3 ـ‍ شريعة موسى كانت تخصّ بني إسرائيل

إنّ شريعة موسى التي جاءت في التوراة كانت تخصّ بني إسرائيل كما جاء في العدد الرابع من الاصاح الثالث والثلاثين في سفر التثنية ما نصّه: (موسى أمرنا بسنّة ميراثا لجماعة يعقوب).

أي أنّ موسى أمرنا بشريعة تخصّ جماعة يعقوب وهم بنو إسرائيل، وكذلك مرّ في الايات التي درسناها آنفا بيان ذلك. وفي ما يأتي ندرس أمر النسخ بتفصيل أوفى باذنه تعالى.

حقيقة النسخ في شريعة موسى (ع):

نبدأ بذكر أخبار بني إسرائيل في القرآن حسب التسلسل الزمني ثمّ ندرس أمر النسخ في شريعتهم:

أوّلا ـ تذكير بني إسرائيل بما أنعم اللّه عليهم:

أ ـ في سورة البقرة:

(يا بَني إسرائيلَ اذكُرُوا نِعمتيَ الَّتي أَنْعمتُ عَليكُم وأنّي فَضّلْتُكُم عَلى العالَمِين*... وإذْ نَجَّيناكُم مِن آل فِرعَونَ يَسُمونَكمُ سُوء العَذابِ يُذَبِّحونَ أبناءكُم وَيَستحيُون نِساءكم وفي ذلِكُمْ بَلاء مِن رَبِّكم عَظيم* وَإذْ فَرَقنا بِكُمُ البحرَ فَأْنجيناكُم وأغرقْنا آلَ فِرعَونَ وَأَنتم تَنظرونَ* وَإذْ واعَدْنا مُوسى أربعينَ لَيلةً ثُمَّ اتّخذْتُم العِجلَ مِن بَعْده وَأنتُم ظالِمون) (الايات 47 و49 و50 و51).

ب ـ في سورة الاعراف:

(وَجاوَزْنا ببَني إسرائيلَ البَحَر فأَتوْا على قومٍ يَعكِفُونَ على أَصنامٍ لَهمْ قالوا يا مُوسى اجعَل لَنا إلها كَما لَهم آلِهةٌ قالَ إنَّكم قَوْمٌ تَجْهَلون) (الاية 138).

ج ـ في سورة طه:

(وأضَلَّهُمُ السّامِريّ*... فَكذلكَ ألقى السّامِرِيّ* فَأَخرجَ لَهُم عِجلا جَسدا له خُوارٌ فَقالوا هذا إلهُكم وإلهُ مُوسى...).

(ولقَد قالَ لَهُم هارُونُ مِن قَبلُ يا قومِ إنَّما فَتِنتُم بِهِ وإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحمنُ فاتّبِعوني وأَطيعُوا أَمري* قالوا لَن نَبَرحَ عَلَيه عاكفينَ حَتّى يَرجِعَ إلينا مُوسى) (الايات 85 ـ 91).

د ـ في سورة البقرة:

(وإذْ قالَ مُوسى لِقَومِهِ ياقومِ إِنّكُم ظلمتُم أَنفُسَكم باتّخاذِكُمُ العِجلَ فَتُوبُوا إلى بارئِكُم فَاقتُلوُا أنفُسَكم ذلكُم خَيرٌ لَكُم عندَ بارِئِكُمْ فتابَ علَيكُم إنَّهُ هُوَ التّوّابُ الرَّحيم) (الاية 54).

ثانيا ـ التَّوراةُ وَبَعضُ أَحكامها:

أ ـ في سورة البقرة:

(وَإذْ أخَذْنَا ميثاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتّقُونَ) (الاية 63).

وقريب منه في الاية 93 منها والاية 171 من سورة الاعراف.

ب ـ في سورة الاسراء:

(وآتَينا مُوسى الكتابَ وَجَعلناهُ هُدىً لِبَني إسرائيل...) (الاية 2).

ج ـ في سورة آل عمران:

(كُلُّ الطَّعامِ كَانَ حِلا لِبَني إسرائيلَ إِلاّ ما حَرَّمَ اسرائيلُ عَلى نَفسِهِ مِن قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوراة...) (الاية 93).

د ـ في سورة الانعام:

(وَعَلى الّذينَ هادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ البَقرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا علَيهم شُحُومَهُما إلاّ ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الحَوايا أوْ ما اختَلَطَ بعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُم بِبَغْيِهِم وَإنّا لَصادقون) (الاية 146).

هـ ـ في سورة النحل:

(وَعَلى الّذينَ هادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا علَيْك مِن قَبلُ وَما ظَلَمناهُم وَلكِنْ كانُوا أنفُسَهم يَظلِمُون) (الاية 118).

و ـ في سورة النِّساء:

(يَسألُكَ أَهْلُ الكِتابِ أنْ تُنَزِّلَ عليهم كتابا مِنَ السَّماء فقَد سَأَلوا مُوسى أكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أرِنا اللّهَ جَهرة... فَعَفَونا عَن ذلِكَ... وَرَفَعْنا فَوقَهُمُ الطُّورَ بَميثاقِهم... وقُلنا لَهُم لا تَعْدُوا في السَّبْتِ وَأخَذنا منْهُم ميثاقا غَليظا* فَبِما نَقضِهِم ميثاقَهُمُ وكُفرِهِمْ بآياتِ اللّهِ وَقَتْلِهِمُ الانبياء... وبِكُفرهم وَقَولهم عَلى مَرّيَمَ بهتانا عَظيما* فَبِظلمٍ مِنَ الّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عليهِمَ طَيِّباتٍ أُحِلّت لُهم وَبِصَدِّهِم عَن سَبيلِ اللّهِ كثيرا* وأخذِهِمُ الرِّبا وَقدْ نُهُوا عنه وأكلِهِم أموال النّاسِ بالباطِل) (الايات 153 ـ 161).

ز ـ في سورة الاعراف:

(وسئَلَهُم عَنِ القَريَةِ الَّتي كانَت حاضِرَة البَحرِ إِذ يَعدُونَ في السَّبتِ إِذْ تَأتِيهم حِتانُهُم يَومَ سَبْتِهم شُرَّعا وَيَومَ لا يَسبِتُونَ لا تَأتِيهِم كَذلِكَ نَبلُوهُم بِما كانُوا يَفسقونَ) (الاية 163).

والبقرة (65) والنساء (47 و154).

ح ـ وفي سورة النحل:

(إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلى الّذينَ اختَلفوا فيه...) (الاية 124).

ثالثا ـ نعم اللّه على بني إسرائيل وطغيانهم وتمرّدهم:

أ ـ في سورة الاعراف:

(وَقَطَّعنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطا أُمما وأَوحينا إلى مُوسى إِذِ استَسقاهُ قَومُهُ أَنِ اضْرِب بعَصاكَ الحَجَرَ فَانبَجَسَت مِنهُ اثنَتا عَشْرَةَ عَيْنا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشرَبَهُم وَظَلَّلْنا علَيْهِم الغَمامَ وَأَنزَلنَا علَيهِم المَنَّ وَالسَّلوى كُلُوا مِن طَيِّباتِ مَا رَزَقناكُم وَما ظَلَمُونا وَلكِن كانُوا أَنفُسَهُم يَظلِمُون* وَإِذْ قِيلَ لهمُ اسكُنُوا هذِهِ القَريةَ وَكُلُوا مِنها حَيثُ شِئتم وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادخُلُوا البابَ سُجَّدا نغفِرْ لكُم خَطِيئَاتِكُم وَسَنَزيدُ المحسنين* فَبَدَّلَ الَّذينَ ظلَموا مِنهُم قَولا غَيرَ الَّذي قِيلَ لَهُم فَأَرسَلنا علَيهم رِجزا مِنَ السَّماء بِما كانُوا يَظلِمُون) (الايات 160 ـ 162).

ب ـ في سورة المائدة:

(وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَومه يا قَومِ اذْكُرُوا نِعمةَ اللّه علَيكم إِذْ جَعَلَ فِيكُم أَنبِياء وَجعلَكم ملُوكا وَآتاكُم ما لَمْ يُؤتِ أحَدا مِنَ العالَمِين* ياقَومِ ادْخُلُوا الارضَ المقَدَّسةَ الَّتي كتَب اللّهُ لَكُمْ وَلا تَرتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُم فَتَنقَلِبُوا خاسِرِين* قالوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوما جَبّارينَ وإنّا لَن ندخُلَها حَتى يَخرُجُوا مِنها فإِن يَخرُجُوا مِنها فَإِنّا داخِلُون* قَال رَجُلانِ مِنَ الَّذينَ يَخافُونَ أَنعَمَ اللّهُ علَيهِما ادخُلُوا عليهِمُ البابَ فَإِذا دَخَلتُمُوهُ فَإِنَّكُم غالِبُونَ وَعَلى اللّهِ فَتَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مؤمنِين* قالوا يا مُوسى إِنّا لَن ندخُلَها أَبَدا ما دامُوا فِيها فَاذهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنَا قَاعِدُون* قال رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاّ نَفسِي وَأَخي فَافْرُق بَينَنا وبَينَ القَومِ الفاسِقين* قال فَإِنَّها مَحَرَّمةٌ علَيهِم أَرْبعينَ سَنَةً يَتِيهُونَ في الارضِ فَلا تَأسَ عَلى القَومِ الفاسِقين) (الايات 20 ـ 26).

شرح الكلمات

أ ـ إسْرائِيل:

يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم لقبه إسرائيل وبنو إسرائيل ذريّته من أبنائه الاثني عشر.

ب ـ يَسومُونكم:

سام الانسان يسومه ذُلا أو خَسْفا أو هوانا: أولاهُ إيّاه وأراده عليه.

ج ـ يَستَحيُون:

استحيا الاسير: تركه حيّا فلم يقتله.

د ـ يَعكِفون:

عكف في المسجد عكوفا: أقام للعبادة، وعكف عليه يعبده: أقبل عليه يعظّمه وواظب على عبادته لا يصرف وجهه عنه.

هـ ـ خُوار:

الخُوار: صوت البقر والغنم.

و ـ يَبْرَح:

برح المكان براحا: فارقه.

ز ـ فتنتم:

الفِتْنةُ من اللّه لعباده امتحان، ومن ابليس والناس للناسِ: إضلال وايقاع في المكروه، فمن ابليس للناس كما قال اللّه تعالى: «يا بني آدم لا يفتنكم الشيطان» الاعراف / 27. ومن الناس للناس، كما قال سبحانه وتعالى: «إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثمّ لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق» البروج / 10.

ح ـ بارى‌ء:

ي ـ أَسباطا:

الاسباط هنا بمعنى القبيلة.

ك ـ فَانْبَجَسَتْ:

بَجَسَ وانبَجَسَ وتَبَجَّسّ: انفجر وتفجّر.

ل ـ المنّ والسَّلوى:

1 ـ المنّ: ندى يُشبه العسل جامد ينزل من السماء وقيل غير ذلك.

2 ـ السّلوى: واحدته سَلَواة: طائر يشبه السّماني، أو هو السّماني، والسماني: طائر صغير من الدجاجيات جسمه ممتلى‌ء يستوطن حوض البحر الابيض ويهاجر شتاء إلى مصر والسوادن(1) .

م ـ حِطَّة:

حطَّ اللّه وزره: اي وضع اللّه عن ظهره ما يحمله من آثام، وحِطّة مثل مغفرة: أي حطّ عنّا ذنوبنا.

ن ـ رَفَعنْا:

رفع الشي‌ء فوق الشي‌ء: اعلاه عليه.

س ـ ميثاقكُم:

الميثاق:

العهد وما يشد به العهد ويوثق كأنّه عهد على الالتزام بالعهد.

ع ـ الرِّجْز:

العذاب، ورجز الشيطان وساوسه.

ف ـ يَتيهُون:

تاهَ تَيها في الارض: ضلّ الطريق وتحيّر.

ص ـ لا تَأسَ:

اسى وآسى عليه أسىً: حزن عليه.

ق ـ تَعْدُوُ:

عَدا عدوا وعُدُّوا وعُدوانا وعداء واعْتدى: ظلم وتجاوز الحقّ.

ر ـ مِيثاقا غَليظا:

وَثِقَ به ثِقَةً ومَوثِقا: ائتمنه وسكن إليه، والموثق: الائتمان والعهد المؤكَّد.

ش ـ الحَوايا:

الحَوايا: الامعاء، واحدتها: حويّة.

ت ـ شُرّعا:

شَرَعَ شَرْعا: دنا وأشرف وظهر فهو شارع وهم شُرّع.

ث ـ جَعَلَ لهم:

جَعَلَ: شرّع وحكم وقرّر.

تفسير الايات

خاطب اللّه بني إسرائيل وقال لهم: أُذكُروا نعمتي عليكم إذا جعلت فيكم الانبياء والملوك وآتيتكم النعم كالمنّ والسلوى مالم يؤت أحدٌ من العالمين.

وإنّه سبحانه نجّاهم من ذلّ عبودية فرعون وقتله ابناءهم واستحيائه نسأهم وأغرَق فرعونَ وجنودَه وجاوز بهم البحر فأتوا على قوم يعبدون الاصنام فقالوا لموسى اجعل لنا صنما كصنمهم نعبده، وإنهم عبدوا العجل عندما ذهب موسى لتسلُّم التوراة من اللّه في الطور، وأمرهم أن يدخلوا الارض المقدَّسة التي قدّرها اللّه يومذاك لهم، فقالوا: يا موسى إنّ فيها قوما جبّارين ـ العمالقة ـ وإنّا لن ندخلها حتى يخرجوا منها.

قال يشوع ـ اليسع ـ ورجل آخر منهم: ادخلوا المدينة فإنّكم ستغلبونهم، فأبوا ذلك وقالوا: يا موسى اذهب أنتَ وربُّك فقاتلا العمالقة، إنّا هاهنا قاعدون. قال موسى: ربّ إنّي لا أمْلِكُ إلاّ نفسي وأخي هارون ففرِّق بيني وبين القوم الفاسقين، قال اللّه سبحانه: فإنّ الارض المقدسة محرّمة عليهم أربعين سنة يتيهون في هذه المدّة في صحراء سيناء فلا تحزن على الفاسقين.

وأخبر عنهم سبحانه في سورة الاعراف، وقال تعالى: وَقسّمنا بني إسرائيل اثنتي عشرة قبيلة وأوحينا إلى موسى عندما استسقى قومه أن يضرب بعصاه الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا، لكلّ قبيلة من بني إسرائيل عين، وظّلل عليهم الغمام وقاية لحرّ الشمس عنهم وأطعمهم حلاوة كالعسل ولحم الطير، وقيل لهم بعد طول السفر اسكنوا مدينة كانت أمامهم، وكلوا مما فيها من رزق، وادخلوا باب المدينة شاكرين للّه ساجدين له، وقولوا حطة أي رّبنا اغفر لنا خطايانا، فبدّل الظالمون قولا غير ما أمروا بقوله، وقالوا: حنطة، أي نطلب الحنطة(2) ، فأنزل اللّه عليهم العذاب من السماء بسبب عملهم.

وأخبر اللّه سبحانه عنهم في سورة النِّساء، وقال تعالى: يسألك ـ يا رسول اللّه ـ أهلُ الكتاب أي اليهود أنْ تُنَزِّلَ عليهم كتابا من السماء، وقد سبق لهم أن سألوا موسى أكبر من ذلك حين قالوا له: أرنا اللّه جهارا لنُبْصِرَهُ بعيوننا، فعفونا عن ذنبهم، ورفعنا فوقهم الطور، وإذ أَخذنا الميثاق على العمل بعهدكم في العمل بما جاء في التوراة.

كان أحبّ الطعام والشراب إلى اسرائيل ألبان الاِبل ولحومها وإنّه اشتكى شكوى فعافاه اللّه منها فحرّم على نفسه أحبّ الطعام والشراب إليه لحوم الابل وألبانها شكرا للّه.

وحرّم على نفسه زائدتي الكبد والكليتين والشحم إلاّ ما كان على الظهر فانّ ذلك كان يقرّب للقربان فتأكله النار(3) .

وكان ممّا عاهدوا اللّه عليه في العقائد: الايمان بمن بشّر ببعثته موسى بن عمران (ع) من بعثة عيسى (ع) وبعده بعثة خاتم الانبياء (صلى الله عليه وآله وسلم) كما مرّ بنا في ما نقلناه عن سفر التثنية.

وفي الاحكام عاهدوا أن لا يتعدّوا في يوم السبت ولا يعملوا فيه وأخذ اللّه منهم في ذلك ميثاقا شديدا أكيدا.

وبسبب نقضهم ـ أي بني إسرائيل ـ ميثاقهم مع ربّهم وكفرهم بآيات اللّه وقولهم في مريم بهتانا عظيما ورميهم الطاهرة مريم بهتانا عظيما وبظلمهم حرّمنا عليهم ـ تأديبا لهم ـ طيِّبات اُحلَّت لهم كما أنّهم بظلمهم وعبادتهم العجل اُمروا بقتل أنفسهم ـ أي بقتل من لم يؤمن بالعجل من عبد العجل منهم ـ وبمنعهم عن الايمان باللّه وأخذهم الرِّبا في المعاملات وأكلهم الرِّبا مع أنّهم مُنِعُوا عن الرِّبا، حُرِّمت طيِّبات لهم.

ومّما خالفوا ما واثقوا به ربّهم صيدهم يوم السبت الحيتان من البحر،؛ لانّها كانت تدنو منهم يوم السبت وتظهر لهم ولا تأتي الحيتان غير يوم السبت كذلك. وكان ذلك امتحانا لهم خاصّة، وانّما جعل لهم السبت أي شرّع العطلة يوم السبت على الذين اختلفوا فيه وهم بنو إسرائيل.

وقال تعالى في سورة النِّساء:

يسألك اليهود من أهْلِ الكتاب أن تُنَزِّلَ عليهم كتابا مِنَ السَّماء، وقد سألوا نبيَّهم موسى أكبر من ذلك وقالوا: أرِنا اللّه جهارا لِنُبصِرَهُ بعيوننا... فعَفَونا عن ذلك ورفعنا فوقهم الطّور، وأخذنا منهم العهود والمواثيق أن يعملوا بما جاء به موسى بن عمران، وكان منه الايمان بأنبياء اللّه وخاصة عيسى بن مريم (ع) ومحمد بن عبد اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) وَافْتَرَوْا عَلى مَرْيَمَ (ع)، والاحكام التي فيها، فكفروا بآيات اللّه وقتلوا الانبياء، وصدّوا عن سبيله وأخذوا الربّا وأكلوا أموال النّاس، وبسبب ظلمهم حَرَّمْنَا عليهم طيّيباتٍ كان قبل ذلك حلالا عليهم، وممّا حرّم اللّه عليهم صيد الاسماكِ يومَ السَّبت لاهلِ القرية التي كانت حيتان البحر تدنوا إليهم يوم السبت.

حصيلة البحث

فضّل اللّه بني إسرائيل على معاصريهم من أقباط مصر وعمالقة الشام وسائر الامم، وبعث اللّه فيهم النبّيين كموسى وهارون وعيسى وأوصيائهم، وفي مقدّمتها التوراة، وأخذ منهم العهود والمواثيق ان يعملوا بما أنزل في كتبه وأنعم عليهم بالمنّ والسلوى وإسالة الماء من الحجر وغيرها، وفي مقابل كلّ تلك النّعم جَحَدُوا بآيات اللّه وعبدوا العجل وأخَذوا الرّبا وأكلوا أموال الناس وعملوا أمورا أمثالها من أنواع التَّمرّد على اللّه، فكانوا بحاجة لتربية نفوسهم إلى ما فرض اللّه عليهم من قتل نفوسهم وترك العمل للدنيا يوم السبت، وقد اختلفوا في ترك العمل يوم السبت كفعل أهل القرية التي كانت على ساحر البحر(4) ، وحرّم عليهم ما حرّم إسرائيل على نفسه من أكل الشحم ولحم الجمل وأمثالهما ترويضا لنفوسهم، وبالاضافة إلى ذلك كان بنو إسرائيل بحاجة إلى تماسك قبلي بين أسباطها لمقابلة الامم الطاغية المحيطة بهم من عمالقة واقباط، فشرّع اللّه لهم استقبال خيمة الاجتماع للعبادة، قبل بناء سليمان المسجد المسّمى بهيكل سليمان، واجراء الطقوس الدينية بإشراف أبناء هارون، وكما أرسل اللّه إليهم عيسى بن مريم وأمّه مريم من سلالة داودَ من سُبط يهودا من بني إسرائيل؛ أحَلَّ لهم بعض ما حرّم عليهم كما قال سبحانه على لسان عيسى (ع) في سورة آل عمران:

(وَرسولا إلى بَني إسرائيلَ أَنّي قَدْ جِئتُكُم بِآيَةٍ مِن رَبِّكُم.. وَمُصَدِّقا لَما بين يَدَيَّ مِنَ التَّوراةِ وَلاُحِلَّ لكم بَعضَ الَّذِي حُرِّمَ عليكم) (الاية 49 ـ 50).

وبناء على ما أوردناه تَبَيَّنَ أنَّ الانبيأ من بني إسرائيل من موسى بن عمران (ع) إلى عيسى بن مريم (ع) اُرسلوا إلى بني إسرائيل، وأنّ بعض الاحكام في شريعة التوراة أنزلت لمصلحة بني إسرائيل. إذا فإن تلك الاحكام من قبيل تحريم ما حَرَّمَ إسرائيل على نفسه كان أمَدُها مُؤقّتا وانتهى أمد بعضها ببعثة عيسى بن مريم (ع)، وأَحَلَّ لهم بعض ما حَرَّم عليهم، وأَمَدُ البَعْض كان إلى بعثة خاتم الانبياء (صلى الله عليه وآله وسلم)، فجاء خاتم الانبياء ببيان انتهاء أمَدِها جميعا كما أخبر اللّه سبحانه عن ذلك وقال تعالى في سورة الاعراف:

(الّذِينَ يَتَّبعُونَ الرَّسولَ النَّبيَّ الاُمِّيَّ الَّذي يَجدُونهُ مَكتُوبا عندَهُم في التّوراةِ والانجيلِ يَأمرُهم بِالمعروفِ وينَهاهُم عن المنكرِ ويُحِلُّ لهم الطيباتِ وَيُحَرِّمُ عَليِهم الخَبائثَ وَيَضَعُ عنهُم إصْرَهُم وَالاَغلالَ الّتي كانت عليهم...) (الاية 157).

اِصْرَهُم: أي التكاليفَ الشاقّة عليهم.

***

كان ذلكم شأن النسخ في شريعة موسى (ع) بالنسبة إلى الشرائع السابقة عليها ونسخ بعض ما في شريعة موسى (ع) في شريعة خاتم الانبياء (صلى الله عليه وآله وسلم).

ونوع آخر من النسخ ما يقع في شريعة نَبيّ واحد كالاتي بيانه:

4 ـ‍ معنى النسخ في شريعة نبيٍّ واحد

لمعرفة معنى النَّسخ في شريعة نبيٍّ واحدٍ نذكر مثالا واحدا منه في شريعة خاتم الانبياء (صلى الله عليه وآله وسلم) كالاتي بيانه:

من أمثلة النسخ في شريعة نبيٍّ واحد نسخ وجوب دَفْع الصَّدقة على من يريد أن يناجي الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) كما جاء في قوله تعالى في سورة المجادلة:

(يا أَيُّها الَّذينَ آمنوا إذا نَاجيتُمُ الرَّسولَ فَقَدِّمُوا بين يَدَي نَجواكُم صَدَقةً ذلِكَ خَيرٌ لكم وَأَطهَرُ فإن لَم تَجِدوا فَإنَّ اللّهَ غَفورٌ رحيم* أأشفَقتُم أَن تَقدِموا بين يَدَي نَجواكُم صَدَقاتٍ فَاذِا لَم تَفعَلوا وَتابَ اللّهُ علَيكُم فَأَقيموا الصَّلاةَ وَآتُواْ الزَّكاةَ وَأَطيعوا اللّهَ وَرسولَهُ وَاللّهُ خَبِيرٌ بِما تَعملُون) (الايات 12 ـ 13).

وجاء تفصيل الخبر في التفاسير كالاتي:

إنّ البعض من أصحاب النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) كانوا يكثرون مناجاة النَّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، يظهرون بذلك نوعا من التقرّب إليه والاختصاص به، وكان من مكارم أخلاق الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه لم يكن يردّ طلب ذي حاجة إليه، وكان ذلك يضايق النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ويصبر عليه، فنزل حكم أداء الصدقة لمن يريد أن يناجي الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، فترك أولئكم نجوى الرسول وصَرفَ علي بن أبي طالب دينارا بعشرة دراهم، وتصدّق بها عشر مرّات، وناجى الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في ما كان يهمّه، ولّما تحققّت الغاية في تربية أولئك بهذا الحكم، وانتهى أمَدُ الحكم، رُفعَ الحُكْمُ(5) .

خلاصة بحث النَّسخ ونتيجته

كان يوم الجمعة يوما مباركا ويوم راحة لِبَنِي آدم منذ عصر آدم (ع) إلى عصر أنبياء بني إسرائيل: موسى بن عمران إلى عيسى بن مريم (عليهما السلام).

وأيضا أجرى آدم ومن جاء بعده من الانبياء إلى عصر إبراهيم (ع) مناسك الحجّ في عرفات والمشعر ومنى وطافوا سبعا حول مكان البيت، ثمّ بنى إبراهيم وإسماعيل البيت وطافا بعد ذلك مع من تبعهما في الحجّ حول البيت.

ثمّ جدّد نوح شريعة آدم وجاء بشريعة كشريعة خاتم الانبياء، وتبعه الانبياء من بعده لقوله تعالى:

1 ـ (شَرَعَ لكم مِنَ الدِّينِ ما وَصّى بِهِ نُوحا والنَّبيِّينَ مِنْ بعدِه).

2 ـ (وَإنَّ مِن شِيعَتِهِ لابراهيمَ) ـ أي من شيعة نوح ـ.

3 ـ قوله تعالى لخاتم أنبيائه ولاُمّته:

أ ـ (اتَّبِع مِلّةَ إبراهيمَ حَنيفا).

ب ـ (فَاتّبِعوا مِلَّةَ إبراهيمَ حَنيفا).

إذا فَإنَّ شرايع الانبياء واحدةٌ منذ اصطفاء الصَّفي آدم (ع) إلى اجتباء النّبيِّ الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم)، عدا ما كان من أمر الشّريعة التي أرسل اللّه بها أنبياء بني إسرائيل من موسى بن عمران إلى عيسى بن مريم حيث لوحظ فيها مصلحة بني إسرائيل لقوله تعالى:

أ ـ (كُلُّ الطّعامِ كانَ حِلا لبَني إسْرائيلَ إلاّ ما حَرَّمَ إسرائيلُ عَلى نفسِه).

ب ـ (وَعَلى الَّذينَ هادوا حَرَّمنا ما قَصَصْنا عليك). ـ أي على اليهود ـ.

ج ـ (إِنّما جُعِلَ السَّبْتُ على الَّذينَ اختلفوا فِيه). ـ أي جَعَلَ فرضَ تعطيل يوم السبت على الذين اختلفوا فيه، وهم بنو إسرائيل ـ.

وكما جاء التصريح بذلك في العدد الرابع من الاصحاح الثالث والثلاثين من سفر التثنية: (بناموسٍ أوصانا موسى ميراثا لجماعة يعقوب). (موسى أمرنا بسنّة ميراثا لجماعة يعقوب).

وفي نسخة (بشريعة).

والحكمة في ذلك أنّ بني إسرائيل كانوا قوما معاندين لانبيائهم مشاكسين(6) متابعين لاهواء نفوسهم الامّارة بالسوء والضعيفة امام اعدائهم يتخذون العجلَ إلها لهم بعد أن فلق اللّه البحر لهم ونَجّاهم من ذلّ عبوديّة فرعون وأبوا أن يدخلوا الارض المقدّسة التي جعلها اللّه لهم خوفا وهلعا من قوم العمالقة الذين كانوا فيها، وكان تهذيب نفوسهم واصلاحها في تشديد الشرع لهم من جانب؛ بأمر المؤمنين الذين لم يعبدوا العِجْلَ المرتدّين منهم بقتل الذين عبدوا العِجْلَ، وتحريم العمل يوم السبت عليهم وابتلائهم بالتيه في صحراء سيناء أربعين سنة.

ومن جانب آخر لما كانوا الاُمّة المؤمنة الوحيدة في عصرهم وهي محاطة بأمم كافرة معتدية قويّة من حولهم، احتاجوا إلى رباط قويّ يشد بعضهم إلى بعض ويكون منهم أُمّة متميزة عن الاخرين، متماسكة فيما بينها، لذلك كله شرع لهم قبلة خاصّة بهم فيها التابوت الذي حوى الواح التوراة الكتاب الذي أنزله اللّه تشريعا لهم وتشريعا يناسب ظروفهم (وَبَقيّة مَمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وُآلُ هارُون) (البقرة 248)، إلى غير ذلك من التشريعات المناسبة لظروف بني إسرائيل يومذاك.

في عصر عيسى بن مريم (ع) انتهى أمَدُ بعض تلك التشريعات بانتهاء بعض تلك الضروف، فأحَلَّ عيسى (ع) بعض تلك المحرّمات بأمر من اللّه.

وعلى عهد خاتم الانبياء انتشر بنو اسرائيل في البلاد وحشروا بين الناس، وكان يضيرهم ويضير الاُمم التي يعيشون بينهم أن يشعر بنو إسرائيل أنّهم ليسوا من الاُمة التي يعيشون معها، وأنهم جسم غريب عن جيرانهم وأهل بلدهم، وكذلك يكون شعور أهل البلد مع الاسرائيلي بأنّه غريب عنهم، ومبعث قلاقل ومشاكل للمجتمع الواحد الذي يعيش الجميع فيه، ولذلك أصبحت الاحكام التي تفصلهم عن الامم غِلاّ في أعناقهم، مثل تحريم العمل عليهم يوم السبت خلافا لسائر الاُمم التي تتّخِذُ غير يوم السّبت يومَ راحةٍ عن العمل، وإصرا عليهم، كما ورد شرحها وتفصيلها في سفر التثنية من الترواة، فأحلّ لهم خاتم الانبياء (صلى الله عليه وآله وسلم) وبأمر من اللّه ما حَرَّمَ عليهم في العُصور السابقة، وقال تعالى في سورة الاعراف:

(الَّذينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسولَ النَّبيَّ الامِّيَّ الَّذي يجدونه مكتوبا عنْدَهُم في التَّوراةِ والانجيلِ يَأمرهم بِالمعروفِ وَيَنهاهُم عَن المنكَر وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وُيُحَرِّمُ علَيهِم الخبائثَ وَيَضَعُ عنهُم إصْرَهُم وَالاغلالَ الّتي كانت علَيهِم...) (الاية 157).

وهكذا رفع اللّه عنهم الاحكام التي كانت تصلح لهم في العصور السابقة وأصبحت غِلاّ عليهم حين عايشوا الناس كلَّ الناس في كلُ مكان، أمّا الاحكام التي وردت في شريعة موسى بلحاظ أنّ بني اسرائيل من الناس فلم ترفع ولم تنسخ مثل حكم القصاص، كما يخبر اللّه عنه ويقول في سورة المائدة:

(اَنّا أنزَلنا التّوارةُ فيها هُدىً وَنورٌ يَحكُم بها النَّبيُّونَ الّذينَ أسلَمُوا لِلّذينَ هادُوا... وَكَتَبْنا علَيْهم فيها أنَّ النَّفسَ بالنَّفسِ وَالعَينَ بالعينِ وِالاُذُنَ بالاُذُنِ وَالسِّنَّ بالسِّنِّ والجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَن تصَدَّقَ بهِ فَهُوَ كَفّارَةٌ لَهُ وَمَن لَم يَحْكُمْ بما أنْزَلَ اللّهُ فأُولئِكَ هُمُ الظّالمون) (الايتان 44 ـ‍ 45).

فَإنّ حكم القصاص هذا كان جاريا قبل التوراة وبعدها إلى اليوم، وكذلك سائر الاحكام التي شرَّعها اللّه للانسان بلحاظ كونه إنسانا لم تتغيّر ولم تتبدل في عصر من العصور، وفي شريعة من شرايع الانبياء.

ولمّا بدّل اللّه بعض أحكام شريعة موسى بأحكامٍ أخرى في شريعة خاتم الانبياء، كما شرحناه، اعترضت قريش على رسول اللّه كما أخبر اللّه عنه في سورة النحل وقال (وقالوا له إنّما أنْتَ تفتري على اللّه) فردّ اللّه عليهم قولهم وقال سبحانه: (وَإذا بَدَّلنا آيةً مكانَ آيةٍ قالوا: إنّما أنتَ مُفْتَرٍ... إنّما يَفتَري الكَذِبَ الَّذينَ لا يُؤمنونَ بآياتِ اللّهِ... فَكُلوُا مِمّا رَزقكُمُ اللّهُ حَلالا طَيِّبا) مثل لحم الجَمل وشحوم لحم الحيوانات فهي غير محرّمة عليكم، إنَّما حَرَّمَ عَليكم الميتَةَ والدَّمَ وَلَحْمَ الخِنزيرِ وما أُهِلّ بِهِ لِغَيرِ اللّهِ عِنْدَ ذَبْحِه، واللاّتي كان المشركون في مكة يعملون بها مثل تقديمهم القرابين لاصنامهم، ثمّ نهاهم أن يفتروا على اللّه ويقولوا هذَا حلال وذاك حرام كما شرحه اللّه في سورة الانعام وقال سبحانه:

(وَقالوا هذِهِ أَنعامٌ وَحَرثٌ حِجرٌ لاَ يَطعَمُها إلاّ مَن نَشاء بِزَعمِهِم وَأَنعامٌ حُرِّمَت ظُهوُرُها وَأنْعامٌ لا يَذكُرونَ اسْمَ اللّهِ عليها افتراء عليه... وَقالوا ما في بُطونِ هِذهِ الانعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرّمٌ عَلى أزواجِنا وَان يكُن مَيتةً فَهُم فيهِ شُرَكاء سَيجزيهم وَصفَهُم...) (الانعام 138 ـ 139).

وأشار إليها في سورة يونس وقال سبحانه:

(قُل أرَأَيتُم ما أنزَلَ اللّهُ لكم مِن رِزقٍ فَجَعَلتُم منه حلالا وَحَراما قُل اللّهُ أَذِنَ لكم أَم عَلى اللّهِ تفتَرُون) (الاية 59).

وهكذا كانت مسألة التحريم والتحليل مَوْرِدَ جدالٍ بين مشركي قريش ورسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) سواء ما كان مِنْها ما هم شرَعّوه وخالفها رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم)، أو ما شرّعه اللّه في شريعة موسى وبدّلها اللّه بأخرى بحسب المصلحة في شريعة خاتم الانبياء (صلى الله عليه وآله وسلم).

هكذا كانت قريش في مكّة تخاصم رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) في ما أحلّ وحرّم بأمر من اللّه، مخالفا للمألوف عندهم في ما اتخذوه دينا لهم وفي ما عرفوه من شريعة موسى بن عمران، ووقعت نفس الخصومة في المدينة من اليهود مع النبيّ في بعض الاحكام التي نسخ بها بعض ما جاء في التوراة، كما شرحها اللّه في سورة البقرة وقال سبحانه مخاطبا لنبي اسرائيل:

(أفَكُلَّما جاءكُم رَسولٌ بِما لاَ تَهوى أنفسُكُم استَكْبرتُم فَفَريقا كَذَّبتُم وَفَريقا تَقتلُون) (الاية 87).

(وَإذا قِيلَ لهم آمِنوا بِما أَنْزَلَ اللّهُ قالوا نؤمنُ بما أُنْزِلَ علينا ويَكفرونَ بِما وَراءه...) (الاية 91).

(ما نَنْسَخْ مِن آيةٍ أو نُنْسِها نَأتِ بِخَيْرٍ مِنها أو مِثلِها...) (الاية 106).

(ولن تَرضى عنك اليَهُودُ ولا النّصارى حَتّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُم...) (الاية 120).

وإنّما كانت مجادلة بني إسرائيل مع رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) حول ما نسخ من أحكام التوراة وأهمّها نسخ القبلة إلى البيت الذي أخبر اللّه عنه في سورة البقرة وقال تعالى ما موجزه:

(قد نَرى تَقَلُّبَ وَجهكَ في السَّماء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبلَةً تَرضاها) فَوَلُّوا وُجُوهَكُم أينما كُنْتُم شطر المسجد الحَرام وَإنّ الذين اوتوا الكتاب سواء اليهود منهم أو النصارى يعلمون أنّه الحقّ من ربّهم وأنّ الذين لا يتّبعون قبلتك مهما تأتهم بآية من اللّه لا يقبلون منك.

إذا فإنّ المقصود من نسخ الاية في هذا المورد نسخ هذا الحكم، كما انّ المقصود من تبديل آية بأخرى في مجادلة قريش بشأنها رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) تبديل بعض أحكام الحلال والحرام بمكّة عند قريش وغير قريش.

وبناء على هذا تَبَيَّنَ أنَّ المقصود مِنْ (آية) في قوله تعالى (وَإذا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آية): واذا بدّلنا حكما مكان حكم.

وفي قوله تعالى: (مَا نَنْسَخْ مِن آيةٍ أو نُنْسِها): ماننسخ من حكم أو نؤجِله نأتِ بخير منه أو مثله.

ومثال تأجيل الحكم تأجيل حكم استقبال الكعبة في شريعة موسى وتبديله بحكم استقبال بيت المقدس الذي كان فيه الخير يومذاك لنبي إسرائيل.

ومثال نسخ حكم وتبديله بحكم خير منه نسخ حكم استقبال بيت المقدس في شريعة خاتم الانبياء بحكم استقبال الكعبة للناس كلّ الناس أبد الدهر.

وكذلك الامر في تبديل آية مكان آية، المقصود حكم مكان حكم.

وكذلك تبيَّن أنَّ الاحكام التي يشرّعها اللّه للناس قد يلاحظ فيها مصلحة الانسان من حيث هو إنسان، فتلك التي لا تبديل فيها كما أخبر اللّه عنه في قوله تعالى في سورة الروم:

(فَأَقِم وَجهَكِ للدّينِ حَنيفا فِطرَةَ اللّهِ الَّتي فَطَرَ النّاسَ عليها لا تَبديلَ لِخَلقِ اللّهِ ذلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ وَلكِنَّ أكثرَ النّاسِ لا يَعلمون) (الاية 30).

لا تبديل لما شرّع اللّه للناس متناسبا مع فطرتهم مثل قوله تعالى في سورة البقرة:

(وَالوالِداتُ يُرضِعنَ أولادَهُنَّ حَولَينِ كامِلَين لَمِن أرادَ أَن يُتمَّ الرَّضاعة) (الاية 233).

سواء كانت الوالدة حَوّاء زوجة آدم (ع) وترضع ولدها من آدم فى ظلّ شجرة أو كهف، أو من نسلت من بعدها من مختلف العصور من سكّان الكهوف أو الخيم أو القصور.

وكذلك لا يتغيّر حكم الصوم لبني آدم والقصاص وحرمة الرّبا كما قال سبحانه وتعالى في سورة البقرة:

أ ـ (يَا أيُّها الّذينَ آمَنُوا كُتِبَ عليكم الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلى الَّذينَ مِن قَبلِكُم) (الاية 183).

ب ـ (يا أيُّها الّذينَ آمَنُوا كُتِبَ عليكُم القِصاص...) (الاية 178).

ج ـ (وَأَحَلَّ اللّهُ البَيعُ وَحَرَّمَ الرِّبا...) (الاية 275).

إلى غيرها ممّا شرّعه اللّه للانسان متناسبا مع فطرته التي فطره عليها، فإنَّ أحكامها لا تَتَبَدَّلُ في شريعة عن شريعة أخرى من شرايع الانبياء ويعبّر عن تلكم الاحكام في القرآن بلفظ (وصّى اللّه ويوصيكم وصيّته) و(كتب كتابه).

وما شرّع اللّه لبعض الاناس متناسبا مع ظروفهم الخاصة بهم فتلك ينتهي أمدها بانتهاء تلك الظروف، مثل ما ذكرنا من الاحكام التي شُرَّعْت لبني اسرائيل متناسبا مع ظروفهم الخاصّة لهم، وما شرع اللّه للمهاجرين مع النبيّ من مكّة إلى المدينة من التوارث بينهم وبين من تآخى معهم من الانصار في بدء الهجرة، ثمّ انتهى أمده بعد فتح مكّة، ونسخ الحكم كما أخبر اللّه عنه في الايات (72 ـ 75) من سورة الانفال بقوله تعالى:

(إنَّ الَّذينَ آمنوا وهاجروا... ـ من مكّة ـ وَالَّذينَ آوَوْا وَنَصَرُواـ وهم الانصار في المدينة ـ أولئكَ بَعضُهُم أولياء بَعْضٍ ـ ولاية الارث والنصرة ـ وَالّذينَ آمنوُا وَلم يُهاجرُوا مالَكُم مِن وَلايَتِهم مِن شَي‌ء حَتّى يُهاجِرُوا... وَالّذينَ كَفَروا بَعضُهُم أَولياء بَعض...).

ثمّ أخبر اللّه بنسخ هذا الحكم بقوله تعالى:

(وَاُولوا الارحامِ بَعضُهمُ أَولى بِبَعضٍ في كتابِ اللّهِ) أي في ما كتب اللّه وشرّع للناس كل الناس(7) .

وفي سورة آل عمران قال تعالى:

(وَقَتلَهُم الاَنبِياء بغَير حَقّ... قُل قَد جاءكُم رُسُلٌ مِن قَبلي بالبَيّنات... فَلِمَ قَتَلتُمُوهُم فَإن كَذَّبُوكَ فقد كُذِّبَ رُسُلٌ مِن قَبِلك) (الايات 180 ـ 184).

لمّا جاء اليهود القرآن من عند اللّه وكانت صفات القرآن تصدّق الاخبار التي عندهم عن بعثة الرسول الخاتم بالقرآن كفروا به وقالوا نؤمن بالتوراة التي انزلت علينا ويكفرون بغيرها من الانجيل والقرآن وأخبر اللّه أنّه أنزل إليه آيات واضحات في القرآن وما أوتي من معجزات وأحكام في القرآن وما يكفر بها إلاّ الفاسقون وقال سبحانه: ما ننسخ من أحكام شريعة مثل نسخ استقبال بيت المقدس أو نُنْسها ونؤجّل بيانها نأت بأحكام خير منها للناس أو بمثلها، واللّه هو مالك السموات والارض يفعل ما يشاء، وإنّ اليهود والنصارى لن ترضى عن رسول اللّه حتى يترك ما نزل عليه من أحكام الشريعة ويتّبع أحكام شريعتهم.

وكرّر اللّه سبحانه هذا المفهوم بلفظ آخر في سورة الاسراء وقال:

(وَآتَينا مُوسى الكتابَ وَجَعْلناهُ هُدىً لبَني إسرائيل)، ثمّ قال: (إنَّ هذا القُرآنَ يَهدي لِلّتي هِيَ أَقْوَمُ) ممّا في كتاب موسى (ع).

***

إلى هنا ذكرنا في بحوث الربوبيّة كيف شرّع اللّه ربّ العالمين للانسان نظاما يتناسب وفطرته، ثمّ هداه للعمل بما شرّع له، وفي البحث الاتي ندرس بإذنه تعالى من صفات الربوبية كيف يجزي ربّ العالمين الانسان بآثار عمله في الدنيا والاخرة.

(10)
ربّ العالمين يَجْزِي الانسان بآثار عمله

أ و ب ـ في الحياة الدنيا وفي الاخرة.

ج ـ عند الممات.

د ـ في القبر.

هـ ـ في المحشر.

و ـ في الجنّة والنار.

ز ـ جزاء الصّبر.

ح ـ توارث الاعمال.

1 ـ‍ كيف يُجزى الانسان بآثار عمله في الدنيا

نحن نرى من آثار أعمالنا في الحياة الدنيا أن من زرع قمحا حصد قمحا، ومن زرع شعيرا حصد شعيرا، وكذلك يرتزق كلّ انسان ما يعمله.

كان ذلكم مثلا مما نعلمه من آثار اعمالنا المادية في الحياة الدنيا، وإنّ لاعمالنا في الحياة الدنيا آثارا معنوية كثيرة مثل ما لصلة الرّحم من الاثار، كما أخبر رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) عن ذلك وقال:

«صلة الرّحم تزيد في العمر وتنفي الفقر».

وقال (صلى الله عليه وآله وسلم):

«صلة الرّحم تزيد في العمر، وصدقة السرّ تطفى‌ء غضب الربّ، وإنّ قطيعة الرّحم واليمين الكاذبة لتذران الديار بلاقع من أهلها ويثقلان الرّحم، وإنّ تثقّل الرّحم انقطاع النسل»(8) .

المقصود من تطفى‌ء غضب الربّ: إن الانسان إذا كان قد استحقّ بعمله سخط ربّه في الدنيا، وأن تصيبه لذلك مصيبة في نفسه أو ماله وما شابههما، فإنّ صدقة السرّ تدفع ذلك عنه.

البلاقع جمع البلقع وبلقعة: هي الارض القفر التي لا شي‌ء بها(9) .

ومن هنا قال أمير المؤمنين (ع):

«وصلة الرّحم فانها مثراة في المال منسأة في الاجل، وصدقة السرّ فانها تكفّر الخطيئة»(10) .

وقال (ع): «... وصلة الرّحم منماة للعدد»(11) .

ومن ثمّ ندرك أنّ اللّه شاء بحكمته أن يجعل إدرار الرزق وتكثير النسل في صلة الرّحم، والاعسار وقطع النسل في قطع الرّحم.

ولهذا السبب قد يعرض تاجران نوعا واحدا من السلعة، فتبور عند أحدهما وتنفق عند الاخر، فيقال للثاني: حسن الحظّ، وللاول سيى‌ء الحظّ، ويكون منشأهما قطع الرّحم عند الاول وصلة الرّحم عند الثاني، جزاء وفاقا من اللّه لعملهما.

ولا يترتّب جزاء الاعمال هذا على الايمان باللّه ولا على عدمه، وإنّما جعل اللّه لعمل الانسان آثارا في الحياة الدنيا ـ إذا بدرت منه بادرة في حالة وعي وتنبّه وعن قصد ـ وآثارا في الحياة الاخرة.

كذلك جعل اللّه لاعمال الانسان تجاه الخالق جزاء وفاقا وتجاه الخلق جزاء وفاقا، إنسانا كان ذلك الخلق أو حيوانا أو نعمةً أنعم اللّه عليه من متاع الدنيا، جعل اللّه كلّ ذلك بمشيئته وحكمته، وأخبر أنْ ليس للانسان إلا جزاء عمله، وقال:

(وأنّ لَيسَ لِلانسانِ إلاّ ما سَعى) (النجم 39).

وكذلك أخبر جلّ ذكره أنّ مَنْ عمل للدنيا أراه اللّه سبحانه جزاء عمله في الدنيا، ومن عمل للاخرة أراه جذاء عمله في الاخرة، وقال عزّ اسمه:

(وَمَن يُرد ثَوابَ الدُّنيا نُؤتِهِ مِنها وَمَن يُرد ثَوابَ الاخِرةِ نُؤتِهِ مِنها وَسَنَجزي الشّاكرِين) (آل عمران 45).

وقال سبحانه:

(مَن كانَ يُريدُ الحياةَ الدُّنيا وَزينَتها نَوَفِّ إلَيهِم أعمَالُهم فِيها وهُم فِيها لاَ يبخَسون* أولئكَ الّذينَ لَيسَ لَهُم في الاخِرةِ إلاّ النّار...) (هود 15 ـ 16).

وقال تبارك وتعالى:

(مَن كانَ يُريدُ العَاجِلةَ عَجَّلنا لَه فِيها...* ومن أرَادَ الاخِرةَ وَسَعى لَها سَعيَها وَهُو مُؤمِنٌ فَأولئك كانَ سَعيُهم مَشكُوا* كُلاًّ نُمدُّ هؤلاء وَهؤلاء مِن عَطاء رَبِّكَ وَما كانَ عَطاء رَبِّكَ مَحظُورا) (الاسرأ 18 ـ 20).

شرح الكلمات

نُوَفِّ إليهم:

وفي إليه: أعطاه حقّه وافيا تامّا.

لا يبخسون:

بخس الكيل والميزان: نقصه، وبخس فلانا حقّه: لم يوفّه إيّاه.

محظورا:

حظر الشي‌ء: منعه، ومحظورا: ممنوعا.

الجزاء في الدنيا والاخرة:

إذا فمن الاعمال ما يتلقّى الانسان جزاءه في الدنيا، ومنها ما ينحصر جزاؤه باليوم الاخر، في مثل الشهيد الذى قاتل في سبيل اللّه حتى استشهد، فإنّه لا يبقى له مجال لتلقّي الجزاء في الدنيا، بل يؤتيه اللّه جزاءه في الاخرة، كما قال عزّ من قائل:

(وَلا تَحسبَنَّ الَّذِينَ قُتِلوا في سَبيلِ اللّهِ أمواتا بَل أحيَاء عِند رَبهِّم يُرزَقون* فَرحينَ بِما آتاهُمُ اللّهُ مِن فَضلِه وَيَستَبشِرُون بِالّذينَ لَم يَلحَقوا بِهم مِن خَلفِهم أَلاّ خَوفٌ عَلَيهم وَلا هُم يَحزَنون* يَستَبشِرون بِنِعمَةٍ مِن اللّهِ وَفَضلٍ وَأَنَّ اللّهَ لا يُضِيع أَجرَ المؤمِنين) (آل عمران 169 ـ‍ 171).

وكذلك شأن الانسان المتسلّط الذي قتل نفسا مؤمنة ظلما وعدوانا، فأنّه ـ أيضا ـ ينال جزاءه في الاخرة، كما قال سبحانه:

(وَمَن يَقتلْ مَؤمنا مُتَعمِّدا فَجَزاؤه جَهنَّمُ خالدا فيها وغَضِبَ اللّهُ عليهِ وَلعنهُ وأعدّ له عذابا عظيما) (النساء 93).

وكذلك الذي يولد مصابا بعاهة جسمية مثل: العمى والصمم والعرج، وكان مؤمنا باللّه واليوم الاخر مواليا لاولياء اللّه صابرا محتسّبا، فإنّ اللّه سوف يجزيه في حياة الخلد ما لا يُقاس بما أُصيب به من عاهة في الحياة الدنيا، أو ما عاناه وتحمّل من أذى في سبيل اللّه في الدنيا(12) .

وبناء على ما ذكرناه فإنّ العدل الالهي لن يتحقق دون أخذ جزأ الاعمال بعد الحياة الدنيا، وقد جعل اللّه أخذ جزاء الاعمال بعد الحياة الدنيا في مراحل متعدِّدة نذكرها تباعا في ما يأتي إن شاء اللّه تعالى، بدءا بذكر جزاء الاعمال بعد الحياة الدنيا:

2 ـ‍ كيف يُجزى الانسان بآثار عمله في الحياة الاخرة

إنّ الانسان يزرع القمح والذُّرة والخضار في الشتاء أو الربيع فيحصده في صيف تلك السنة.

ويغرس الاعناب والتين والزيتون والحمضيات فيجني ثمارها بعد ثلاث سنوات أو أربع من غرسها.

ويغرس النخل والجوز ويجني ثمارها بعد ثماني سنوات من غرسها أو أكثر.

وكذلك يرتزق الانسان نتيجة عمله الدائب ويرزق منها أهله ومن شاء من الخلق إنسانا أو حيوانا، ومع كلّ ذلك يقول اللّه سبحانه:

أ ـ في سورة الذاريات:

(إنَّ اللّهَ هُو الرّزاقُ ذُو القوَّةِ المتين) (الاية 58).

ب ـ في سورة الروم:

(اللّهُ الَّذي خَلَقكُم ثُمَّ رَزَقَكم) (الاية 40).

ج ـ في سورة الانعام:

(وَلا تَقتلوا أَولادَكم مِن إملاقٍ نَحنُ نَرزُقُكم وَإيّاهم) (الاية 151).

د ـ في سورة العنكبوت:

(وَكَأَيِّن مِن دابَّةٍ لاَ تَحملُ رِزقَها اللّهُ يَرزُقها وَإيّاكم) (الاية 60).

هـ ـ في سورة النحل:

(وَاللّهُ فَضَّلَ بَعضَكم على بَعضٍ في الرِّزْق...) (الاية 71).

إنّ الانسان يحرث الارض ويزرع الحبّ ويغرس الشجر ثمّ يسقيهما، ثمّ يكافح الافات عنهما ويربّيهما حتى يحصد الحبّ ويجني الثمر ويرتزق منهما ويرزق من شاء، ويقول اللّه سبحانه: (نحنُ نرزقكم وإيّاهم)، وصدق اللّه العظيم فإنّ الذي جعل من خواصّ الماء والارض إنبات النبات وعلّمنا كيف نزرع ونغرس هو الذي رزقنا، ومثل ارتزاق الانسان كذلك مثل ارتزاق الضيف في مطعم (سلف سرويس) إخدم نفسك بنفسك، فإنّ المضيِّف في مثل هذا المطعم يطعم ضيوفه ويرزقهم من أنواع الطعام ما يختاره الضيف من الطعام لنفسه بكامل حريّته، وإنّ الضيف الذي يدخل هذا النوع من المطعم لا يأكل شيئا إن لم يتّخذ لنفسه ممّا أعدّه المضيِّف ماعونا وشوكة وملعقة، ثمّ يتقدّم بإنائه إلى الموائد المعدّة ويأخذ منها بيده ما يشتهي، ومع ذلك فإن صاحب المطعم هو الّذي أطعم ضيوفه، وفي مثل هذه الحالة تقع التبعة على الضيف في ما إذا تناول من المآكل ما يضرّه ولا ينفعه، وصدق اللّه العظيم حيث يقول:

أ ـ في سورة إبراهيم:

(اللّهُ الَّذِي خَلقَ السَّمواتِ وَالارضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّماء مَاء فَأَخرجَ بِه مِنَ الثَّمراتِ رِزقا لكُم وَسخَّرَ لَكُم الفُلكَ لِتَجرِيَ في البَحرِ بأَمرِهِ وَسخَّرَ لَكُم الاَنْهار* وَسخِّرَ لَكم الشَّمسَ وَالقمرَ دائبَينِ وَسخَّرَ لَكُم الَّيلَ وَالنَّهارَ) (الايتان 32 و33).

ب ـ في سورة النحل:

(وَاللّهُ أَنزَلَ مِنَ السَّماء ماء فَأَحيا بِهِ الارضَ بَعدَ مَوتِها إنَّ في ذلِك لاََّيةً لِقَومٍ يَسمَعون* وَإنَّ لَكُم في الانعَامِ لَعِبرَةً نُّسقيكم مِّما في بُطونِه مِن بَينِ فَرثٍ وَدَمٍ لبَنا خالِصا سائِغا لِلشَّاربين* وَمِن ثَمَراتِ النَّخيلِ وَالاعنابِ تَتَّخِذونَ مِنهُ سَكَرا وَرِزقا حَسنا إِنَّ في ذلكَ لاََّيةً لِقَومٍ يَعقِلون* وَأَوحى رَبُّكَ إلى النَّحلِ أَنِ اتَّخِذي مِنَ الجِبالِ بُيوتا وَمِنَ الشَّجرِ وَممَّا يَعرِشُون* ثُمَّ كُلي مِن كُلِّ الثَّمَراتِ فَأسلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلا يَخرجُ مِن بُطُونِها شَرابٌ مُّختَلفٌ أَلوانُهُ فيهِ شِفاء للنَّاسِ إنَّ في ذلكَ لاََّيةً لِقَومٍ يَتَفكَّرون) (الايات 65 ـ 69).

شرح الكلمات

أ ـ دائبَين:

دأب الشي‌ء: لازمه واعتاده من غير فتور، والدأب: العادة المستمرّة والشأن، ودائبين: دأبهما وشأنهما السير باستمرار.

ب ـ فرث:

الفرث ما في الكرش.

ج ـ يعرشون:

عَرَش الكرم: رفع أغصانه على الخشب، ويقال: لسقف يتخذ على نخلات العرش.

____________

(1) المعجم الوسيط مادّة (سلوى).

(2) هكذا ورد في تفسير الاية في البحار في أخبار موسى وهارون وتفسير المجمع.

(3) سيرة ابن هشام ط. الحجازي بالقاهرة (2 / 168 ـ 169) وكان ما ذكرناه في المتن جاء في تفسير الطبري والسيوطي، ونرى أنّ ما جاء في سيرة ابن هشام أصحّ ممّا أثبتناه في المتن.

(4) راجع مادّة السَّبت في قاموس الكتاب المقدّس وتفسير الاية في تفسير الطبري وابن كثير والسيوطي.

(5) راجع تفسير الاية بتفسير الطبري وسائر التفاسير التي تعتمد الروايات في تفسير الايات.

(6) مشاكسين: سيّئو الخلق عسرو المعاملة، والهلع: الجزع الشديد.

(7) تفسير الاية في مجمع البيان والطبري وسائر التفاسير بالمأثور.

(8) مادّة (الرّحم) من سفينة البحار.

(9) مادّة (بلقع) من نهاية اللغة.

(10) نهج البلاغة الخطبة 108.

(11) العدد 252 من الحكم في نهج البلاغة.

(12) راجع ثواب الاعمال للشيخ الصدوق، باب ثواب من لقي اللّه مكفوفا محتسبا، الحديث: 21. وراجع معالم المدرستين: الجزء الاول، بحث الشفاعة، خبر الضرير الذي أتى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وطلب منه أن يدعو اللّه ليعافيه.