(11)
استحقاق الشفاعة جزاء لبعض الاعمال

شَفعَ الشي‌ء شَفْعا: ضمّ مثله إليه، وشفع له عند آخر شفاعةً: طلب التجاوز عن سَيِّئتِه كأنّه ضمّ نفسه إليه معينا له فهو شافع وشفيع، والشفاعة أيضا كلام الشفيع في هذا المقام، وقد قال اللّه سبحانه:

أ ـ في سورة طه:

(يَومَ يُنفخُ في الصُّور...*...* يَومئذٍ لا تَنفعُ الشّفاعَةُ إلاّ مَن أَذِنَ لَه الرَّحمنُ وَرضي له قولا) (الايتان 102 و109).

ب ـ في سورة مريم:

(لا يَملِكون الشّفاعةَ إلاّ مَن اتّخَّذَ عِندَ الرّحمنِ عَهدا) (الاية 87).

ج ـ في سورة الاسراء:

(... عَسى أن يَبعثكَ رَبُّكَ مَقاما مَحمُودا) (الاية 79).

د ـ في سورة الانبياء:

(... وَلا يَشفَعونَ إلاّ لِمَن ارتَضى...) (الاية 28).

هـ ـ في سورة الاعراف:

(الّذينَ اتَّخَذوا دينَهُم لَهوا وَلَعِبا وَغرَّتهُم الْحَياةُ الدُّنيا فَاليَومَ نَنساهُم كما نَسوا لِقاء يَومِهم هذا... * يَومَ يَأتي تَأويلُهُ يَقولُ الّذينَ نَسُوهُ مِن قبلُ قَد جاءت رُسلُ رَبِّنا بِالحقِّ فَهَل لنا مِن شفَعاء فَيَشفعوا لنا...) (الايات 51 و53).

تفسير الايات

يوم ينفخ في الصور لا تنفع شفاعة أحد إلاّ من أذن اللّه له في أن يشفع ورضي قوله من عباده الصالحين، وإنّه لا يملك الشفاعة إلاّ من اتّخذ عند الرحمن عهدا من الانبياء والاوصياء ومَنْ دونهم من عباد اللّه الصالحين، وإنّ الشفاعة هي المقام المحمود الذي وعد اللّه خاتم أنبيائه (صلى الله عليه وآله وسلم).

وإنّ الانبياء لا يشفعون إلاّ لمن ارتضى اللّه أن يشفعوا له، وفي ذلك اليوم يقول الذين غرّتهم الحياة الدنيا: (فَهَل لنا مِن شُفَعاء فَيَشفَعوا لنا) وليس لهم من شفيع.

الشفاعة في الرّوايات

في البحار نقلا عن عيون الاخبار للصدوق؛ أنَّ الامام الرضا (ع) روى عن أبيه، عن آبائه، عن أمير المؤمنين (ع)، أنّه قال: «قال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم): من لم يؤمن بحوضي ـ الحوض: الكوثر ـ فلا أورده اللّه حوضي، ومن لم يؤمن بشفاعتي فلا أناله اللّه شفاعتي...» الحديث.

وفي آخره سأل الراوي الامام الرضا (ع) وقال: يا ابن رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) فما معنى قول اللّه عزّ وجلّ: (ولا يشفعون إلاّ لِمنْ ارتضى)؟ قال: «لا يشفعون إلاّ لمن ارتضى اللّه دينه»(1) .

إنّ رسول اللّه قال (صلى الله عليه وآله وسلم):

«الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: أي ربِّ منعته الطعام والشهوات بالنهار فشفّعني(2) فيه، ويقول القرآن: منعته النوم باللّيل فشفّعني فيه، قال: فيشفعان».

وروى عن الامام علي (ع) ـ أيضا ـ، أنّه قال:

«قال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم): ثلاثة يشفعون إلى اللّه عزّ وجلّ فيشفَّعون: الانبياء ثمّ العلماء ثمّ الشهداء»(3) .

وفي سنن ابن ماجة، قال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم):

«يشفع يوم القيامة ثلاثة: الانبياء ثمّ العُلماء ثمّ الشهداء»(4) .

وروي عن الامام أبي عبد اللّه الصادق (ع) حديث عن شفاعة رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم القيامة، جاء في آخره:

«... أنّ رسول اللّه يومئذ يخرُّ ساجدا فيمكث ما شاء اللّه، فيقول اللّه عزّ وجلّ: إرفع رأسك واشفع تُشفَّع، وسَلْ تُعطَ. وذلك قوله تعالى:

(عَسى أن يَبعثك ربُّكَ مقامَا مَحمودا»)(5) .

وجاء تفصيل الخبر في تفسير ابن كثير وتفسير الطبري وغيرهما بلفظ آخر(6) .

وروى الترمذي، عن الامام الصادق (ع) أنّ رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) قال:

«شفاعتي لاهل الكبائر من أمّتي»(7) .

نتيجة البحث

يفهم من مجموع الايات والاحاديث في شأن الشّفاعة أنّ الشفاعة يوم القيامة ليست لمن شاء كما شاء، بل تجري وفق مشيئة اللّه الحكيم جزاء لاعمال جعلها اللّه أسبابا للشفاعة، مثل أن يُقَصِّرَ العبدُ المسلم في فريضة من فرائض اللّه، وفي مقابل ذلك كان في حياته قد والى الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته وأخلص لهم الودّ في قلبه لانّهم أولياء اللّه، أو كان قد أكرم عالما لعلمه بالاسلام، أو أحسن إلى مؤمن صالحٍ استشهد بعد ذلك، فيجازيه بعمل قلبه في الحالة الاولى، وبعمل جوارحه في الحالة الثانية، ما يكافأ به نقص عمله في أداء تلك الفريضة.

ومن آثار الاعمال السيئة حبط أجر الاعمال الحسنة كما سندرسها في البحث الاتي بحوله تعالى.

(12)
حبط الاعمال جزاء لبعض الاعمال

حَبطَ العمل أو الصنع يحبَط: بطل ولم يحقّق ثمرته، ويحبط عمل الانسان في الاخرة للاسباب الاتية:

أ ـ أن يصدر العمل من الانسان بقصد النفع الدنيوي فهو عندئذ يأخذ جزاء عمله في الدنيا كما أراد.

ومن هذا الصنف من لا يؤمن باللّه والحياة الاخرة كما أخبر اللّه عنهم وقال سبحانه:

أ ـ في سورة الاعراف:

(وَالّذينَ كَذّبُوا بآياتِنَا وَلِقاء الاخرة حَبِطت أعمالهُم هَل يُجزَونَ إلاّ ما كانوا يَعمَلون) (الاية 147).

ب ـ في سورة التوبة:

(ما كانَ لِلمشركينَ أن يَعمُروا مَساجِدَ اللّهِ شاهِدينَ على أَنفسِهِم بِالكُفر أُولئِكَ حَبِطت أعمالهم وَفي النّارِ هُم خالِدون* إنّما يَعمُرُ مَساجدَ اللّهِ مَن آمنَ بِاللّهِ وَاليومِ الاخرِ وَأقامَ الصِّلاةَ وَآتى الزكاةَ وَلَم يَخشَ إلاّ اللّه فَعَسى أولئكَ أن يكونوا مِن المُهتَدين) (الايتان 17 و18).

ج ـ في سورة البقرة:

(... وَمَن يَرتَدِدْ مِنكُم عَن دِينهِ فَيَمُتْ وَهُو كافِرٌ فَأولئكَ حَبِطت أَعمالُهُم في الدُّنيا وَالاخرةِ وأولئكَ أَصحابُ النّارِ هُم فيها خالِدون) (الاية 217).

د ـ في سورة محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم):

(إنَّ الّذينَ كَفَروا وَصَدّوا عَن سَبيلَ اللّهِ وَشاقُّوا الرَّسولَ مِن بَعدِ ما تَبيَّنَ لَهُم الهدى لَن يَضرّوا اللّهَ شَيئا وَسَيُحبِطُ أعمالَهُم* يا أيُّها الَّذينَ آمَنوا أطيعوا اللّهَ وَأَطيعُوا الرَّسولَ وَلا تُبطِلُوا أعمالَكُم) (الايتان 32 و33).

ولا يقتصر حبط الاعمال على الكافرين بل يشمل المسلمين ـ أيضا ـ للاسباب التي ذكرها اللّه وقال سبحانه:

أ ـ في سورة الحجرات:

(يا أيُّها الَّذينَ آمنوا لا تَرفَعوا أَصوَاتَكم فَوقَ صَوتِ النَّبيِّ وَلا تَجهَروا لَهُ بالقَولِ كَجَهرِ بَعضِكُم لِبَعضٍ أن تَحبَطَ أَعمالكم وَأَنتم لا تَشعُرون) (الاية 2).

ب ـ في سورة البقرة:

(يا أيُّها الّذينَ آمنَوا لا تُبطِلوا صَدَقاتكم بِالمَنِّ وَالاذى كالّذي يُنفقُ مالَه رِئاء النّاس...) (الاية 264).

وجاء في الاحاديث ذكر كثير من أسباب حبط الاعمال، مثل ما رواه الصدوق في ثواب الاعمال عن رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم)، أنّه قال:

«مَنْ قالَ: (سُبْحانَ اللّهِ) غَرَس اللّه لَهُ بِها شَجَرَةً في الجَنَّةِ، وَمَنْ قالَ: (الحَمْدُ للّهِ) غَرَسَ اللّهُ لَهُ بِها شَجَرَةً في الجّنَّةِ، وَمَنْ قالَ: (لا إلهَ إلاّ اللّهُ) غَرَسَ اللّه لَهُ بِها شَجَرَةً في الجَنَّةِ، وَمَنْ قال: (اللّهُ أكْبَر) غَرَسَ اللّهُ لَهُ بِها شَجَرَةً في الجنَّةِ، فَقالَ رَجُلٌ مِنْ قُرَيش: يا رَسُولَ اللّهِ إنَّ شَجَرَنا في الجَنَّةِ لَكَثيرٌ، قالَ: نَعَمْ، وَلكِنَ إيّاكُمْ أَنْ تُرسِلُوا عَلَيها نيرانا فَتُحْرِقُوها، وَذلِكَ أنَّ اللّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقولُ:

(يا أَيُّها الّذين آمَنوا أطيعوا اللّهَ وأطِيعوا الرَّسولَ وَلا تُبطِلُوا أَعمالَكُم»)(8) .

وروى مسلم وغيره واللّفظ لمسلم عن رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم)، أنّه قال:

أ ـ «إنّ فرطكم عليّ الحوض، من ورد شَرِبَ، ومن شَرِبَ لم يظمأ بعد، وليردنّ عليّ أقوام أعرفهم ويعرفوني ثمّ يحال بيني وبينهم».

وفي رواية فيقول ـ الرسول ـ: «إنّهم منّي، فيقال: إنّك لا تدري ما عملوا بعدك».

وفي رواية أخرى أنّه قال:

«ليردَنَّ عليّ الحوض رجال ممنّ صاحبني حتّى إذا رأيتهم اختلجوا دوني، فلاقولّن أي ربّ أصحابي أصحابي، فيقالنَّ لي: إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك»(9) .

وفي حديث رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم):

«إنّ المُرائِي يُدعى به يوم القيامة بأربعة أسماء: يا كافر! يافاجر! يا غادر! يا خاسر! حَبط عملك، وبطل أجرك ولا خلاق لك اليوم، فالتمس أجرك مِمَّنْ كنت تعمل له»(10) .

الخلاق: الحظ والنصيب من الخير.

***

خلاصة البحث:

ذكرنا إلى هنا أمثلة ممّا يجزي ربّ العالمين صنف الانسان من الخلق بآثار عمله. وفي ما يأتي نذكر بحوله تعالى مشاركة الجنّ للانس في ما يتلقّاه من ربّ العالمين في جزاء عمله.

(13)
مشاركة الجنّ للانس في جزاء الاعمال يوم القيامة

الجنّ

قد أخبرنا اللّه سبحانه وتعالى عمّا جزى الشيطان بتمرّده على أمره وعدم سجوده لادم في الدنيا، وأخبرنا عن مآل أمرهم يوم القيامة:

أ ـ في سورة الانعام بقوله تعالى:

(وَيَومَ يَحشُرُهُم جَميعا يا مَعشَر الجنِّ قَدِ استَكثرَتُم مِنَ الانسِ...).

(يا مَعشرَ الجِنِّ والانسِ أَلم يأتِكُم رُسلٌ مِنكم يَقصُّونَ عَلَيكم آياتي وَيُنِذرونَكم لِقاء يَومِكم هذا قالوا شَهِدنَا على أَنفُسِنا وَغَرَّتُهم الحَياةُ الدُّنيا وَشهِدوا عَلى أَنفسِهم أَنّهم كانوا كافرين) (الايات 128 ـ 130).

ب ـ في سورة الجنّ في حكاية وصف الجنّ لقومهم: بقوله تعالى:

(وَأنّا مِنّا المُسلمونَ وَمَنّا القاسِطونَ فَمَن أسلمَ فَأولئكَ تَحرَّوا رَشَدا* وأمّا القاسِطونَ فكانوا لِجَهنَّمُ حَطبا) (الايتان 14 و15).

ج ـ في سورة الاعراف بقوله تعالى:

(قالَ ادخُلُوا فيِ أُممٍ قَد خَلَت مِن قَبلِكم مِنَ الجِنِّ وَالاِنسِ في النَّارِ كَُلَّما دَخَلت أُمَّةٌ لَعَنت أُختها حَتّى إذا ادَّارَكوا فِيها جَميعا قَالت أُخراهُم لاولاهُم رَبَّنا هؤُلاء أَضلُّونا فآتِهِم عَذابا ضِعفا مِنَ النَّار قالَ لكُلٍّ ضِعفٌ وَلكِن لاَ تَعلَمون* وَقَالت أولاَهُم لاُخرَاهم فَما كانَ لَكُم عَلَينا مِن فَضلٍ فَذُوقوا العَذابَ بِما كُنتمُ تَكسِبُون) (الايتان 38 و39).

د ـ في سورة هود:

(... وَتَمَّت كَلِمةُ رَبِّكَ لاَملاَنَّ جهنَّمَ مِنَ الجنّةِ وَالنَاسِ أَجمعين) (الاية 119).

كان ذلكم ما جاء في القرآن الكريم من أمر مجازاة اللّه للجنّ بأعمالهم في الدنيا والاخرة، ولم يأتِ تفصيل شأنهم يوم القيامة كما جاء شأن الانس يوم الجزاء.

خلاصة البحث:

كما أنّ الانسان يحصد ما عمله في زرع القمح والشعير وسائر الحبوبات والخضروات بعد شهور، ويجني ثمر عمله في غرس أنواع الاشجار بعد سنوات ثمّ يتناول رزقه من نتائج أعماله تلك مع ذلك بقوله تعالى:

أ ـ (كُلُوا مِمّا رَزَقَكُمْ اللّه...) (المائدة 88، والنحل 114).

ب ـ (يَا أيُّهَا الَّذيِنَ آمَنُوا كُلُوا مِن طَيِّباتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا اللّه...) (البقرة 72).

ج ـ (وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ خَشْيَةَ إمْلاَقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَأيّاكُمُ...) (الاسراء 31).

وذلك لانّ مثل الانسان في ذلك كلّه مثل إنسان يدخل مطعم (سلف سرويس) إخدم نفسك بنفسك، فإنّ المضيف في مثل هذا المطعم يطعم ضيفه ويرزقه من أنواع الطعام ما يختاره الضيف لنفسه بكامل حرّيته وانّ الضيف لا يأكل شيئا مالم يتّخذ لنفسه ممّا أعدّه المضيف من الاواني والملاعق ولم يتقدّم بنفسه إلى الموائد ولم يأخذ منها ما يشتهيه وتقع التبعة عليه إذا أضرّ نفسه بالاسراف في الاكل أو أكل ما يضرّه، وكذلك شأن الانسان في ما يجتنيه من آثار عمله المعنوية، فإنّه يستوفي آثار عمله عاجلا في الحياة الدنيا دون الاخرة؛ مثل آثار صلة الرّحم للانسان الكافر، أو آجلا بعد الموت؛ مثل آثار الاستشهاد للمؤمن، أو يستوفيها عاجلا وآجلا معا؛ مثل آثار عمل صلة الرّحم التي يستوفي الانسان المؤمن آثارها في الدنيا والاخرة.

وبناء على ما ذكرنا يستوفي الانسان قيمة عمله الحسن المعنوي كما يستوفي قيمة عمله الحسن المادّي عاجلا أو آجلا أو عاجلا وآجلا معا، وكذلك الشأن في أخذ الانسان قيمة عمله السّي‌ء.

وإن استحقاق بعض الاناسي للشفاعة يوم القيامة، وإذن الربّ لاخرين بالشفاعة ـ أيضا ـ تحصّلات لكلّ منهما نتيجة لعمل قام به كل منهما في الدنيا.

وكذلك حبط بعض أعمال الاناسي يوم القيامة تكون نتيجة لبعض أعمالهم في الدنيا وصدق اللّه العظيم حيث يقول: (وَأَنْ لَيْسَ للانْسَانِ إلاّ مَا سَعَى).

وقد أخبر القرآن أنّ صنف الجن ـ أيضا ـ كالانس يستوفون جزاء عملهم في الحياة الاخرة.

وإنّ كلّ ما ذكرناه يجري وفق تقدير حكيم لربّ العالمين، وهي جميعا بعض صفات ربّ العالمين، وسندرس بحوله تعالى صفات اُخرى لربّ العالمين.

(14)
من صفات ربّ العالمين وأسمائه

أوّلا ـ ذو العرش ورَبُّ العرش.

ثانيا ـ الرّحمن.

ثالثا ـ الرّحيم.

رابعا ـ الاِسم.

صِفاتُ ربّ العالمين وأسماؤه

في القرآنِ الكريم صفات خاصّة باللّه مِنها ما تظهر آثارها في الدنيا، ومنها ما تظهر آثارها في الاخرة، ومنها ما تظهر آثارها فيهما معا، وندرس منها في ما يأتي: رَبّ العرشِ= ذو العرش والرّحمن والرّحيم بِإِذنِهِ تعالى ونقول:

أوّلا ـ ذو العَرشِ ورَبُّ العرش

ممّا جاء فيه ذكر عرش اللّه في القرآن الكريم المواضع التالية:

أ ـ في سورة هود:

(وَهُوَ الَّذي خلق السَّمواتِ والارضَ في سِتَّةِ أَيامٍ وكانَ عرشُهُ على الماء لِيَبلُوَكُم أَيُّكُم أَحسَنُ عَملا...) (الاية 7).

ب ـ في سورة يونس:

(إنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذي خَلَقَ السَّمواتِ والارضَ في سِتَّةِ أَيّامٍ ثُمَّ استَوى على العَرشِ يُدَبّرُ الامرَ...) (الاية 3).

ج ـ في سورة الفرقان:

(الذي خلق السَّمواتِ والارضَ وَما بينهما في سِتَّةِ أَيّامٍ ثُمَّ استَوى عَلى العَرشِ الرَّحمانُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيرا)(11) (الاية 59).

د ـ في سورة غافر:

(... الَّذينَ يَحملونَ العَرشَ ومَن حَولهُ يَسبحونَ بِحَمْدِ رَبِّهِم وَيُؤمنونَ بِهِ ويَستغفرونَ لِلَّذينَ آمَنوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَي‌ٍء رحمَةً وعِلْما فَاغفِرْ لِلَّذينَ تابُوا واتَّبَعوا سَبيلكَ وقِهِم عَذابَ الجَحِيم) (الاية 7).

هـ ـ في سورة الزمر:

(وتَرى المَلاَئِكَةَ حافِّينَ مِن حَولِ العَرشِ يُسبِّحونَ بِحَمْدِ رَبِّهِم وقُضِيَ بَينَهُم بِالحقِّ وقِيلَ الحَمْدُ للّهِ رَبّ العالمين) (الاية 75).

و ـ في سورة الحاقّة:

(ويَحْمِلُ عَرشَ رَبِّكَ فوقهم يُومئذٍ ثَمانِية) (الاية 17).

ثانيا ـ الرّحمن

قال سبحانه:

أ ـ في سورة طه:

(وَإنَّ رَبَّكُمُ الرَّحمنُ) (الاية 90).

ب ـ في سورة الانبياء:

(وَرَبُّنا الرَّحمن) (الاية 112).

ج ـ في سورة النبأ:

(رَبُ السمواتِ والارض وَما بينهما الرَّحمن) (الاية 37).

ثالثا ـ الرّحيم

أ ـ قال سبحانه في سورة (يس):

(سَلامٌ قولا مِنْ ربٍّ رَحيم) (الاية 58).

ب ـ في سورة الشعراء:

(وَإنَّ رَبَّكَ لَهوَ العَزيزُ الرّحيم) (الايات 9 و68 و104 و122 و140 و159 و175 و191).

ج ـ وجاء الاسمان كلاهما جميعا في سورة الفاتحة في قوله تعالى:

(... ربِّ العالَمين* الرّحمنِ الرّحيم) (الايتان 2 و3).

شرح الكلمات

أ ـ العَرْش:

العرش، في اللّغة شي‌ء مُسَقَّف، وجمعه عروش، وسمِّي مجلس السلطان: عَرشا، اعتبارا بعلوِّه، وكُنِّي به عن العِزِّ، والسُّلطانِ، والمملكة، في لسان العرب: ثلّ اللّهُ عَرْشَهُمْ أَي هَدَمَ مُلْكَهُمْ(12) .

وفي هذا المعنى قال الشاعر:

إذا ما بنو مروان ثُلَّتْ عروشهم‌ وأودتْ كما أودت إيادٌ وحِمْيَر أراد إذا مابنو مروان هلك ملكهم وبادوا(13) .

ب ـ استوى:

جاء في مادّة (سوى) بكلّ من:

أ) كتاب (التحقيق في كلمات القرآن)(14) :

الاستواء يختلف باختلاف المواضع، ففي كل موضع بحسبه وعلى ما يقتضيه.

ب) مفردات الراغب:

استوى فلان على عمالته، واستوى أمر فلان، ومتى عُدِّيَ بعلى اقتضى معنى الاستيلاء كقوله:

(الرحمنُ عَلى العَرْشِ استَوى) (طه / 5).

ج) المعجم الوسيط:

يقال استوى على سرير المُلك، أو على العرش: تولّى المُلك.

كما قال الاخطل في مدح بشر بن مروان الاموي:

قد استوى بِشرٌ على العراق‌من غير سيفٍ أو دمٍ مهراق(15) .

ثانيا وثالثا ـ الرّحمن الرّحيم

جاء في معاجم اللغة: رَحِمَهُ رَحْما ورُحْما ورحمةً ومَرحَمةً: رقّ له قلبه.

قال الراغب ما موجزه:

الرّحمة: رقّة تقتضي الاحسان إلى المرحوم، وقد تستعمل تارةً في الرقّة المجرّدة وَتارةً في الاحسان المجرّد عن الرقَّة نحو رحم اللّه فلانا.

واذا وصف به الباري فليس يراد به إلاّ الاحسان المجرّد دون الرقَّة، وعلى هذا رُوي أنَّ الرحمة من اللّه إنعام وإفضال ومن الادميين رقّة وتعطُّف... والرّحمن والرّحيم مثل ندمان ونديم.

ولا يطلق الرحمن إلاّ على اللّه تعالى من حيث انَّ معناه لا يَصحُّ إلا له، إذ هو الذي وسع كلّ شي‌ء رحمةً.

والرّحيم يستعمل فيه وفي غيره، وهو الذي كثرت رَحمتُهُ، قال تعالى: (إنَّ اللّه غَفُورٌ رحيم)، وقال في صفة النبيَّ (صلى الله عليه وآله وسلم) في سورة التوبة:

(لَقَدْ جاءكُم رَسُولٌ مِنْ أنفُسِكُم عَزيزٌ عليه ما عَنِتُّم حَريصٌ عليكُم بِالمؤمِنينَ رَؤوفٌ رَحيم) (الاية 128).

وقيل إنّ اللّه تعالى هو رَحمنُ الدُّنيا ورَحيمُ الاخرة، وذلك أنَّ إحسانَهُ في الدُّنيا يَعمّ المؤمنينَ والكافِرينَ، وفي الاخرةِ يختصّ بالمؤمنين، وعلى هذا قال في سورة الاعراف:

(ورَحمَتي وسِعَتْ كُلَّ شَي‌ء فَسَأكتُبُها للّذينَ يَتَّقون...) (الاية 156).

تنبيها أنّها في الدُّنيا للمؤمنين والكافرين وفي الاخرة مختصة بالمؤمنين.

وفي تاج العروس ما موجزه:

الرّحمن اسم خاصّ باللّه لا يسمّى به غيره، لانّ رحمته تشمل جميع الموجودات من طريق الخلق والرِّزق والنَّفع، والرّحيم اسم عام لجميع من اتَّصف بالرّحمة. قال: (وهذا معنى قول جعفر الصادق (ع): الرّحمن اسمٌ خاصُّ لصفةٍ عامّةٍ، والرّحيمُ اسمٌ عامُّ لصفةٍ خاصّةٍ) وَيؤيَّدُ ما ذَكَروا مجي‌ء الرّحيم في القرآن الكَريم قَرينا بالغَفورِ وبالبرِّ والرؤوف والوَدود والتوّاب في سبعةٍ وأربعينَ موردا(16) .

وجاء الرّحمنُ في سورة الرّحمن اسما وصفة لمن أنعم على الانسان بعد خلقه وتعليمه البيان بنعمةِ الهدايةِ بالقرآن، وخلق الارض لمنفعته مع ما فيها من فاكهة ونخل وحبّ وريحان ثمّ قال مخاطبا الثقلين: (فبأيِّ آلاء رَبِّكما تُكَذِّبانِ)، وبعد الاشارة إلى بعض آلائه في الدنيا ذكر بعض آلائه في الاخرة بقوله: (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتان) إلى آخر السورة حيث ختم السورة بقوله تعالى: (تَبارَكَ اسمُ رَبِّكَ ذي الجَلالِ والاكرام).

تفسير الايات

بعد أن عرفنا أنَّ (العرش) كنّي به في لغة العرب عن السلطان والمملكة وأنَّ (استوى) متى عُدِّيَ بعلى اقتضى معنى الاستيلاء، وأنَّه يقال: استوى على سرير الملك أو على العرش تولّى الملك، وراجعنا الموارد السبعة التي جاء فيها ذكر الاستواء على العرش عُدِّي جميعها بعلى وانّه جاء في سورة يونس الاية (3): (استوى على العرش يدبّر الامر)، وفي سورة السجدة الاية 4 و5 (ثُمَّ استَوى عَلى العَرْشِ... يُدبِّرُ الامرَ)، وفي سورة الرعد الاية (2) (ثُمَ استَوى عَلى العَرْشِ... يُدَبِّرُ الامرَ) حيث جاء التصريح فيها بأنّه استوى على العرش يدبّر الامر في ملكه، وفي سورة الاعراف الاية (54) ذكر فعل التدبير في قوله تعالى: (استَوى عَلى العَرشِ يُغْشي اللَّيْلَ النّهار)، وفي سورة الحديد الاية (4) كنّى عن ذلك بقوله تعالى: (استَوى على العرشِ يَعلمُ ما يَلِجُ في الاَرضِ...) فهو عالم بكلّ ما يجري في ملكه.

ومن هنا نعرف أنَّ معنى قوله تعالى في سورة الفرقان الاية (59) (ثمّ استَوى على العَرْشِ الرحمن) أنَّه يعامِلُ مَنْ في ملكه بما تقتضيه رحمته، واكّد ذلك في قوله تعالى في سورة طه الاية (5): (الرَّحمنُ على العَرْشِ استَوى).

وبناء على ذلك يكون معنى قوله تعالى في سورة هود الاية (7) (خَلَقَ السَّمواتِ والارضَ في سَبعَةِ أيّامٍ وَكانَ عَرشُهُ على الماء) أنَّه لم يكن في ملكه قبل خلق السموات والارض غير الماء الذي هو أعلم بحقيقته.

ويكون المقصود من قوله تعالى (الّذينَ يَحملونَ العَرش) في سورة غافر الاية (7) الملائكة الذين جعل منهم رسلا(17) وجعل منهم من يمدّ بهم الانبياء، ومن ينزلون بالعذاب على من استحقوا العذاب من الامم(18) ، مثل قوم لوط، ومنهم من يتوفّون الانفس، إلى غير ذلك من أعمال تقتضيها ربوبية اللّه تعالى في عالمنا هذا.

ويكون المقصود مَنْ قوله تعالى في سورة الحاقة الاية (17): (وَيَحملُ عَرشَ رَبِّكَ فوقهم يَومئذٍ ثَمانِيَة) أنّ الملائكة الذين يُنَفِّذُونَ أوامر الربوبية يوم القيامة ثمانية أصناف.

رابعا ـ الاسم

جاء الاسم في المصطلح القرآني بمعنى صفات الشي‌ء وخواصه المبيِّنة لحقيقته.

وبناء على ذلك فإن قوله تعالى: (علَّمَ آدمَ الاسماء كلَّها) أي علَّمه خواصَّ الاشيأ كلّها والعلوم كلّها ما عدا علم الغيب الذي لا يشارك اللّه فيه أحدٌ إلاّ مَنْ خصّه اللّه بتعليمه ما شاء من أنباء الغيب.

ومعنى: (وَهُوَ الذي سَخّرَ البَحْرَ لِتأكُلُوا مِنهُ لَحما طَريّا وتَستَخرجِوا مِنهُ حِلْيَةً تَلبَسُونَها وتَرى الفُلْكَ مَواخِرَ فيه) (النحل 14) أنّه سخر البحر لنا لننتفع منه وهو من مواضع تعليم آدم (ع)، كما أنّ معنى ما ذكره اللّه قبل هذه وقال:

(والانعام خلقها لَكُم فيها دف‌ْء وَمَنافعُ وَمِنها تأكُلونَ* وَلَكُم فيها جَمالٌ حينَ تُريحونَ وَحينَ تَسْرَحونَ* وَتَحْملُ أَثقالَكُم إلى بَلَدٍ لَم تَكونُوا بالِغيهِ إلاّ بشقِّ الانْفُس إِنَّ رَبِّكم لَرَؤوفٌ رَحيم* والخَيلَ والبِغالَ والحَميرَ لِتَركَبوها وَزِينَة...) (الايات 5 ـ 8).

أنَّه سخَّرها لنا وعلَّمنا كيف ننتفع منها للاكل والدف‌ء والركوب وحمل الاثقال.

وقال في سورة الزخرف:

(والّذي خلق الازواجَ كُلَّها وجعل لَكُم مِنَ الفُلْكِ وَالاَنعامِ ما تَركَبون* لِتَستَووا عَلى ظُهوِره ثُمَّ تَذكروا نِعمةَ رَبِّكم إِذا استَويتُم عليه وتَقُولوا سُبحانَ الذي سَخِّر لَنا هذا وما كُنّا لَهُ مُقرنِين) (الايتان 12 ـ 13).

فكما أنّه هو الذي علَّمنا أن ننتفع ممَّا ذكره في هذه الايات وسخَّرهُ لنا بمقتضى ربوبيته، كذلك فانّه هو الذي أوحى إلى النحل ـ أي ألهمها ـ‍ أن تتّخذ من الجبال بيوتا وتجرس من الزهر النَّور وتعمل العسل، وهو الذي سخّر البحر للاسماك وعلَّمها غريزيا كيف تنتفع منه، وهكذا سخَّر برحمته الواسعة لكلّ واحد من خلقه ما يحتاج من سائر ما خلق، وعلَّمه خواصَّ الاشياء التي يحتاجها، وبعبارة اُخرى علَّم النحل أسماء ما يحتاجه لادامة حياته، وعلَّم الحيتان أسماء ما تحتاجه لادامة حياتها وسخَّرهُ لها.

أمّا الانسان الذي قال اللّه تعالى عنه عندما أتّم خلقه: (فَتَبَارَكَ اللّهُ أحْسَنُ الخالِقينَ) فقد علَّمه الاسماء كلَّها وقال تعالى في سورة الجاثية: (وَسَخَّرَ لَكُم ما في السمواتِ وما في الارضِ جَميعا) (الاية 13).

وقال في سورة لقمان:

(أَلَم تَرَوا أَنَّ اللّهَ سَخَّرَ لَكُم ما في السَمواتِ وما في الارض) (الاية 20).

وبناء على ذلك فإنّ الربَّ الرحمن قد هدى كل صنف من خلقه إلى الانتفاع بما يحتاجه من سائر الخلق، وجعل الخلق الذي يحتاجه هذا الصنف سخريّا له وذلك بتعليمه تكوينيّا بما وهبه من عقل خواصَّ جميع الاشياء إذا سعى وجاهد في تعلُّمها، وسخَّر له جميع المخلوقات ليتّخذها سخريّا له، فإذا سعى جاهدا لتعلُّم خواصّ الذرّة، تعلَّم خواصَّها، ولمّا كانت ممّا سُخِّر للانسان فقد استطاع أن يفلقها ويستعملها في تحقيق أهدافه. كما علَّمه خواصَّ النار والكهرباء وغيرهما من العلوم الفيزيائية والكيميائية، وسخّرها له ليصنع من اصناف الفلزّات سفينةً فضائيّةً يمتطيها من جانب من الارض إلى جانب آخر.

ولمّا كان هذا الانسان بحاجةٍ إلى من يهديه كيف ينتفع بما سخَّر له من الخلق ولا يستعمل ما علّمه وما سخَّره له في ما يضرُّ به نفسه ويهلك به الحرث والنسل فقد أرسل الربُّ الرحمنُ الانبياء كي يهدوه كيف يعمل في ما علَّمه وسخّره له.

وبناء على ذلك فإنّ من آثار رحمة الربِّ الرَّحمان إرسال الانبيأ وإنزال الكتب وتعليم الناس، وجأ بيان ذلك في سورة الرحمن مع تفسير لفظ الرحمن وجملة: (الرحمنُ على العَرشِ استَوى) حيث قال سبحانه وتعالى في سورة الرحمن:

(الرَّحمنُ* عَلَّمَ القُرآن).

(خَلَقَ الانْسانَ* علَّمَهُ البَيان).

إذا فإن من آثار رحمة الرحمن للانسان تعليمه القرآن خاصّة والبيان عامة.

(إنْ كُلُّ مَنْ في السَمواتِ والارضَ إلاّ آتي الرحمنِ عَبْدا) (مريم 93).

(الشَمْسُ وَالقمرُ بِحُسبان* وَالنجمْ والشجَرُ يَسجُدان).

(والسماء رَفَعَهاـ الربُّ الرحمنُ ـ ووضع الميزان).

(... وَالارضَ وَضعها لِلانام). للانسان.

(فيها فاكِهَةٌ والنَخلُ ذاتُ الاكمام* والحَبُّ ذو العَصفِ والرّيحان* فَبِأَيّ آلاء رَبِّكُما تُكَذِّبان) إلى قوله في آخر السورةَ (تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذي الجَلالِ والاكْرام).

وإنَّ الربّ هو الذي:

(يَبسُطُ الرّزقَ لِمَن يَشاء ويَقْدِر) (سبأ 36 و39).

وكلّ ما ذكر من آثار رحمة الرب في الدنيا تعمُّ الناس أجمعين مؤمنين وكافرين. وبناء على ما ذكرناه فالرحمن من صفات الربِّ في الدنيا، وهي تعمُّ الخلائق أجمعين، ثمّ الناس مؤمنين وكافرين.

ولمَّا كان الربُّ يهدي الناس بوسيلة الوحي إلى الرسل فإنّ القرآن يسند الوحي إلى الربّ ويقول:

(... ذلكَ ممّا أَوحى إليك رَبُّكَ مِنَ الحِكمَةَ) (الاسراء 39).

(إتَّبِعْ ما أُوحِيَ إليك مِنْ رَبِّك) (الانعام 106).

وكذلك يسند إرسال الرسل وإنزال الكتب إلى الرب، كما أخبر عن هود (ع) أنّه قال لقومه:

(يا قَوْمِ لَيْسَ بي سَفاهَةٌ وَلكنِّي رَسُول مِنْ رَبِّ العالَمينَ* أُبَلِّغُكُم رِسالاتِ رَبِّي...) (الاعراف 67 ـ 68).

وعن نوح أنّه قال لقومه:

(يا قومِ لَيسَ بي ضَلالةٌ وَلكنّي رَسولٌ مِنْ رَبِّ العالمينَ* اُبلِّغُكم رِسالاتِ رَبِّي...) (الاعراف 60 ـ 61).

وعن موسى (ع)أنّه قال لفرعون:

(يا فِرعَونُ إنّي رَسولٌ مِنْ رَبِّ العالَمينَ) (الاعراف 104).

وفي إنزال الكتب يقول:

(واتلُ ما اُوحِيَ إليك مِنْ كِتابِ رَبِّك) (الكهف 27).

(تَنزيلُ الكِتاب لا رَيبَ فيهِ مِنْ رَبِّ العالَمين) (السجدة 2).

(إنّهُ لَقُرآنٌ كَريمٌ*... تَنْزيلٌ مِنْ رَبِّ العالَمين) (الواقعة 77 و80).

ويسند الامر إلى الربّ، قال تعالى:

(قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالقِسطِ، وَأَقيموا وُجوهَكم عند كُلِّ مَسجِد) (الاعراف 29).

ومن ثمَّ تكون الطاعة لاوامر الرب.

كما أخبر اللّه تعالى عن خاتم الانبياء والمؤمنين وقال:

(آمَنَ الرسولُ بِما أُنزِلَ إليه مِنْ رَبِّهِ والمؤمِنون... قالُوا سَمِعْنا وَأَطعنا غُفرانَكَ رَبَّنا...) (البقرة 285).

ولمّا كانت الرسل هي التي تبلِّغ أوامر الربّ فقد أمر اللّه سبحانه وتعالى بطاعتهم وقال:

(أَطيعوا الرَّسُولَ ولا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُم) (محمّد 33).

وكذلك تكون المعصية معصيةً لاوامر الربّ كما قال سبحانه:

(فَسَجدوا إلاّ إِبليسَ كانَ مِنَ الجِنّ ففسق عن أمرِ رَبِّه) (الكهف 50).

وقال عزَّ من قائل:

(فَعَقَروا الناقَةَ وَعَتَوا عَن أَمر رَبِّهم) (الاعراف 77).

وأحيانا يسقط لفظ الامر كما قال سبحانه وتعالى:

(وَعَصى آدَمُ رَبَّه فَغَوى) (طه 121).

ولّما كانت الرسل تبلِّغ أوامر الرب فإنَّ معصيتهم تعتبر معصية للرب كما أخبر اللّه عن فرعون وقومه ومن كان قبلهم، وقال:

(فَعَصَوا رَسولَ رَبِّهم) (الحاقة 10).

وبعد المعصية قد يتوب العبد ويستغفر رَبَّه فيتوب عليه كما أخبر عن ذلك سبحانه وقال:

(الّذينَ يَقولونَ رَبَّنا آمنَّا فاغفِر لَنا ذُنوبَنا) (آل عمران 16).

(وَما كانَ قَولُهُم إلاّ أَنْ قالُوا رَبَّنا أغفِرْ لَنا ذُنوبَنا) (آل عمران 147).

(رَبّنا اغفِر لَنا ذُنوبَنا وَكَفِّر عَنّا سَيّئاتِنا) (آل عمران 193).

وقال في سورة القصص يحكي عن موسى أنّه قال:

(... رَبِّ إنّي ظَلمتُ نَفسي فاغفِر لي فَغَفَرَ لَه) (الاية 16).

ومن ثمّ فإنَّ من صفات الربّ: الغفور والغفار كما قال سبحانه وتعالى في سورة الاعراف:

(وَالّذينَ عَمِلوا السيِّئاتِ ثُمَّ تابوا مِنْ بَعدِها وَآمَنوا إنَّ رَبَّكَ مِن بَعدِها لَغَفورٌ رَحيم) (الاية 153).

وحكى في سورة نوح (ع) أنّه قال لقومه:

(فَقْلتُ أستَغفِروا رَبَّكم إنَّه كانَ غَفَّارا) (الاية 10).

وقال سبحانه وتعالى في سورة البقرة:

(فَتلقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّه كلماتٍ فَتابَ عليه إنَّهُ هُوَ التَوَّابُ الرّحيم) (الاية 37).

أمّا من لم يستدرك المعصية بالتوبة فإنَّ الربَّ سيجازيه على عمله كما قال سبحانه وتعالى في سورة البيِّنة:

(إنَّ الّذينَ كَفَروا... في نارِ جَهنَّم... إنّ الّذينَ آمنوا وَعَمِلوا الصّالِحاتِ... جَزاؤهُم عند رَبِّهم جَنّاتُ عَدْنٍ... ذلِكَ لَمِن خَشيَ رَبَّه) (الايات 6 ـ 8).

وجزاء الربّ للاعمال قد يكون في الدنيا، وقد يكون في الاخرة، وقد يكون في كليهما، ويسند القرآن جميعها إلى الرب، كما قال اللّه سبحانه وتعالى في سورة سبأ:

(لَقَدْ كانَ لِسَبَأٍ في مَسْكَنِهِم آيةٌ جَنتَّانِ عن يَمينٍ وشِمالٍ كُلوا مِنْ رِزقِ رَبّكُم وأشكُروا لَهُ بَلدَةٌ طيِّبَةٌ وَرَبُّ غَفورٌ* فَأَعرَضوا فَأرسَلنا عليهِم سَيلَ العَرم وَبَدَّلناهُم بِجَنَّتيهِم جنَّتينِ ذَواتَي اُكُلٍ خَمْطٍ وَأثْلٍ وَشَي‌ء مِن سِدْرٍ قَليل* ذلِكَ جَزَيناهُم بِما كَفَروا وَهَل نُجازي إلا الكَفور) (الايات 15 ـ 17).

وأمَّا الجزاء فيكون بعد الحشر والحساب يوم القيامة، ويسند القرآن الحشر والحساب إلى الربِّ ويقول في سورة الحجر:

(إنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحشرهُم) (الاية 25).

وقال سبحانه في سورة الانعام:

(ما فرَّطْنا في الكِتابِ مِنِ شَي‌ء ثُمَّ إلى رَبِّهِم يُحشَرون) (الاية 38).

وقال سبحانه وتعالى في سورة الشعراء:

(إنّ حِسابُهُم إلاّ عَلى رَبّي لَو تَشعُرون) (الاية 113).

وبعد الحساب إمّا ان يكون من المؤمنين الذين تتداركهم رحمة اللّه، كما قال سبحانه وتعالى في سورة مريم:

(يَومَ نَحشُرُ المُتَّقينَ إلى الرّحمنِ وَفْدا) (الاية 85).

وتختص رحمة الربِّ يومئذٍ بالمؤمنين ولذلك يسمَّى: (الرّحيم) ويأتي (الرّحيم) في الذّكر بعد (الرّحمن) كما قال سبحانه:

(الحَمدُ للّهِ رِبِّ العالَمين* الرّحمنِ الرَّحيم) (الفاتحة 2 ـ 3).

لانّ فعل الرحمن يعمُّ مَنْ في هذا العالم وما فيه وفعل الرحيم يخصُّ المؤمنين يوم القيامة. وان لم يكن من المؤمنين وحقَّت عليه كلمة العذاب يوم القِيامة؛ فقد اخبر اللّه سبحانه عن امره في سورة النبأ فقال:

(إنَّ جَهنّمَ كانَت مِرصادا* للطاغينَ مَآبا*... جَزاء وفاقا*... إنَّ لِلمتّقينَ مَفازا* حدائقَ وَأعنابا*... جَزاء من رَبِّكَ عَطاء حِسابا) (الايات 21 ـ 36).

ومن ثمّ يسمَّى الربُّ: (مالِكِ يومِ الدِّين) كما قال سبحانه وتعالى في سورة الفاتحة:

(الحَمدُ للّهِ رَبِّ العالَمينَ* الرّحمنِ الرّحيم* مالِكِ يَومِ الدّين) (الايات 2 ـ 4).

وبناء على ما ذكرنا فإن الربَّ هو الرحمن وهو الرحيم وهو التوَّاب وهو الغفَّار وهو الرزَّاق.

نتيجة البحث:

في سورة الاعلى بيّن القرآن انّ ربَّ الخلق هو الذي خلقهم ثمّ سوّاهم أي هيّأهم لقبول الهداية ثمّ قدّر حياة كل واحد من الخلق ثمّ هداهم، وأخيرا ضرب مثلا بمرعى الحيوان ممّا خلق وقال ما معناه أنّ الربّ هو الذي أخرج مرعى الحيوانات وربّاه حتى بلغ درجة كماله حيث جعله غثاء أحوى نباتا يابسا بعد أن كان شديد الخضرة، وفي سورة الرّحمن التي جاءت آياتها كلّها في وصف الربوبيّة بدأ بذكر جانب من صفة الربوبيّة مع صنف الانسان، حيث قال تعالى: (خَلَقَ الانسانَ عَلّمَهُ البَيَان) أي هيّأه لقبول الهداية بوسيلة البيان.

في سورة العلق بيّن جانبا من صفات الربوبيّة مع صنف الانسان، حيث قال: خلق الانسان وعلّمه بالقلم أي هيّأه لقبول الهداية بوسيلة القلم.

وكلتاهما شرح لكلمة (فسوّى) في سورة الاعلى.

وفي سورة الشورى والنَّساء وآل عمران فصل كيفيّة هداية الربّ للانسان، وقال شرّع للانسان الدَّين وأوحى به في كتبه إلى أنبيائه.

وفي سورة يونس والاعراف قال أنّ ربّكم هو اللّه الذي خلق السماوات والارض وهداهما تسخيريّا.

وفي سورة الانعام بعد ذكره أنواع الخلق في الايات: (95 ـ 101) قال في آية (102): (ذلِكُمُ اللّهُ رَبَّكُم لا إله إلاّ هُوَ خَالِقُ كُلّ شي‌ء فاعبُدوه...).

____________

(1) البحار (8 / 34).

(2) مسند أحمد 2 / 174، وما جاء في النص فيشفعني خطأ.

(3) البحار (8 / 34).

(4) سنن ابن ماجة في باب ذكر الشفاعة، الحديث (4313).

(5) البحار (8 / 36).

(6) راجع تفسير الاية في تفسير الطبري (15 / 97 ـ 99)، وتفسير القرطبي (10 / 209 ـ 312)، وابن كثير (3 / 55 ـ 58)، والبخاري: كتاب التفسير، تفسير سورة الاسراء، باب قوله: (عَسَى أنْ يَبعثكَ رَبّكَ مَقاما مَحْمُودا)، (3 / 102).

وفي سنن ابن ماجة: الحديث (4312)، وسنن الترمذي (9 / 267)، كتاب صفة القيامة، باب (في الشفاعة).

(7) كتاب صفة يوم القيامة.

(8) ثواب الاعمال للشيخ الصدوق (ت 381) ط. طهران، ترجمة غفاري ص 32، والاية 33 من سورة (محمد).

(9) صحيح مسلم: كتاب الفضائل، الحديث 26 و27 و28 و32 و40.

(10) البحار (72 / 295) عن أمالي الصدوق 346.

(11) ورد نظيرها في سورة الاعراف (54)، والحديد (4)، والسجدة (5).

(12) مادة (العرش) من مفردات الراغب، والمعجم الوسيط ومادة ثَلَلَ من لسان العرب.

(13) البحار (58 / 7).

(14) كتاب التحقيق في كلمات القرآن: تأليف الاُستاذ حسن المصطفوي، ط. طهران 1400 هـ.

(15) بشر بن مروان، أخو الخليفة الاموي عبد الملك بن مروان، وواليه على العراق سنة: 74 هجرية، توفّي في البصرة.

راجع ترجمته في تاريخ دمشق لابن عساكر.

وذكر شعره: القاضي عبد الجبار في كتاب: تنزيه القرآن، ط. القاهرة 1329 هـ، ص: 157 و159.

وعبد الرحمن الايجي (ت: 756 هـ) في كتابه: المواقف، ط. القاهرة 1357 هـ، ص: 297، وفيه ورد: عمرو بدل بشر.

(16) راجع المعجم المفهرس لالفاظ القرآن الكريم، مادّة (رحم).

(17) راجع سورة الحج الاية (75) وسورة فاطر الاية (1).

(18) راجع سورة الانفال (9) وينزل معهم العذاب على الكافرين.