(6)
مبلِّغون عن اللّه ومُعلِّمون للناس

أ ـ معنى النبيّ والرّسول والوصيّ.

ب ـ أخبار الرسل والاوصياء في الكتب السماوية وفي السيرة والتاريخ.

ج ـ تعريف الاية ـ المعجزة ـ وكيفيّتها.

1 ـ‍ النبيُّ والرسولُ والوصيُّ

أ ـ النبيُّ والنبوَّة:

النبوَّة في اللُّغة: ألرفعة وعلّو المنزلة، وورد النبيُّ في قوله تعالى في سورة آل عمران:

(ما كانَ لِبشرٍ أَنْ يُؤتيَهُ اللّهُ الكتابَ وَالحُكمَ وَالنُّبُوَّةَ ثَمَّ يَقُولُ لِلنّاسِ كُونُوا عِبادا لي مِن دُونِ اللّه...) (الاية 79).

نظَيرا لمن أتاه اللّه الكتاب والحكم وقسيما لهما.

اذا فالنبُّوَّةُ مَنْزِلَةٌ خَاصَّةٌ فُضِّل النبيُّ بِها بِما آتاهُ اللّهُ مِنَ العِلْمِ وقُرْبِ المنزلِة مِنَ اللّهِ، وعليه فإنَّ النبيَّ من أُوتِيَ تلك المنزلة، وهي المقصودة في خطابه تعالى لنبيّه وقوله في سورة الاحزاب:

(يا أيُّها النَّبيُّ إنّا أرسَلناكَ شاهِدا وَمُبَشِّرا وَنذيرا وَداعيا إِلى اللّهِ بِإذنِهِ وَسِراجا مُنيرا) (الاية 45).

فإنّ المعنى: ياذا المنزلة الرفيعة، إنّا أرسلناك:... الخ.

وكذلك في قوله تعالى في سورة الاحزاب:

(النَّبِيُّ أولى بِالمؤمنينَ مِن أَنفسِهِم) (الاية 6).

والنبي يُوحى إليه، كما قال سبحانه وتعالى في سورة النساء:

(إنّا أَوْحَيْنا إليك كما أوحينا إلى نوحٍ والنَّبِّيينَ مِن بعدِه...) (الاية 166).

اذا فالنبي مصطلح اسلامي بمعنى: انسان ذي منزلة رفيعة عند اللّه يوحى إليه وقد يبعث اللّه الربُّ النبيِّين رسلا مبشّرين ومنذرين لهداية الناس، كما قال سبحانه وتعالى في سورة البقرة:

(كانَ النّاسُ أُمَّةً واحدةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرينَ وَمُنذِرينَ وَأُنْزَلَ مَعَهُمُ الكتاب) (الاية 213).

وَأَنزَلَ معهم الكتابَ أي: إنّ اللّه الربّ أنزل الكتب مع من كان من النبَّيين، وليس المقصود أنَّ الربَّ أنزل مع كل نبيٍّ كتابا.

ثمّ إنَّ الربَّ فضَّل بعض النبيَّين على بعض كما قال سبحانه في سورة الاسراء:

(ولَقَد فضَّلنا بَعضَ النبيِّين على بَعض) (الاية 55).

وأرسل رسله إلى الناس من النبيِّين كالاتي بيانه:

ب _ الرّسول:

الرسول: حامل الرسالة، وهو وسيلة هداية الربِّ للناس، وله شرف الوساطة بين الربَّ والمربوبين من البشر، ومرسل برسالة خاصة إليهم، ويختاره اللّه ممَّن أُرْسِلَ إليهم ومن أهل لغتهم كما قال سبحانه وتعالى في سورة إبراهيم:

(وَما أَرسَلنا مِن رَسولٍ إلاّ بِلِسانِ قَومِهِ ليُبَيِّن لَهُم...) (الاية 5).

وفي قوله تعالى:

(وَإلى عادٍ أَخاهُم هُودا) (في سورتي الاعراف 65، وهود 45).

وفي قوله تعالى.

(وَإلى ثَمُودَ أَخاهُم صالِحا) (في سور: الاعراف 73، وهود 61، والنمل 45).

وفي قوله تعالى:

(وَإلى مَدْيَنَ أَخاهُم شُعَيْبا) (في سور: الاعراف 85، وهود 84، والعنكبوت 36).

وانّ الحكمة في ذلك واضحة: ليتقوَّى برهطه في أداء التبليغ كما حكى اللّه تعالى في سورة هود عن قوم شعيب أنهم قالوا لشعيب:

(وَلَولا رَهْطُكَ لَرَجَمناك) (الاية 91).

ويرسل الربُّ الرسل لهداية الناس وإتماما للحجّة عليهم كما قال سبحانه في سورة النساء:

(ورُسُلا مُبَشّرينَ وَمُنذِرينَ لِئلاّ يَكُونَ لِلنّاسِ عَلى اللّهِ حُجَّةٌ بَعدَ الرُّسُل) (الاية 165).

وقال تعالى في سورة الاسراء:

(ومَا كُنّا مُعَذّبينَ حتّى نَبعثَ رَسُولا) (الاية 15).

وقال عزّ اسمه في سورة يونس:

(وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فإذا جاء رَسُولُهم قُضِيَ بينَهُم بِالقِسطِ وَهُمْ لا يُظلَمون) (الاية 47).

وتستحق الاُمم التي تعصي الرسول عذاب الدنيا والاخرة كما أخبر سبحانه عن فرعون ومن قبله وقال في سورة الحاقة:

(فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِم فَأَخَذَهُم أَخذَةً رابِيةً) (الاية 10).

وتكون معصية الرسول معصية اللّه الربّ، كما قال سبحانه في سورة الجن:

(وَمَنْ يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَإنَّ لَهُ نارَ جَهنَّمَ خَالدينَ فِيها أبدا) (الاية 23).

وَاخْتارَ اللّه الرسل من الانبياء وكان عدد الرسل أقلَّ من عدد الانبياء كما ورد ذلك في ما رواه أبو ذر وقال:

[... فقلت: يا رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم)! كم هي عدّة الانبياء؟

قال: «مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا، الرسل من ذلك: ثلاثمائة وخمسة عشر، جمّا غفيرا»](1) .

وبناء على ما ذكرناه فإنَّ كلَّ رسول نبيٌ، وليس كل نبي رسولا مثل اليسَعَ (ع) فإنّه كان نبيّا ووصيّا للكليم موسى بن عمران (ع).

ومن الرسل من جاء بشريعة ناسخة لبعض ما في الشريعة السابقة من المناسك، كما كان شأن شريعة موسى (ع) بالنسبة إلى الشرائع السابقة على شريعته، ومنهم من جاء بشريعة متمِّمة مجدِّدة للشريعة السابقة كما كان شأن شريعة خاتم الانبياء (صلى الله عليه وآله وسلم) بالنسبة إلى حنيفية إبراهيم الخليل (ع) كما قال سبحانه وتعالى في سورة النحل:

(ثُمَّ أوحَينا إليكَ أَنِ اتَّبِع مِلَّةَ إبراهيمَ حَنيفا...) (الاية 123).

وقال تعالى في سورة المائدة:

(أَليومَ أكملتُ لكم دِينَكُم وَأَتمَمتُ عليكمْ نعمَتي وَرَضِيتُ لَكُمُ الاسلامَ دِينا) (الاية 3).

أمّا الاوصياء من الانبياء فأخبارهم كالاتي:

الوصيّ والوصيّة:

الوصيّ في الكتاب والسنّة: هو الانسان الذي أوصى إليه غيره أن يقوم بعد وفاته بأمر يهمّه، سواء في ذلك أن يقول الموصي لوصيّهِ:

أُوصيك أن تفعل كذا وكذا من بعدي، أو يقول: أعهد إليك أن تفعل كذا وكذا من بعدي، وكذلك الشأن في إخباره الاخرين الوصيّة، فإنّه سواء في ذلك أن يقول: فلان وصيِّي من بعدي، أو يقول: فلان يقوم بعدي بعمل كذا وكذا، وما شابهها من الالفاظ الدالّة على الوصيّة.

ووصّي النبيّ: هو الانسان الذي يعهد إليه النبيّ بأمر شريعته وأُمته من بعده(2) .

وممّا بلغنا من أخبار الاوصياء من الانبياء ما رواه الطبري عن ابن عباسَ وقال ما موجزه:

ولدت حوّاء لادم هبة اللّه واسمه بالعبرانية: شيث، وإليه أوصى آدم.

وولد لشيث أنوش، ولمّا مرض أوصى لابنه أنوش ومات.

ثمّ ولد لانوش ابنه قينان ونفر كثير، وإليه الوصيّة.

وولد قينان مهلائيل اليرد ونفرا معه، وإليه الوصيّة.

فولد يرد أخنوخ، وهو أدريس ونفرا معه، وإليه الوصيّة.

فولد أخنوخ متوشَلخ ونفرا معه، وإليه الوصيّة.

وروى ابن سعد في ذكر ادريس النبيّ (ع) بسنده عن ابن عبّاس، وقال:

أوّل نبّي بعث بعد آدم إدريس وهو خنوخ بن يرد... فولد خنوخ متوشلخ ونفرا معه، وإليه الوصيَّة. فولد متوشلخ لملك ونفرا معه، وإليه الوصيَّة، فولد لمك نوحا(3) .

وروى المسعودي في أخبار الزمان وقال ما موجزه:

ولمّا أراد اللّه سبحانه وتعالى أن يتوفى في آدم أمره أن يسند وصيته إلى ابنه شيث ويعلِّمه جميع العلوم التي عُلِّم بها ففعل.

وقال: وأوصى (شيث) إلى ابنه قينان، وقد كان علَّمه الصحف وبيَّن له قسمة الارض، وما يكون فيها، وأمره بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والحج، وبجهاد ولد قابيل. ففعل ما أمره به أبوه، ومات قينان وله سبعمائة سنة وعشرون سنة.

وأوصى إلى ابنه مهلايل ووصّاه بما أوصاه به، وكان عمر مهلايل ثمانمائة سنة وخمسة وسبعين سنة.

وأوصى إلى ابنه بوارد وعلَّمه الصحف وعلّمه قسمة الارض، وما يحدث في العالم، ودفع إليه كتاب سرِّ الملكوت الذي علَّمه مهلاييل(4) الملك لادم (عليه السلام)، وكانوا يتوارثونه مختوما لا ينظرون فيه.

وولد لبوارد ابنه خنوخ، وهو ادريس النبي (ع) ونبّأه اللّه تعالى وسمي إدريس لكثرة درسه لكتاب اللّه عزّ وجلّ، وسنن الدين، وأنزل اللّه سبحانه وتعالى عليه ثلاثين صحيفة فكملت الصحف المنزّلة يومئذ ثلاثين صحيفة، وعهد بوارد إلى خنوخ ورفع إليه وصيّة أبيه وعلّمه العلوم التي كانت عنده ودفع اليه مصحف السرِّ فلم يدفعه بعد شيث غير ادريس (عليهما السلام).

أمّا اليعقوبي فقد أورد أخبار الاوصياء بالتسلسل نفسه وبتفصيل أكثر من الطبري وابن الاثير، وأورد أخبارا اُخَرَ عن أمر الوصيّة، وقال مثلا:

ولما حضرت آدمَ الوفاةُ جاءه شيث ابنه وولده وولد ولده فصلّى عليهم ودعا لهم بالبركة وجعل وصيّته إلى شيث.

وقال: وقام بعد موت آدم ابنه شيث وكان يأمر قومه بتقوى اللّه سبحانه والعمل الصالح... إلى قوله: فلمّا حضرت وفاة شيث أتاه بنوه وبنو بنيه وهم يومئذ أنوش وقينان ومهلائيل، ويرد، وأخنوخ، ونساؤهم وأبناؤهم، فصلَّى عليهم ودعا لهم بالبركة، وتقدّم إليهم وحلَّفهم... ولا يختلطوا بأولاد قابيل الملعون، وأوصى إلى أنوش أبنه.

وهكذا سلسل أخبار الوصيّة مع ذكر ما وقع في أيّامهم إلى قوله في خبر وصيّة نوح:

ولمّا حضرت وفاة نوح إجتمع إليه بنوه الثلاثة: سام وحام ويافث وبنوهم فأوصاهم، ثمّ ذكر تفصيل وصيّة نوح لسام، وكذلك ذكر تسلسل أخبار الاوصياء وصيّا بعد نبي إلى آخر أنبياء بني إسرائيل وأوصيائهم، وقد اكتفينا منها بما أوردناه موجزا إلى هنا(5) .

وانتشر على عهد نوح عبادة الاصنام في ولد قابيل.

وأوصى إدريس إلى ابنه متوشلخ، لانّ اللّه أوحى إليه أن اجعل الوصيّة في ابنك متوشلخ فاني سأخرج من ظهره نبيا يرتضي فعله. ورفع اللّه إدريس (ع) إليه وانقطع الوحي بعده.

فكثر الاختلاف بعده والتنازع وأشاع عليه ابليس أنّه هلك، وأنّه كان كاهنا أراد الصعود إلى الفلك فأُحرق، وحزن عليه ولد آدم المتمسّكون بدينه حزنا شديدا، وأظهر أنّ صنمهم الاكبر أهلكه فزادوا في عبادة الاصنام وتحليتها والذبائح لها، وعملوا عيدا لم يبق أحد إلاّ حضره، وكانت لهم يومئذ من الاصنام يغوث ويعوق ونسر(6) وود وسواع.

ولمّا حضرت متوشلخ الوفاة أوصى إلى ابنه لمك ومعنى لمك الجامع، وعهد إليه أبوه ودفع إليه الصحف والكتب المختومة التي كانت لادريس (ع)، وكان عمر متوشلخ تسعمائة سنة.

وانتقلت الوصيّة إلى لمك (وهو أبو نوح (عليهما السلام»، وقد كان رأى أنّ نارا خرجت من فيه، فأحرقت العالم، ورأى وقتا آخر كأنّه على شجرة في وسط بحر لا غير.

وكبر نوح (ع) فنبّأه اللّه عزّ وجلّ وهو ابن خمسين سنة وأرسله إلى قومه الذين كانوا يعبدون الاصنام، وهو من أهل العزم من الرسل.

وفي بعض الاخبار أن عمره ألف ومائتان وخمسون سنة، وأنّه لبث في قومه يدعوهم إلى الايمان ألف سنة إلاّ خمسين عاما كما قال اللّه تعالى، وكانت شريعته التوحيد والصلاة والصيام والحج ومجاهدة أعداء اللّه من ولد قابيل، وأمر بالحلال ونهى عن الحرام، وأُمر أن يدعو الناس إلى اللّه تعالى، ويحذّرهم عذابه، ويذكِّرهم آلاءه.

وقال المسعودي:

إنّ اللّه جعل لسام بن نوح الرئاسة والكتب المنزلة من الانبياء، ووصيّة نوح في ولده خاصّة دون إخوته(7) .

إلى هنا ينتهي الموجود بأيدينا اليوم من كتاب «أخبار الزمان» للمسعودي، وكذلك سلسل المسعودي في كتاب «اثبات الوصية»(8) ذكر الاوصياء من آدم (ع) إلى النبي الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم). هذا ما كان في مصادر الدراسات الاسلامية عن الرسل وأوصيائهم.

ونرجع بعد ذلك إلى أخبار الرسل وأوصيائهم في كتب العهدين في ما يأتي:

2 ـ‍ بعض أخبار الاوصياء في كتب العهدين

نقتصر في نقل أخبار الاوصياء من العهدين على ذكر أخبار ثلاثة منهم كالاتي:

أ ـ وصيّة كليم اللّه موسى (ع) لنبي اللّه يوشع (ع):

ورد في مادّة (يوشع) من «قاموس كتاب مقدّس» نقلا عن التوراة:

أنّ يوشع بن نون كان مع موسى في جبل سينا ولم يتلوّث بعبادة العجل على عهد هارون.

وفي آخر الاصحاح السابع والعشرين من سفر العدد ورد خبر تعيينه من قبل اللّه وصيّا لموسى كالنّصّ الاتي:

فَكَلَّمَ مُوسى الرَّبَّ قَائِلا. لِيُوَكِلِّ الرَّبُّ إلهُ أَرواحِ جَميعِ الْبَشَرِ رَجُلا عَلَى الْجَمَاعَةِ يَخْرُجُ أَمَامَهُمْ وَيَدْخُلُ أَمَامَهُمْ وَيُخُرْجُهُمْ وَيُدْخِلُهُمْ لِكَيْلاَ تَكُونَ جَمَاعَةُ الرَّبِّ كَالْغَنَمِ الَّتي لاَ رَاعيَ لَهَا. فَقَالَ الرَّبُّ لِمُوسى خُذْ يَشُوعَ بْنَ نُونٍ رَجُلا فِيهِ رُوحٌ وَضَعْ يَدَكَ عَلَيْه وَأَوقِفْهُ قُدَّامَ أَلِعَازَارَ الْكَاهِنِ وَقُدُّام كُلِّ الجَمَاعَةِ وَأَوْصِهِ أَمَامَ أَعْيُنِهِم. وَاجْعَلْ مِنْ هَيْبَتِكَ عَلَيْهِ لِكَيْ يَسْمَعَ لَهُ كُلُّ جَمَاعَةِ إسْرَائِيلَ. فيَقِفَ أَمَامَ أَلِعَازَارَ الْكَاهِنِ فَيَسْأَلُ لَهُ بِقَضاَء الاُورِيمِ أَمَامَ الرَّبِّ. حَسَبَ قَوْلِهِ يَخْرُجُونَ وَحَسَبَ قَولِهِ يَدْخُلونَ هُوَ وَكُلْ بَنيِ إِسرَائِيلَ مَعهُ كُلُّ الْجَمَاعَةِ فَفَعَلَ مُوسى كَمَا أَمَرَهُ الرَّبُّ أَخَذَ يَشُوعَ وَأَوْقَفَهُ قُدَّامَ أَلِعَازَارَ الْكَاهِنَ وَقُدَّامَ كُلِّ الْجَمَاعَةِ وَوَضَعَ يَدَيْهِ عَلَيْهِ وَأَوْصَاهُ كَمَا تَكَلَّمَ الرَّبُّ عَنْ يَدِ مُوسَى.

وورد خبر قيامه بأمر بني إسرائيل وحروبه في ثلاثة وعشرين إصحاحا من سفر يوشع بن نون(9) .

ب ـ وصيّة نبيّ اللّه داود (ع) لنبيّ اللّه سليمان (ع):

ورد في الاصحاح الثاني من سفر الملوك الاول العدد: (1 ـ 4).

وَلَمَّا قَرُبتْ أَيَّامُ وَفاَةِ دَاوُدَ أَوْصَى سُلَيْمَانَ ابْنَهُ قَائِلا أَنَا ذَاهِبٌ في طَرِيقِ الارضِ كُلّهَا. فَتشَدَّدْ وَكُنْ رَجُلا. احْفَظْ شَعَائِرَ الَّربَّ إِلهِكَ إذ تَسيرُ فيِ طُرُقِهِ وَتَحْفَظُ فرائِضَهُ وَصَايَاهُ وَأَحْكَامَهُ وَشَهَادَاتِهِ كَمَا هُوَ مَكتُوبٌ فيِ شَريِعَةِ مُوسى لِكَي تُفْلحَ فيِ كُلِّ مَا تَفْعَلُ وَحَيْثُمَا تَوَجَّهْتَ.

ج ـ وصَيّة عيسى (ع) للحواريّ شمعون بطرس:

شمعون اسمه في التوراة سمعون، وقد ورد خبره في إنجيل متّى، الاصحاح العاشر كالاتي:

«ثمّ دعا ـ يعني عيسى ـ تلاميذه الاثنى عشر وأعطاهم سلطانا على أرواح نجسة حتى يخرجوها، ويشفوا كلَّ مرض وكلَّ ضعف. وهذه أسماء الاثني عشر رسولا: الاول سمعان الّذي يقال له بطرس...».

وفي إنجيل يوحنا، الاصحاح 21 العدد: 15 ـ 18 أنّ عيسى أوصى إليه وقال له: «إرْعَ غنمي» كناية عن رعاية من آمن به.

وجاء في «قاموس كتاب مقدَّس» أيضا:

«عيَّنه المسيح لهداية الكنيسة»(10) .

في الخبر الاول وجدنا النبيَّ الرسول موسى بن عمران (ع) يعيّنِ من بعده نبيَّ اللّه يوشع ـ اليسع في القرآن الكريم ـ وصيّا من بعده.

وفي الخبر الثاني وجدنا نبيَّ اللّه داود (ع) يوصي نبيَّ اللّه سليمان (ع) أن يعمل بشريعة نبيَّ اللّه ورسوله موسى بن عمران (ع).

وفي الخبر الثالث وجدنا عيسى كلمة اللّه (ع) يوصي حواريِّيه لهداية الناس.

أخبار الرّسل والاوصياء في القرآن الكريم

ذكر اللّه ـ سبحانه ـ في كتابه الكريم أخبار خمسة وعشرين نبيّا بأسمائهم وهم:

آدَم، ونوح، وإدريس، وصالح، وإبراهيم، ولوط، وأيّوب، واليسع، وذو الكفل، وإلياس، ويونس، وإسحاق، ويعقوب، ويوسف، وشعيب، وموسى، وهارون، وداود، وسليمان، وزكريّا، ويحيى، وإسماعيل صادق الوعد، وعيسى، ومحمّد صلَّى اللّه عليهم أجمعين.

منهم من كان صاحب شريعة متمِّمة ومكمِّلة للشريعة السابقة مثل شريعة نوح (ع) المكمِّلة لشريعة آدم (ع)، وشريعة محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) المكمَّلة لشريعة إبراهيم (ع).

ومنهم من كان صاحب شريعة ناسخة لشريعة من كان قبله مثل موسى (ع) ومحمّد (صلى الله عليه وآله وسلم).

ومنهم من كان نبيّا ووصيَّا وحافظا لشريعة النبيِّ الرسول الذي كان قبله، كيوشع بن نون (ع) وصيّا لموسى بن عمران (ع).

وكان لا بدَّ لمن يبعثه اللّه الربُّ لهداية الناس ـ رسولا كان أو وصيّ رسول ـ أن يؤتيه الربُّ آيةً على صدق مدَّعاه في أنّه مبعوث من قبل الربِّ، كما يأتي بيانه بإذنه تعالى:

3 ـ‍ الاية والمعجزة

الاية في اللغة: العلامة الدالّة على الشي‌ء بحيث إذا ظهرت العلامة اتضح وجود ذلك الشي‌ء.

وفي المصطلح الاسلامي: نوعان من العلامة الدالَّة على وجود الباري أو إحدى صفاته ـ أسمائه الحسنى ـ وهما:

أ ـ ما دلّ بوجوده المتقن على خالق حكيم، وبنظامه المحكم على ربّ يدبِّر شؤون الخلق وفق نظام محكم نسمّيه بسنن اللّه في الكون.

فمثال الاول قوله تعالى في سورة الغاشية:

(أَفَلا يَنظرُونَ إلى الابِلِ كَيفَ خُلِقَت* وَإلى السَّماء كَيفَ رُفِعَت* وَإلى الجِبالِ كَيفَ نُصِبَت...) (الايات 17 ـ 20).

وقوله تعالى في سورة العنكبوت:

(خَلَقَ اللّهُ السَّمواتِ وَالارضَ بِالحَقِّ إنَّ في ذلِكَ لايةً لِلمؤمِنين) (الاية 44).

ذكر اللّه تعالى في أمثال هذه الايات القرآنية أنواعا من الخلق تدلّ بوجودها على وجود خالقها، ولذلك يسِّميها الايات.

ومثال الثاني قوله تعالى في سورة النحل:

(هُوَ الَّذي أَنزَلَ مِنَ السَّماء ماء لكم مِنهُ شَرابٌ وَمِنهُ شَجَرٌ فِيهِ تُِسيمُون* يُنبِتُ لكم بِهِ الزَّرعَ وَالزَّيتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالاَعنَابَ وَمِن كُلِّ الثَّمَراتِ إِنَّ في ذلِكَ لايةً لِقَومٍ يَتَفَكَّرُون* وَسَخَّرَ لكم اللَّيلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمسَ وَالقمرَ وَالنُّجومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمرِهِ إِنَّ في ذلِكَ لاياتٍ لِقَومٍ يَعقِلُون* وَمَا ذَرَأَ لَكُم فيِ الارضِ مِختَلِفا أَلوانُهُ إِنَّ في ذلِكَ لايةً لِقَومٍ يَذِّكَّرُون) (الايات 10 ـ 13).

ذكر اللّه في أمَثال هذه الايات القرآنية أنواعا من النظام الكوني الذي يدلّ على وجود الربِّ المدبِّر الحكيم، للعالمين، وقد يجمع اللّه في الذكر بين الايات الدالَّة على الخالق العزيز والربّ المدبِّر الحكيم مثل قوله تعالى في سورة البقرة:

(إنَّ في خَلقِ السَّمواتِ وَالارضِ وَاختِلافِ اللَّيلِ وَالنَّهارِ وَالفُلكِ الَّتِي تَجري في البَحرِ بِما يَنفَعُ الناسَ وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّماء مِن ماء فَأحيا بِهِ الارضَ بَعدَ مَوتِها وَبَثَّ فِيها مِن كُلِّ دابَّةٍ وَتَصرِيفِ الرِيّاحِ وَالسَّحابِ المُسَخَّرِ بَينَ السَّماء وَالارضِ لاياتٍ لِقَومٍ يَعْقِلون) (الاية 164).

ذكر اللّه تعالى في أوّل الاية خلق السماوات والارض، وذكر بعدها آيات النظام الكوني الذي قدَّره الربُّ والتي نسمِّيها بسنن اللّه في الكون.

ب ـ ما آتى اللّه الربُّ الانبياء من الولاية على النظام الكونَّي بحيث إذا اقتضت مشيئة اللّه أن يغيرِّ النبيُّ شيئا يسيرا من النظام الذي جعله اللّه للكون استطاع أن يفعله بإذن اللّه تعالى، كما حكى اللّه تعالى ذلك في وصف عيسى (ع) في سورة آل عمران، وقال:

(وَرَسولا إلى بَني إسرائيلَ أنِّي قَد جِئتُكُم بِآيةٍ مِن ربِّكُم أنّي أخلُقُ لَكُم مِنَ الطِّين كَهَيئَةِ الطَّيْر...) (الاية 49).

ويسمَّى هذا النوع من آيات اللّه في العرف الاسلامي بالمعجزة، لانَّ سائر البشر يعجزون عن الاتيان بمثلها، وهي خارقة للنظام الطبيعي للخلق، مثل خلق عيسى (ع) من الطين طيرا بإذن اللّه لتكون دليلا أوَّلا على أنَّ اللّه الربَّ هو الذي أعطى الاشياء خواصَّها ونظامَها الطبيعي، ومتى اقتضت حكمته أن يسلب أيَّ شي‌ء خواصه، إستطاع أن يفعل ذلك؛ مثل أن يسلب النار خاصة الاحراق لابراهيم (ع) حين اُلقِيَ فيها، ومتى اقتضت حكمته أن يغيّر النظام الطبيعي الذي جعله لبعض خلقه، استطاع أن يفعل ذلك؛ مثل خلق الطير من الطين بيد عيسى (ع) بدل إنشائه من أُنثى الطير بعد اللِّقاح من الطير الذكر وفقا للنظام الطبيعي الذي جعله في تسلسل خلق ذوات الارواح.

ومعاجز الانبياء ـ كما ذكرنا ـ خرقٌ للنظام الطبيعي وليست طيّا لمراحل انتقال المادة من حال إلى حال وصورة بعد صورة حتى تستقرَّ في الصورة الاخيرة، أي ان خلق الطير من الطين يتحقق ضمن سلسلة مراحل يكون قريبا من سير النور، يطويها اللّه لنبيّه بأسرع من زمانه الطبيعي وتدرُّجه في الانتقال كما يفهم ذلك من كلام بعض فلاسفة المسلمين.

وليست المعجزة سحرا فإنّ السحر ضرب من التخييل لا حقيقة له، والساحر ـ مثلا ـ عندما يُري أنّه ابتلع طيرا أو دخل في فم الناقة وخرج من دبرها، أو هشَّم أوانَي زجاجيةً ثمّ أعاد كل شي‌ء كما كان، لم يفعل أيَّ شي‌ء من ذلك، وإنّما سحر أعين الرائين فتخيّلوا ذلك، ولّما انتهى مفعول السحر رأى الحاضرون كل شي‌ء كما كان دونما تغيير أو تبديل.

والمعجزة تغيير حقيقي للنظام الطبيعي مثل ابتلاع عصا موسى (ع) ـ التي أصبحت ثعبانا عظيما ـ جميع ما ألقى السحرة في الساحة الكبيرة، ولمّا عاد الثعبان في يد موسى (ع) إلى العصا لم يبق أثر لما كان قد ألقى السحرة في تلك الساحة، ومن ثمّ أُلقِيَ السحرة ساجدين، وقالوا: آمنّا برَبِّ العالمين ربِّ موسى وهارون؛ لانّهم كانو متخصِّصين في أمر السحر، وأدركوا أنّ عمل موسى (صلى الله عليه وآله وسلم) ليس بسحر وإنّما هو آية من آيات الربِّ تعالى.

وكذلك لا تأتي المعجزة في الامر المحال وما يُسَّمى في علم المنطق باجتماع النقيضين مثل أن يكون الشي‌ء في زمان واحد ومكان واحد موجودا وغير موجود.

وحقيقة معجزات الانبياء آيات يجريها اللّهُ الربُّ على أيديهم، لا يستطيع الانس والجنُّ أن يأتوا بمثلها ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا.

فإنّ في الجنّ مثلا من يستطيع أن يأتي بعرش بلقيس من اليمن إلى سليمان قبل أن يقوم من مقامه، لانّ سير الجنّ في الجو قد يكون قريبا من سير النور.

وبناء على ذلك قد يستطيع الجنّ أن يخبر عن شي وقع في مكان ما، لكاهن يتّصل به، ولكن لا يستطيع الجنّ والانس أن يخلقوا من الطين طيرا فيكون طيرا، ما لم يكن الربّ قد أذن بذلك.

وقد يستطيع المرتاض الهندي أن يوقف القطار عن الحركة، ولكنّه لا يستطيع هو ولا غيرهم ممَّن لم يأذن له الربُّ أن يضرب بعصاه الحجر فتنبجس منه اثنتا عشرة عينا. ولما كان اللّه الربُّ يؤتي من بعثه من الانبياء الايات، لتعلم أُمُمهم صدق أدّعائهم أنهم مبعثون من قبل الربّ، كان مقتضى الحكمة أن تكون الايات ممّا تعرفها الامة التي بُعِثَ النبيُّ لهدايتها، كما أخبر بذلك الامامُ عليُّ بن موسى الرضا (ع) من سأله: لماذا بعث اللّه موسى بن عمران بيده البيضاء والعصا وآلة السحر؟ وبعث عيسى بالطبّ؟ وبعث محمّدا (صلى الله عليه وآله وسلم) بالكلام والخطب؟ بقوله:

«إنَّ اللّه تبارك وتعالى لمّا بعث موسى (ع) كان الاغلب على أهل عصره السحر. فأتاهم من عند اللّه عزَّ وجلَّ بما لم يكن في وسع القوم مثله، وبما أبطل به سحرهم وأثبت به الحجّة عليهم، وأنّ اللّه تبارك وتعالى بعث عيسى في وقت ظهرت فيه الزمانات واحتاج الناس إلى الطبّ، فأتاهم من عند اللّه عزّ وجلّ بما لم يكن عندهم مثله، وبما أحيا لهم الموتى وأبرأ الاكمة والابرص بإذنه، وأثبت به الحجّة عليهم، وإنّ اللّه تبارك وتعالى بعث محمّدا في وقت كان الاغلب على أهل عصره الخطب والكلام ـ وأظنّه قال: والشعر ـ فأتاهم من كتاب اللّه عزَّ وجلَّ ومواعظه وأحكامه ما أبطل به قولهم وأثبت الحجّة عليهم».

فقال السائل: تاللّه ما رأيت مثل اليوم قطّ، فما الحجّة على الخلق اليوم؟

فقال (ع): «العقل؛ تعرف به الصادق على اللّه فتصدّقه، والكاذب على اللّه فتكذّبه».

فقال السائل: هذا واللّه الجواب(11) .

***

وكان إتيان الانبياء الايات الخارقة لشي‌ء من النظام الطبيعي للاشياء من سنن اللّه الربِّ الكونية في المجتمعات الانسانية التي يبعث الانبياء إليها.

ومن ثمّ كانت الاُمم تطالب أنبياءها بأن يأتوا لهم بآية تكون دليلا على صدق مدَّعاهم، كما حكى اللّه تعالى في سورة الشعراء عن قوم ثمود أنّهم قالوا لنبيِّهم صالح (ع):

(ما أَنتَ إلاّ بَشَرٌ مِثلُنا فَأْتِ بآيةٍ إن كُنتَ مِنَ الصادقِين* قالَ هذِهِ ناقةٌ لها شِربٌ وَلكم شِرب يَومٍ مَعلُوم* وَلا تَمَسُّوها بِسُوء فَيَأخُذَكُم عَذابُ يَومٍ عَظيم) (الايات 154 ـ 156).

وبعد بيان النبيِّ الاية المعجزة، كثيرا ما كانت الاُمم تكابر وتعاند نبيَّها ولا تؤمن باللّه ربّا وبنبيِّه مبعوثا إليهم، كما أخبر اللّه تعالى عن قوم ثمود بعد هذه الايات وقال: (فَعَقَرُوها فَأَصبَحوا نادِمين) (الاية 157).

وإذا نزلت الاية حسب طلب قوم النبىٍِّّ ولم يؤمنوا بها استحقوا الرجز والعذاب، فيعذِّبهم اللّهُ تعالى كما أخبر في السورة نفسها عن عاقبة قوم ثمود ـ أيضا ـ وقال عزَّ اسمه:

(فَأَخَذَهُمُ العَذابُ إِن في ذلِكَ لايةٌ ومَا كانَ أِكثَرُهُم مؤمنين) (الاية 158).

ويكون إتيان الاية للانبياء بمقتضى الحكمة، ومقتضى الحكمة إتيان الاية بالمقدار الذي يظهر لمن أراد أن يؤمن بالربِّ ورسوله أنَّ الرسولَ صادقٌ في دعواه وليس بمقدار تعنّت الاقوام التي تأبى الايمان بالربَّ وبرسوله على أيِّ حال، ولا تأتي ـ أيضا ـ بالامر المحال كما ورد الامران في طلب قريش من خاتم الرسل (صلى الله عليه وآله وسلم) وذلك بعد أن آتى اللّه قريشا من آياته ما اختص العرب به: كَلاما بليغا، وخاطبهم في سورة البقرة وقال لهم:

(وإن كُنتُم في رَيبٍ مِمّا نَزَّلْنا على عَبدِنا فَأْتوا بِسُورَةٍ مِن مِثْلِهِ وِادعُوا شُهداءكُم مِن دونِ اللّهِ إنْ كُنتُم صادِقين* فَإنْ لَمْ تَفعَلوا وَلَن تَفعَلوُا فَاتَّقُوُا النّارَ الّتي وَقوُدُها النّاسُ وَالحِجارَةُ أُعِدتَّ لِلكافِرين) (الايتان 23 ـ 24).

وقد أخبر اللّه تعالى في سورة الاسراء عن أنواع تعنُّتِهم وقال: (قُلْ لَّئِنِ اجتَمَعَتِ الانسُ وَالجِنُّ عَلى أَن يَأتُوا بِمِثلِ هذا القُرآنِ لا يَأتُونَ بِمِثلِهِ وَلَو كانَ بَعضُهُم لِبَعضٍ ظَهيرا* وَلَقَد صَرَّفنا لِلنّاس في هذا القُرآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ فَأَبى أَكثَرُ النّاسِ إلاّ كُفُورا* وَقالُوا لَن نُّؤمِنَ لَكَ حَتى تَفجُرَ لَنا مِنَ الارضِ يَنبُوعا* أَو تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِن نخِيلٍ وعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الانهارَ خِلالَها تَفجِيرا* أو تُسقِطَ السَّماء كَما زَعَمتَ عَلَينا كِسَفا أو تَأْتَيِ بِاللّهِ وَالمَلائِكَةِ قَبِيلا* أَو يَكُونَ لَكَ بَيتٌ مِن زُخرُفٍ أَوْ تَرقى في السَّماء وَلَن نؤمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَينا كتابا نَقرَؤهُ قُل سُبحانَ رَبِّي هَل كُنَتُ إلاّ بَشَرا رسُولا* وَما مَنَعَ النّاسَ أَن يُؤمِنُوا إِذ جاءهُمُ الهُدى إلاّ أَن قالُوا أَبَعَثَ اللّهُ بَشَرا رسُولا قُل * لَو كانَ في الارضِ مَلائِكَةٌ يَمشُونَ مُطمَئِنِّينَ لَنَزِّلنا عَلَيهم مِنَ السَّماء مَلَكا رَسولا* قُل كَفى بِاللّهِ شَهيدا بَيني وَبَينَكُم إِنّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيرا بَصِيرا) (الايات 88 ـ 96).

فأتمّ اللّهُ الربُّ عليهم الحجّة، وقال: (إن كُنتُم في رَيبٍ ممّا نَزلنا عَلى عَبدِنا فَأتوا بِسُورَة مِن مِثْلِهِ وَادعوا شُهَداءكُم)، وَأَخْبَرَ أَنَّ الانس والجنّ لو اجتمعوا لَمَا استطاعوا أن يأتوا بمثله وإنْ كان بعضهم لبعض ظهيرا، وأكَّد ذلك وقال: لَنْ تستطيعوا أن تأتوا بمثله، وحتى عصرنا الحاضر لم يستطع خصوم الاسلام ـ على كثرتهم وما يملكون من قوى ضخمة ومتنوعة ـ أن يأتوا بسورة من مثل القرآن.

بعد هذا التحدِّي الصارخ وإتيان الامر المعجز للانس والجنّ، وعجز قريش عن الاتيان بمثله، طلبوا من الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يغيِّر مناخ مكّة وأن يكون له بيتٌ من ذهب، أو يأتي باللّه والملائكة قبيلا، أو يرقى في السماء ولا يؤمنون لِرقيِّه حتى ينزِّل عليهم كتابا يقرؤونه، وكان في ما طلبوا؛ الامرُ المحالُ وهو أن يأتيَ باللّهِ وَالمَلائِكَةِ قَبيلا (تَعالى اللّهُ عمّا قالَه الظّالِمونَ عُلُوّا...) وكان فيه ما يخالف سنن اللّه في إرسال الانبياء بأن يرقى أمامهم إلى السماء ويأتي لهم بكتاب وهو ما خصَّ اللّهُ رسله من الملائكة وليس من شأن البشر، واستنكروا أنْ يبعث اللّه لهم بشرا رسولا، في حين أنّ الحكمة تقتضي أن يكون الرسل من جنس البشر ليكونوا في عملهم قدوةً وأُسوةً لقومهم، ولم تكن سائر طلباتهم موافقة لمقتضى الحكمة، مثل طلبهم أن ينزِّل عليهم العذاب، ولذلك أمر أن يُجيبهم ويقول: (سُبحانَ رَبِّي هَل كُنتُ إلاّ بَشَرا رَسُولا).

وخلاصة ما ذكرناه أن حكمة الربّ اقتضت أنَّ المرسل من قبله يأتي بآية من ربِّه تدلُّ على صدق ادِّعائه، ويُتَّم بذلك الحجَّةَ على الناس، وعندئذ يؤمن من شاء أنْ يؤمن، ويجحد من شاء أنْ يجحد، كما كان شأن قوم موسى وهارون (عليهما السلام) بعد إتيان المعجزات، فقد آمنت السحرة وكفر بها فرعون وملاهُ فأخزاهم اللّه بالغَرَقِ، وما يأتي به الانبياء من قبل اللّه ـ سبحانه وتعالى ـ يسمَّى في المصطلح الاسلامي بالمعجزة دليلا على صدقهم.

وبالاضافة إلى ما ذكرنا فإنّ للذين جعلهم اللّه أئمة لهداية الناس (سواء كانوا رسلا أصحاب شرايع أو أوصياء لهم) صفات يمتازون بها عن غيرهم من الناس كما سندرسها في البحث الاتي بحوله تعالى:

(7)
صفات المبلِّغين عن اللّه

عصمتهم من الذنوب

أ ـ إبليس لا سلطان له على خلفاء اللّه في الارض.

ب ـ أثر العمل وخلوده وانتشار بركة الاعمال وشؤمها على الزمان والمكان.

ج ـ عصمة خلفاء اللّه عن المعصية لرؤيتهم ذلك.

د ـ روايات مكذوبة على نبي اللّه داود في زواجه بأرملة أوريا وعلى خاتم الانبياء في زواجه بزينب مُطَلَّقَةَ مَنْ تَبَنّاهُ، والحكمة في الامْرَين.

هـ ـ آيات أخطأوا في تأويلها.

____________

(1) مسند أحمد: 5 / 265 ـ 266، وبتفصيل أوفى في معاني الاخبار للصدوق ص: 95، والخصال للصدّوق، 2 / 104، والبحار، 11 / 32 ح، 24، واللفظ‍ لاحمد.

(2) راجع شرحه في «معالم المدرستين» الجزء الاول / بحث مصطلح (الوصي).

(3) راجع أخبار ما أوردنا في تاريخ الطبري، ط، أوروبا 1 / 153 ـ 165 و 166، وتاريخ ابن الاثير 1 / 19 ـ 20، في ذكر شيث بن آدم، وطبقات ابن سعد، ط، 1 / 16، وذكر ابن كثير في تاريخه 1 / 98 خبر وصية آدم لابنه شيث.

(4) في نسخة: وابيل.

(5) راجع تاريخ الانبياء في الجزء الاول من تاريخ اليعقوبي.

(6) في نسخة: ونسرا وودا وسواعا.

(7) أخبار الزمان، للمسعودي، ط، بيروت 1386 هـ، ص: 75 ـ 102.

(8) فصّلنا القول في نسبة الكتاب في الجزء الثاني من هذا الكتاب، فصل: عصر الفترة، باب: أبوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

(9) التوراة من الكتاب المقدس، بيروت، المطبعة الامريكية سنة: 1907 م.

(10) قاموس كتاب مقدَّس، مادة (بطرس الحواري).

(11) البحار 11 / 70 ـ 71 باب (علة المعجزة وأنّه لِمَ خَصَّ اللّه كلَّ نبيَّ بمعجزة خاصة) نقلا عن علل الشرائع / ص: 52، وعيون الاخبار / ص: 234.