رابعا: التعليم بالوحي بواسطة الرسل لصنفي الانس والجنّ مصداقا لقوله تعالى: (خَلَقَ فَسَوّى) و (قَدَّرَ فَهدى) في سورة الاعلى.

أوّلا ـ الانسان: خلق اللّه ربّ العالمين الانسان وقدّر حياته وجعل في طبعه هوى النفس في ما تشتهيه نفسه ومنحه العقل الذي يميّز به ما يضرّه وما ينفعه (1) .

وهيأه لقبول الهداية بوسيلتين:

أ ـ النطق باللّسان كما قال سبحانه في سورة الرَّحمن:

(خَلَقَ الانسان* عَلَّمهُ البَيان) (الايتان 3 و 4).

حيث ألهم الانسان النطق باللّسان والتفاهم بعضه مع بعض.

ب ـ القراءة والكتابة ونقل الافكار من انسان إلى آخر ومن جيل إلى أجيال متعاقبة، كما قال سبحانه في سورة العلق:

(إقرَأ وَربُّكَ الاكرَمُ* الّذي علَّمَ بِالقلمِ* علّمَّ الانسانَ مَالم يَعلَم) (الايتان 3 و 4).

ثمّ شرّع اللّه سبحانه نظاما لحياة الانسان متناسبا وفطرته كما قال سبحانه في سورة الروم:

(فَأقِم وَجهكَ للدِّينِ حَنِفا فِطرَةَ اللّهِِ الّتي فطَرَ النّاس عَليْها) (الاية 30).

وهدى اللّه الانسان إلى ذلك الدين المتناسب مع فطرته بواسطة إنزال الوحي إلى رسله كما قال سبحانه:

أ ـ في سورة النساء:

(إنّا أَوحينا إليكَ كَما أوحينا إلى نُوحٍ والنَّبِيِّينَ مِن بَعدِه...) (الاية 163).

ب ـ في سورة الشورى:

(شَرَعَ لَكُم مِنَ الّدينِ ما وَصّى بِهِ نُوحا والَّذِي أوحَينا إليكَ وَما وَصَّينا بهِ إبراهيمَ وَمُوسى وَعيسى أن أقيموا الدِّين...) (الاية 13).

وسمّى اللّه سبحانه الدِّين الّذي أوحى به إلى الرسل بدين الاسلام كما قال سبحانه في سورة آل عمران:

(إِنَّ الدِّين عِندَ اللّهِ الاسلام) (الاية 19).

ثانيا ـ الجان: خلق الجانّ وقدّر حياته مثل حياة الانسان حين جعل في طبعه هوى النفس إلى ما تشتهيه نفسه ومنحه إدراك ما يضرّه عمّا ينفعه.

كما أخبرنا عن حال ابليس الذي كان من الجنّ في سورة الكهف وقال:

(وَإذ قُلنا لِلملائكةِ اسجُدوا لادمَ فَسجَدوا إلاّ إبليسَ كانَ مِنَ الجِنِّ فَفسقَ عَن أَمرِ رَبِّه...) (الاية 50).

وفصّل القول سبحانه وتعالى في أمر إبليس هذا في سورة الاعراف وقال جلّ اسمه:

(وَلَقَد خَلَقناكُم ثُمَّ صَوَّرناكُم ثُمّ قُلنا لِلملائكةِ اسجُدوا لادمَ فَسَجدوا إلاّ إبليسَ لَم يَكُن مِنَ السّاجدين* قالَ ما مَنعكَ ألاّ تَسجدَ إذ أَمَرتكَ قالَ أنا خَيرٌ مِنهُ خَلَقتنِي مِن نارٍ وَخَلَقتَهُ مِن طين* قالَ فَاهْبط مِنها فَما يَكونُ لَك ان تَتكبَّرَ فيها فَاخرُج إنَّكَ مِنَ الصّاغِرين* قالَ أنْظِرني إلى يَومِ يُبعَثُون* قالَ إنَّكَ مِنَ المُنظَرين* قالَ فَبِما اغْوَيتَني لاَقْعُدَنّ لَهم صِراطَكَ المُستَقيم* ثُمَّ لاتِيَنَّهم مِن بَينِ أَيديهِم وَمِن خَلفهم وَعَن أَيمانِهِم وَعَن شَمائِلهم وَلا تَجدُ أَكثَرَهم شاكرين* قال اخْرُجْ مِنها مَذْءوما مَدحورا لَمَن تَبِعكَ مِنهُم لاملانَّ جَهنَم مِنكُم أَجمَعين) (الايات 11 ـ‍ 18).

إنّ هوى النفس في هذا الجنّي المتمرّد على اللّه العزيز الجبّار أعظم من هوى نفس كلّ ذي هوى نفس.

وأيضا أخبر اللّه تعالى في سورة الجنّ عن وجود هوى النفس في عامّة الجنّ حيث ذكر جلّ اسمه انّ الجنّ قد بلغوا في متابعتهم لهوى النفس أن يقعدوا من الملائكة مقاعد يسترقون سمع حديثهم، ولم يتركوا فعلهم الشائن حتّى بعث خاتم الانبياء (صلى الله عليه وآله وسلم)، ورماهم اللّه بالشهب الحارقة لهم، وفي الحديث أنّهم كانوا ينقلون ما يسمعون من الملائكة إلى الكهنة ويزيدون عليه من أكاذيبهم بغيا وطيشا منهم وايذاء منهم لاولاد آدم (ع).

وأخبر اللّه عن ذلك ـ أيضا ـ في سورة الجنّ في قوله تعالى: (فزادوهم رهقا) وأخبر عن مشاركة الجنّ للانس في متابعة هوى النفس وفي قولهم البعيد عن الحقّ على اللّه وأنّ منهم المسلمين وغير المسلمين.

وأخبر في سورة الاحقاف أنّ نفرا منهم حضروا تلاوة ـ الرسول ـ القرآن فذهبوا إلى قومهم منذرين وأخبروهم أنّ اللّه أنزل كتابا بعد موسى (ع) ـ وهو القرآن ـ وطلبوا من قومهم أن يؤمنوا به، وكذلك أخبر في سورة الجنّ عن مشاركة بعض الجن مع بعض الانس في الظنّ بأنّ اللّه لن يبعث أحدا يوم القيامة.

ومن كل ذلك نستنتج وجود حاسّة العقل والادراك الكامل في الجنّ كما هو في الانسان، ودركهم لغة الانسان واشتراكهم مع الانسان في خاصّة التعلّم بالمكالمة كما نفهم ذلك بصورة أجلى في ما حكى اللّه عن مكالمتهم مع سليمان في سورة النمل في الايتين (17 و39).

هكذا يشترك الصنفان في جميع مجالات قوى النفس كما يشتركان ـ أيضا ـ في مجالات العمل، كما أخبر اللّه سبحانه في سورة سبأ: أنّ الجنّ كانوا (يعملون له ـ لسليمان ـ ما يَشاء مِن مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وِجِفانٍ كَالجَوابِ وَقُدورٍ راسيات...) (الايتان 12 ـ 13).

وقال في سورة الانبياء:

(وَمِنَ الشّياطينِ مَن يَغُوصونَ لَهُ وَيَعملونَ عَمَلا دونَ ذلِك...) (الاية 82).

وأشركهما في الهداية بدين الاسلام وإرسال الرسل إليهما، مبشّرين ومنذرين ومعلّمين، ليؤمنوا باللّه وحده لا يشركون به أحدا، وبرسله وكتبه وملائكته والبعث ويوم القيامة وما يتبعه من مشاهد يوم القيامة.

أمّا الاحكام فما كان منها في الاداب الاجتماعية مثل مساعدة الضعفاء والمحتاجين من المؤمنين وترك أذى الاخرين وما شابههما فهما يشتركان فيهما، أمّا العبادات من صلاةٍ وصومٍ وحجٍ فلا بدّ أن تكون للجنّ بحسب حالهم كما أنّ بني آدم يختلف بعضهم عن بعضهم الاخر في الاحكام، مثل اختلاف أحكام الرجل عن المرأة والمريض عن المعافى والمسافر عن المقيم إلى غير ذلك.

نتيجة البحوث

خلق اللّه الملائكة جنودا له في الاُلوهية والرّبوبية كما أخبر عن ذلك في الايات التي ورد فيها ذكر الملائكة (2) ، ومن ثمّ خلقهم جلّ اسمه قبل غيرهم وكانوا حملة عرشه حين كان عرشه على الماء (3) ، كما قال سبحانه في سورة هود:

(وَهُوَ الّذي خَلَقَ السَّمواتِ وَالارضَ في ستَّةِ أيّامٍ وَكانَ عَرشهُ على الماء...) (الاية 7).

وخلق اللّه سبحانه السموات وما فيها وما عليها مّما نعلم من الملائكة ومّما لا نعلم، وما تحتها مّما نعلم من كواكب ونجوم وشموس وأقمار وبروج ومّما لا نعلم، وخلق الارض وما عليها وما فيها من مياه ونبات ومعادن من مرافق الحياة وما بين السموات والارض من غازات وغيرها مّما نعلم ومّما لا نعلم، كلّ ذلك مّما تحتاجه الاصناف الثلاثة، الحيوان، والجنّ، والانس في حياتهم، ثمّ خلق الحيوان قبل خلق صنفي الجنّ والانس لحاجتهما في حياتهما إليه، ثمّ خلق الجانّ قبل الانسان كما أخبر سبحانه في خبر خلق آدم (ع) أنّه أمر الملائكة ـ الذين كان إبليس الجنّي منهم ـ أن يسجدوا لادم بعد خلقه، ثمّ خلق الانسان بعد خلق جميع الاصناف من خلقه. كان ذلكم خبر خلق الاصناف الاربعة من خلق اللّه سبحانه كما استنبطناه من آيات القرآن الكريم والروايات، وكما تقتضيه حاجة المتأخّر خلقه إلى وجود الصنف المتقدّم عليه في الحياة، أمّا أنواع هدايتهم فلّما كان اللّه ربّ العالمين منح الملائكة والانس والجنّ العقل والادراك كان نوع هدايتهم بالتعليم المباشر وغير المباشر كما أخبر سبحانه عن الملائكة أنّهم قالوا في خبر خلق آدم (ع):

(سُبحانكَ لا عِلمَ لَنا إلاّ ما علَّمتَنا).

وأخبر عن صنف الانسان أنّه سبحانه: (علَّمَ آدمَ الاسماء كُلَّها) وانّه: (علَّمَ الانسانَ مالَم يَعلَم).

وأخبر عن صنف الجنّ في ما حكى عنهم أنّهم تعلموا القرآن واهتدوا به عندما سمعوا تلاوة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) للقرآن.

ولمّا كان سبحانه منح صنف الحيوان ومطلق الدوابّ شيئا من الادراك كان نوع هدايتها بالالهام الغريزي لكلّ فرد منها.

ولّما كان سائر الخلق ما عدا المذكورين من الكواكب والنجوم حتى الذرّة لم يمنحهم اللّه شيئا من الحياة والادراك كانت هدايته لهم بالتسخير، كما فَصل بيان كلّ ذلك في كتابه الكريم، وسمّى النظام الذي شرّعه لهداية الانسان بدين الاسلام، كما سندرسه بإذنه تعالى في البحوث الاتية.

(5)
الدِّين والاسلام

أ ـ معنى الدِّين.

ب ـ الاسلام والمسلم.

ج ـ المؤمن والمنافق.

د ـ الاسلام اسم لجميع الشرايع.

هـ ـ تحريف الشرايع وأسمائها.

1 ـ تحريف اليهود والنصارى كتاب اللّه ودينه.

2 ـ تحريف اليهود والنصارى اسم الدين ومنشأ التحريف.

و ـ تناسب أحكام الاسلام مع فطرة الانسان.

ز ـ الانسان والنفس الامّارة بالسوء.

ح ـ مشاركة الجنّ للانس في شريعة الاسلام.

أ ـ‍ الدين

استعمل لفظ الدين في الشرع الاسلامي في معنيين:

1 ـ الجزاء:

وانّ يوم الدين في القرآن الكريم هو يوم الجزاء، مثل قوله تعالى في سورة الفاتحة:

(مالِكِ يَومْ الدِّينِ) (الاية 4).

2 ـ الشريعة، مُتَضَمِّنا معنى الطاعة والانقياد، وأكثر ما استعمل الدين في الشرع الاسلامي، كان بهذا المعنى، مثل قوله تعالى في حكاية يوسف وأخيه في سورة يوسف:

(ما كانَ لِيَأْخُذَ أخاهُ في دِينِ المَلِكِ) (الاية 76).

أي: في طاعة الملك وشريعته.

وقوله تعالى في سورة البقرة:

(إنَّ اللّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ) (الاية 132).

أي: الشريعة والطاعة، والانقياد للّه.

ب ـ‍ الاسلام والمسلم

الاسلام: هو الانقياد للّه، ولِمَا أُنزِلَ من الشرائع والاحكام.

قال اللّه سبحانه وتعالى في سورة آل عمران:

(إنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللّهِ الاسْلامُ) (الاية 19).

والمسلم: هو المنقاد للّه ولما اُنزِل من الشرائع.

وبناء على هذا فإنَّ الاسلام في عصر آدم: هو الانقياد للّه ولما اُنزِلَ على آدم من شريعة اللّه، والمسلم من انقاد للّه ولما أُنزل على آدم من الشرائع، ويتضمن هذا الانقياد الاطاعة لادم الذي اصطفاه اللّه لحمل شريعته في عصره.

وفي عصر نوح هو الانقياد للّه ولما نُزِّل على نوح من الشرائع، وطاعة نوح باعتباره نبيّا مرسلا من قِبَل اللّه، والايمان بصدق نبوّة آدم من قبِله، والمسلم من آمن بذلك.

وفي عصر إبراهيم (ع): الانقياد للّه ولما نُزِّل على نوح، وإطاعة إبراهيم (ع) المرسل من قبل اللّه، والايمان بمن سبقه من الانبياء والرسل حتى آدم.

وفي عصر موسى (ع) وعيسى (ع) كذلك.

وفي عصر خاتم الانبياء (صلى الله عليه وآله وسلم) كذلك.

وقد عيَّن اللّه في عصر خاتم الانبياء له حدّا، وهو القول باللّسان:

«أشهد أن لا إله إلاّ اللّه، وأشهد أنَّ محمّدا رسول اللّه».

ويُسمّى هذا الحدُّ بالشهادتين.

ويلزم هذا الاقرار باللّسان، عدم إنكار أيِّ ضروريٍّ من عقائد الاسلام وأحكامه، وعدم إنكار نبوة الانبياء السابقين المذكورين في القرآن الكريم، أي أن لا ينكر ما أجمع عليه المسلمون أنّه من الاسلام، مثل وجوب الصلاة والصوم والحج، وحرمة شرب الخمر وأخذ الربا ونكاح المحرمات وأمثالها ممّا يعرف حكمه جميع المسلمين.

ج ـ‍ المؤمن والمنافق

ومن ثمّ قال اللّه سبحانه وتعالى في سورة الحجرات:

(قالَتِ الاعرابُ آمَنا قُلْ لَمْ تُؤمنُوا ولكِن قُولُوا أسلَمنا وَلَمّا يَدْخُلِ الايمانُ في قلوبِكُم...) (الاية 14).

المُؤمِنُ من نَطَقَ بالشهادتين بلسانه وآمن بقلبه بعقائد الاسلام وعمل بأحكامه، وإن صدرت منه مخالفة لاحكام الاسلام علم أنها معصية وعليه أن يتوب إلى اللّه ويستغفره.

ويظهر الفرق بين المؤمن والمسلم يوم القيامة، أمّا في الدنيا فكلاهما تجري عليهما أحكام الاسلام والمسلمين.

النِّفاق والمُنافِقُ

أ ـ في اللغة:

نافق اليربوع: إذا ضرب برأسه النّافِقاء من جحره ومرق منه؛ وذلك لان لجحر اليربوع بابا ظاهرا يسمّى (القاصِعاء) ومخرجا خفيا يسمّى النافقأ قد رقّق التراب من جانبه دون أن يظهر ذلك من سطح الارض؛ فإذا هوجم من بابه القاصعاء ضرب برأسه النّافِقاء ومرق منه وهرب، وعندئذ يقال: «نافق اليَربُوعُ».

ب ـ في المصطلح الاسلامي:

نافق الرجل نفاقا: أظهر الاسلامَ وعمل بعمله وأبطن الْكُفْرَ؛ فهو مُنافِقٌ.

قال اللّه سبحانه في سورة الْمُنافِقونَ:

(إذا جَآءكَ المُنافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَكَ لَرَسُولُ اللّهِ واللّهُ يَعلَمُ إِنَكَ لَرَسُولُهُ واللّهُ يَشْهَدُ إِنَّ المُنافِقِينَ لَكَاذِبُونَ* اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً...) (الايتان 1 ـ 2).

أي اتخذوا ما يحلفون به سترا سميكا. إذا فهم يسترون نفاقهم بستر سميك من اليمين الكاذبة. واللّه يكشف لِلْرَّسُولِ (صلى الله عليه وآله وسلم) زيف قولهم.

وقال سبحانه في سورة الْنِّساء:

(إَنَّ المُنافِقِينَ يُخَادِعونَ اللّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ وَإذا قَامُوا إلى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَىَّ يُرَآءونَ النَّاس...) (الاية 142).

د ـ الاسلام اسم لجميع الشرايع

جاء في القرآن الكريم ذكر الاسلام والمسلمين في شأن الاُمم السابقة كالاتي:

أخبر اللّه سبحانه وتعالى في سورة يونس عن نوح (ع) أنّه قال لقومه:

(فَإنْ تَوَلَّيتُم فَما سَأَلْتُكُم مِن أجْرٍ إن أجْرِيَ إلاّ على اللّهِ وأُمرتُ أن أَكونَ مِنَ المسلِمِين) (الاية 72).

وأخبر سبحانه وتعالى عن إبراهيم (ع) وقال في سورة آل عمران:

(ما كانَ إبراهيمُ يَهُوديا ولا نَصرانيّا ولكِن كانَ حنيفا مُسلِما وَما كانَ مِنَ المشرِكِينَ) (الاية 67).

وقال عزّ اسمه في سورة البقرة:

(وَوَصَّى بِها إبراهيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يابَنيَّ إنَّ اللّهَ اصطفى لكُم الدِّينَ فَلا تَموُتُنَّ إلاّ وَأَنتُم مسلِمون) (الاية 132).

وقال في سورة الحج:

(وَما جَعَلَ علَيكُم في الدَّيِن مِن حَرَج مَِلّةَ أبيكُم إبراهيمَ هُوَ سَمّاكُمُ المسِلمينَ مِنْ قَبْل) (الاية 78).

وأخبر سبحانه في سورة الذاريات عن قرية قوم لوط (ع)، وقال:

(فَأَخرَجنا مَن كانَ فِيها مِنَ المؤمِنِين* فَما وَجَدْنا فِيها غَيرَ بَيتٍ مِنَ المُسلِمِين) (الايتان 35 ـ 36).

وأخبر اللّه سبحانه وتعالى عن موسى (ع) في سورة يونس أنّه قال لقومه:

(يا قَومِ إن كُنتُم آمَنتُم بِاللّه فَعلَيهِ تَوَكَّلُوا إن كُنتُم مسلِمِين) (الاية 84).

وأخبر في سورة الاعراف عن سحرة فرعون قولهم:

(رَبَّنا أَفْرِغْ علَينا صَبرا وَتَوَفَّنا مسلِمَين) (الاية 126).

وأخبر في سورة يونس عن فرعون وقال عزّ اسمه:

(حَتَّى إذَا أدرَكَهُ الغَرَقُ قالَ آمَنتُ أنَّهُ لا إلهَ إلاّ الّذي آمَنَت بِهِ بَنُو إسرائيلَ وأَنا مِنَ المسلِمِين) (الاية 90).

وأخبر في سورة النمل عن سليمان (ع) أنّه كتب لملكة سبأ:

(إنَّهُ مِن سُلَيمانَ وإنَّهُ بِسمِ اللّهِ الرَّحمنِ الرَّحيم* ألاّ تَعلُوا عَلَيَّ وَأْتُوني مُسْلِمِين) (الايتان 30 ـ 31).

وأنّه (ع) قال في السورة نفسها:

(يا أيُّها المَلاء أيُّكم يَأتِيني بِعَرشِها قَبلَ أَن يَأتوني مُسْلِمِين) (الاية 38).

وقال سبحانه وتعالى عن شأن حواريِّي عيسى (ع) في سورة المائدة:

(وَإِذْ أَوحَيتُ إِلى الحوارِيِّينَ أَن آمِنُوا بِي وَبِرَسولي قالُوا آمنَّا وَاشْهَد بِأنا مُسْلِمون) (الاية 111).

وقال عزَّ اسمه في سورة آل عمران:

(فَلَمّا أَحَسَّ عِيسى مِنهُمُ الكُفرَ قالَ مَن أَنصاري إلى اللّهِ قالَ الحَوارِيُّونَ نَحنُ أَنصارُ اللّهِ آمَنا بِاللّهِ واشهَدْ بأَنَّا مُسْلِمُون) (الاية 52).

ولم يقتصر مجي‌ء هذا المصطلح بالنسبة إلى الاُمم على ما جاء في القرآن الكريم، بل جاء مع ذكر خبرهم في مصادر الدراسات الاسلامية مثل ما رواه ابن سعد بسنده إلى ابن عباس أنّه قال بعد ذكر خروج نوح من السفينة:

«وما بين نوح إلى آدَمَ من الاباء كانوُا على الاسلام».

وقال في رواية بعدها:

«كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلّهم على الاسلام».

ونقل في تتمّة رواية ابن عباس أنّه قال فيمن خرجوا من السفينة وسكنوا قرية:

«فكثروا بها حتى بلغوا مائة ألف كلُّهم على الاسلام» (4) .

هـ ـ‍ تحريف الشرايع السابقة وتحريف أسمائها

إنّ تسمية بعض الاديان بغير اسم الاسلام مثل اليهودية والنصرانية تحريف لاسم الدين، كفعلهم في تحريف الشريعة الربوبيّة، وبيان ذلك:

أ ـ تسمية اليهود:

إن اليهود، نسبة إلى بلدة يهودا التي كانت في جبل صهيون في الجنوب الغربي من اُورشليم، والتي اتخذها داود عاصمة لملكه وبنى فيها محلاّ للتابوت الذي كان فيه التوراة وسائر مواريث أنبياء بني إسرائيل ودفن فيها ملوكهم(5) .

ب ـ تسمية النصارى:

النصراني نسبة إلى بلدة الناصرة في الجليل من فلسطين الذي عاش فيه عيسى ابن مريم (ع) في صغره، واشتهر (ع) في عصره بعيسى الناصري، واشتهر تلاميذه ـ أيضا ـ بسبب ذلك بالناصري(6) .

والمسيحية ـ أيضا ـ نسبة إلى المسيح عيسى ابن مريم، ولقِّب أتباع المسيح بالمسيحيّين منذ سنة (41) ميلادية، وكانوا يقصدون به ذمّهم(7) .

ج ـ تحريف الشريعة:

لّما كانت معرفة الاُلوهية والربوبية أساسا لمعرفة العقائد والاحكام في الدين فاننا نقتصر في بيان كيفية تحريف اليهود والنصارى شريعتي موسى وعيسى (عليهما السلام)، على بيان تحريفهما عقيدة الاُولوهية والربوبية في دينيهما:

أ ـ تحريف اليهود لشريعة موسى (ع):

نذكر في ما يأتي ملخصا من الاصحاح الثاني وتمام الاصحاح الثالث من سفر التكوين من التوراة:

ملخص الاصحاح الثاني:

«غَرَسَ الرَّبُّ الالهُ جَنّةً في عَدَنَ وأجرى مِنْها أَرْبَعَةَ أنهارٍ، منها الفُراتُ وَجيحون، وغَرَسَ فيها الاشجارَ، وَغَرَسَ في وَسَطِ الجَنّةِ شجرةَ الحياةِ وشجرةَ مَعْرِفَةِ الخَيْرِ والشَّرّ، وأسْكَنَ فيها آدم، وأوصى الرَّبُّ الالهُ آدَم قائلا: مِنْ جَميعِ شَجَرِ الجنَّة تأكل أكلا، وأمّا شَجَرَةُ معرفة الخَيْرِ والشَّرّ فلا تأكل منها، لاَنَكَ يومَ تأكُلُ مِنْهَا تَمُوتُ موتا، وأوقَعَ سباتا على آدم وأخذ واحدة من أضلاعه وخلق من الضلع حواء زوجة لادم، وَكَانَا كِلاَهُمَا عُرْيَانَيْنِ آدَمُ وَامرَأَتُهُ وَهُمَا لاَ يَخْجَلاَنِ».

الاَصحَاحُ الثَّالِثُ

وَكَانَتِ الحْيَّةُ أَحْيَلَ جَميعِ حَيَوَانَاتِ الْبَرَّيِةِ الَّتيِ عَمِلَهَا الرَّبُّ الالهُ. فَقَالَتْ لِلْمَرْأةِ أَحَقا قَالَ اللّهُ لاَ تَأكُلاَ مِنْ كُلِّ شَجَرِ الْجَنَّةِ. فَقَالَتِ الْمَرْأَةُ لِلْحَيَّةِ مِن ثَمِرَ شَجَرِ الْجَنَّةِ نَأكُلُ وَأَمّا ثَمَرُ الشَّجَرَةِ الَّتيِ فيِ وَسَطِ الْجَنَّةِ فَقَالَ اللّهُ لاَ تَأكُلاَ مِنُه وَلاَ تَمَسَّاهُ لِئلا تَمُوتَا. فَقَالَتِ الْحَيَّةُ لِلْمَرْأَةِ لَنْ تَمُوتَا. بَلِ اللّهُ عَالِمٌ أَنَّهُ يَوْمَ تَأكُلاَنِ مِنْهُ تَنْفَتحُ أَعْيُنُكُمَا وَتَكُونَانِ كَاللّهِ عَارِفَيْنِ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ. فَرَأَتِ الْمَرْأَةُ أَنَّ الشَّجَرَةَ جَيّدَةٌ لِلاَكْلِ وَأَنَّهَا بَهِجَةٌ لِلْعُيُونِ وَأَنَّ الشَّجَرَةَ شَهِيَّةٌ لِلنَّظَرِ. فَأَخَذَتْ مِنْ ثَمَرِهَا وَأَكَلَتْ وَأَعْطَتْ رَجُلَهَا أَيْضا مَعَهَا فَأَكَلَ. فَانْفَتَحَتْ أَعْيُنُهُمَا وَعَلِمَا أَنَّهُمَا عُرْيَانَانِ. فَخَاطَا أَوْرَاقَ تِينٍ وَصَنَعَا لاَنْفُسِهمَا مَآزِرَ.

وَسَمِعا صَوْتَ الرَّبِّ الالهِ مَاشِيا فيِ الْجَنَّةِ عِنْدَ هُبُوبِ رِيحِ النَّهَارِ. فَاختَبَأَ آدَمُ وَامْرَأَتُهُ مِنْ وَجهِ الرَّبِّ الالهِ فيِ وَسْطِ شَجَرِ الْجَنَّةِ. فَنَادَى الرَّبُّ الالهُ آدَمَ وَقَالَ لَهُ أَيْنَ أَنّتَ. فَقَالَ سَمِعْتُ صَوْتَكَ فيِ الْجَنَّةِ فَخشَيِتُ لاَنّي عُرْيَانٌ فَاخْتَبَأتُ. !!فَقَال مَنْ أَعْلَمَكَ أَنّكَ عُرْيانٌ. هل أَكَلْتَ مِنَ الشَّجَرَة الَّتي أَوْصَيْتُكَ أَن لاَ تَأكُلَ مِنْهَا.!! فَقَالَ آدَمُ الْمَرأةُ الَّتي جَعَلْتُها معي هَيِ أَعْطَتْني مِنَ الشَّجَرَةِ فَأكَلتُ. فَقَالَ الرَّبُّ الاله لِلمَرْأَة مَا هذا الَّذي فَعَلتِ.

فَقَالَتِ الْمَرْأَةُ الْحَيَّةُ غَرَّتْني فَأَكَلتُ. فَقَاَلَ الرَّبُّ الالهُ لِلْحِيَّةِ لاِنَّكِ فَعَلْتِ هذا مَلْعُونَةٌ أَنْتِ مِن جَميعِ الْبَهَائِمِ وَمِنْ جَمِيع وُحُوشِ الْبَرِيَّةِ. عَلَى بَطْنِكِ تَسْعَيْنَ وَتُرَابا تَأكُلِينَ كُلَّ أَيَّامِ حَيَاتِكِ. وأَضَعُ عَدَاوَةً بَينَْكِ وَبَيَْنَ الْمَرْأَةِ وَبَيْنَ نَسْلِكِ وَنَسْلِهَا. هُوَ يَسْحَقُ رَأسَكِ وَأَنْتِ تَسْحَقِينَ عَقِبَهُ. وَقَالَ لِلْمَرْأَةِ تَكْثِيرا أُكَثّرُ أَتَعابَ حَبَلِكِ. بِالْوَجَعِ تَلِدِينَ أَوْلاَدا. وَإلى رَجُلِكَ يَكُونُ اشْتِيَاقُكِ وَهُوَ يَسُودُ عَلَيْكِ. وَقَالَ لادَمَ لاَنَّكَ سَمِعْتَ لِقَوْلِ امْرَأَتِكَ وَأَكَلْتَ مِنَ الشَّجَرَةِ الَّتيِ أَوْصَيتُكَ قَائِلا لاَ تَأكُلْ مِنْهَا مَلْعُونَةٌ الارْضُ بِسَبَبِكَ بِالتَّعَبِ تَأكُلُ مَنْهَا كُلَّ أَيَّامِ حَيَاتِكَ. وَشَوْكا وَحسكَا تُنْبِتُ لَكَ وَتأكُلُ عُشْبَ الْحَقْلِ. بِعَرَقِ وَجْهِكَ تَأكُلُ خُبْزا حَتَّى تَعُودَ إلى الاَرضِ الَّتِي أُخِذْتَ مِنْها. لاَنَّكَ تُرَابٌ وإلَى تُرابٍ تَعُودُ.

وَدَعَا آدَمُ اسم امْرَأَتِهِ حَوَّاء لاِنَّها أُمُّ كُلِّ حَيٌ. وَصَنَعَ الرَّبُّ الالهُ لادَمَ وَامْرَأَتِهِ أَقمِصَةً مِنْ جِلدٍ وَأَلْبَسَهُمَا.

وَقَالَ الرَّبُّ الالهُ هُوَذَا الانْسَانُ قَدْ صَارَ كَوَاحِدٍ مِنَّا عَارِفا الْخَيْرَ وَالشَّرَّ. وَالانَ لَعَلهُ يَمُدُّ يَدَهُ وَيَأخُذُ مِنْ شَجَرَةِ الْحيَوةِ اَيْضا وَيأكُلُ وَيَحيْاَ إلى الاَبَدِ. فَأَخْرَجهُ الرَّبُّ الالهُ مِنْ جَنَّةِ عِدْنٍ لِيَعْمَلَ الاَرضَ الَّتيِ أُخِذَ مِنهْاَ. فَطَرَدَ الانسَانَ وَأَقَامَ شَرْقيَّ جَنَّةِ عَدْنٍ الْكَرُوبِيمَ وَلَهِيبَ سَيفٍْ مُتَقَلّبٍ لِحرَاسَةِ طَرِيقِ شَجَرَةِ الْحَيوةِ.

إذن فإنَّ الربَّ الالهَ قد كَذِبَ على مخلوقِهِ آدم حين قال له: تموت موتا إن أكَلْت مِنْ شَجَرَةِ مَعْرِفةِ الخَيْر والشَّرِّ، وإنَّ الحَيَّةَ أَعْلَمَتْ حَوّاء حَقِيقَةَ الاَمْرِ وَكِذْبَ الرب الالهِ، فَأَكَلا مِنْ الْشَّجَرَةِ فَتَفَتَّحَتْ أَعيُنَهُما وَأَدْرَكا أَنَّهمَُا عُرْيانانِ، واختبئا لَمّا سَمِعا صَوْتَ الْرَّبِّ الالهِ ماشيا في الجَنّةِ وَلَمْ يَعْرِفِ الربُّ مَكَانَهُما وَنَادى الرَّبُّ الالهُ آدَم! أيْنَ أنتَ؟ فَأَخْبَرَهُ آدَمُ أنَّهُ اختبَأَ لانّهُ عُريان، وَسَأَلَ الْرِّبُّ الالهُ آدمَ كَيْف عَرَفَ أَنّهُ عُرْيانُ وَهَلْ أكَلَ مِنَ الشّجَرَةِ، فأخْبَرَهُ آدَمُ بِحَقِيقةِ الامْر فَغَضِبَ الرّبُّ الالهُ عَلى آدَمَ وحوّاء والحيّةَ وأعادَهُمْ إلى الارضِ وَعاقَبَهُم عَلَى فِعْلِهِم، وَلَمّا رَأى الرَّبُّ الالهُ أنَّ هذا المَخْلُوقَ أَصْبَحَ عارفا الخيرَ والشرَّ مِثْلَهُ. وَخَشِيَ أنْ يَمُدَّ يدَهُ إلى شَجَرَةِ الحَياةِ وَيأكُلُ مِنْها فَيَحْيَا إلى الابدِ طَرَدَهُ مِنَ جَنَّةِ عَدْنٍ، وأقام في طريق شجرة الحياة حرسا من الكرُّوبين لئلاّ يقربها الانسان.

ما أضعفَ الربَّ الاله هذا ـ تعالى اللّه عمّا يصفون ـ حين يخشى مخلوقَهُ أن يصبح مثله، ويتَّخذ كل الاجراءات لمنعه من الرقيِّ إلى درجته.

وما أكذبه وأحيَلَهُ حين احتال على مخلوقه وكَذِبَ عليه بما بانَ كَذِبُهُ فيما بعد.

وما أظلمه حين عاقب الحيَّة على صدق قولِها لحوّاء.

ولم أعرف ماذا يقصد بـ (هو ذا الانسان صار كواحدٍ منَّا)، هل يقصد أنَّ هناك غير الربّ الاله الواحد آلهة وأربابا آخرين حين ورد لفظ‍ (منّا) بصيغة الجمع؟

وأخيرا ما هو أثر هذه المعرفة على من اعتقد بصحة التوراة حين يقرأ فيها أنّ الاله الربَّ يكذب ويحتال ويمنع الانسان من الوصول إلى درجة الكمال لخوفه من هذا الانسان؟! سبحان اللّه وتعالى عمّا يقوله الظالمون علوّا كبيرا.

ب ـ تحريف النصارى:

كان ماذكرناه مشتركا بين اليهود والنصارى، واختصّ النصارى بتحريف في عقيدة الاُلوهية والربوبية كالاتي بيانه:

التثليث عند النصارى:

قالت النصارى: المسيح ابن اللّه، واللّه أبوه، وهما مع روح القدس شي‌ء واحد وهو اللّه، فاللّه الواحد ثلاثة: الاب، والابن، وروح القدس، والثلاثة (اللّه وعيسى وروح القدس) واحد وهو اللّه. إنَّ الثلاثة واحد، وإنّ الواحد ثلاثة.

وقال اللّه سبحانه وتعالى في سورة المائدة:

(لَقَد كَفَرَ الّذينَ قالوا إنَّ اللّهَ هُوَ المَسِيحُ ابنُ مَرْيَمَ...* وَقالَ المَسِيحُ يا بَني إسرائيلَ اعبُدوا اللّهَ رَبّي وَرَبَّكُم إنَّهُ مَنْ يُشرِكْ بِاللّهِ فقد حَرَّمَ اللّهُ عليهِ الجَنَّةَ وَمَأواهُ النّارُ وَما لِلظّالمينَ مِن أِنصار* لقد كَفَرَ الّذين قالوا إنَّ اللّهَ ثالثُ ثَلاثةٍ وَما مِنْ إلهٍ إلاّ إلهٌ واحدٌ*... مَا المَسِيحُ ابنُ مَريَمَ إلاّ رَسولٌ قد خَلَتْ مِنْ قَبِلهِ الرُّسُلُ وأُمّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يأكُلانِ الطَّعامَ انظُرْ كَيفَ نُبَيِّنُ لهم الاياتِ ثُمَّ انظُرْ أنَّى يُؤْفَكُون) (الايات 72 ـ 75).

وقال عزَّ اسمه في سورة النساء:

(يا أَهلَ الكتاب لا تَغلُوا في دِيِنكُم وَلا تَقُولُوا عَلى اللّهِ إلاّ الحقَّ إنَّما المَسِيحُ عِيسى ابنُ مَريَمَ رَسولُ اللّه وَكلِمَتُهُ أَلقاها إلى مَريَم وَرُوحٌ مِنْهُ فآمِنوا باللّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثةٌ انتَهُوا خيرا لكم إنَّما اللّهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَن يَكونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ ما في السَّمواتِ وَما في الارضِ وَكَفى بِاللّهِ وَكيلا) (الاية 171).

وصدق اللّه وكَذِبَ المُحَرِفّون وتعالى اللّه عمّا يقولهُ الظالمون.

***

واذا كان الامر كما بيَّنَّاهُ ـ وهو كما بيَّنَّاه ـ بأنَّ الدين عند اللّه هو الاسلام، وأنّ تسمية الدين بغير الاسلام تحريف، وأنّ اليهودية والمسيحية محرَّفتان اسما وشريعةٌ؛ فما هو الاسلام الصحيح؟ وما هي شريعة الاسلام؟

و ـ‍ تناسب أحكامِهِ مع فطرة الانسان

الاسلام من القرآن الكريم:

قال سبحانه وتعالى في سورة الروم:

(فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينِ حَنيفا فِطرَةَ اللّهِ الّتي فَطَرَ النّاسَ عليها لا تَبدِيلَ لِخَلقِ اللّهِ ذلِكَ الدّينُ القَيِّمُ وَلكِنَّ أكَثَرَ النّاسِ لا يَعلمُون) (الاية 30)

شرح الكلمات

أ ـ حَنِيفا

الحَنَفُ: الميل عن الضلال إلى الاستقامة، والجَنَفُ: الميل عن الاستقامة إلى الضلال، والحَنِيفُ: المائل عن الضلال إلى الحق.

والحنيفُ: المخلص الذي أسلمَ لامرِ اللّه فلم يلْتَوِ في شي‌ء من دينه.

ب ـ فَطَرَ:

فطر الامر: اخترعه، وفطر اللّه العالم: أوجده ابتداء.

وعلى هذا يكون معنى الاية: إنّ اللّه بعد أن ذكر قبل هذه الاية أنواعا من ضلال الضالّين عن طريق الاسلام، وأشار إلى صالح الاعمال، فرَّع على ذلك وقال سبحانه وتعالى:

فأقم وجهك للدين ـ والدين عند اللّه الاسلام ـ مائلا عن الضلالة إلى الاعتدال الذي هو الحق، وإنّ إقامة الوجه إلى دين الاسلام هي مقتضى فطرة الانسان التي فطره اللّه عليها، ولا تبديل لفطرة اللّه، ولذلك لا تبديل لدينه المتناسب مع فطرة الانسان، والاتساق مع الفطرة هو الدين القيمِّ ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون.

وشأن جميع ذوات الارواح شأن الانسان في ذلك، فإنَّ النحلة ـ مثلا ـ بفطرتها وهدايتها الغريزية التي أوجدها اللّه في تكوينها تجرسُ من أنوار الزهر ما هو صالح للتعسيل، وأحيانا تخالف فطرتها وهدايتها وتجرس مالا يصلح للتعسيل ويضرُّ بصالح الخليَّة فيتقدّم إليها حرس الخليَّة ويقطّعونها إربا.

والدجاجة بفطرتها والهداية الغريزية التي أوجدها اللّه فيها تلتقط ما طاب من الحبّ والخضار، وإذا خالفت الهداية الربوبية الغريزية لها وتناولت الغائط النجس شرعا سمّيت: بالجلاّلة، وتتنجس، ولا يؤكل لحمها حتى تتناول الحبَّ الطَّيِبَ ثلاثةَ أيام.

وحكم الربّ بالنسبة إلى جميع الخلق واحد يهديهم إلى القيام بالعمل النافع لهم والاجتناب عن العمل الضّارِّ لكيانهم، وبالنسبة إلى الانسان قال تعالى في سورة المائدة:

(يَسْألونَكَ ماذا أُحِلَّ لَهُم قُلْ أُحِلَّ لَكُم الطيِّباتِ...) (الاية 4).

وقال تعالى في سورة الاعراف:

(الّذينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسولَ النَّبِيَّ الاُمِّيَّ الَّذي يَجدُونَهُ مَكتوبا عندهم في التَّوراةِ والانجيلِ يَأمرهم بِالمعروفِ وَيَنهاهم عَنِ المُنكَرِ وَيُحِلُّ لهم الطَّيِبّاتِ وَيُحرِّمُ عليهِمُ الخَبائث) (الاية 157).

وملاك الامر في الاحكام الاسلامية: النفع والضرر للانسان، وإنَّما حَرَّمَ الخبائث لانها ضارَّة له، وأحلَّ الطيبات لانَّها نافعة له.

ويؤيّد ذلك قوله تعالى في سورة الرعد:

(فَأَمّا الزَّبَدُ فَيَذهَبُ جُفاء وَأَمّا ما يَنْفَعُ النّاسَ فَيَمكُثُ في الارض) (الاية 17).

وقوله تعالى في سورة الحج:

(وَأَذَّنْ في النَّاسِ بِالحَجِّ يَأتُوكَ رِجالا وَعلى كُلّ ضامِرٍ يَأتَِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَميق* لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لهم...) (الايتان 27 ـ 28).

وقال قبله وفي السورة نفسها:

(يَدعُو مِن دُونِ اللّهِ مَا لا يضُرُّهُ وَمَا لا يَنفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ البَعيد* يَدعُو لَمَن ضَرُّهُ أَقَربُ مِن نَفعِه..) (الايتان 12 ـ 13).

وحرَّم اللّه الربُّ ما فيه نفع للانسان وضرر، ولكنَّ ضرره أكبر، كما قال سبحانه في سورة البقرة:

(يَسأَلُونَكَ عَنِ الخَمرِ وَالمَيسِرِ قُل فِيهما إثمٌ كبيرٌ وَمَنافِعُ لِلنّاسِ وَإثمُهُما أَكبَرُ مِن نَفعِهِما) (الاية 219).

وتتّسع دائرة النفع والضرر وتتسع تبعا لها دائرة الحلال والحرام للمخلوق بأتساع أبعاد وجوده، والانسان أوسع الملخوقات في أبعاد وجوده، فكانت الحكمة تقتضي مراعاة النفع والضرر له في أبعاد وجوده. فإنّ الانسان الذي له جسد تضرّ جسده أشياء وتنفعه أشياء، ولذلك فقد أَحَلَّ اللّه للانسان ما ينفع جسده مثل أكل الطيِّبات، وحرَّم عليه ما يضرُّ جسده مثل أكل الخبائث.

وأمثال هذه الاحكام للانسان بمفرده، سواء أعاش وحده في كهوف الجبال وأدغال الغابات أم عاش في المجتمعات الانسانية، أم عاش على كوكب آخر غير الارض.

وبما أنَّ اللّه قد جعل كمال حياة الانسان في الحياة الاجتماعية لذلك فقد أحلَّ اللّه للانسان ـ أيضا ـ ما ينفع المجتمع مثل التجارة، وحرَّم عليه ما يضرُّ المجتمع مثل الرَّبا والقمار.

ولما كانت له نفس ـ وتهذيب النفس من ضرورات الحياة ـ فقد فرض عليه الحجّ لما فيه من تهذيب النفس ومشاهدة منافع اُخرى، وحرَّم عليه ما يضرّ المجتمع وأرشده إلى ما فيه نفع المجتمع.

وقال تعالى في سورة الحجرات:

(إنّما المؤمِنونَ إخوَةٌ فَأَصلِحُوا بين أَخَوَيكُم...* يا أيُّها الّذينَ آمنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِن قَومٍ عَسى أن يَكُونُوا خَيرا مِنهم وَلا نِساء مِن نِساء عَسى أن يَكُنَّ خيرا مِنهنَّ ولا تَلمِزُوا أَنفُسَكم وَلاَ تَنابَزُوا بالالقاب بئسَ الاسمُ الفُسُوقُ بعد الايمانِ وَمَن لَمْ يَتُب فَأُولئِكَ هُمُ الظّالِمون* يَا أيُّها الَّذينَ آمَنوا اجتَنبِوا كَثيرا مِنَ الظَّنِّ إنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إثمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغتَبْ بَعضُكُمْ بَعضا أيُحِبُّ أَحَدُكُم أَن يَأكُلَ لَحمَ أَخيهِ مَيْتا فَكَرِهتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللّهَ إنّ اللّهَ توّابٌ رَحيم) (الاية 10 ـ 12).

وكذلك شأن التشريع الاسلامي فإنّه متناسب مع فطرة الانسان في كلّ زمان ومكان. لذلك نجد في القرآن الكريم أنّ اللّه تبارك وتعالى قد فرض الصلاة والصوم والزكاة على الاُمم السابقة كما فرضها علينا، وحكى سبحانه وتعالى في هذا الشان عن إبراهيم ولوط وإسحاق ويعقوب وقال في سورة الانبياء:

(وَجَعَلنَاهم أَئِمَّةً يَهدُونَ بِأَمرِنا وَأَوحَينَا إليهم فِعلَ الخَيرَاتِ وَإقامَ الصَّلاةِ وَإيتاء الزَّكاة...) (الاية 73).

وحكى في سورة مريم عن عيسى (ع) أنّه قال:

(وَأوصاني بالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ مادُمتُ حَيّا) (الاية 31).

وَقالَ عن إسماعيلَ صادِق الوَعْد في سورة مَرْيَمَ كذلك أنّه (ع):

(كانَ يَأمُرُ أَهلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ وَكانَ عِنْدَ رَبّهِ مَرضِيّا) (الاية 55).

وأمَرَنا اللّهُ تعالى بالصوم، فقال في سورة البقرة:

(يَا أيُّهَا الَّذينَ آمنُوا كُتِبَ عليكم الصِّيامُ كَما كُتِبَ على الّذينَ مِن قَبِلكُم لعلَّكم تَتَّقُونَ) (الاية 183).

وَنهانا عن الرِّبا كما نهى الاُمم السابقة عنه، وأخبر عن بني إسرائيل في سورة النساء وقال:

(وَأخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نهُوُا عنه...) (الاية 161).

وكتب علينا في القصاص ما كتبه على من كان قبلنا كما أخبر سبحانه في سورة المائدة عن التوراة وقال:

(إنّا أَنزَلْنا التَّوراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحكُمُ بِها النَّبِيُّونَ الَّذينَ أَسلَموا لِلّذينَ هادُوا...* وَكَتَبنا عليهم فِيها أنَّ النَّفسَ بِالنَّفسِ وَالعَينَ بِالعَينِ وَالانفَ بِالانفِ وَالاُذُنَ بِالاُذُنِ وَالِسّنّ بِالِسّنِّ وَالجُرُوحَ قِصاص......) (الاية 45).

وعندما قال سبحانه وتعالى في سورة البقرة:

(وَالوالِداتُ يُرضِعْنَ أولادَهُنَّ حَولَين كامِلَينِ لَمِن أَرادَ أَن يُتِمَّ الرَّضاعة...) (الاية 233).

جعل ذلك نظاما للانسان الطفل منذ أوّل مولود ولد لادم وحوّاء، ولكلّ طفل يولد بعده على أيِّ أرض كان، لا يختصّ بشريعة دون اُخرى، لانّ هذا النظام متناسب مع فِطْرَةِ اللّهِ الّتي فَطَرَ النَّاس عَلَيْهَا لا تَبْديلَ لِخَلْقِ اللّه، ولذلك لا تبديل لدين اللّه، ذلك الدين القيّم ولكنَّ أكثر الناس لا يعلمون.

وإذا كان الامر كذلك فلماذا يخالف الانسان أحكام اللّه المتناسبة مع فطرته؟ هذا ما سندرسه في البحث الاتي إن شاء اللّه تعالى.

ز ـ‍ الانسان والنفس الامّارة بالسوء

عرفنا ممّا سبق أنَّ في غير صنف أصحاب الهداية التسخيرية من ذوات الارواح من الخلق ما تخالف هداية الربّ الغريزية لها مثل الدجاجة التي تتناول غائط الانسان النجس بدل التقاط ما طاب من الحبّ والخضار فتُستبرأ بإطعامها ثلاثة أيّام ممّا طاب وطهر من الطعام.

والنحل التي تجرس من نَوْرِ الازهار ما يضرُّ عمل التعسيل في خلية النحل فتمزقها الحرس في مدخل الخلية حفظا لبقاء نوعها وإدامةً لحياتهم.

وكذلك شأن البشر فإنَّ فيهم من يخالف النظام الملائم لفطرة الانسان والذي هداه الربُّ إليه بواسطة الانبياء اتباعا لهوى نفسه. وبيان ذلك أنَّ اللّه تعالى فضّل الانسان على ذوات الارواح بمنحه النفس الانسانية التي لا يعرف أبعاد وجودها غير خالقها، وممّا امتازت بِه تلكم النفس؛ العقل الذي به يسخِّر الانسان جميع ما يراه من الخلق من الذرة إلى ما لا نعرف اليوم نهايته.

وقال سبحانه في وصف النفس في سورة الشمس:

(وَنَفسٍ وَما سَوّاهَا* فَأَلْهَمَهَا فُجُورَها وَتقْواها) (الايتان 7 ـ 8).

شرح الكلمات

نَفْس:

جاءت النفس في اللّغة العربية لعدّة معانٍ منها:

أ ـ الروح التي بها الحياة، وإذا زايلت الجسم نزل به الموت، ويقال: خرجت نفس المحتضر.

ب ـ الشي‌ء ذاته وحقيقته ونفس الانسان والجن من هذا الباب.

ج ـ الشي‌ء عينه، ويقال في مقام التأكيد: جاءني محمد نفسه.

د ـ ما تقع موقع القلب. ويكون بها التمييز والادراك، والاحساس لما يحيط به، وتفارقه في النوم وعندما يغيب وعيه، وهي التي توجهه إلى أفعال الخير والشرّ. ويقال: أمرتني نفسي وسوَّلت لي نفسي فعل السوء (8) ، وهذا المعنى هو المراد من النفس في الاية الكريمة.

سَوّاها:

أتّم خلقها حتى بلغت درجة الكمال وتهيأت لقبول الهداية.

فَأَلهَمَها فُجُورَها وَتَقواها:

ألقى في النفس إحساسا تُفرِّق به بين الضلال والهدى. ويُعَبَّرُ عن ذلك في عصرنا بالضمير.

ومن صفات هذه النفس وأفعالها ما يشترك الانسان فيها مع صنف الحيوان من الحُبَّ والرضا، والرغبة والهوى، والكره والبغض والنفور، مضافا إليها ما ذكرناه من العقل الذي يميّز به الخير من الشرّ، والخبيث من الطيِّب.

ويثاب الانسان إذا اتَّبع إرشاد عقله وترك الشرور والخبائث، ويعاقب إذا خالف حكم العقل واتَّبع هوى نفسه، كما قال اللّه سبحانه وتعالى في سورة النازعات:

(وَأَمّا مَن خافَ مَقامَ رَبَّهِ وَنَهى النَّفسَ عَنِ الهَوى* فإنَّ الجنَّةَ هِيَ المَأوى) (الايتان 40 ـ 41).

وفي سورة مريم وصف قوما وقال جلَّ اسمه:

(أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبعُوا الشَّهَواتِ) (الاية 59).

وكما أنّ في داخل النفس الانسانية قوَّتين متكافئتين من دوافع الخير ونوازع الشرّ، فكذلك جعل اللّه للانسان من خارج نفسه فريقين:

فريقا يدعونه إلى الهدى وترك هوى النفس، وهم الانبياء وأتباعهم.

وفريقا يدعونه إلى الضلال ومتابعة هوى النفس، وهم شياطين الجنّ والانس.

ولا سلطان لايٍّ من الفريقين على الانسان، وإنَّما يُزيّن للانسان كلّ فريق ما هو أهله من الضلال والهدى، كما أخبر سبحانه في سورة الحجر عن الشيطان أنّه قال عندما طرده من الجنّة:

(رَبَّ بِما أغوَيتَني لاُزَيّنَنَّ لهم في الارض...) (الاية 39).

وفي سورة إبراهيم أخبر عن خطابه لمن تبعه يوم القيامة وقال سبحانه:

(وَقالَ الشَّيطانُ لَمّا قُضِيَ الامرُ إنَّ اللّهَ وَعَدَكمُ وَعْدَ الحَقِّ وَوَعَدْتُكُم فَأَخلَفتُكُم وَما كانَ لي علَيكُم مِن سُلطانٍ إلاّ أَن دَعَوتُكُم فَاستَجَبْتُم لي فَلا تَلُومُوني وَلُومُوا أَنفُسَكُم...) (الاية 22).

وكذلك شأن الانبياء مع الناس كما قال سبحانه في خطابه لخاتم أنبيائه (صلى الله عليه وآله وسلم) في سورة الغاشية:

(فَذَكِّر إنَّما أَنتَ مُذَكّرِ* لَستَ عَلَيْهِمِ بِمُسَيطِر) (الايتان 21 ـ 22).

وقال سبحانه وتعالى في سورة البلد:

(وَهَدَيناهُ النَّجدَين) (الاية 10).

أي: طريقي الخير والشر.

وقال سبحانه في سورة الانسان:

(إنّا هَدَيناهُ السَّبيلَ إِمّا شاكِرَا وَإِما كِفُورا) (الاية 3).

وقال عزَّ وجلَّ في سورة البقرة:

(لا إِكراهَ في الدِّين قَد تَبَيَّنَ الرُّشدُ مِنَ الغَيِّ فَمَن يَكفُرْ بِالطّاغُوتِ وَيُؤمِنْ بِاللّهِ فَقَد استَمسَكَ بِالعُروَة الوُثقى لا انفِصامَ لها وَاللّهُ سَميعٌ عَليم* أللّهُ وَليُّ الّذينَ آمَنوا يُخرجُهُم مِنَ الظُّلماتِ إلى النُّورِ وَالّذينَ كَفَرُوا أَولياؤُهُمُ الطاغُوت يُخرِجُونَهُم مِنَ النُّورِ إلى الظُّلُماتِ أُولئِكَ أَصحابُ النّارِ هُمْ فِيها خالدون) (الايتان 256 ـ 257).

ومن ثَم يكون الانسان مسؤولا عن عمله كما قال سبحانه وتعالى في سورة الزّلزلة:

(فَمَن يَعمَلْ مِثقال ذَرَّةٍ خيرا يَرَه* وَمَن يَعمَلْ مثقال ذَرَّةٍ شَرّا يَرَه) (الايتان 7 ـ 8).

***

كان ذلكم ما اخبر اللّه عن الانس ويشاركهم الجن في ذلك كما مر بنا الاشارة إليه في بحث اصناف الخلق، وتفصيله كالاتي بيانه باذنه تعالى:

ح ـ‍ مشاركة الجنّ للانس في شريعة الاسلام

قال سبحانه:

أ ـ في سورة الاحقاف:

(وَإِذْ صَرَفنا إِليكَ نَفَرا مِنَ الجِنِّ يَستَمِعُونَ القُرآنَ فَلَما حَضَرُوهُ قالُوا أَنصِتُوا فَلَمّا قُضِيَ وَلَّوا إلى قَومِهِم منذِرِينَ* قالُوا يا قَومَنا إِنّا سَمِعنا كِتابا أُنزِلَ مِن بَعدِ مُوسى مُصَدِّقا لِما بين يَدَيهِ يَهدي إلى الحَقِّ وَإلى طَريق مستقيم* ياقَومَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللّهِ وَآمِنُوا بِه...) (الايات 29 ـ‍ 31).

ب ـ في سورة الجنّ:

(قُل أُوحِيَ إليَّ أَنَّهُ استَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الجِنّ فَقالوا إِنّا سَمِعنا قُرآنا عَجَبا* يَهدي إِلى الرُّشدِ فآمَنَّا بِهِ وَلَن نشرَكَ بِرَبّنا أَحَدا* وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبّنا ما اتَّخَذَ صاحِبةً وَلا وَلَدا* وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا على اللّهِ شَطَطا* وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَنْ تُقُولَ الانسُ وَالجِنُّ على اللّهِ كَذِبا* وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الانسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الجِنَّ فَزادُوهُم رَهَقا وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنتُم أَن لن يَبعَثَ اللّهُ أَحَدا* وَأَنّا لَمَسنا السَّماء فَوَجَدناها مُلِئَت حَرَسا شَدِيدا وَشُهُبا* وَأنّا كُنّا نَقْعُدُ مِنها مَقاعدَ لِلسَّمعِ فَمَن يَستَمِعِ الانَ يَجِدْ لَهُ شِهابا رصَدا* وَأَنّا لا نَدرِي أَشَرُّ أُرِيدَ بِمَن في الارْضِ أَم أَرادَ بهم رَبُّهُم رَشَدا* وَأَنّا مِنّا الصّالِحُون وَمِنّا دُونَ ذلِكَ كُنّا طَرائِقَ قِدَدا* وَأَنَّا ظَنَنّا أَن لَّن نُعْجِزَ اللّهَ في الارْضِ وَلَن نُّعْجِزَهُ هَرَبا* وَأَنَّا لَمَّا سَمِعنا الهُدى آمَنّا بِهِ فَمَن يُؤمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخَافُ بَخْسا وَلا رَهَقا* وَأَنّا مِنّا المسلِمونَ وَمِنّا القاسِطُونَ فَمَن أَسلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوا رَشَدا* وَأَمّا القاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبا* وَأَلَّوِ استَقامُوا على الطّرِيقةِ لاَسقَيناهُم ماء غَدَقا) (الايات 1 ـ 16).

ج ـ في سورة الانعام:

(وَيومَ يَحشُرُهُم جَميعا يا مَعشَرَ الجِنِّ قِد استكثَرتُم مِنَ الانسِ وَقالَ أَولياؤُهُم مِنَ الانسِ رَبَّنا استَمتَعَ بَعضُنَا بِبَعضٍ وَبَلَغنا أَجَلَنا الَّذي أَجَّلتَ لَنا قالَ النّارُ مَثواكُم خالِدينَ فيها إلاّ ما شاء اللّهُ إِنَّ رَبَّكَ حكيمٌ عَليم*... يا مَعشَرَ الجِنَّ وَالانسِ أَلم يَأتِكُم رُسُلٌ مِنكم يَقُصُّونَ عَلَيكُم آياتي وَيُنذِرُونَكُم لِقاء يَومِكُمْ هذا قالُوا شَهِدْنا عَلى أَنفُسِنا وغَرَّتهُمُ الحَياةُ الدُّنيا وَشَهِدُوا عَلى أَنفُسِهِم أَنَّهم كانوا كافِرين) (الايات 128 و130).

شرح الكلمات

أ ـ جَدُّ:

الجدُّ هنا: العظمة والجلال.

م ـ غَدَقا:

غَدِقَ الماء غَدقا: كثر، وهم في غدق من العيش: في نعمة وخصب.

تفسير الايات:

وبعد بعثة خاتم الانبياء صرف اللّه نفرا من الجنّ للاستماع إلى تلاوة رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) القرآن، فقال بعضهم لبعض «انصتوا»، فلَمّا انتهى الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) من تلاوة القرآن انصرفوا إلى قومهم ينذرونهم، وقالوا: «يا قومنا إنّا سمعنا كتابا ـ أي القرآن ـ أُنزل بعد موسى مصدّقا للكتب التي نزلت قبله يهدي إلى الحق، ويا قومنا أجيبوا داعي اللّه وآمنوا به فإنّا آمنّا به ولن نشرك بربّنا أحدا، وإنّ ربّنا تعالى عن أن يتّخذ صاحبة أو ولدا، وإنّ رجالا من الانس ظنّوا كما ظننتم أن لن يبعث اللّه أحدا، وإنّ منّا ـ معاشر الجنّ ـ الصالحون ومنّا دون ذلك، وكانت سيرتنا مختلفة، وإنّ منّا المسلمين ومنّا الظالمين الجائرين عن الحقّ، وإنّ المؤمنين بربّهم لا يخافون بخسا في حقّهم ولا جورا يغشاهم، أمّا الظالمون الجائرون عن الحقّ فإنَّهم حطب جهنم يعذّبون فيها، وذلك اليوم هو اليوم الذي يحشر اللّه فيه الجنّ والانس جميعا، وبعد اعتراف المذنبين منهم بذنوبهم يقول اللّه لهم: إنّ النار مثواكم خالدين فيها إلاّ ما شاء اللّه واقتضت مشيئته أن يرحمه من المذنبين.

في ذلك اليوم يقول اللّه لهم: يا مَعْشَرَ الجنِّ! أَلْم يأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَليْكُمْ آياتي وَيُنْذِرُونَكُم لِقاء يَوْمِكُم؟ فيشهدون عَلى أنفسهم بالكفر».

يستنبط من قول الجن (انّا سمعنا كتابا انزل من بعد موسى... يا قوم اجيبوا داعي اللّه) ان الجن يشاركون الانس في الهداية بكتب اصحاب الشرايع: اولوا العزم من الرسل ولعلّ هؤلاء المنذرين هم المقصودون بقوله تعالى: (الم ياتكم رسل منكم يقصون عليكم وينذرونكم لقاء يومكم...).

تفسير الايات من الروايات

في صحيح مسلم وغيره، واللّفظ لمسلم عن ابن عباس قال:

انطلقَ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء وأرسلت عليهم الشهب؛ فرجعت الشياطين إلى قومهم فقالوا: مالكم؟ فقالوا: حيل بيننا وبين خبر السماء وأُرسلت علينا الشهب فقالوا: ما حالَ بينكم وبين خبر السماء إلاّ شي‌ء حدث، فاضربوا مشارق الارض ومغاربها فانظروا ما الذي حالَ بينكم وبين خبر السماء، فانصرف أُولئك الذين ذهبوا نحو تهامة إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو بنخلة عامدين إلى سوق عكاظ وهو يصلّي بأصحابه صلاة الفجر، فلمّا سمعوا القرآن استمعوا له فقالوا: هذا واللّه الذي حالَ بينكم وبين خبر السماء، فهنالك رجعوا إلى قومهم فقالوا: يا قومنا إنّا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرُّشد فآمنّا به، ولن نشرك بربّنا أحدا، فأنزل اللّه على نبيّه: (قُلْ أُوحِيَ إِليَّ أنَّهُ اسْتَمَعَ نَفرٌ مِنَ الجِنِّ)، وإنَّما أُوحي إليه قول الجنّ(9) .

وفي البحار عن تفسير علي بن إبراهيم القمّي في تفسير (يَاقَوْمَنا إِنّا سَمِعْنا) من سورة الاحقاف قال:

وكان سبب نزول هذه الاية، أنَّ رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) خرج من مكّة إلى سوق عكاظ ومعه زيد بن حارثة، يدعو الناس إلى الاسلام، فلم يجبه أحد ولم يجد من يقبله، ثّم رجع إلى مكّة، فلمّا بلغ موضعا يقال له: وادي مجنّة تهجّد بالقرآن في جوف اللّيل، فمرّ به نفر من الجنّ، فلمّا سمعوا قراءة رسول اللّه استمعوا له، فلمّا سمعموا قراءته قال بعضهم لبعض: «أَنِصْتوا» يعني اسكتوا.

«فلمّا قضى» أي فرغ رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) من القراءة (وَلَّوْا إلى قَومِهم مُنذِرينَ قالُوا ياقَومَنا إنّا سَمِعنا كِتابا اُنْزِلَ مِن بَعْدِ مُوسى مُصَدّقا لِما بين يَدَيهِ يَهديَ إلى الحَقِ وإلى طَريقٍ مُستقيم، ياقومَنا أجيبوا داعِيَ اللّهِ وَآمِنوا بِه) إلى قوله: (اُولِئك في ضَلالٍ مُبين) فجاءوا إلى رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) يطلبون شرايع الاسلام فأسلموا وآمنوا، وعلّمهم رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) شرائع الاسلام.

فأنزل اللّه على نبيّه: (قُل اُوحِيَ إليَّ أَنَّهُ استَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الجِنّ) السورة كلّها، فحكى اللّه قولهم وولّى رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) عليهم منهم، الحديث(10) .

نتيجة البحث

إنّ الجنّ كالانس في وصول كتب اللّه إليهم مثل التوراة والقرآن، وإن في الجنّ ـ كما في الانس ـ من بلغ درجة المنذرين لاقوامهم، وإنّ هؤلاء المنذرين أخبروا قومهم عن القرآن أنّه مصدِّقٌ لكتب اللّه السابقة ـ بكل ما في كلمة المصدّق من معنىً يدلّ على صدق القرآن ـ وإنّ في الجنّ مشركون باللّه الربّ كما في الانس، ويفهم من سياق الايات أنّ الجنّ كانوا يعتقدون أنّ للّه ولدا كما يعتقد بعض الانس أنّ المسيح هو ابن اللّه. وإنّ أفرادا من الجنّ كرجال من الانس يظنّون أن لن يبعث اللّه أحدا، وليس بعد هذه الحياة حياة وحشر.

وخلاصة القول: إنّ الجنّ كالانس فيهم المسلمون المؤمنون بربّهم، وفيهم الكافرون. أمّا المؤمنون بربّهم وبكلّ ما ذكرناه فإنهم هم الفائزون يوم القيامة، وأمّا الكافرون فإنّهم سيعذّبون بنار جهنم ويكونون لها حطبا.

وهكذا نجد أنّ الجنّ والانس يشتركان في العقائد ومنهما المشرك القائل بأنّ للّه ولدا، ومنهما أعداء الانبياء، ومنهما الموسوس لغيره لاغوائه، ومنهما المسلم المؤمن باللّه ورسله وكتبه، وأنّهما جميعا يحشران ويحاسبان ويعذّبان. إن الصنفين يشتركان في كلّ ذلك، أمّا كيفية عمل صنف الجنّ بالاحكام فلا بدَّ أن يكون بالنسبة لهم بما يتناسب وفطرتهم التي فطرهم اللّه عليها.

إذا فالاسلام هو دين اللّه وشريعته للانس والجنّ والذي بلغهما بواسطة الرسل أصحاب الشرايع ومن جاء بعدهم من أوصيائهم، كما سنبيّنه في البحث الاتي بحوله تعالى.

____________

(1) إنّما خصّصنا بالذّكر غريزة هوى النفس وحاسّة الادراك والعقل في الانسان، لمشاركة الجنّ إيّاه فيهما، وهما لوجود هوى النفس فيهما بحاجة إلى مذكّرين يذكّرونهما اللّه ومبشّرين ومنذرين من الرسل والاوصياء.

(2) راجع مادّة (ملك) من المعجم المفهرس للقرآن الكريم.

(3) المقصود من العرش محلّ جنود اللّه من الملائكة العاملة لالوهيّة اللّه وربوبيته وأنّه كان محلهم قبل خلق السموات والارض على الماء.

(4) طبقات ابن سعد، ط، أوربا 1 / 18. وروى ابن كثير في تاريخه 1 / 101 عن ابن عباس ـ أيضا ـ روايته: «عشرة قرون كلُّهم على الاسلام».

(5) قاموس الكتاب المقدس ـ فارسي ـ مادة (يهود) و(يهودا) و(صهيون).

(6) المصدر السابق مادة (الناصرة) و(الناصري).

(7) المصدر السابق، مادة (المسيح) و(المسيحي).

(8) راجع مادة: (نفس) في مفردات الراغب ومعجم الفاظ القرآن الكريم، وقد قسّم المعنى الرابع إلى ثلاثة أقسام ورأيناها واحدة كما ذكرناها.

(9) صحيح مسلم، كتاب الصّلاة، باب الجهر بالقراءة، ح 149، ص 331. وصحيح البخاري، كتاب التفسير، تفسير سورة الجنّ، 3 / 139.

(10) البحار، 63 / 82، نقلا عن تفسير القمّي، ص 623 ـ 624.