانات منذ خلقها الله تعالى إلى يوم القيامة لا تثبت امام قوة ملك الموت فكيف ـ والحال هذه ـ تمكن موسى عليه السلام من الوقيعة فيه؟ وهلا دفعه الملك عن نفسه؟ مع قدرته على ازهاق روحه، وكونه مأموراً عن الله تعالى بذلك.
ومتى كان للملك عين يجوز أن تففقأ؟!.
ولا تنس تضييع حق الملك وذهاب عينه. ولطمته هدراً، وإذ لم يؤمر الملك من الله بأن يقتص من موسى صاحب التوراة التي كتب الله فيها (ان النفس بالنفس والعين بالعين والانف بالانف والاذن بالاذن والسن بالسن والجروح قصاص) (1) ولم يعاتب الله موسى على فعله هذا بل اكرمه إذ خيره بسببه بين الموت والحياة سنين كثيرة بقدر ما تواريه يده من شعر الثور.
وما ادري والله ما الحكمة في ذكره شعر الثور بالخصوص؟!.
أما وعزة الحق، وشرف الصدق وعلوهما على الباطل والافك لقد حمّل هذا الرجل اولياءه ما لا طاقة لهم به. وكلفهم باحاديثه هذه بما لا تحتمله عقولهم ابداً ولا سيما قوله في هذا الحديث: إن ملك الموت قبل وفاة موسى كان يأتي الناس عياناً وانما جاءهم خفياً بعد موت موسى نعوذ بالله من سبات العقل وخطل القول والفعل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
____________
(1) إشاره الى الآية 45 من سورة المائدة، وقد وجدنا في الفقرة 23 من الاصحاح 21 من اصحاحات الخروج، من التوراة الموجودة في أيدي اليهود والنصارى في هذه الايام ما هذا لفظه: ان حصلت اذية تعطى نفساً بنفس وعيناً بعين وسناً بسن ويداً بيد ورجلاً برجل وكيا بكي وجرحا بجرح ورضا برض.
8 ـ فرار الحجر بثياب موسى وعدو موسى خلفه ونظر بني اسرائيل اليه مكشوفاً
أخرج الشيخان في صحيحيهما بالاسناد إلى أبي هريرة قال: كان بنو اسرائيل يغتسلون عراة ينظر بعضهم الى سوأة بعض، وكان موسى عليه السلام يغتسل وحده فقالوا: والله ما يمنع موسى ان يغتسل معنا إلا أنه آدر (أي ذو فتق) قال فذهب مرة يغتسل فوضع ثوبه على حجر ففر الحجر بثوبه! فجمع موسى بأثره يقول: ثوبي حجر! ثوبي حجر! حتى نظر بنو اسرائيل الى سوأة موسى فقالوا: والله ما بموسى من بأس فقام الحجر بعد حتى نظر إليه فأخذ موسى ثوبه فطفق بالحجر ضرباً؟ فوالله ان بالحجر ندباً (1) ستة أو سبعة الحديث (2).
وفي الصحيحين عن أبي هريرة أن هذه الواقعة هي التي أشار الله اليها بقوله عز من قائل: (يا ايها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيهاً) أ هـ.
وأنت ترى ما في هذا الحديث من المحال الممتنع عقلا فانه لايجوز تشهير كليم الله عليه السلام بابداء سوأته على رؤوس الأشهاد من قومه لأن ذلك ينقصه ويسقط من مقامه، ولاسيما اذا رأوه يشتد عارياً ينادي الحجر وهو لا يسمع ولا يبصر: ثوبي حجر ثوبي حجر ثم يقف عليه وهو عاري أمام الناس فيضربه
____________
(1) الندب بوزن جمل اثر الجراح اذا لم يرتفع عن الجلد.
(2) اوردناه بلفظ مسلم إذ أخرجه عن أبي هريرة بطرق كثيرة فراجع باب فضائل موسى: 2/308 من صحيحه واخرجه البخاري في الباب الذي هو بعد حديث الخضر من صحيحه: 2/162 وفي: 1/42 في باب من اغتسل عريانا من كتاب الغسل، واخرجه احمد من حديث أبي هريرة من طرق كثيرة فراجع: 2/315 من مسنده.
وهذه الحركة لو صحت فانما هي من فعل الله تعالى فكيف يغضب منها كليم الله فيعاقب الحجر عليها؟! وما هو إلا مقسور على الحركة وأي أثر لعقوبة الحجر؟؟.
ثم ان هربه بثياب موسى عليه السلام لا يبيح له ابداء عورته، وهتك نفسه بذلك وقد كان في امكانه أن بيقى في مكان حتى يؤتى بثيابه أو بساتر غيرها كما يفعله كل ذي لب اذا ابتلى بمثل هذه القصة.
على أن هرب الحجر من المعجزات وخوارق العادات التي لا تكون الا في مقام التحدي كمقام انتقال الشجرة من مكة المعظمة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين اقترح عليه المشركون ذلك فنقلها الله عز وجل من مكانها تصديقاً لدعوته وتثيبيتاً لنبوته صلى الله عليه وآله وسلم ومن المعلوم أن مقام موسى عليه السلام وهو يغتسل لم يكن مقام تحد وتعجيز فلا تقع فيه المعجزات وخوارق العادات ولا سيما اذا ترتب عليها فضيحة نبي الله بابداء سوأته للملأ من قومه على وجه يستخف به كل من رآه وكل من سمع بخبره هذا واما براءته من الادرة فليست من الامور التي يباح في سبيلها هتكه وتشهيره ولاهي من المهمات التي تصدر بسببها الآيات اذ يمكن العلم ببراءته منها بسبب اطلاع نسائه عليه؛ واخبارهن بحقيقة حاله.
ولو فرض ابتلاؤه بالادرة فأي بأس عليه بذلك؟. وقد اصيب شعيب عليه السلام ببصره وايوب عليهم السلام بجسمه وانبياء الله كافة تمرضوا وماتوا، ولا يجب انتفاء مثل هذه العوارض عن انبياء الله ورسله، ولاسيما اذا كانت مستورة عن الناس كالادرة، نعم لايجوز عليهم ما يوجب نقصاً في مداركهم أو في مروءتهم أو يوجب نفرة الناس عنهم واستخفافهم بهم والادرة ليست في شئ من ذلك.
على ان القول بأن بني اسرائيل كانوا يظنون ان في موسى ادرة لم ينقل الا عن أبي هريرة.