الصفحة 191

(ومنها): ان أبا هريرة روى عن رسول الله صلى الله عليه واله وسلم أن من حمل جنازة فليتوضأ، فلم يأخذ ابن عباس بخبره وردّه صريحاً قال: لا يلزمنا الوضوء في حمل عيدان يابسة (1).

(ومنها): ان ابن عمر كان يروي ان رسول الله صلى الله عليه واله وسلم أمر بقتل الكلاب إلا كلب صيد أو كلب غنم أو ماشية فقيل لابن عمر: ان أبا هريرة يقول: أو كلب زرع، فلم يأبه بذلك ابن عمر وقال في رده: ان لأبي هريرة زرعاً يتهمه بزيادة كلب الزرع في حديث رسول الله صلى الله عليه واله وسلم احتفاظاً بكلبه واحتياطاً على زرعه والحديث في صحيح مسلم (2).

ومثله ما في صحيح مسلم ايضاً (3) عن أبي هريرة مرفوعاً: من اتخذ كلباً إلا كلب ماشية أوصيد أو زرع انتقص من اجره كل يوم قيراط، فذكر لأبن عمر قول أبي هريرة هذا فقال: يرحم الله أبا هريرة كان صاحب زرع ـ يتهمه بزيادة كلب الزرع ايثاراً لمصلحته ـ وقد اتهمه بهذا ايضا سالم بن عبد الله ان عمر في حديث أخرجه مسلم ايضاً (4).

(ومنها): ان ابن عمر لم يصدق أبا هريرة في حديثه في القنفذ وبقى شاكا فيه.

(ومنها): ان ابن عمر سمعه يحدث بأن من اتبع جنازة فله قيراط من الاجر فقال اكثر علينا أبو هريرة ولم يصدقه حتى بعث الى عائشة يسألها عن

____________

(1) رواه جماعة من الاثبات ونقله الاستاذ احمد أمين في: ص259 فجره.

(2) راجعه في: 1/625 من صحيحه في باب الأمر بقتل الكلاب وبيان نسخها.

(3) راجعه في: 1/627 من صحيحه في باب تحريم اقتناء الكلاب إلا لصيد أو زرع أو ماشية ونحو ذلك.

(4) في: 1/626 من صحيحه.

الصفحة 192
ذلك فروته له فصدق جينئذ والحديث في هذا ثابت (1).

وكذلك فعل عامر بن شريح بن هاني إذ سمع أبا هريرة يحدث بأن من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه، فلم يصدق أبا هريرة بذلك حتى سأل عائشة فروته له وأفهمته المراد منه، والحديث في ذلك ثابت ايضاً (2).

ولو أردنا استقصاء الموارد التي ردّ فيها السلف حديث أبي هريرة وانكروا فيها عليه لطال بنا الكلام، وهذا القدر كاف لما أردناه والحمد لله.

وناهيك تكذيب كل من عمر وعثمان وعلي وعائشة له، وقد تقرر بالاجماع تقديم الجرح على التعديل في مقام التعارض على انه لا تعارض هنا قطعاً فان العاطفة بمجردها لا تعارض تكذيب من كذبه من الأئمة.

أما اصالة في الصحابة فلا دليل عليها والصحابة لا يعرفونها ولو فرض صحتها فانما يعمل على مقتضاها في مجهول الحال لا فيمن يكذبه عمر وعثمان وعلي وعائشة ولا فيمن قامت على جرحه ادلة الوجدان فاذا نحن من جرحه على يقين جازم.

سبوح لها منها عليها شواهد

ونحن الإمامية لنا في الصحابة رأي هو أوسط الآراء عقدنا لبيانه في أجوبة موسى جار الله فصلا مخصوصا (3) وعقدنا لتأييده فصلا آخر (4)

____________

(1) اخرجه مسلم في باب فضل الصلاة على الجنائز واتباعها: ص349 والتي بعدها من الجزء الأول من صحيحه، واخرج الحاكم في: 3/510 من المستدرك نحوه.

(2) اخرجه مسلم: 422 في باب: من احب لقاء الله احب الله لقاءه من الجزء الثاني من صحيحه.

(3) تجده في: ص11 وما بعدها إلى منتهى: ص15 من الأجوبة.

(4) تجده في: ص23 وما بعدها الى: 27 من الأجوبة ايضا.

الصفحة 193
فليراجعها من اراد التحقيق من أولي الألباب والحمد لله على الهداية للصواب.

ـ 15 ـ
إحتجاته على متهميه

كان أبو هريرة يحتج على مكذبيه ومتهميه فيقول (1): يقولون ان أبا هريرة يكثر الحديث! والله الموعد! ويقولون ما للمهاجرين والأنصار لا يحدثون مثل احاديثه؟ وان اخوتى من المهاجرين كان يشغلهم الصفق في الأسواق وان اخوتى من الأنصار كان يشغلهم عمل أموالهم! وكنت امرءاً مسكيناً الزم رسول الله على ملء بطني فأحضر حين يغيبون! وأعي حين ينسون!!. وقال النبي صلى الله عليه واله وسلم يوماً! لن يبسط احد منكم ثوبه حتى اقضي مقالتي هذه ثم يجمعه الى صدره فينسى من مقالتي شيئاً ابداً فبسطت نمرة ليس عليّ ثوب غيرها حتى قضى النبي صلى اله عليه واله وسلم مقالته ثم جمعتها الى صدري فوالذي بعثه بالحق ما نسيت من مقالته تلك شيئاً الى يومي هذا والله لولا آيتان في كتاب الله ما حدثتكم شيئاً ابداً: ان الذين يكتمون ما انزلنا من البينات والهدى، الى قوله: وأنا التواب الرحيم.

(قلت): ان أبا هريرة كلما ازداد مثالة زاده الله رعالة (2) يريد ان يقنع المنكرين عليه في كمية احاديثه وكيفيتها فجاءهم بهذا تزكية لنفسه

____________

(1) فيما اخرجه في البخاري في آخر المزارعة: 2/34 من صحيحه وأخرجه في البيوع وفي غير موضع من الصحيح وكذلك مسلم في عدة مواضع من صحيحه واحمد في مواضع من الجزء الثاني من مسنده وجميع أصحاب السنن والمسانيد اخرجوه من حديث أبي هريرة بطرق اليه كثيرة والفاظ مختلفة.

(2) أي كلما ازداد رزقا زاده الله حمقا.

الصفحة 194
واحتجاجا عليهم فاذا حجته جفاء أو ثأطة مدت بماء (1) كأن الله عز وجل سخره بهذا الحديث حجة للمنكرين عليه ودليلا على صحة ما نسبوه اليه فاني (وشرف الصدق) وعلو مقام الصادقين ما رأيت في كل ما صنعته ايدي المخرفين ابرد من هذا الحديث ولا ابعد منه عن الصدق وما كنت لأ لم به ولا لاعرج عليه لولا ان الشيخين وامثالهما قد نظموه في سلك الصحاح بكل ارتياح وانما فعلوا ذلك تعبداً برأيهم في كل صحابي وقد خالفوا في ذلك الأدلة عقلية ونقلية وخالفوا السلف الصالح من أولي الألباب كما أو ضحناه في كتابنا ـ تحفة المحدثين ـ ولنا على بطلان هذا الحديث وجوه: ـ.

(الأول): زعم ان المهاجرين كان يشغلهم عن النبي صلى الله عليه واله وسلم الصفق بالأسواق (2) والأنصار كان يشغلهم عمل اموالهم (3) فساق السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار كافة بعصاً واحدة ـ لقد هزلت ـ ـ وحن قدح ليس منها ـ واي قيمة للقول بأن جميع المهاجرين كان يلهيهم الصفق بالأسواق؟ بعد قوله عز من قائل: (رجالٌ لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله..) الآية وهل لمعارض كتاب الله إلا الضرب بعرض الجدار؟ ومن هو أبو هريرة؟ ليحضر حين يغيب الخصيصون برسول الله صلى الله عليه واله وسلم ويحفظ حين ينسون يقول هذا القول بملء فيه غير متئد ولا خجل ولا وجل إذ قاله على عهد معاوية حيث لا عمر ولا عثمان ولا علي ولا طلحة ولا الزبير ولا سلمان ولا عمار ولا المقداد ولا أبو ذر ولا أمثالهم كبرت كلمة تخرج من فيه ما أبعدها عن الصدق وقد علم

____________

(1) الجفاء هنا ما نفاه الباطل، والثأطة الحمأة كلما ازدادت ماء قل تماسكها.

(2) الصفق: كناية عن التبايع إذ كان البايعان يتصافقان بالأكف، وكان عمر يقول عما جهله من السنن ألهاني عنه الصفق بالأسواق، أي الخروج إلى التجارة اخرجه في: 2/4 من صحيحه في باب الخروج بالتجارة.

(3) أي إدارة حدائقهم إذ كانوا أهل نخيل.

الصفحة 195
الناس موضع علي من رسول الله صلى الله عليه واله وسلم بالقرابة والمنزلة الخصيصة وضعه في حجره وهو ولد يضمه الى صدره ويكنفه إلى فراشه ويمسه جسده ويشمه عرفه وكان يمضغ الشئ ثم يلقمه إياه وما وجد له كذبة في قول ولا خطلة في عمل ولقد قرن الله به صلى الله عليه واله وسلم من لدن ان كان فطيما اعظم ملك من ملائكته يسلك به طرق المكارم ومحاسن أخلاق العالم فكان علي يتبع رسول الله اتباع الفصيل أثر أمه يرفع له في كل يوم من اخلاقه علما ويأمره بالاقتداء به ولقد كان معه (هو والصديقة الكبرى خديجة أم المؤمنين) بحراء فيرى نور الوحي والرسالة ويشم ريح النبوة وكان بعد ذلك باب مدينته وأقضى أمته، وعيبة سره وولي أمره، ووارث حكمه؛ وفارج همه، وصاحب الأذن الواعية ـ ومن عنده علم الكتاب ـ فهل يمكن ان ينسى من سننه ما حفظه أبو هريرة أو يكتم منها ما بينه أبو هريرة؟ سبحانك هذا بهتان عظيم.

على انه لم يكن من المهاجرين من يصفق في الأسواق إلا القليل؛ وحسبك أبو ذر والمقداد وعمار ورفقاء أبي هريرة في الصفة وهم سبعون كانوا كما وصفهم أبو هريرة مامنهم رجل عليه رداء وإنما عليه إما ازار وإما كساء قد ربطوه في أعناقهم إلى آخر كلامه في وصفهم (1) فما بالهم لم يحدثوا بمثل احاديثه؛ ولم يكثروا كما أكثر بل لم يكن المجموع منحديثهم كافة إلاّ دون حديثه خاصة.

وكذا الأنصار لم يكونوا باجمعهم من أهل الأموال والأشغال كما زعم وحسبك (ممن لا مال له منهم) سلمان الفارسي الذي قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم فيه: سلمان منا أهل البيت، وقال: ـ كما في ترجمة سلمان من الاستيعاب ـ لو كان الدين عند الثريا لناله سلمان؛ وقالت عائشة ـ كما في ترجمته من الاستيعاب ايضا ـ كان لسلمان مجلس من رسول الله ينفرد به في الليل حتى كاد يغلبنا على رسول الله صلى الله عليه واله وسلم وفي الاستيعاب ايضاً قال علي: ان سلمان الفارسي مثل لقمان الحكيم علم

____________

(1) فراجعه في احواله على عهد النبي صلى الله عليه واله وسلم من هذا الاملاء.

الصفحة 196
علم الاؤل والآخر بحر علم لا ينزف، وقال كعب الاحبار ـ كما في الاستيعاب وغيره ـ: سلمان حشي علماً وحكمة إلى آخر ما هو مأثور عنه من امثال هذه الخصائص، وقد علم الناس ان أبا أيوب الأنصاري لم يكن له من العيش إلا بلغه لا تشغله عن علم ولا عن عمل، وكذلك ابو سعيد الخدري وأبو فضالة الأنصاري وغيرهم من نظرائهم من علماء الأنصار وعظمائهم رضي الله تعالى عنهم.

على ان سيد الحكماء وخاتم الأنبياء صلى الله عليه واله وسلم لم تكن اوقاته فوضى وإنما كانت في الليل والنهار مرتبة للمهمات على ما تقتضيه الحكمة في تلك الأوقات، وقد خصص منها لا لقاء العلم وقتاً لا يعارض اوقات الصفق في الأسواق ولا اوقات العمل في الأموال، وكان المهاجرون والانصار لايغيبون في ذلك الوقت ابداً وهم احرص على العلم مما يخرفه المخرفون.

(الثاني): لو صح ما زعمه ابو هريرة (من قول النبي صلى الله عليه واله وسلم لأصحابه: لن يبسط أحد منكم ثوبه أقضي مقالتي هذه ثم يجمعه إلى صدره فينسى من مقالتي شيئاً أبداً) لتسابقوا اليه، واجتمعوا بقضهم وقضيضهم عليه، فانه الفضل لا يبلغه الطالب بشد الرجال، والعلم لا يناله ببذل الاموال، وما الذي ثبطهم عن نيله؟ ومنعهم عن بسط اثوابهم في سبيله؟ وكيف زهدوا في هذه الغنيمة وضيعوا على انفسهم تلك الفوائد العظيمة؟ أترى انهم كانوا بهذه المثابة من الزهد في العلم والرغبة عما يدعوهم الرسول اليه؟ كلا! ما هكذا الظن بهم ولا هذا بمشبه لما كانوا عليه من التعبد بأوامره؛ والمبادرة الى ما يدعوهم اليه.

(الثالث): لو صح ما زعمه أبو هريرة لعظم ندم الصحابة، واسفهم على ما ضيعوه من ذلك الفضل الكبير، والعلم الغزير، ولتواتر لهفهم على ما اهملوه من بسط اثوابهم لرسول الله حين انه لا كلفة فيه ولامشقة عليهم، ولندّد بعضهم ببعض، وتلاوموا على تركهم ذلك بسوء اختيارهم ولتواترت منهم

الصفحة 197
الغبطة لأبي هريرة بالفوز به دونهم على حين انه لم يكن إلا ثوب واحد وما منهم من احد إلا وعليه ثوبان او اكثر فلما لم يكن شئ من ذلك علمنا ان هذا من كيس أبي هريرة.

(الرابع): لو كان الأمر كما قصه أبو هريرة لحدث به غيره ممن دعاهم النبي صلى الله عليه واله وسلم يومئذ الى بسط اثوابهم، بل لو كان لعده الصحابة والتابعون من اعلام النبوة، وآيات الاسلام وادلة الدين؛ ولتواترت به الأخبار، واشتهر اشتهار الشمس في رائعة النهار، فلما لم نجده إلا في حديث أبي هريرة عطفناه على واهياته.

(الخامس): انه قد تناقض كلام أبي هريرة في هذه القصة، فتارة حدث بها كما سمعت إذ قال ـ فيما رواه الاعرج عنه ـ (1): أن النبي صلى الله عليه واله وسلم قال يوماً لأصحابه لن يبسط احد منكم ثوبه حتى اقضي مقالتي هذه ثم يجمعه إلى صدره فينسى من مقالتي شيئاً ابداً (قال): فبسطت نمرة ليس على ثوب غيرها حتى قضى النبي صلى الله عليه واله وسلم مقالته ثم جمعتها إلى صدري فو الذي بعثه بالحق مانسيت من مقالته تلك شيئاً الى يومي هذا أ هـ بلفظه.

وتارة حدث بها فقال ـ فيما رواه عنه المقبري ـ (2): قلت يا رسول الله

____________

(1) الأعرج هو عبد الرحمن بن هرمز وحديثه هذا عن أبي هريرة موجود في آخر المزارعة: 2/34 من صحيح البخاري، وموجود في فضائل أبي هريرة: 2/357 من صحيح مسلم واخرج البخاري نحوه في اول البيوع في: 2/1 من صحيحه بالاسناد إلى سعيد بن المسيب وأبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة ولفظه: ان رسول الله قال في حديث حدثه انه: لن يبسط احد ثوبه حتى اقضي مقالتي هذه ثم يجمع اليه ثوبه الا وعى ما اقول فبسطت نمرة علي حتى قضى مقالته جمعتها الى صدري فما نسيت من مقالته تلك من شئ.

(2) هو سعيد بن ابي سعيد وحديثه هذا عن ابي هريرة موجود في: 1/24 من صحيح البخاري في باب: حفظ العلم من كتاب العلم.

الصفحة 198
اني اسمع منك حديثاً انساه قال صلى الله عليه واله وسلم: ابسط رداءك فغرف بيديه (1) ثم قال ضمه!! فضممته فما نسيت شيئاً بعده أ هـ بنصه.

وانت ترى أن القصة على مقتضى الحديث الاول ـ حديث الاعرج ـ انها كانت بين رسول الله صلى الله عليه واله وسلم واصحابه والمبتدئ فيها إنما كان رسول الله إذ دعاهم إلى بسط اثوابهم اشفاقاً عليهم من النسيان وانها على مقتضى الحديث الثاني ـ حديث المقبري ـ انما كانت بين أبي هريرة خاصة ورسول الله والمبتدئ فيها إنما هو أبو هريرة حيث شكا نسيانه إلى رسول الله صلى الله عليه واله وسلم.

وأيضاً فان الحديث الاول ـ حديث الاعرج ـ يقتضي تخصيص عدم النسيان بتلك المقالة فقط (2) لقوله فيه: مانسيت من مقالته تلك شيئاً والحديث الثاني ـ حديث المقبري ـ يقتضي العموم في عدم النسيان لكل شئ من الاشياء حديثاً كان ام غير مطلقاً لقوله فيه مانسيت شيئاً بعده، فان النكرة في سياق النفي حقيقة في العموم، وقد ارتبك هنا شارحوا البخاري وارتجت عليهم أبواب الاعتذار عنه حتى قرر ابن حجر في فتح الباري وقوع هذه القضية مرتين (3)

____________

(1) قال القسطلاني في شرح هذه الكلمة: فغرف بيديه من فيض فضل الله فجعل الحفظ كالشئ الذي يغرف منه ورمي به في ردائه إلى آخر كلامه فراجعه في: 1/379 من ارشاد الساري في شرح هذا الحديث من صحيح البخاري.

(2) وقع في جامع الترمذي وحلية أبي نعيم التصريح بهذه المقالة وانها كانت ما هذا لفظه: ما من رجل يسمع كلمة او كلمتين مما فرض الله تعالى عليه فيتعلمهن او يعلمهن الا دخل الجنة. ‌

(3) قال القسطلاني في شرح هذه الاحاديث في باب حفظ العلم من كتاب العلم: 1/380 من ارشاد الساري ما هذا لفظه: ويحتمل أن يكون وقعت له ـ أي لأبي هريرة مع النبي ـ قضيتان فالتي رواها الزهري عن الاعرج مختصة بتلك المقالة، والتي رواها المقبري عامة قال: هكذا قرره في فتح الباري، قال: وهذا من المعجزات الظاهرات حيث رفع صلى الله عليه واله وسلم عن أبي هريرة النسيان الذي هو من لوازم الانسان حتى قيل أنه مشتق منه، وحصول هذا في بسط الرداء الذي ليس للعقل فيه مجال.

الصفحة 199
مرة كان عدم النسيان فيها مختصاً بتلك المقالة، وأخرى كان عدم النسيان فيها عاماً لكل شئ من الأشياء سواءأ كان حديثاً أم كان غيره مطلقاً وهذا كما ترى (1)..

على ان مسلماً اخرجه (2) من طريق يونس عن ابن المسيب على وجه ثالث إذ قال فيه أبو هريرة: فما نسيت بعد ذلك اليوم شيئاً حدثني به صلى الله عليه واله وسلم وهذا يقتضي كون عدم النسيان اعم مما اقتضاه حديث الاعرج وأخص مما اقتضاه حديث المقبري (3).

ونحوه حديث ابن سعد (4) بسنده الى عمرو بن مرداس بن عبد الرحمن الجندي عن أبي هريرة قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه واله وسلم ابسط ثوبك فبسطته فحدثني النهار ثم ضممت ثوبي إلى بطني فما نسيت شيئاً مما حدثني أهـ لكن قوله فيه: فحدّثني النهار، لا يوجد في هذا الحديث إلا من هذا الطريق طريق الجندي

____________

(1) فان مثل هذا لو صدر مرة واحدة فضلا عن مرتين او أكثر لتواتر الخبر به فاستطار استطارة البرق فما بال الصحابة اغفلوه فلم يروه منهم احد غير ابي هريرة؟

(2) في: 2/358 من صحيحه في فضائل ابي هريرة.

(3) اما كونه أعم من حديث الاعرج فواضح لاختصاص عدم النسيان في حديث الاعرج بتلك المقالة فقط، اما كونه اخص مما اقتضاه حديث المقبري فلأن حديث المقبري يقتضي تعميم عدم النسيان لكل شئ من حديث وغيره، وهذا الحديث ـ اعني حديث يونس عن الزهري عند مسلم ـ يقتصي تخصيص عدم النسيان يجميع الاحاديث التي سمعها من النبي دون غيرها من سائر الاشياء، وقد نص القسطلاني في: 1/380 من ارشاد الساري على أنّ مسلماً رواه على وجه ثالث فراجع.

(4) في: ص56 من القسم الثاني من الجزء الرابع من طبقاته ترجم ابا هريرة.

الصفحة 200
فقط وبه كان مخالفاً لكل ما جاء في هذا الموضوع من سائر الطرق إلى أبي هريرة.

وقد أخرجه أبو يعلى من طريق أبي سلمة على وجه يخالف سائر الوجوه في سائر الطرق، إذ روى ان أبا هريرة جاء يعود النبي في شكواه فسلم عليه وهو قائم والنبي صلى الله عليه واله وسلم متساند الى صدر علي ويد علي على صدر النبي يضمه اليه والنبي باسط رجليه فقال صلى الله عليه واله وسلم: أدن يا ابا هريرة فدنا، ثم قال: أدن يا أبا هريرة فدنا، ثم قال أدن يا أبا هريرة فدنا حتى مست اصابع أبي هريرة اصابع النبي صلى الله عليه واله وسلم ثم قال له اجلس فجلس فقال له: ادن مني طرف ثوبك فمد أبو هريرة ثوبه ففتحه وادماه من النبي صلى الله عليه واله وسلم فقال له النبي اُوصيك يا ابا هريرة بخصال لا تدعهن ما بقيت، قال أوصني ما شئت فقال له: عليك بالغسل يوم الجمعة والبكور اليها ولا تلغ ولا تله وأوصيك بصيام ثلاثة ايام من كل شهر فانه صوم الدهر واوصيك بركعتي الفجر لا تدعهما وان صليت الليل كله فان فيهما الرغائب قالها ثلاثاً ثم ضم اليك ثوبك فضم ثوبه الى صدره الحديث (1)...

وأخرج أبو يعلي ـ كما في ترجمة أبي هريرة من الاصابة ـ من طريق الوليد ابن جميع عن أبي هريرة قال: شكوت الى رسول الله صلى الله عليه واله وسلم سوء الحفظ فقال: افتح كساءك ففتحه ثم قال: ضمه الى صدرك فضممته فما نسيت حديثاً بعد.

أخرج أبو يعلي ـ كما في الاصابة ايضاً ـ من طريق يونس بن عبيد عن الحسن البصري عن أبي هريرة ان رسول الله صلى الله عليه واله وسلم قال: من يأخذ مني كلمة أو كلمتين أو ثلاثاً فيصرّهنّ في ثوبه فيتعلمنّ ويعلمهن فيتعلمهن قال: فنشرت ثوبي بين يديه وهو يحدث ثم ضممته فأرجو ان لا أكون نسيت حديثاً مما قاله أ هـ.

(قلت): وأخرج أحمد ـ كما في الاصابة ايضا ـ من طريق المبارك بن

____________

(1) هذا الحديث وسائر الاحاديث التي بعده موجودة بأسرها في ترجمة ابي هريرة من الاصابة فراجع.

الصفحة 201
فضالة عن الحسن نحوه.

وأخرج أبو نعيم (1) من طريق عبدالله بن أبي يحيى عن سعيد بن أبي هند عن أبي هريرة ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال يا ابا هريرة: ألا تسألني عن هذه الغنائم التي يسألني أصحابك؟ فقلت أسألك أن تعلمني مما علمك الله، قال: فنزعت نمرة على ظهري فبسطتها بيني وبينه حتى كأني انظر الى القمل يدب عليها فحدثني حتى استوعبت حديثه قال: اجمعها فصرها اليك فاصبحت لا اسقط حرفا مما حدثني اهـ.

ومن ألم بهذا الحديث مع جميع الطرق وجده مختلف الالفاظ والمعاني باختلاف طرقه لا تتجارى معانيه ولا ألفاظه إلى غاية، ولا تتساير في حلبة يصدم كل منها الآخر فاذا هو زاهق والحمد لله رب العالمين.

«السادس»: انه قال: فبسطت نمرة ليس عليّ ثوب غيرها، فيقتضي على الظاهر ان تبدوا سوأته، لكن القسطلاني وزكريا الانصاري تأولا كلامه إذ بلغا اليه في آخر المزارعة من شرحيهما فجعلاه على أنه بسط بعض النمرة لئلا تنكشف عورته.

(السابع): ان هذه الحكاية في ذاتها تشبه قصص المخرفين، ولا تكاد تمتاز عن خلط الدجالين، وحاشا لله ان تمتزج بمعجزات الرسول أو يصدق بنسبتها اليه أصحاب العقول فان معجزاته صلى الله عليه وآله وسلم بهرت الى النهى بانوار حقيقتها وقهرت جبابرة الارض بحسن اسلوبها واعتدال طريقتها فظلت اعناقهم لها خاضعين.

ضرب بيده صلى الله عليه وآله وسلم على صدر علي لما بعثه قاضياً الى اليمن فقال (2) أللهم

____________

(1) في ص281 في ترجمة ابي هريرة من حلية الاولياء فراجع.

(2) كما في ترجمة علي من الاستيعاب وغيره، وأخرجه أصحاب المسانيد بطرقهم وأسانيدهم.

الصفحة 202
اهد قلبه وسدد لسانه قال علي عليه السلام: فوالله، ما شككت بعدها في قضاء بين اثنين.

ولما أنزل الله عز سلطانه (وتعيها اذن واعية) قال صلى الله عليه وآله وسلم (1) مخاطباً لعلي: سألت الله ان يجعلها اذنك، قال علي: فما نسيت شيئاً بعدها وما كان لي أن أنسى.

وقال صلى الله عليه وآله وسلم يوم خيبر حين اخذ الراية علي عليه السلام: أللهم اكفه الحر والبرد قال علي (2) فما آذاني بعدها حر ولا برد، وكان بعد ذلك يخرج في الشتاء في ازار ورداء وثوبين خفيفين، وفي الصيف يخرج في القباء المحشو والثوب الثقيل اظهاراً لمعجزة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والفاتا اليها على الدوام.

ولما شكا جابراليه صلى الله عليه وآله وسلم ديناً كان على أبيه انطلق معه الى بيدر تمره فمشى حوله ودعا بالبركة فيه ثم جلس عليه وحضر الغرماء فأوفاهم الذي لهم وبقى لجابر وذويه مثل ما كانوا يستغلون، وهكذا كان صلى الله عليه وآله وسلم اذا اراد بأحد خيراً دعا له، وإذا أراد به غير ذلك دعا عليه كما فعل بمعاوية إذ قال صلى الله عليه وآله وسلم: لا اشبع الله له بطناً، وكما فعل مع الحكم بن أبي العاص وما عهدناه صلى الله عليه وآله وسلم يفعل شيئاً يشبه الذي حكاه أبو هريرة حاشا حكمته التي تستصبح بها البصائر الضالة، وتنكشف بها معالم الهدى، فتحل عقد الاشكال وتمزق ظلمات الغي والضلال.

____________

(1) هذا مذكور في كشاف الزمخشري، وفي تفسير الثعلبي، والرازي وغيرهما فراجع.

(2) اخرجه احمد بن حنبل في مسنده، وابن ابي شيبة البزار وابن جرير، وصححه كما في صفحة 44 من الجزء الخامس من منتخب كنز العمال المطبوع في هامش مسند أحمد.

الصفحة 203

ـ 16 ـ
نظرة في فضائله

تتبعنا الأسانيد فيما يرسله الناس في فضائل أبي هريرة، فلم نجد لها مصدراً في الأغلب سواه، واليك مثلا يلمسك هذه الحقيقة:

قال صاحب الاستيعاب في أحواله: أسلم أبو هريرة عام خيبر، وشهدها مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم لزمه وواظب عليه رغبة في العلم، راضياً بشبع بطنه، فكانت يده في يد رسول الله، وكان يدور معه حيث دار، وكان من أحفظ أصحاب رسول الله، كان يحضر ما لا يحضر سائر المهاجرين والأنصار لاشتغال المهاجرين بالتجارة، والأنصار بحوائطهم، وقد شهد له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأنه حريص على العلم والحديث، وقال له يا رسول الله أنى سمعت منك حديثاً كثيراً وأنا أخشى ان أنسى؛ فقال صلى الله عليه وآله وسلم ابسط رداءك؛ قال: فبسطته فغرف فيه! ثم قال: ضمه فضممته فما نسيت شيئاً بعد! اهـ.

(قلت): هذه الفضائل ونحوها ليست إلا مضامين أحاديث كان أبو هريرة يحدث بها عن نفسه، ولم نجد لها مستنداً سواه، وهكذا سائر خصائصه انما أخذت عنه كما يعلمه المتتبعون.

ولنوضح هذه الجملة فنقول: أما اسلامه عام خيبر فمسلم، لثبوته من حديث غيره.

وأما كونه شهدها مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلم يرو إلا عنه، وأهل العلم يتأولون دعواه الحضور كما أوضحناه سابقاً. وأما لزومه لرسول الله ومواظبته عليه، رغبة في العلم؛ ورضا بشبع بطنه وان يده كانت في يده يدور معه حيث دار، فأمور كان أبو هريرة يدعيها،

الصفحة 204
فالعهدة فيها عليه،إذ قال (1): قدمت المدينة ورسول الله بخيبر وأنا يومئذ قد زدت على الثلاثين، فأقمت معه حتى مات، وأدور معه في بيوت نسائه! (2) وأخدمه وأغزو معه واحج؟؟ (3) وكنت أعلم الناس بحديثه؟؟ وقدوا لله سبقني قوم بصحبته فكانوا يعرفون لزومي له فيسألونني عن حديثه: منهم عمر؛ وعثمان؛ وعلي؛ وطلحة؛ والزبير؛ الى آخر كلامه؛ (قلت): لعل أولى الالباب يعجبون من جرأة أبي هريرة على التحديث بمثل هذا، لمخالفته الواقع، وبعده عن الصدق، لكن من عرف الحقيقة علم انه ما كان ليحدث به على عهد الشيوخ والعلماء والعظماء منهم، وانما اجترأ على التحديث به وبأمثاله بعد موت اكثر الصحابة وفتح الشام والعراق ومصر وافريقيا وفارس وغيرها من الأمصار، حيث قلت الصحابة وكثر مسلموا الفتوحات الذين لا إلمام لهم بشيء مما كان على عهد النبوة فكأنه حينئذ وسائر الكذابة وجدوا انفسهم في عالم آخر لا يعرف شيئاً مما كان في الصدر الأول، ورأوا عالمهم الجديد يصدقهم ويتعبد بما سمعه منهم لكونهم في نظره من البقية الباقية من اصحاب رسول الله الأمناء على سننه والموكول اليهم تبليغها، وكانت السلطة الاموية بذلت في تأييدهم جهدها فتسنى لهم بهذه الاسباب كلها ان يحدثوا بما حدثوا به من الواهيات والمنكرات، وبما لا يجوز شرعا، وبما لا يمكن عقلا، وبكل سخافة وبكل باطل حسبما اقتضته اغراضهم أو أوجبته دعاية الظالمين الذين اتخذوا دين الله

____________

(1) فما اخرجه ابن سعد بالاسناد الى ابي هريرة كما في ترجمته من الاصابة.

(2) ان من عرف النبي صلى الله عليه وآله وسلم وانفته من دخول الرجال على نسائه لا يمكن ان يصدق بها ابداً.

(3) قوله: واحج، ظاهر في استمراره على الحج معه صلى الله عليه وآله وسلم مرة بعد أخرى وهذا عار عن الحقيقة فان رسول الله ما حج بعد الهجرة سوى حجة الوداع ولو قال وحججت معه لكان يمكن الوقوع.

الصفحة 205
دغلاح وعباد الله خولا، وما الله دولا؛ وكانت هذه الكذابة قد اتصلت بأسباب أولئك الغاشمين فتوسلت اليهم بالطامات فأرضعوها اخلاف برهم، واولوها فوق ذلك انهم انفقوا في تأييدها قواهم الجبارة إذ كانت (ولا سيما على عهد معاوية) اداة من ادواتهم بل كانت لسان دعايتهم، وعين تجسسهم (فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله).

وأني وايم الله لا ينقضي عجبي من البخاري ومسلم وأحمد وأمثالهم ممن يرجعون الى عقل اصيل ورأى جميع ثم ينقادون انقياد الاكمه الابله الى ما يشاء أبو هريرة وأمثاله؛ فهل في امكانهم ان يعلموا متى سأله علي وعمر وعثمان وطلحة والزبير وغيرهم من أهل السوابق؛ وهل كان سؤالهم إياه في اليقظة أو في النوم أو في عالم الخيال؟ وأي حديث سألوه عنه؟ ومن روى هذا عنهم غير أبي هريرة؟ وأي رجل من أهل المعاجم والتراجم أو من غيرهم عد واحداً من هؤلاء في زمرة من روى عن أبي هريرة؟ ولو حديثاً واحداً (1) ومتى كان هؤلاء يأبهون بحديثه؟ فانا ما عهدناه يحدث في مجالسهم وما كان ليجرأ على الحديث بحضورهم؛ وكانوا يرذلونه ويكذبونه كما سمعته مفصلا. ولنرجع الآن الى ما ذكره ابن عبدالبر في ترجمة أبي هريرة فيقول:

وأما قوله: وكان من احفظ اصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فانه مأخوذ من قول أبي هريرة في الحديث السابق وكنت اعلم الناس بحديثه.

وأما قوله: كان يحضر ما لا يحضر سائر المهاجرين والأنصار، فانه مأخوذ من حديثه الذي ذكره فيه بسط النمرة، وقد بيناه سابقاص وعلقنا عليه ما نفلت كل بحاثة اليه.

____________

(1) قد احصى الحاكم في ترجمة أبي هريرة من روى عن من الصحابة فكانوا ثمانية وعشرين رجلاً ليس فيهم علي ولا عمر ولا عثمان ولا طلحة ولا الزبير أما غيرهم من الصحابة فانما رووا عنه أموراً تتعلق بالجنة والنار او بالاخلاق والحض على العلم دون للأحكام التكليفية.

الصفحة 206

وأما قوله: بأنه قد شهد له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأنه حريص على العلم والحديث فانما هو مأخوذ من قول أبي هريرة: قلت: يا رسول الله من أسعد الناس بشفاعتك؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: لقد ظننت ان لا يسألني عن هذا الحديث احد اولى منك لما رأيت من حرصك على الحديث (1).

ومن خصائصه التي تداولتها اقلام مترجميه المزود الذي اكل منه اكثر من مائتي وسق تمراً! وغلامه الآبق الذي اعتقه لوجه الله! وحفظه وعاءين من العلم بث احدهما وكتم الآخر؟ ودعاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم له ولأمه! ومشيه على وجه الماء حتى عبر خليجاً من البحر فما ابتل!! له قدم الى غير ذلك من المضحكات المبكيات في آن واحد فانا لله وإنا اليه راجعون.

ـ 17 ـ
نوادره

أخرج الامام أحمد بن حديث أبي هريرة (2) عن محمد بن زياد قال: كان مروان ـ أيام ولايته على المدينة في خلافة معاوية ـ يستخلف أبا هريرة على المدينة فيضرب برجليه فيقول: خلوا الطريق خلوا الطريق قد جاء الأمير قد جاء الامير ـ يعني نفسه.

وأخرج ابن قتيبة الدينوري في ترجمة أبي هريرة من معارفه (3) عن

____________

(1) أخرجه البخاري في الصحيح من طريق سعيد المقبري عن ابي هريرة ونقله ابن حجر في ترجمة ابي هريرة من الاصابة وكان ابو هريرة يقول (كما في ترجمته من الاصابة) صحبت رسول الله ثلاث سنين لم يكن احد احرص على ان يعي الحديث عنه مني.

(2) ص43 من الجزء الثاني من مسنده.

(3) في ص94 منها.

الصفحة 207
أبي رافع قال: كان مروان يستحلف أبا هريرة على المدينة فيركب حماراً قد شدّ عليه برذعة وفي رأسه خلبة من ليف فيسير فيلقى الرجال فيقول: الطريق! قد جاء الأمير! (قال): وربما أتى الصبيان وهم يلعبون بالليل لعبة الغراب فلا يشعرون بشيء حتى يلقى نفسه بينهم، ويضرب برجليه الحديث (1).

واخرج ابو نعيم (2) بسنده الى ثعلبة بن أبي مالك القرظي قال: اقبل أبو هريرة في السوق يحمل حزمة حطب وهو يومئذ خليفة لمروان فقال: اوسع الطريق للأمير يا ابن أبي مالك؛ فقلت له: يكفي هذا. فقال: اوسع الطريق للأمير والحزمة عليه؟ اهـ.

وأخرج ابو نعيم ايضاً (3) من طريق احمد بن حنبل عن عثمان الشحام عن فرقد السبخي، قال: كان أبو هريرة يطوف بالبيت (اعزه الله تعالى) وهو يقول: ويل لي بطني إذا اشبعته كظني، وان أجعته سبني.

وعن ربيع الأبرار للزمخشري قال: كان ابو هريرة يقول: اللهم ارزقني ضرساً طحوناً ومعدة هضوماً (4) ودبراً نثوراً.

وعن ربيع الابرار أيضاً (5) قال: وكان يعجبه ـ يعني أبا هريرة ـ المضيرة جداً فيأكلها مع معاوية وإذا حضرت الصلاة صلى خلف علي فاذا قيل له قال: مضيرة معاية ادسم والصلاة خلف علي افضل، فكان يقال له شيخ

____________

(1) واخرجه ايضاً ابن سعد باسانيد متعددة في ترجمة أبي هريرة آخر ص60 من القسم الثاني من الجزء الرابع من الطبقات.

(2) في أحوال ابي هريرة صفحة 382 من الجزء الاول من حلية الأولياء.

(3) في احوال أبي هريرة من كتابه حلية الأولياء ص382 من جزئه الأول.

(4) بزنة فعول، يستوى فيها المؤنث والمذكر كرغوث، نقله عن ربيع الابرار جماعة من الاثبات كالشيخ القمي في أحوال ابي هريرة من كتاب الكنى والألقاب.

(5) كما في احوال أبي هريرة من الكنى والالقاب للمعاصر القمي.

الصفحة 208

وعن أبي عثمان النهدي ان ابا هريرة كان في سفر فلما نزلوا وضعوا السفرة وبعثوا اليه وهو يصلي، فقال: اني صائم فلما كادوا يفرغون جاء فجعل يأكل الطعام فنظر القوم الى رسولهم فقال: ما تنظرون؟ قد والله أخبرني أنه صائم: فقال ابو هريرة صدق اني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: صوم رمضان وصوم ثلاثة ايام من كل شهر صوم الدهر وقد صمت ثلاثة أيام من أول الشهر فانا مفطر في تخفيف الله صائم في تضعيف الله، اخرجه ابو نعيم (2).

واخرج البخاري (3) عن محمد بن سيرين قال: كنا عند أبي هريرة وعليه ثوبان ممشقان من كتان فتمخط بهما فقال: بخ بخ أبو هريرة يتمخط في الكتان لقد رأيتني وأنى لأخر فيما بين منبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى حجرة عائشة مغشياً علي فيجيء الجائي فيضع رجله على عنقي ويرى أني مجنون وما بي من جنون ما بي الا الجوع.

ومن نوادره انه كان يلعب السدر قال ابن الأثير في مادة السدر من نهايته

____________

(1) المضيرة هي مريقة تطبخ باللبن المضير أي الحامض، ويظهر من هذه الحاكية وغيرها انه كان ممن حضر وقعة صفين، وانه كان يصانع الفئتين شأن المتلون ذي الوجهين واللسانين يريد بهذا ان لا يقطع على نفسه خط الرجعة الى الفئة المنتصرة وقد رأينا بين سوريا والعراق على مقربة من صفين مقاما مشاداً يدعى مقام ابي هريرة وحدثني غير واحد ان ابا هريرة كان في بعض ايام صفين يصلي في جماعة علي ويأكل في جماعة معاوية فاذا حمى الوطيس لحق الجبل فاذا سئل قال: علي اعلم ومعاوية ادسم والجبل اسلم.

(2) في اواخر ترجمة أبي هريرة ص385 من الجزء الاول من الحلية.

(3) ص157 من الجزء الرابع من صحيحه في اواخر كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، واخرجه ابو نعيم في ص379 من الجزء الاول من حليته.

الصفحة 209
ما هذا لفظه: وفي حديث بعضهم قال: رأيت أبا هريرة يلعب السدر، ثم قال: السدر لعبة يقامر بها ـ وتكسر سينها وتضم وهي فارسية معربة عن ثلاثة أبواب (1) أهـ.

وفي هذه المادة من لسان العرب عين ما في النهاية وزاد عليه فقال ومنه حديث يحيى بن أبي كثير: السدر هي الشيطانة الصغرى (قال) يعني انها من أمر الشيطان انتهى بلفظه (2).

وذكر الدميري في مادة عقرب من حياة الحيوان لعب الشطرنج فقال: وروى الصعلوكي تجويزه عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وأبي البسر وأبي هريرة ثم قال: والمروي عن أبي هريرة من اللعب به مشهور في كتب الفقه، قال: وروى الآجري عن أبي هريرة انه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا مررتم بهؤلاء الذين يلعبون بالازلام الشطرنج والنرد فلا تسلموا عليهم (3).

____________

(1) قوله: معربة عن ثلاثة ابواب، أي ان اصلها في لغة الفرس «سه در» ومعناه عندهم ثلاثة أبواب، فاستعملها العرب وتصرفوا فيها فقالوا: سدرة.

(2) فراجعه في ص30 ج6 مادة س در.

(3) لكن الدميري ضعف اسناد هذا الحديث وكذب الصولي فيما نقله عن الامام زين العابدين من القول باباحة الشطرنج فان ائمة اهل البيت كافة يحرمونه وكذلك مالك واحمد وابو حنيفة.

الصفحة 210

ـ 18 ـ
وفاته وعقبه

كانت وفاته في قصره بالعقيق (1) فحمل الى المدينة فكان ولد عثمان بن عفان يحملون سريره حتى بلغوا به البقيع حفظاً بما كان من رأيه في ابيهم (2) وصلى عليه الوليد بن عتبة بن أبي سفيان وكان يومئذ أميراًعلى المدينة وكان مروان معزولاً (3) وانما صلى عليه الوليد تكريماً له تقدم للصلاة عليه بعد ان صلى بالناس فريضة العصر وفي القوم ابن عمر وابو سعيد الخدري واضرابهما (4).

وكتب الوليد إلى عمه معاوية ينعى اليه أبا هريرة فكتب اليه معاوية (5) انظر من ترك وادفع إلى ورثته عشرة آلاف درهم واحسن جوارهم وافعل اليهم معروفاً فانه ممن نصر عثمان وكان معه في الدار.

____________

(1) نص على ذلك ابن حجر في ترجمة ابي هريرة من الاصابة ونقل موته بالعقيق ابن عبدالبر اذ ترجمه في الاستيعاب، واخرجه الحاكم في ترجمته من المستدرك وأرسله أهل الاخبار.

(2) اخرج ذلك ابن سعد في ص63 من القسم الثاني من الجزء الرابع من الطبقات في ترجمة أبي هريرة ورواه أهل الأخبار.

(3) نص على ذلك اصحاب الاستيعاب والاصابة والطبقات والمستدرك في ترجمة ابي هريرة.

(4) نص على ذلك كل من ذكرناهم ممن ترجموا ابا هريرة.

(5) كما في ترجمة أبي هريرة من مستدرك الحاكم وطبقات ابن سعد واصابة ابن حجر وغيرها من كتب الاخبار.

الصفحة 211

وكانت وفاته سنة سبع وخمسين، وقيل سنة ثمان وخمسين، وقيل سنة تسع وخمسين وهو ابن ثمان وسبعين سنة.

أما عقبة فانما نعرف منه ولده المحرر ابن ابي هريرة وبنته التي كان يقول لها: قولي أبى أبى أن يحليني الذهب يخشى على حر اللهب، ونعرف لمحرر ولداً اسمه نعيم وهو الذي روى عن جده أبي هريرة انه كان له خيط فيه الفا عقدة فلا ينام حتى يسبح به (1).

وروى عنه ايضاً: ان رجلا سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم بما تأمروني ان اتجر قال صلى الله عليه وآله وسلم: عليك بالبز فان صاحب البز يعجبه ان يكون الناس بخير وفي جدة.

اما المحرر فقد ترجمه ابن سعد في طبقاته (2) وذكر سلسلة نسبه المتصلة بدوس، وانه توفى في خلافة عمر بن عبدالعزيز، وأنه كان قليل الرواية (3).

____________

(1) وقد جاء في ص380 من الجزء الأول من حلية الأولياء ذكر بنت أبي هريرة التي كان لا يلبسها الذهب وفي ص383 ذكر نعيم بن المحرر بن أبي هريرة الذي روى عن جده التسبيح بالخيط.

(2) ص 188 من جزئها الخامس.

(3) ان لأبي هريرة في إمارة الحج سنة تسع للهجرة حديثين متناقضين يروي عن أحدهما ولده المحرر والثاني يرويه حميد والحديثان في الصحاح وقد اوردناهما فيما سبق من الأصل وبسطنا القول فيهما فراجع الحديث 18 من الفصل 11.

الصفحة 212

خاتمة الكتاب

ولنختم إملاءنا هذا بكلمتين لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تتعلقان بابي هريرة ضربهما النبي صلى الله عليه وآله وسلم على غرار فذ من أغرته الحكيمة في التدليل على زيغ الزائغين والتحذير منهم.

الكلمة الأولى يشترك فيها أبو هريرة والرحال بن عنفوه والفرات ابن حبان؛ وذلك أنهم خرجوا ذات يوم من مجلسه الشريف، فقال صلى الله عليه وآله وسلم مشيراً اليهم (1): لضرس احدكم في النار أعظم من أحد، وان معه لقفا غادر أهـ.

فكان ابو هريرة والفرات يقولان بعدها (2) فما أمنا بعد هذا حتى ارتد الرحال وقتل مع مسيلمة الكذاب.

(قلت): كأنهما كانا يحاولان تأويل الحديث فيجعلان المراد منه واحداً منهم بعينه وهو الرحال بقرينة التحاقه بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمسيلمة وقتله مرتداً.

وهذا تضليل عن الحقيقة المتبادرة من الحديث عند اطلاقه، فانه على حد قوله تعالى: (يود احدكم ان تكون له جنة) (يود أحدهم لو يعمر الف سنة) (وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلا) (واذا بشر أحدهم بالانثى ظل وجهه مسوداً وهو كظيم) الى كثير من امثال ذلك في الكتاب والسنة، وكلام

____________

(1) فيما أخرجه سيف بن عمر في الفتوح من طريق احمد بن فرات بن حيان ونقله في ترجمة فرات صاحبا الاستيعاب والاصابة وغير واحد.

(2) فيما نقله عنهما صاحبا الاستيعاب والاصابة في ترجمة الفرات ورواه غير واحد من حفظة الآثار.

الصفحة 213
العرب تقول في المدح: كف احدهم تمطر ذهباً؛ وقلب احدهم يفيض حناناً، وفي الذم: وجه أحدهم عنوان الوقاحة؛ وقلب أحدهم أقسى من الصلد، فلا ترتد واحداً منهم بعينه وانما تريد الجميع؛ وهذا هو المراد من الحديث وهو المتبادر منه إلى الأذهان.

ولو أراد صلى الله عليه وآله وسلم واحداً منهم بعينه لأبانه بقرينة تعينه. فان تأخير البيان في مثل هذا المقام مما لا يجوز على الأنبياء لقبحه عقلاٍ بسبب استلزامه ظلم البريئين منهم، لأنه متى علم ان أحدهم من أهل النار وانه غدار؛ ولم يعرف بعينه تفصيلاً سقط الثلاثة عن درجة الاعتبار، إذ لا يركن بعدها اليهم، ولا يعتمد عليهم، ولا يؤبه بما يقولون في اصول أو فروع ولا يحتج بحديثهم، ولا تقبل لهم شهادة في مرافعة او غيرها، ولا يولون امراً من أمور المسلمين، ولا يوكل اليهم شأن تشترط الوثاقة فيمن يوكل اليه؛ فيحرمون بأجمعهم من الحقوق المدنية في الاسلام، ويجب علىالامة اجتنابهم في كل شيء تشترط فيه العدالة نزولاً على حكم القاعدة العقلية في الشبهة المحصورة مع العلم الاجمالي كما هو مقرر في محله من الأصول.

وحسبك بهذا سقوطاً لكل من الثلاثة على السواء.

وإذا كان احدهم بعينه هو الجهنمي الغادر المستوجب للحرمان فما ذنب الآخرين؟ أيجوز على سيد الحكماء، وخاتم الأنبياء أن يسقط بريئين فيجعلهما طيلةحياتهما بحكم الغدار من أهل النار؟ ثم يلقى الله تعالى عن غير بيان حاشا لله وما الذي منعه ان يقول مشيراً اليه نفسه؛ لضرس هذا في النار أعظم من احد لو لم يكونوا جميعاً في الأمر على السواء.

(فان قلت). لعله صلى الله عليه وآله وسلم عين الرحال حينئذ بقرينة لفظية أو حالية كالايماء اليه بالخصوص مثلا ثم خفيت علينا.

(قلنا): لو كان ثمة قرينة ما خفيت على أبي هريرة وفرات، وقد

الصفحة 214
استفرغا الوسع فلم يتشبثا بشيء سوى ردّة الرحال وحينئذٍ سجدا لله شكرا وكانا بعد ذلك يقولان: فما أمنا بعد قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما قال حتى صنع الرحال ما صنع (1).

على انه لا فرق في هذه المشكلة بين عدم البيان وخفائه بعد صدوره لاتحاد النتيجة فيهما، إذ لا مندوحة لنا ـ على كلا الفرضين ـ عن العمل بما يقتضيه العلم الاجمالي في الشبهة المحصورة كما لا يخفى.

(فان قلت): إنما كان المنصوص عليه بهذا الذم مجملا قبل التحاق الرحال بمسيلمة وموته مرتداً وبمجرد صنعه ما صنع تعينأنه هو للراد دون صاحبيه، وحينئذٍ لا اجمال ولا اشكال.

(قلنا): أولا ان المتبادر من قوله صلى الله عليه وآله وسلم: لضرس احدكم في النار انما هو الجميع على حد المتبادر من قوله تعالى (واذا بشر احدهم بالانثى) واذن فلا اجمالا في المنصوص عليه بالذم هنا ولا أثر لردة الرحال للعلم بسوءحاله وحال صاحبيه منذ باؤوا بالضرس والقفا.

(وثانياً): الأنبياء عليهم السلام كما يمتنع عليهم ترك البيان مع الحاجة اليه يستحيل عليهم تأخيره عن وقت الحاجة، ولعلك تعلم أن وقت الحاجة هنا متصل بصدور هذه الكلمة في حقهم من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (لو كان لأحدهم شيء من الاعتبار) لأنهم منذ اسلموا كانوا محل الابتلاء في حديثهم وشهاداتهم والائتمام بهم، والوصاية اليهم، والتولية لهم؛ وما الى ذلك من حقوق المدنية (في الدين) فلو لا وجوب اقصائهم عنها لما ترك صلى الله عليه وآله وسلم البيان حتى لحق بالرفيق الأعلى، وما كان ليتكل في ذلك على ما صنع الرحال من الردة بعد وفاته.

(وثالثاً): ان الفرات بن حيان كان جاسوساً للمشركين، وعيناً لأبي

____________

(1) سجودهما حينئذ لله شكراً وقولهما فما أمنا ثابتان عنهما ومذكوران في ترجمة فرات من الاستيعاب والاصابة وغيرهما.

الصفحة 215
سفيان على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين، فلما أرادوا قتله بأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما في ترجمته من الاستيعاب والاصابة وغيرهما اسلم حقناً لدمه، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم (1): ان منكم من اتألفه على الاسلام منهم الفرات بن حيان، فالرجل في سوء الحال معطوف على الرحال، فكيف مع ذلك يكون صنع الرحال قرينة على تخصيصه بالجرح والقدح دون الفرات الذي ما اسلم الا حقناً لدمه؟ ودون أبي هريرة الذي تبوأ مقعده.

(الكلمة الثانية): يشترك فيها ابو هريرة وسمرة بن جندب الفزاري وابو محذورة الجمحي إذ أنذرهم صلى الله عليه وآله وسلم فقال لهم ذات يوم (2) آخركم موتاً في النار.

وهذا أسلوب حكيم من أساليبه في اقصاء المنافقين عن التصرف في شؤون الاسلام والمسلمين، فانه صلى الله عليه وآله وسلم لما كان عالماً بسوء بواطن هؤلاء الثلاثة اراد ان يشرب في قلوب أمته الريب فيهم والنفرة منهم اشفاقاً عليها ان تركن الى واحد منهم في شيء مما يناط بعدول المؤمنين وثقاتهم، فنص بالنار على واحد منهم وهو آخرهم موتاً، لكنه اجمل القول فيه على وجه جعله دائراً بين الثلاثة على السواء ثم لم يتبع هذا الاجمال بشيء من البيان وتمضي الايام والليالي على ذلك ويلحق صلى الله عليه وآله وسلم بالرفيق الأعلى ولا بيان، فيضطر أولى الألباب من أمته الى اقصائهم جميعاً عن كل امر يناط بالعدول والثقات من الحقوق المدينة

____________

(1) كما في ترجمة فرات من الاستيعاب والاصابة وغيرهما وأخرج الحاكم في كتابه الحدود ص366 من الجزء4 من المستدرك حديثاً ذكر فيه الفرات بن حيان وانه كان عيناً لأبي سفيان وحليفا له وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد أمر بقتله فمر على حلقة من الأنصار فقال: أنى مسلم، فقال بعضهم: يا رسول الله إنه يقول: انى مسلم، فقال رسول الله إن منكم رجالا نكلهم الى ايمانهم منهم الفرات بن حيان، وهذاالحديث صححه الحاكم في المستدرك والذهبي في تلخيصه.

(2) كما في ترجمة سمرة من الاستيعاب والاصابة وغيرهما.

الصفحة 216
في دين الاسلام لاقتضاء العلم الاجمالي ذلك بحكم القاعدة العقلية في الشبهات المحصورة، فلولا انهم في وجوب الاقصاء على السواء لاستحال عليه ـ وهو سيد الحكماء ـ عدم البيان في مثل هذا المقام.

فان قلت: لعله بين هذا الاجمال بقرينة خفيت علينا بتطاول المدة.

(قلنا): لو كان ثمة قرينة ما كان كل من هؤلاء في الوجل من هذا الانذار على السواء (1).

على انك قد عرفت مما سبق انه لا فرق في هذه المشكلة بين عدم البيان واختفائه بعد صدوره لاتحاد النتيجة فيهما بالنسبة الينا اذا لا مندوحة لنا عن العمل بما يقتضيه العلم الاجمالي من تنجيز التكليف في الشبهة المحصورة على كلا الفرضين كما بيناه آنفاً.

(فان قلت): انما كان المنصوص عليه بالنار مجملا قبل موت الاول والثاني منهم وبسبقهما الى الموت تبين وتعين انه انما هو الباقي بعدهما بعينه دون سابقيه، وحينئذ لا اجمال ولا اشكال.

(قلنا) اولاً علمت مما ذكرناه آنفاً ان الأنبياء عليهم السلام كما يمتنع عليهم ترك البيان مع الحاجة اليه يستحيل عليهم تأخيره عن وقت الحاجة، وعلمت أيضاً أن وقت الحاجة هنا متصل بصدور هذا الانذار لو كان لأحد الثلاثة شيء من الاعتبار، لانهم منذ اسلموا كانوا محل ابتلاء المسلمين في الحقوق المدنية الدينية كما بيناه آنفاً فلولا وجوب اقصائهم عنها لما أخر البيان اتكالا على صروف الزمان، وحاشا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يقصى أحداً عن حقه طرفة عين، ومعاذ الله ان يخزي من لا يستحق الخزي ثم يبقيه على خزيه حتى يموت مخزياً إذ لا تعرف براءته ـ بناء على هذا الفرض الفاسد ـ إلا بموته.

____________

(1) كما يعلمه متتبعوا شونهم حول هذا الوعيد.

الصفحة 217

(وثانياً):إنا ـ شهد الله ـ بذلنا الطاقة بحثاً وتنقيباً، فلم يكن في الوسع أن نعلم ايهم المتأخر موتاً لأن الأقوال في تاريخ وفياتهم بين متناقض متساقط (1) وبين مجمل متشابه لا يركن اليها كما يعلمه متتبعوها.

(وثالثاً): لم يكن من خلق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو «العزيز عليه عنت المؤمين الحريص عليهم الرؤوف بهم الرحيم لهم» أن يجابه بهذا القول ـ آخركم موتاً من النار ـ من يحترمه وما كان (وانه لعلى خُلق عظيم) ليفاجئ به (أو بقوله: لضرس احدكم في النار) غير مستحقيه، ولو أن في واحد من هؤلاء الثلاثة (أو من أولئك) خيراً ما أشركه في هذه المفاجأة القاسية والمجابهة الغليظة، لكن اضطره الوحي الى ذلك نصحاً لله تعالى وللأمة (وما ينطق عن الهوى).

على أن أحوال هؤلاء الثلاثة كلها قرائن قطعية على ما قلناه حول انذارهم هذا كما ان احوال اولئك أدلة ما قلناه فيهم.

وحسبك من أبي هريرة ما تبوأه من مقعده، ويكفيك من سمرة اسرافه الفظيع في دماء المسلمين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة (2) وبيعه الخمر

____________

(1) أما تناقضها فلأن بعضها نص بموت سمرة سنة ثمان وخمسين وموت أبي هريرة سنة تسع وخمسين وهذامنقوض بالقول بأن موت أبي هريرة كان سنة سبع وخمسين، وهكذا بقية الاقوال في موت الثلاثة وأما المجمل المتشابه منها فكالقول بموت الثلاثة كلهم في سنة تسع وخمسين من غير بيان اليوم والشهر الذي وقع فيه الموت.

(2) نحيلك في تفصيل ذلك على ص363 من المجلد الاول من شرح النهج الحميدي وما أخرجه الطبري منها في احداث سنة خمسين من تأريخه الشهير وما ذكرناه نحن منها في الفصل 8 من فصولنا المهمة.

الصفحة 218
علانية (1) ومضارته للأنصاري؛ وتمرده على ما دعاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم يومئذ اليه من الصلح وزهده في الجنة على وجه يستفاد منه عدم ايمانه (2) وشجه راس ناقة النبي (3) استخفافاً وامتهاناً إلى غير ذلك من بوائقه.

وناهيك من ابي محذورة أنه من الطلقاء وللمؤلفة قلوبهم، دخل في الاسلام بعد فتح مكة، وبعد ان قفل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من حنين منتصراً على هوازن، ولم يكن شيء اكره إلى أبي محذورة يومئذ من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولا مما يأمره به، وكان يسخر بمؤذَّن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيحكيه رافعاً صوته استهزاء لكن صرة الفضة التي اختصه بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وغنائم حنين التي اسبغها على الطلقاء من اعدائه ومحاربيه واخلاقه العظيمة التي وسعت كل من اعتصم باول لشهادتين من اولئك المنافقين مع شدة وطأته على من لم يعتصم بها ودخل العرب في دين الله أفواجاً، كل ذلك ألجأ أبا محذورة وأمثاله الى الدخول فيما دخل فيه الناس ولم يهاجر حتى مات في مكة (4) والله يعلم بواطنه.

____________

(1) فيما اخرجه الامام أحمد من حديث عمر بن الخطاب في ص25 من الجزء الاول من مسنده.

(2) كما في كتاب التجارة من الكافي في باب الضرار وفي الفقيه انه خالف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم يرض بنخلة في الجنة في قضية اوردها ابن ابي الحديد في ص363 من المجلدالاول من شرح النهج حيث ذكر سمرة وفظائعه.

(3) كما في روضة الكافي.

(4) كلما نقلناه هنا عن ابي محذورة موجود في ترجمته من الاصابة وهو مما لا خلاف فيه.

تمت التعليقة بتمام الاصل بقلم مؤلفهما الاقل عبدالحسين والحمد لله رب العالمين وصلى الله على خير خلقه محمد وآله وسلم تسليماً كثيراً.

الصفحة 219

بقيت كلمة لابن عبد البر حول هذا الانذار إذ قال في ترجمة سمرة من الاستيعاب: وكانت وفاته بالبصرة في خلافة معاوية سنة ثمان وخمسين سقط في قدر مملوءة ماء حاراً كان يتعالج بالقعود عليها من كزاز شديد اصابه فسقط في القدر الحارة فمات «قال»: كان ذلك تصديقاً لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم له ولأبي هريرة ولثالث معهما: آخركم موتاً في النار اهـ.

(قلت): هذا تأويل غريب لا يدل على اللفظ ولا يفهمه منه احد والثلاثة المخاطبون به لم يرتابوا في مفاده المتبادر منه، ولذا كان كل منهم يتمنى سبق صاحبيه الى الموت كما هو ثابت عنهم، على ان تأخر سمرة في الموت عن صاحبيه كليهما غير معلوم، ولا سيما على ما جزم به ابن عبدالبر من موته سنة ثمان وخمسين، لأن أبا هريرة قد مات في قول الواقدي وابن نمير وابن عبيد وابن الأثير وابن جرير وغيرهم سنة تسع وخمسين وفيها مات ابو محذورة، وقيل: بل مات أبو محذورة سنة تسع وسبعين، ونص ابن الكلبي على ان أبا محذورة مات بعد موت سمرة، فتأويل ابن عبدالبر لهذه الكلمة ـ آخركم موتاً في النار ـ مما لا يصغى اليه.

وهذا آخر ما اردناه من تمحيص السنة المقدسة وتنزيهها عن الدخل الشائن لجوهر الاسلام وروحه الرفيعة؛ والحمد لله على التوفيق لذلك واليه نبتهل في أن ينفع به المؤمنين، ويجعله ذخيرة ليوم الدين، وصلى الله على سيد النبيين وخاتم المرسلين؛ وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه الهداة الميامين.

وكان الفراغ منه في مدينة صور يوم الخميس الثالث والعشرين من شهر رمضان المبارك سنة 1362 هـ الموافق 23 أيلول سنة 1943 م بقلم مؤلفه اضعف المؤمنين عملا واقواهم بعفو الله أملا عبدالحسين بن الشريف يوسف ابن الشريف جواد بن الشريف إسماعيل بن محمد بن محمد بن شرف الدين واسمه إبراهيم بن زين العابدين بن علي نور الدين بن نور الدين علي بن عز الدين

الصفحة 220
الحسين بن محمد بن الحسين بن علي بن محمد بن تاج الدين المعروف بأبي الحسن ابن محمد ولقبه شمس الدين بن عبدالله ولقبه جلال الدين بن احمد بن حمزة بن سعد الله بن حمزة بن أبي السعادات محمد بن أبي محمد عبدالله نقيب النقباء الطالبيين في بغداد ابن أبي الحرث محمد بن أبي الحسن على المعروف بابن الديلمية ابن أبي طاهر عبدالله بن أبي الحسن محمد المحدث بن أبي الطيب طاهر بن الحسين القطعي بن موسى أبي سبحة بن ابراهيم المرتضى بن الامام الكاظم بن الإمام الصادق بن الامام الباقر بن الامام زين العابدين بن الامام ابي عبدالله الحسين سيد الشهداء، وخامس أصحاب الكساء، وسبط خاتم النبيين والمرسلين، وابن أمير المؤمنين، وسيد الوصيين، علي بن أبي طالب، صلى الله على رسوله وعليهم أجمعين...

«تم طبع الكتاب في يوم 2 / 4 / 1965 م»