واذا كان مما لا خلاف فيه، أيضا، أن ما جرى لأهل البيت خلال القرون المتوالية على الأمة الإسلامية من جحود وقطيعة ـ عقب وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ـ كان كفيلا بأن يحول بين صفحات التاريخ وبين أن تخط فيها كلمة انصاف يكتبها قلم، أو تنطقها شفتان، تثنى عليهم أو تعترف بفضلهم… (1),
فلقد كانت الحرب ـ ولا تزال بصورة أو بأخرى معلنة عليهم في كل زمان ومكان. ولقد تعقبوا في النفس والولد والمال والسمعة، ولاحقتهم الاحقاد باللعن والسب والإساءة… وحل بهم
____________
(1) هذه الفقرة مقتبسة من ص66 ـ 67.
ومن ثم فاذا تسرب الينا ـ من خلال هذا الحصار والإعسار ـ شيء من سيرتهم المضيئة، أو قبس من أقوالهم ومواقفهم المعبرة عن حقيقة الإسلام، أو شعلة من معالم سلوكهم الرشيد، فلا شك أنه حدث في غفلة من الطغاة وأعوانهم، وعلامة صحية على أن العقيدة ـ حين تملك على الإنسان وجدانه وسلوكه ـ تدعوه لأن يتحدى
لقد وصل الينا ـ رغما عن كل الموانع والعوائق ـ شعر يحدثنا عن اسلام أبي طالب، منسوبا اليه، وروايات تاريخية تؤكد ذلك منه، أفلا يكون هذا مرجحا لما روي من هذا أو ذاك، على ما روي في الجانب الآخر النافي لإسلامه؟
ان الأمر ـ حينئذ، والحالة هذه ـ ان لم يرق الى رتبة الدليل، فانه، بلا شك، لا ينزل عن مرتبة القرينة القوية التي تصل بانضمام غيرها من القرائن الى مرتبة الدليل القوي، والبرهان الجلي، دون أن يعني هذا تهوينا من نسبة هذا الشعر الى أبي طالب، أو صحة تلك الروايات، بما فيها من دلالة صريحة على اسلامه، فقد ورد ذكرهما في كثير من الكتب والمراجع التارخية المعترف بوثاقتها، وصحة نقلها مثل: تاريخ ابن كثير، وسيرة ابن هشام، وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ومستدرك الحاكم.
1 ـ أن رابطة الدين هي أقوى الروابط الاجتماعية، وأمامها تذوب، بل تزول وتتلاشى، سائر الروابط النسبية والسببية، أيا كان نوعها، وأيا كانت درجة كل نوع منها، حتى لقد يبلغ من قوة تأثيرها أن تدفع الأخ لأن يحارب ـ في سبيلها ـ أخاه، بل وابنه وأباه، وأنها تمنع التوارث بمجرد اختلافها، وأن الولاء والتناصر يتحققان بين المتفقين فيها، مهما تباعدوا نسبيا، أو تفاوتوا اجتماعيا.
ومن ثم لا يمكن أن يقال: ان رابطة القرابة كانت سبب نصرة أبي طالب لرسول الله وحمايتة له من أعدائه، تلك الحماية التي لولاها لما أمكن للدعوة الإسلامية أن تأخذ مسارها نحو الشيوع والانتشار، والا فقد كان أبو لهب ايضا ـ ونبفس المقدار ـ جديرا بنفس النصرة والحماية، فكلاهما
واذن فالعقيدة هي الأولى أن تكون عامل التفرقة بين الرجلين فأبو لهب ملكت عليه عقيدته كل آفاق تفكيره فلم ير شيئا غيرها جديرا بالنظر والاعتبار، فكانت وقفته المتحدية لله ولدين الله ولرسول الله، لا يرعى في ذلك رحما أو قرابة، حتى عرض ابن أخيه للهلاك واهدار الدم، بينما أبو طالب، اذ أخذت عليه عقيدة الاسلام كل آفاق تفكيره ـ بعد أن اقتنع بها، انطلاقا من تجربته لصدق محمد صلى الله عليه وآله على طول عمره قبل البعثة ـ فرآها جديرة بالاعتبار بل والانتصار، ومن ثم اندفع يؤيدها بكل مرتخص وغال، معرضا نفسه للمتاعب والأهوال، مما سنعرض لطرف منه في الفقرات التالية:
فالرجلان (أبو طالب وأبو لهب) من قرابة محمد
2 ـ أن أبا طالب كان يرى بطلان عقيدة قومه من مبعث محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالإسلام، فقد ثبت ـ كما سبقت الإشارة ـ أنه كان من المتألهين الحنفاء، الذين لم يهيموا بصنم قط، ولم يسجدوا لوثن أبدا، كما كان على ذلك أبوه عبدالمطلب تماما (1).
3 ـ أن أبا طالب أقر ابنه عليا عليه السلام على متابعته لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم، والابن أهم ما يحرص الأب على الحفاظ على عقيدته، ودينه، وأمنه وسلامته، فكيف اذن كان هذا الدين يعرض من يتبعه لصنوف من الإيذاء والآلام؟ وهل يكون ذلك من غير مسلم؟
____________
(1) الشيخ الصديق اكمال الدين: 104 والقاضي عياض في كتابه الشفا: 1/183.
4 ـ أن أبا طالب رأى النبي يوما يصلي وعن يمينه ابنه علي، وكان معه ابنه جعفر فأمره أن يدخل في الجماعة، قائلا له: ((صل جناح ابن عمك، فصل عن يساره))، مما يدل على أن جعفرا كان مسلما من قبل، ويعرف الصلاة الإسلامية، وأن أبا طالب كان يعرف أحكامها كذلك. وهو بذلك يقدمه مع أخيه قربانين لهذا الدين في مناخ كله حرب عليه وشجب له، فهل يكون ذلك من غير مسلم؟
5 ـ أن أبا طالب ظل على موقفه من نصرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحمايته له ولدعوته طول حياته ولم يسلمه ـ تحت أي ظرف ـ الى خصومه وأعدائه أبدا.
6 ـ أن أبا طالب صمد لتحدي قريش بالمقاطعة الاقتصادية والاجتماعية، مقيما بشعبه في مكة، ثلاث سنوات متواصلة مع بني هاشم، عانوا خلالها جميعا من الشظف والمسغبة والحرمان مما تعجز الكلمات عن وصف مداه وتقدير عنائه، دون
7 ـ أن أبا طالب لم يتردد في تصديق النبي صلى الله عليه وآله وسلم حينما أخبره أن الأرضة قد أكلت وثيقة المقاطعة المودعة بالكعبة ولم يبق فيها الا اسم ((الله)) فقط، فخرج الى قريش متحديا بذلك. وكان الأمر كما أخبر الرسول تماما، فهل يكون ذلك من غير مسلم؟ أو هل يبقى بعد ذلك غير مسلم، لو لم يكن مسلما من قبل؟
8 ـ أن النبي ظل مقيما بمكة يدعو الى الإسلام، آمنا على حياته" طيلة حياة أبي طالب، ولم تضق عليه الأرض بمكة إلا بعد أن فقده بموته، فكان أذن الوحي له بالهجرة، لأن البقاء في مكة بعد أبي طالب لم يكن يعني فقط اجهاض الدعوة، واكراه المؤمنين بها على الارتداد عنها، وانما كان يعني أيضا الإجهاز على الإسلام نهائيا من الأساس لو تعرض النبي للقتل. وهذا هو
9 ـ و أخيرا وليس آخرا اننا نجد التاريخ لا يسجل، ولو لمرة واحدة، أن أعدى أعداء على ابن ابي طالب ـ وهو معاوية بن أبي سفيان ـ يطعن في اسلام أبي طالب، مع أنه لم يكن يرعى عهدا ولا ذمة في الطعن على علي عليه السلام والادعاء عليه بما ليس فيه والانتقاص منه بنسبة ما هو متأكد من براءته منه، حتى لقد بلغ من حقده عليه أنه.
(أ) أمر بلعنه على منابر المساجد، وأوصى باستمرار ذلك من بعده.
(ب) تتبع كل من يوالونه ليكرههم على البراءة منه أو يقتلهم أن امتنعوا من ذلك.
(ج) أمر بوضع الأحاديث التي تنسب اليه ما يشينه من جهة، والتي تضفى على غيره ما خصه به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من صفات ومزايا من جهة أُخرى.
ومع كل هذا فلقد كان علي عليه السلام يهاجمه بما فيه أمه هند، وأبيه أبي سفيان، من مذام ومثالب، فهل كان معاوية ـ وقد صار الأمر الى الآباء والأمهات ـ يعف عن أن يرمي عليا عليه السلام في أبيه بتهمة الكفر، لو كان لذلك ظل من الشبهة، فضلا عن الحقيقة، نكاية في علي، وردا على نيله من أبويه (1)؟
لا يقولن أحد ما يدريك لعل ذلك قد كان من معاوية، فها هي رسائل معاوية كلها الى علي عليه السلام ـ كما يسجلها التاريخ ـ لا تنطوي واحدة منها على كلمة تشير ـ من قريب
____________
(1) شرح نهج البلاغة: للشيخ محمد جواد مغنية: 3/471.
ولا أدل على ذلك من أن معاوية، حينما دخل عليه، بالشام، عقيل بن أبي طالب، في زمن خلافة أخيه علي عليه السلام، وأراد أن يقلل من شأن عقيل، (اسلاميا، بما ينسحب، تبعيا، الى الامام علي عليه السلام فقال له: أين عمك أبولهب يا عقيل، فكان جواب عقيل الفوري عليه يا معاوية، اذا دخلت النار فمل عن يسارك قليلا، تجده مفترشا عمتك أم جميل (1).
فما الذي كان يحوج معاوية الى أن يعدل ـ في هذا الإحراج ـ الى أبي لهب، فيحيق به مكره كما حدث له، ويترك أبا طالب لو أن هناك أدنى
____________
(1) العقد الفريد: 2/315.
أفلا يدل هذا وحده دلالة أكيدة على أن كل ما روي في شأن عدم اسلام أبي طالب ـ فيما بعد ـ كان من قبيل الوضع، وتزييف الحقيقة، والافتيات على الواقع؟
أما بعد:
فهذه قرائن تسع، تكفي كل واحدة منها حين تنضم الى ما روي من شعر منسوب الى أبي طالب يثبت اسلامه، أو روايات المؤرخين في هذا الشأن لأن تقيم الدليل القاطع، الذي لا يدفع، على أن أبا طالب انما مات على الإسلام، فكيف بها مجتمعة، متضافرة، ومتكاملة، يأخذ بعضها برقاب بعض، نحو غاية واحدة، ونتيجة مؤكدة، وهي أن أبا طالب ـ حين مات ـ انما مات على الإسلام، لا أقول الإسلام الذي وقع حينئذ فقط،
وفي ضوء ما تقدم جمعه يثور تساؤل ملح يتلخص في أنه ما هو السر في هذا اللغط، الذي دار ـ ولا يزال يدور ـ حول اسلام أبي طالب، نفيا واثباتاً؟
ولا أرى تعليلا لذلك الا أن السياسة شاءت ذلك، فكان لها من أعوانها وحاشيتها من الكتاب والمؤرخين والرواة ما شاءت، ذلك أن أبا طالب هو أبو علي عليه السلام الإمام، وكنز الأئمة وحق علي عليه السلام ـ والأئمة من بعده ـ في ولاية أمر الأمة، سياسيا واجتماعيا، دون غيرهم، هو معتقد الشيعة، وقد صار أمر الأمة الى غيرهم، فكانت مصلحة الحاكمين ـ وخاصة في العصر العباسي (1)
____________
(1) بعد أن خرج كثير من أهل البيت ضد المنصور العباسي أطلق هذه الفرية ضد أبي طالب ليوحي الى الناس أن العباسيين هم بنو العم، الذي أسلم بينما الطالبيون هم بني العم، الذي لم يسلم. وبذلك يزكي ويرجح موقفه السياسي على خصومه من أهل البيت.
ولقد كان في مقدمة مفاخر آل البيت موقف أبي طالب من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ودينه منذ بدأ، رعاية وحماية، ودفاعا مجيدا، لا يقف عند حد، ولا يتقيد بقيد، بما لولاه لما تمكن أن يأخذ هذا الدين طريقه الى نور الحياة فضلا عن أن ينتشر ثم ينتصر. ومن ثم كان أبوطالب من أهداف هذه الحملة السلطوية الشنعاء ضد أهل البيت، فكانت الأشعار المنحولة، والروايات الموضوعة المدخولة، لنفي اسلامه، حتى لم يتورعوا، في هذا المجال، عن أن ينسبوا بعض الروايات تارة الى علي نفسه، وأخرى الى ابن عباس (1).
____________
(1) أنظر: ص35.
وما رأينا مثل هذا الجدل ثار حول اسلام كثير من المنافقين، وبخاصة من الذين قال الله تعالى فيهم لنبيه: (لا تعلمهم، نحن نعلمهم) (1) ولكنه ثار حول اسلام أبي طالب، لا لشيء الا لأنه أبو علي عليه السلام الإمام، أبي الإمامين، وجد الأئمة، متمثلا في التشكيكات التي حيكت لها الأشعار. والروايات، تنفيرا للناس، وصرفا لهم عن قضية الأئمة، ونشرا للضباب حولها، حتى لا تكون الحقيقة واضحة جلية أمام الرعية، فيطمئن الحكام الى استقرار ملكهم، واستمرار حكم أسراتهم. ولكن الله كان بالمرصاد، فقد أشرقت شمس الحقيقة، فبددت سحائب الضباب المصنوع، حيث شاء الله تعالى أن تذهب ـ الى غير رجعة ـ عصور العصبية المذهبية والعداوة العائلية لأهل البيت، وسادت الحرية الفكرية، فانطلق الحق
____________
(1) التوبة: 101.
رأي الأستاذ عبدالفتاح عبدالمقصود في اسلام أبي طالب
واليك أيها القارىء الكريم ما جادت به براعة الأستاذ عبدالفتاح عبدالمقصود فلقد اخترته شاهدا لانصاف هذه الحقيقة لأنه لم يكن من الشيعة حتى يتهم بالتحيز لقضيتهم وقد ذكرنا في المقدمة أنه كان له رأي في بداية عهده بالكتابة يقف فيه من ايمان أبي طالب موقفا سلبيا ثم انتهى بعد ذلك الى هذا الرأي الجديد الايجابى نرجو أن تسايره لتعرف وجه الحق في رأيه الجديد (1).
يقول الأستاذ: ورد في الأخبار أن أبا طالب: عبدمناف بن عبدالمطلب، رأى النبي وعليا يصليان، وكان معه ولده جعفر، فقال له:
((يا جعفر.. صل جناح ابن عمك، فصل عن يساره)).
____________
(1) لأول مرة ينشر هذا الرأي.
ثم أنشد:
وأثر أيضا أنه ـ لما علم أن قريشا تكيد لمهاجرة المسلمين بالحبشة ـ كتب الى النجاشي ينبهه الى هذا الكيد كتابا من الشعر، قال فيه:
وأردف بكتابه هذا، خطابا شعريا آخر، دعاه فيه الى الإسلام كان منه:
وروي أنه سمع يوما أن ((ابن الزبعري)) جاء باقذار، فألقى بها على رسول الله وهو ساجد يصلي، وراح يسخر به، ويتابعه على سخريته جمع من المشركين ـ فأقبل مسرعا غاضبا، وسأل ابن أخيه:
((يا بني.. من الفاعل بك هذا؟))
فلما علم، لطم الشاعر الضال لطمة أسالت دمه
ـ ((أرضيت؟..))
وأنشده شعرا من بينه:
وبعيدا عن هذا الذي أثر عن ابي طالب من أشعار، كان لابد لي من جولة فيها وأنا أقدم لهذه، الكتاب (1).. بعيدا عنه والى جواره أيضا نجد
____________
(1) ذكرنا في المقدمة أنه تقديم لكتاب أسنى المطالب لمؤلفه العالم الشافعي الجليل ريني دحلان رحمه الله تعالى.
بل ليمكن القول بوجه عام أن جانبا مرويا عن لسان بطل من الأبطال، يأتينا خلوا من سمات عصره، ومن خصائص النظم السائدة في أوان.. أو مفتقرا إلى القدرة البلاغية والمزايا الشعرية للذين نسب اليهم وورد أنهم قائلوه.. كما أن جانبا آخر منه قد يرى فيه في الأسفار والدواوين منسوبا
ومن شعره (شعر أبي طالب) قوله:
ثم يضيف:
هكذا نسب الحافظ ابن حجر في الاصابة هذا البيت لأبي طالب وقيل بأنه لحسان بن ثابت الأنصاري.
وذهب مشركو قريش مرة لأبي طالب يقولون له:
يا ابا طالب.. هذا عمارة بن الوليد، انهد فتى في قريش.
وأشعره وأجمله، فخذه فلك عقله ونصرته، واتخذه ولدا، وأسلم لنا ابن أخيك هذا الذي خالف دينك ودين آبائك وفرق جماعة قومك وسفه
والله لبئس ما تسومونني.. أتعطوني ابنكم أغذوه لكم وأعطيكم ابني تقتلونه؟..
يقول (أسنى المطالب).
ثم أنشد أبو طالب:
ـ ويروى الكتاب الذي في أيدينا
وزاد بعضهم بعد هذا:
ويعلق واضع الكتاب بقوله:
ـ فقيل ان هذا البيت موضوع، ادخلوه في شعر أبي طالب وليس من كلامه وقيل انه من كلامه وأتى به للتعمية على قريش ليوهم أنه معهم..
ومع ذلك فلا ينبغي أن يطعن هذا ومثله من تأخذ في ((مضمون)) الشعر المنظوم تصويرا بيانيا لتلك المناسبات البطولية المشهورة وان كنا نراه ينال بعض النيل من صحة انتسابه لأبطاله… أو ـ على الأدق ـ من ((كلية)) انتسابه لهؤلاء الأبطال.. فلربما بدأوه فعلا وأكمله، أو أضاف اليه كما شهدنا آخرين، لربما أنتقص منه.. لربما خالجت أصحابه معانيه وان لم تجر على السنتهم في هيئة قصيد.. لربما أفصحوا عن احساسهم بنثير ((ترجم)) بعد لهم الى نظيم عسى أن يكون بصياغته المنظومة أشد وقعا في القلب وأبعد أثرا في السمع وأكثر تداولا على
أجل لا تحسبنا نرى مطعنا في ((المضمون)).. فشعر أشباه هذه المناسبات ما كان لينطلق من فراغ.. انما المعقول المنطقي أن لابد له من منبع انبثق منه، أو أصل ثابت ارتكز اليه رواة الأخبار وهم يوردونه لرسم واقعة أو لنقل مروي أو لوصف مرئي أو للتعبير عن احساس.. واذا لم يكن فهذا الشعر هو لسان المقال فلا أقل من أن يكون لسان الحال، وكفانا به صدقا أن يطابق نفسية المنسوب اليه ويوفق الحادث الذي حركه ويصدق الشعور الذي أوحى به ثم لا يخالف المعلوم من الحقائق التاريخية، ولا المتوسم المرتقب من أولئك الأبطال أو المعروف مما يعتنقون من مبادئ ويدينون به من أفكار.
ونخرج من هذا التعميم الى التخصيص.. تساؤل:
إلى أي مدى يمكن اعتبار ما نسب من الشعر الى ابي طالب صحت النسبة وثبتت، أو علق بها غبار من الريب والشكوك ـ دليلا عن اسلام الشيخ الهاشمي، يؤخذ به ويعول عليه ويكون أساسا تاريخا ثابتا لا يخضع للمراجعة ولايقبل الجدال؟..
ان ((القرينة)) في ذاتها قد تقترب هوينا من اليقين ولكنها ليست اليقين وقد تساند الدليل ثم لا تكون الدليل..
والشعر هنا بالنظرة المنصفة والمتجردة ليس إلا القرينة..
فلقد يومئ الى دليل..
ولقد يشق الطريق أو يمهده لتلمس البراهين..
ولقد يساند أدلة هي في حاجة ـ على نحو من الأنحاء ـ الى مساندة ظهير..
لكنه بكل المقاييس لا يمثل الحجة الدامغة التي لا تدع سبيلا لتقول متقول ولا لجدل مجادل ولا
انه ليس ((البرهان)) الحسي السمعي المرئي الذي يستطيع وحده اثبات قضية تاريخية هي ((اسلام أبي طالب)) سيد بني هاشم الذي اختلفت فيه الآراء بسبب افتقار صحائف التاريخ الى صورة واضحة للرجل تطلعه لنا وعلى لسانه عبارة التوحيد ((لا اله الا الله))..
من هنا فان تعمق الظروف التي استنبتت ذلك الشعر ((الطالبي)).. والبيئة النفسية التي تمخضت عنه والتيارات السياسية التي تقاذفته سنين طويلة عبر قرون مليئة بالخطوب والتقلبات. والتعصب المذهبي الذي فرض نفسه ـ في طول الأرض الاسلامية وعرضها ـ على الأفكار في مختلف الأعصر ومع تباين الدويلات والحكام ـ كل هذا يمثل ضرورة لازمة لابد منها لاستنباء ذلك الشعر قيمته ((الكيفية)) بغير حاجة الى النظر في هيئته
ولا شك في أننا عندما نقول: ((قيمته الكيفية)) انما نعني: قوة نبضه وصدق تعبيره عن الواقعة موضع البحث: وقصة اسلام هذا العم من أعمام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي شرفته الأقدار بأن يكون كافلا لمحمد منذ طفولته يربه ويرعاه ثم حمى له عند بعثته حين لم يكن له حمى سواه.
والسؤال الآن:
((هل كان شعر أبي طالب ((ناقلا أمينا)) لواقعة اسلامه الى الأذهان)) لعله كان:
لكنه احتمال مظنون يضطرب معه ميزان الحقيقة بين الشك وبين الرجحان وهو كما، قلنا، قرينة وليس ببرهان..
((فهل كان أذن، ذلك الشعر مجرد ((محدث لبق)) عن اسلام الرجل، كل قصاراه العقل يزخرف من القول يدعم، أو يجسم أو يضخم الأحداس
ان هذا الرأي حرى لو قيل بأن يصبغ بالشبهات والشكوك هذه الاشعار ثم لا يعدم أن يجد هنا وهناك بعض المساندة والتأييد حتى ليوشك أن يطرح واقعة اسلام الرجل وشعره المتحدث عنها في متاهة الضياع.
وثمة الى جوار هذا، واقع تاريخي يجب ألا تغفل عنه الأذهان أو يفوت لغير اعطائه حقه من الاعتبار.
فالثابت الذي لا يكاد يشوبه خلاف ان العصور الطويلة التي توالت على الأمة الاسلامية عقب وفاة رسول الله، كانت كفيلة بأن تمحو من صفحات التاريخ كل كلمة انصاف يخطها قلم أو تلفظ بها شفتان اعترافا بفضل أهل البيت الكرام فلقد حوربوا كل مكان وحوربوا كل زمان.. حوربوا في النفس والولد والسمعة فتعقبتهم الأحقاد السوداء
وما قد يقال في الشعر المنسوب الى أبي طالب من طعون قد قيل من قبل مثله وأكثر منه في أصالة غيره من الأشعار.
وما لنا نذهب بعيدا موغلين في تراث قدامى اليونان تنقيبا عن الالياذة وهوميروس وملاحقة
اذن فقد خلص الينا ـ على الرغم من كل الظروف المانعة ـ شعر لأبي طالب حدثنا عن اسلامه، مهما قيل في خصائصه الفنية وصحة نسبته فانه ـ مضمونا ـ ينطق بلسان الحال وان لم ينطق بلسان المقال.. فاذا نظر الى هذا الشعر على أنه ((دليل)) على اسلام الشيخ الجليل فهذا بلا ريب تجاوز لا يسهل أقراره لأنه الدليل الذي لا يمكن من الوجهة التاريخية أن يثبت على قدميه أمام ألسنة الاقلام المغموسة في عداد الحقائق المؤكدة المبرأة من عوج الانحياز واذا أخذ على أنه ((قرينه)) تضاف الى غيرها من القرائن المساندة فلا تتريب.
وليس تجنيا على هذا الشعر أن يقال فيه هذا
ان الشك فيه وارد لا جدال.. واذا كان من المتفق عليه عرفا أو قانونا أن الشك يؤول عادة لصالح المتهم فهذا مبدأ مجاله ساحة القضاء وليس ساحة التاريخ الذي لا معدى عن قيام أحكامه على أرض صلبة عصيبة على الانهيار..
ولا يعني هذا ولا ينبغي أن يعني ففي عزوه الى أبي طالب جملة وتفصيلا ونفض اليدين منه فما من أحد يستطيع أن ينكر ورود ذكره متأثرا في كثير من الكتب والمراجع التاريخية والمعترف بها كتاريخ ابن كثير وسيرة ابن هشام وشرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد كما أن نتفا منه قد جرت على السنة ثقاة، فضلا عن الأئمة وعلى رأسهم أمير المؤمنين.. كذلك فان وروده في تلك الاسفار
أما في الأخذ به كحجة قاطعة على اسلام الشيخ أن يواجه حجة أقطع هي ما ورد من نصوص مشهورة تبين أنه لم يعلن عن اسلامه ولم يجاهر بشهادة ((لا اله الا الله)).. فضلا عن ذلك الحديث النبوي ـ أو المنسوب لرسول الله ـ الذي يصور أبا طالب متأبيا على النطق بكلمة الإسلام، وهو يكاد ينسلخ من الحياة.
حذرا وحيطة يحمل شعر أبي طالب الذي استفاض بذكر اسلامه واعلانه الدخول في دين الله ـ على أنه مجرد قرينة.. تماما كقرينة انحداره من صلب سلالة طاهرة لم يشب الشرك نقاوة معدنها الروحي تكريما لمحمد النبي المختار،
ولا مماراة في طهارة أُصول الرسول..
فهذا جده عبدالمطلب، كمثال كان متألها موحدا على ما ورد في الأخبار.. فلقد كان حنيفا على ملة ابراهيم وكان يأمر أبناءه بترك الظلم والبغي والعدوان، ويحثهم على مكارم الأخلاق وينهاهم عن دنيات الأمور وكان يرفض عبادة الأصنام ويحض على الوفاء بالنذر ويمنع نكاح المحارم، ويرى قطع يد السارق ويحرم الخمر والزنا وينهى عن وأد البنات على نفس المنوال الذي جاء به القرآن بعد بضع عشرات من السنين.. وهو القائل: ((والله ان وراء هذه الدار دار يجزى فيها المحسن باحسانه ويعاقب المسيء ((باساءته)) ايمانا منه بالبعث والنشور..).
وقد اختلف في تفسير معنى الطهارة كما وردت في الحديث النبوي القائل: ((نقلنا من الأصلاب
لكن طهر الظهور والبطون: أسلاف محمد، لم يعصم سليلهم أبا لهب عبدالعزى بن عبدالمطلب من التنكر للاسلام ومن التنكر لنبي الاسلام ومن اشعالها نارا حامية من الحقد والعداوة على ابن أخيه ورسالة السماء التي تنزلت عليه لم يبرد لها حر، ولا فتر أوارها حتى أهلكه الله. وعلى هذا فالبقاء على الحنفية لا يعني الدخول في الإسلام وان كانت الحنفية نفسها محتواة في الإسلام..
ومن الخطأ اعتبار القرابة سر انعطاف أبي طالب الى محمد وحمايته له من أعدائه تلك الحماية التي فتحت الطريق واسعا لنشر الدعوة الإسلامية والا فقد كان أبو لهب وغيره من أقرباء الرسول الذين لم يتبعوه آنذاك حقيقين بالانعطاف.
فلقد تكون القرابة دافعا للمناصرة كما قد تكون في كثير من الأحايين عاملا قويا لأنشاب الخصومة ونشر الحزازة بين القريبين بالنسب وبالرحم لوجد أحدهما على الآخر ظفر دونه بما أخفق هو في الحصول عليه وأنهما لا بني أب واحد أو أصل واحد.
انما العقيدة هي الأولى في راينا أن تكون سرا لانعطاف أو تكون سر الازورار. ولا غرابة في هذا لأن المكافأة بين الرجلين هي التي تثبت الاخفاق أو تثبت الرجحان حين توضع القرابة في الكفة الأخرى ثم ينظر بأيهما يثقل أو يخف الميزان. فأبو لهب ملكت عليه عقيدة قومه كل أفاق تفكيره فلم ير شيئا غيرها من العقائد والأفكار حقيقا بالرؤية والاعتبار أو لم ير شيئا غيرها على الاطلاق أولى بالسيادة والانتصار فكانت وقفته تلك المنكرة لله، الغالية في العداء للدين الجديد ولنبيه العظيم الى أقصى ما يمكن أن تبلغ المغالاة ومن ثم فقد
والواقع أن موضوع اسلام أبي طالب لا يغني فيه المنقول عن المعقول وليس مما يرجع في تحقيقه الى الأسفار وحدها لفرط ما غلب من بعد على تاريخ تلك الفترة من تزييف وابتداع الأحاديث والروايات وحسبنا دليلا على تغلب الميل لعقيدة محمد في نفس أبي طالب أن الشيخ الكريم ـ انتصارا لهذه العقيدة ـ قدم ابنه أمير المؤمنين وهو أعز على نفسه من كل أهله بمقياس القرابة فداء لابن أخيه وهو في الحقيقة فداء للدين.
وقد يضيف الى صورة الحقيقة بعض الأضواء التى تظهرها مجلوة مبجلة أمام الأذهان أن نجد التاريخ خلوا من الطعن في اسلام أبي طالب بلسان أعدى أعداء علي الذين كانوا لا يرعون عهدا ولا ذمة في الادعاء عليه بكل مثلبة ومنقصة هم أول من يعملون أنه منها براء.. (1) ولمن يحتاج في هذا الرأي فليأتنا من رسائل معاوية بن أبي سفيان الى الاسلام بما يشير من بعيد أو قريب الى أن أبا طالب مات على غير دين الإسلام.. ليأتنا بكلمة واحدة في هذا الخصوص في وقت كان علي يرمي ابن هند وأباه أبا سفيان بما فيهما من مذام وهل كان معاوية ليقف عن رمي شيخ الطالبيين بتهمة الكفر لو أنه عثر على أدنى شبهة تشوب اسلامه؟
لكن هذا الذي فات العاهر الأموي أن يدعيه لم
____________
(1) سبق أن ذكرنا هذا الرأي ترجيحا لكفة ايمان أبي طالب وسبق لنا تدوينه قبل أن يخط الأستاذ كلمته وذاكرته فيه أكثر من مرة في منزله بالاسكندرية فالراجح أنه استعاره منا ونسى أن ينسبه لصاحبه وجل من لا ينسى.
((ما مات أبو طالب حتى أعطى رسول الله من نفسه الرضا)).
وتلك شهادة من لا يكتم الشهادة ولا يلبسها ببهتان..