صفات الربّ وأفعاله
للربّ في المصطلح القرآني صفات خاصّة به، ومنها ما تظهر آثارها في الدنيا ومنها ما تظهر آثارها في الاخرة، ومنها ما تظهر آثارها في الدنيا والاخرة، ومن تلكم الصِّفات: الرَّحمن، قال اللّه تعالى في سورة طه: (إنَّ رَبَّكُمُ الرَّحمن...).
والرّحمن مشتقّ من الرحمة.
وقد وصف اللّه آثاره في الدنيا وقال في سورة طه:
(... خَلَقَ الارْضَ والسَّمواتِ العُلَى* الرّحمن على العَرْشِ اسْتَوَى) (الايتان 4 ـ 5).
وقال تعالى في سورة الفرقان:
(الَّذِي خَلَقَ السَّمواتِ والارْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فيِ سِتَّةِ أيّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ الرَّحْمن) (الاية 59).
إذا فإنّ الرّحمن هو الذي استولى على عرش القدرة يربّ العالمين أجمعين برحمته الواسعة، ومن آثار رحمته هداية الخلق أجمعين إلى ما يبلغهم إلى درجة الكمال في وجودهم تسخيريّا أو إلهاميّا للحيوان وبواسطة العقل والوحي إلى الانبياء وبيانه بحاجة إلى دراسة موسّعة لمعنى (الاسم) و(التسخير) في ما جاء منها في القرآن الكريم.
سخّره يسخِّره تسخيرا: فهو مسخّر.
سخّره: ذلّله وأخضعه وساقه إلى غرض معيّن قهرا، والسُّخري: الذي يقهر فيتسخّر.
ب ـ الاسم:
جاء الاسم في هذا الباب بمعنى صفات الشيء وخواصّه المبيّنة لحقيقتة.
وبناء على ذلك فإنّ قوله تعالى علّم آدم الاسمأ كلّها أي علّمه خواص الاشيأ كلّها والعلوم كلّها ما عدا علم الغيب الذي لا يشارك اللّه فيها أحد إلاّ من خصّه اللّه بتعليمه ما شاء من أنباء الغيب.
ومعنى: (وَهُوُ الَّذي سَخَّرَ البَحْرَ لِتأْكُلُوا مِنْهُ لَحْما طَريّا وَتسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبسُونَهَا وَتَرَى الفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيه) (النحل 14)، أي سخّر البحر لنا لننتفع منه وهو من مواضع تعليم آدم (ع) كما أنّ ما ذكره اللّه قبل هذه وقال: (وَالانْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفء وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُون* وَلَكُمْ فِيها جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُون* وَتَحْمِل أثْقَالَكُم إلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إلاّ بِشَقِّ الانْفُسِ إنّ رَبَّكُمْ لَرَؤوفٌ رَحِيم * وَالخَيْلَ وَالبِغَالَ وَالحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينة...) (الايات 5 ـ 9)، أي سخّرها لنا وعلّمنا كيف ننتفع منها للاكل والدِّفء والرّكوب وحمل الاثقال.
وقال في سورة الزخرف الايتان / 12 و13:
(وَالَّذِي خَلَقَ الازْوَاجَ كُلَّها وَجعَلَ لَكُمْ مِنَ الفُلْكِ والانْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ* لِتَسْتَووا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الِّذِي سَخَّرَ لَنَا هذا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِين).
وكما علمنا أن ننتفع ممّا ذكرها في هذه الايات وسخّرها لنا بمقتضى ربوبيّته كذلك ربّنا هو الذي أوحى إلى النحل ـ ألهمها ـ أن تتّخذ من الجبال بيوتا وتجرس من الزهر النَوْر وتعمل العسل، وكذلك سخّر الربّ الرحمن البحر للاسماك وعلّمها غريزيا كيف تنتفع، وهكذا سخّر برحمته الواسعة لكل واحد من خلقه ما يحتاج من سائر ما خلق وعلمه خواص الاشياء التي يحتاجها، وبعبارة اُخرى علّم النحل أسماء ما يحتاجه لادامة حياته وعلّم الحيتان أسماء ما تحتاجها لادامة حياتها وسخّرها لها.
أمّا الانسان الذي قال تعالى عندما أتّم خلقه فتبارك اللّه أحسن الخالقين فقد علّمه الاسماء كلّها، وقال تعالى:
(وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا في السَّمواتِ وَمَا في الارْضِ جَمِيعا) (الجاثية 13).
(أَلمْ تَرَوا أنّ اللّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا في السَّمواتِ وَمَا في الارْض) (لقمان 20).
وبناء على ذلك فإنَّ الربّ الرّحمن هَدى كل صنف من خلقه إلى الانتفاع ممّا يحتاجه من سائر الخلق وجعل الخلق الذي يحتاجه هذا الصنف سخريّا له.
أمّا الانسان فقد علّمه تكوينيّا بما وهبه من عقل، خواصّ جميع الاشياء إذا سعى وجاهد في تعلّمها وسخّر له جميع الخلق ليتّخذها سخريّا له فإذا سعى جاهدا لتعلّم خواصّ الذرّة تعلّم خواصّها ولمّا كانت ممّا سخّرها للانسان استطاع أن يفلقها ويستعملها في تحقيق أهدافه، كما علّمه خواص النّار والكهرباء وغيرها من العلوم الفيزيائية والكيميائية وسخّرها له ليصنع من أصناف الفلزّات سفينة فضائية يمتطيها من جانب من الارض إلى جانب آخر ولما كان هذا الانسان بحاجة إلى من يهديه كيف ينتفع ممّا سخّر اللّه له من الخلق ولا يستعمل ما علّمه وما سخّره له في ما يضرّ به نفسه ويهلك به الحرث والنسل، أرسل الربّ الرّحمن الانبياء كي يهدوه كيف يعمل في ما علّمه وسخّره له.
وبناء على ذلك فإنّ من آثار رحمة الربّ الرّحمن إرسال الانبيأ وإنزال الكتب وتعليم الناس، وورد بيان ذلك في سورة الرّحمن مع تفسير لفظ الرّحمن: (الرّحمن عَلى العَرْشِ اسْتَوَى) و(الرّحمن* عَلَّمَ القُرآنَ* خَلَقَ الانْسَانَ* عَلَّمَهُ البَيَانَ)، إذا فإنّ من آثار رحمة الرّحمن للانسان تعليمه القرآن خاصّة والبيان عامّة وخلق ما ينتفع به كما قال بعده:
(الشمْسُ والقَمَرُ بُحسْبَانٍ* وَالنَّجْمُ وَالشجَرُ يَسْجُدانِ* والسَّمَاء رَفَعَهَا ـ الربّ الرّحمن ـ وَوَضَعَ الميزان... والارْضَ وَضَعَهَا لِلانَامِ ـللانسان ـ فِيها فَاكِهةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الاكْمَامِ* وَالحَبُّ ذُو العَصْفِ وَالرَّيْحَانُ* فَبأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبانِ* ـ إلى آخر السورة ـ تَبَارَكَ أسمْ رَبِّكَ ذُو الجَلاَلِ وَالاكْرَامِ).
إنّ الربّ هو الذي (يَبْسطُ الرِّزْقَ لَمِنْ يَشَاء وَيَقْدِر) (سبأ 36 و39).
وكل ما ذكر من آثار رحمة الربّ في الدنيا تعمّ الناس أجمعين مؤمنين وكافرين، وبناء على ما ذكرناه فالرّحمن من صفات الربّ في الدنيا، وهي تعمّ الخلائق أجمعين ثمّ الناس مؤمنين وكافرين. ولما كان الربّ يهدي الناس بوسيلة الوحي إلى الرسل فإنّ القرآن أسند الوحي إلى الربّ ويقول:
(... ذلِكَ مِمّا أوحى إلَيْكَ رَبّكَ مِنَ الحِكْمَة...) (الاسراء 39).
(... اتّبع ما أُوحِيَ إلَيْكِ مِنْ رَبِّك...) (الانعام 106).
وكذلك يسند إرسال الرسل وإنزال الكتب إلى الربّ كما أخبر في سورة الاعراف عن نوح أنّه قال لقومه:
(قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَة ولكنِّي رَسُولُ رَبِّ العَالَمِينَ أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتُ رَبِّي) (الايتان 67 و68).
وعن موسى (ع) أنّه قال لفرعون:
(قالَ مُوسى يا فِرْعَوْن إنِّي رَسُولٌ مِن رَبِّ العَالَمِين) (الاية 104).
وفي إنزال الكتب يقول:
في سورة الكهف:
(وَاتلُ مَا أُوحِيَ إلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّك) (الاية 27).
وفي سورة السجدة:
(تَنْزِيلُ الِكتَابِ لاَ رَيْبَ فِيه مِن رَبِّ العَالَمِين) (الاية 2).
وفي سورة الواقعة:
(إنّه لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ... تَنْزِيلٌ مِن رَبِّ العَالَمِين) (الاية 77 و80).
وأسند الامر إلى الربّ وقال تعالى:
(قُل أَمَرَ رَبِّي بالقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِد) (الاعراف 29).
ومن ثمّ تكون الطاعة لاوامر الربّ.
كما أخبر اللّه سبحانه في سورة البقرة / 284 عن خاتم الانبياء، والمؤمنين وقال: (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا اُنْزِلَ إلَيهِ مِن رَبِّهِ وَالمُؤْمِنُونَ... قالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنا...).
ولمّا كانت الرسل هي التي تبلَّغ أوامر الربّ أمر اللّه بطاعتهم وقال سبحانه وتعالى: (أطِيعُوا الرَّسُولَ وَلاَ تُبْطِلُوا أعْمَالَكُم) (محمّد 33).
وكذلك تكون المعصية معصية لاوامر الربّ، قال سبحانه:
(فَسَجَدُوا إلاّ إبْلِيسَ كَانَ مِنَ الجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أمْرِ رَبِّه) (الكهف 50).
وقال عزّ من قائل:
(فَعَقَرُوا الناقَةَ وَعَتَوا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ) (الاعراف 77).
وأحيانا يسقط لفظ الامر، كما قال سبحانه:
(وَعَصَى آدَمَ رَبَّهُ فَغَوى) (طه 121).
ولمّا كانت الرسل تبلِّغ أوامر الربّ تكون معصيتهم معصية الربّ كما أخبر اللّه عن فرعون وقومه ومن كان قبلهم وقال في سورة الحاقّة.
(فَعَصَوا رَسُولَ رَبِّهِمْ...) (الاية 69).
وبعد المعصية قد يتوب العبد ويستغفر ربّه فيتوب عليه، كما أخبر عن ذلك سبحانه وقال:
(الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنا).
(وَمَا كَانَ قُوْلُهم إلاّ أن قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنا).
(رَبَّنَا اغْفِر لَنَا ذُنُوبَنا وَكَفِّر عَنَّا سَيِّئاتِنا) (آل عمران 16 و147 و193).
وقال في سورة القصص حكى عن موسى (ع) أنّه قال:
(... رَبِّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ ليِ فَغَفَرَ لَهُ) (الاية 116).
ومن ثمّ فإنّ من صفات الربّ الغفور والغفّار كما قال سبحانه:
(وَالَّذِينَ عَمَلوا السيِّئاتِ ثُمّ تابُوا مِن بَعْدِها وَآمَنُوا إنّ رَبَّكَ بَعْدها لَغَفُورٌ رَحِيم) (الاعراف 153).
وحكى في سورة نوح (ع) إنّه قال لقومه:
(فَقلت اسْتَغْفِرُوا رَبّكُم إنّه كَانَ غَفّارا) (الاية 10).
وقال في سورة البقرة:
(فَتَلقَّى آدَمَ مِنْ رَبِّه كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إنّهُ هُوَ التوّاب الرّحيم) (الاية 37).
أمّا من لَم يستدرك المعصية بالتوبة فإنّ الربّ سيجازيه على عمله كما قال سبحانه:
(إنّ الّذينَ كَفَرُوا... في نَارِ جَهَنّم... إنّ الّذينَ آمَنوا وَعَمَلوا الصّالِحات... جَزَاؤهُم عَنْدَ رَبِّهِم جَنّاتُ عَدّن... ذلك لَمِنْ خَشِيَ رَبّه) (البيِّنة 6 ـ 8).
وجزاء الربّ للاعمال قد يكون في الدنيا وقد يكون في الاخرة وقد يكون في كليهما، ويسند القرآن جميعها إلى الربّ كما قال اللّه سبحانه وتعالى في سورة سبأ (15 ـ 17):
(لَقَدْ كَانَ لِسَبأٍ في مَسَاكِنِهِم آيَةٌ جَنّتانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلوا من رِزْقِ رَبِّكُم وَاشْكُروا لَهُ بَلْدَةٌ طيِّبَةٌ وَرَبُّ غَفُورٌ* فَأعْرَضُوا فَأرْسَلْنا عَلَيْهِم سَيْلَ العَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيهِم جَنَّتَين ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيء مِن سِدْرٍ قَلِيل* ذلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نَجْزِي إلاّ الكَفُور).
وأمّا الجزاء فيكون بعد الحشر والحساب يوم القيامة، ويسند القرآن الحشر والحساب إلى الربّ ويقول:
(وَإنّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ) (الحجر 25).
(مَا فَرَّطْنَا فيِ الكِتَابِ مِن شَيء ثُمّ إلى رَبِّهِم يُحْشَرُون) (الانعام 38).
ويقول:
(إنْ حِسَابُهُم إلاّ علَى رَبِّي لَو تَشْعُرُون) (الشعراء 113).
وبعد الحساب إمّا أن يكون من المؤمنين الذين تتداركهم رحمة اللّه كما قال سبحانه وتعالى في سورة مريم:
(يَوْمَ نَحْشِرُ المُتَّقِينَ إلى الرَّحْمنِ وَفْدا) (الاية 85).
وتختص رحمة الربّ ويؤمئذ بالمؤمنين، ولذلك يسمّى (الرّحيم)، ويأتي الرّحيم في الذكر بعد الرّحمن، كما قال سبحانه: (الحَمْدُ للّهِ رَبِّ العَالَمِينَ* الرّحمنِ الرّحيم) لانّ فعل الرّحمن يعمّ مَن في هذا العالم وما فيه، وفعل الرّحيم يخصّ المؤمنين يوم القيامة، وإن لم يكن من المؤمنين، وحقّت عليه كلمة العذاب يوم القيامة، فقد أخبر اللّه عن أمره وقال سبحانه في سورة النبأ (21 ـ 37):
(إنّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادا* لِلْطَاغِينَ مآبا... جَزَاء وِفَاقا... إنّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازا* حَدَائِقَ وَأَعْنَابا... جَزَاء مِنْ رَبِّكَ عَطَاء حِسَابا * رَبُّ السّمواتِ وَالارْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا)، ومن ثمّ يسمّى الربّ (مالِك يَوْم الدِّين) كما قال سبحانه في سورة الحمد (الحَمْدُ للّهِ رَبَّ العالَمِينَ* الرّحمنِ الرّحيم* مالِكِ يَوْمِ الدِّين).
وبناء على ما ذكرنا فإنّ الربّ هو الرّحمن وهو الرّزاق وهو الرّحيم وهو التوّاب وهو الغفور، إلى غيرها من الاسماء الحسنى.
كلّ ما ذكرناه إلى هنا في بحوث الالوهيّة من صفات الاله وأفعاله، وفي بحوث الربوبية من صفات الربّ وأسمائه، من صفات اللّه وأسمائه، كما سنذكره بالاضافة إلى أسماء اُخرى للّه في بحث (وللّه الاسماء الحسنى) الاتي إن شاء اللّه تعالى.
قال اللّغويون إنّ لفظ (اللّه) مشتق من الاله.
وأخطأ من علماء اللغة العربية من زعم أنّ (اللّه) أصله (اله) الذي هو اسم جنس للالهة ودخلت عليها الالف واللاّم للتعريف وصار (الاله) ثمّ حذفت الالف واُدغم اللاّمان فصار (اللّه). وعندئذ يكون (إله) و(اللّه) مثل (رجل) و(الرجل) الاوّلان منهما اسما جنس لكلّ الالهة ولكلّ الرجّال، والثانيان منهما عُرّفا بالالف واللاّم وبهما شُخّص الرّجل المقصود والاله المقصود. وعليه فانّ معنى (لا إله إلاّ اللّه) يكون: لا إله إلاّ الاله الذي أقصده وأعنيه.
لقد أخطأ القائلون بهذا القول. فانّ لفظ (اللّه) علم مرتجل باصطلاح النحويين سمّي به الذات الذي صفاته جميع الاسماء الحسنى، ولا يشاركه في التسمية غيره، كما لا يشاركه غيره في الاُلوهيَّة والرُّبوبيَّة.
وفي المصطلح الاسلامي اسم خاص للذات المستجمع لجميع صفات الكمال كما قال سبحانه وتعالى:
(وَللّهِ الاسماء الحُسنى) (الاعراف 180).
وقال جلّ اسمه:
(أللّهُ لا إلهَ إلاّ هُوَ لَهُ الاسماء الحُسنى) (طه 8).
وعلى هذا فان معنى: لا إله إلاّ اللّه: لا خالق ولا مؤثِّر في الوجود ولا معبود غير اللّه الذات المستجمع لجميع صفات الكمال، والذي له جميع الاسماء الحسنى ومن الاسماء الحسنى، القَيُّوم أي:
القائم الحافظ لكل شيء والمعطي له ما به قوامه وذلك هو المعنى المذكور في قوله تعالى:
(الذي أعطى كُلَّ شَيء خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى).
وبناء على ما ذكرنا فإنّ اللّه هو الربُّ، وهو الرحمن، وهو الرزّاق، وهو التوّاب، وهو الغفّار، وهو الرَّحيم، وهو مالك يوم الدين، إلى غير ذلك من الاسماء الحسنى. ولذلك فإنَّ لفظ (اللّه) قد يأتي في القرآن الكريم في مورد ينبغي فيه ذكر اسم الربَّ، ويوصف بصفات الربِّ، أي:
الرزّاق والتوّاب والغفور والرحيم، والذي يعطي الانسان جزاء عمله كما جاء أمثال ذلك في قوله تعالى:
أ ـ (اللّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاء وَيَقْدِر) (الرعد 26).
ب ـ (إنَّ اللّهَ هُوَ التَوّابُ الرَّحيم) (التوبة 104).
ج ـ (إنَّ اللّهَ غَفورٌ رَحيم) (البقرة 182).
د ـ (لِيَجزِيَهُم اللّهُ أحسَنَ ما كانوا يَعملون) (التوبة 121).
ومئات المواضع الاُخر أمثالها.
وهناك صفات ـ أسماء ـ تأتي صفة للّه خاصّة مثل قوله تعالى:
(اللّه لا إله إلاّ هو الحيّ القيّوم لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السموات وما في الارض من ذا الّذي يشفع عنده إلاّ بإذنه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلاّ بما شاء وسع كرسيّه السماوات والارض ولا يؤوده حفظهما وهو العلّي العظيم).
كلّ هذه الصفات والاسماء خاصّة باللّه وليست من صفات الاله الخالق ولا الربّ المربّي للعالمين.
و ـ أيضا ـ من صفاته الخاصّة:
العزيز، الحكيم، القدير، السميع البصير الخبير، غنيّ حميد، ذو الفضل العظيم، واسع عليم، يفعل ما يشاء و... وبناء على ما ذكرنا فانّ (اللّه) اسم لكلّ تلكم الصفات وحقيقته تلك الصفات وتلكم الاسماء الحسنى ويقابل لفظ اللّه (يهوه) في اللغة العبريّة. كما يقابل لفظ الاله (الوهيم) في العبرية.
ومن صفات اللّه الرَّب أنَّه وسع كرسيُّه السموات والارض. فما معنى الكرسيِّ ؟
الكرسيُّ في اللّغة: السرير والعِلم.
روى الطبري والقرطبي وابن كثير عن ابن عباس واللّفظ من الطبري بإيجاز انّه قال كرسيّه عِلْمُهُ.
قال الطبري: كما أخبر عن ملائكته أنّهم قالوا في دعائهم: رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيء رَحْمَةً وَعِلْما فأخبر تعالى ذِكْرُه أنَّ علمه وسع كل شيء، فكذلك قوله وسع كرسيّه السموات والارض، قال: وأصل الكرسي العِلْمُ، ومنه قيل للصحيفة يكون فيها علم مكتوب: كراسة.
ومنه يقال للعلماء الكراسي.
ومنه قول الرّاجز: (حتّى اذا ما احتازها انكرّسا) يعني: علم.
ومنه قول الشاعر:
تحف بهم بيض الوجوه وعصبةكراسيّ بالاحداث حين تنوب يعني بذلك علماء بحوادث الاُمور ـ انتهى ما نقلناه عن الطبري.
ونضيف إلى ما قاله الطبري ونقول بحوله تعالى:
وحكى اللّه عن إبراهيم (ع) انّه قال لقومه:
(وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شيء عِلْما أفلا تَتَذَكَّرون) (الانعام 80).
وعن شعيب (ع) انّه قال لقومه:
(وَسِعَ ربُّنا كُلَّ شيء عِلما) (الاعراف 89).
وعن موسى (ع) أنّه قال للسّامري:
(إنَّما إلهكُمُ اللّهُ الذي لا إله إلاّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيء عِلما) (طه 98).
وقال الامام الصادق (ع) السادس من أوصياء الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في جواب من سأله عن قوله تعالى:
(وَسِعَ كُرسِيُّهُ السمواتِ والارض) (البقرة 255).
قال: علمه(1) .
وانّ الكرسيَّ جاء في مكان واحد في القرآن الكريم في قوله تعالى:
(يَعلمُ ما بَينَ أَيديهِم وَما خلفهم وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيء مِن عِلمِه إلاّ بِما شاء وَسِعَ كُرسِيّهُ السَّمواتِ والاَرض...) (البقرة 255).
ومجيئه في هذه الجملة بعد علمه يدلّ على أنّ المقصود من كرسيّه، علمه تعالى. ويكون معنى الجملة عندئذ يعلم ما بَينَ أيديهم وما خَلْفَهُم ولا يحيطون بِشَيء مِن عِلْمِهِ إلاّ بِما شَاء وَسِعَ عِلْمُهُ السّمواتِ والارْض.
وعلى هذا فإنّ معنى بعض الروايات انّ (كلَّ شيء في الكُرسي) أي إنّ كل شيء في علم اللّه.
ويتّصل ببحث الاسماء الحسنى ـ أيضا ـ بحث العبودية الذي ندرسه في ما يأتي بحوله تعالى.
عبد عبادة وعبودية: أطاع.
والعبودية: الخضوع وإظهار التذلُّل، والعبادة أبلغ منها لانّها الغاية في التذلّل.
والعبودية: الطاعة.
وفي هذا المعنى جاء في سورة الحمد (إيّاكَ نَعبدُ) بعد ان سبقه ذكر (رَبِّ العالَمين).
وبهذا المعنى (العبودية والطاعة) جاء في حديث الامام الصادق (ع) حيث قال: (مَنْ أَطاعَ رَجُلا في مَعصيةٍ فقد عبده)(2) .
وقول الامام الرضا (ع):
(مَنْ أصْغَى إلى ناطِقٍ فَقَدْ عَبَدَهُ فَإنْ كَانَ الناطِقُ عَنِ اللّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَقَدْ عَبَدَ اللّه، وَإنْ كَانَ الناطِقُ عَنْ إبْلِيسَ فَقَدْ عَبَدَ إبْلِيس)(3) .
والعبادة تكون بالاختيار لذوي النطق، وبالتسخير لغيرهم، مثل قوله تعالى:
(إنْ كُلُّ مَنْ في السمواتِ والارضِ إلاّ آتي الرَّحمنِ عَبدا) (مريم 93).
وهذا مثل قوله تعالى:
(وَللّهِ يَسجدُ مَنْ في السِّمواتِ وَالارضِ طَوعا وَكَرها وَظِلاُلهمُ بِالغُدُوِّ وَالاصال) (الرعد 15)..
وللعبد أربعة معانٍ:
1 ـ العبد بالرقِّ مثل قوله تعالى:
(ضَرَبَ اللّهُ مَثَلا عَبدا مَملوكا لا يَقِدرُ عَلى شَيء) (النحل 75).
وجمعه العبيد مثل قول رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) من خرج الينا من العبيد فهو حرُّ(4) .
2 ـ العبد بالايجاد. وأوضح مثل له ـ أيضا ـ قوله تعالى:
(إنّ كلُّ مَنْ في السمواتِ والاَرضِ إلاّ آتي الرَّحمن عَبدا) (مريم 93).
ويجمع ـ أيضا ـ على العبيد مثل قوله تعالى:
(وَأنّ اللّهَ لَيسَ بِظَلاّمٍ لِلعَبيد) (الانفال 51).
3 و4 ـ العبد بالعبادة والخدمة ويقال له العابد ابلغ وينقسم إلى قسمين:
أ ـ عبدٌ للّهِ مخلصا وحقيقةً وجمعه: العُبّاد مثل قوله تعالى في ما حكاه عن موسى وفتاه:
(فَوَجَدا عَبدا مِنْ عِبادِنا آتَيناهُ رَحَمةً مِن عِندِنا) (الكهف 65).
ب ـ عبد للدنيا يَعكف على طلب الدنيا ويجمع على العبيد مثل قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): (تَعِسَ عَبْد الدرْهَمِ وَعَبْد الدينار).
ومثل قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): (مَنْ خَرَجَ إلَيْنا مِنَ العَبيِد فَهُوَ حُرّ).
ولمّا كان الرَّبُّ تصدر منه الاوامر والنواهي لهداية الناس يقال لمن اطاعه عَبَدَ الربّ يعبده عبادةً وهو عابدٌ، أي أطاعه ويطيعه وهو مطيعٌ للربِّ، ولمّا كان الاله بمعنى المعبود، وتُجرى له الطقوس الدينيَّة يقال: عبد فلان الاله يعبده عبادةً فهو عابد أي أجرى الطقوس للاله...(5) .
كلّ ما ذكرناه في بحوث الالوهية من صفات الاله وفي بحوث الربوبية من صفات الربّ من صفات اللّه ربّ العالمين ومن صفات ربّ العالمين، أنّ كلّ شيء يجري بمشيئته كما سنشرحها في البحث الاتي بإذنه تعالى:
أ ـ معنى المشيئة
ب ـ مشيئة اللّه في الرزق
ج ـ مشيئة اللّه في الهداية
د ـ مشيئة اللّه في الرّحمة والعذاب.
من صفات اللّه ربّ العالمين مشيئته في الهداية والرزق والعذاب والرحمة، كما يأتي بيانها في أربعة بحوث:
أوّلا ـ المشيئة في اللّغة والقرآن الكريم
في لغة العرب. شاء يشاء مشيئةً: أراد إرادة، وبهذا المعنى أسندت المشيئة إلى الناس في قوله تعالى:
(إنَّ هذه تَذكِرةٌ فَمَن شاء اتّخَذَ إلى رَبِّهِ سَبيلا) (المزمّل 19) و(الانسان 29).
أي إن الانسان إذا أراد أن يتَّخذ إلى ربّه سبيلا فإنّه قادر على أنْ يفعل ذلك بكامل حرّيته ومحض اختياره، وورد نظيره ـ أيضا ـ في: سورة المدثّر (55) وسورة عبس (12) والتكوير (28) والكهف (29) وغيرها من الموارد في القرآن الكريم.
وبالمعنى اللّغوي ـ أيضا ـ اُسندت المشيئة إلى اللّه سبحانه وتعالى في قوله:
1 ـ في سورة الفرقان:
(أَلمْ تَرَ إلى رَبِّك كَيفَ مَدّ الظلَّ وَلَو شاء لَجَعَلهُ ساكِنا) (الاية 45).
2 ـ في سورة هود:
(فَأمّا الّذينَ شَقوا فَفي النارِ لَهُم فيها زَفيرٌ وَشَهيق* خالدينَ فيها مادامَتِ السَمواتُ والارضُ إلاّ ما شاء رَبَّك إنّ رَبَّكَ فعّالٌ لِما يُريدُ * وأمّا الّذينَ سُعِدوا فَفي الجنّة خالِدينَ فيها مادامَتِ السَّمواتُ والارضُ إلاّ ما شاء رَبُّكَ عَطاء غَيرَ مَجْذوذ) (الايات 106 ـ 108).
وجاء نظيرهما ـ أيضا ـ في سورة الاسراء (86) والفرقان (51).
المعنى في الايات الماضية:
1 ـ في المورد الاوّل قال سبحانه وتعالى:
(ألم تَرَ إلى رَبِّكَ كَيفَ مَدَّ الظِّلّ) شيئا فشيئا بعد الظهيرة من المغرب إلى المشرق حسب اقتراب الشمس من الاُفق، حتى اذا غربت كانت في نهاية الامتداد في الليل ولو شاء لجعل الظلّ ساكنا دائما، أي ان تمدُّد الظّلِّ وتحرّكه يجري بقدرة اللّه ووفق إرادته وليس خارجا عن ارادته.
2 ـ في المورد الثاني قال سبحانه وتعالى:
إنَّ أَهْلَ النارِ خالدونَ في النارِ أبدا، وأهلُ الجَنَّةِ خالدون في الجنَّةِ أَبَدا وَإنَ ذلكَ كائن بقدرة اللّه وارادته وليس خارجا عن إرادته وقدرته.
كان ذلكم من موارد اسناد المشيئة إلى اللّه وإلى الناس بمعناه اللّغوي.
ب ـ مشيئة اللّه في الاصطلاح القرآني:
اذا اسندت المشيئة في القرآن الكريم إلى اللّه بعد مادة: الرزق والهداية والعذاب والرحمة اُريد بها جريان الرزق والهداية وأمثالهما للانسان وفق سننٍ قررها لها اللّه وفق حكمته وانّ سنّة اللّه في ذلكم الامر لن تتبدّل وهي إذا من مصاديق قوله تعالى في سورتي الاحزاب (38) و(62) والفتح (23):
(سُنَّةُ اللّهِ... وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللّهِ تَبديلا).
وقوله تعالى في سورة فاطر:
(فَلَن تجِدَ لِسُنَّةِ اللّهِ تَبديلا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللّهِ تَحويلا) (الاية 43).
كما يأتي بيانها بحوله تعالى.
جاء ذكر مشيئة اللّه في مر الرزق في قوله تعالى:
1 ـ في سورة الشَورى:
(لَهُ مقَالِيدُ السَّمواتِ والارضِ يَبسُطُ الرِّزقَ لِمَن يَشاء وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيء عَلِيم) (الاية 12).
ونظيره في سورة الرعد (26).
2 ـ في سورة العنكبوت:
(وَكَأَيِن مِن دابَّةٍ لا تَحْملُ رِزقَها اللّهُ يَرزُقُها وإِياكُم وَهُوَ السَّميعُ العَلِيم* وَلَئِن سَأَلتَهُم مِّن خلق السَّمواتِ والارضَ وَسَخَّرَ الشَّمسَ وَالقمر لَيَقُولُنَّ اللّهُ فَأَنَّى يُؤفَكُون* اللّهُ يَبْسُطُ الرِّزقَ لِمَن يَشاء مِن عِبادِهِ وَيَقِدرُ لَهُ إِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شيء عَليم* وَلَئِن سَأَلتَهُم مَّن نَّزَّلَ مِنَ السَّماء مآء فَأَحيا بِهِ الارضَ مِن بَعدِ مَوتِها لَيَقُولُنَّ اللّهُ قُل الحَمدُ للّهِ بَلْ أَكثرُهُم لا يَعقلُون) (الايات 60 ـ 63).
3 ـ في سورة سبأ:
(قُل إِنَّ رَبِّي يَبسُطُ الرِّزقَ لِمَن يَشاء مِن عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنفَقتُم مِن شَيء فَهُوَ يُخلِفُهُ وهُوَ خَيْرُ الرازقين) (الاية 39).
4 ـ في سورة الاسراء:
(وَلاَ تَجعَل يَدَكَ مَغلُولَةً إلى عُنُقِكَ وَلا تَبسُطها كُلَّ البَسْطِ فَتَقعُدَ مَلُوما محسورا* إِنَّ رَبَّك يَبسُطُ الرِّزقَ لِمَن يَشاء وَيقدِرُ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيرا بَصِيرا* وَلاَ تَقتُلُوا أَولادَكُم خَشيَةَ إِملاقٍ نحنُ نَرزُقُهُم وَإِيّاكُم إِنَّ قَتلَهُم كَانَ خِطئا كَبِيرا*... ولا تَقرَبُوا مالَ اليَتيمِ إِلا بِالَّتي هِيَ أَحسَنُ حَتى يَبلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالعَهْدِ إِنَّ العَهدَ كانَ مَسؤولا* وَأَوْفُوا الكَيْلَ إِذَا كِلتُم وَزِنُوا بِالقِسطَاسِ المُستَقِيم ذلكَ خَيرٌ وَأَحسَنُ تَأويلا) (الايات 29 ـ 31 و34 ـ 35).
5 ـ في سورة آل عمران:
(قُل اللّهُمَّ مَالِكَ المُلكِ تُوتي المُلكَ مَن تَشاء وَتَنزِعُ المُلكَ مَّمِن تَشاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَنْ تَشاء بِيَدِكَ الخَيرُّ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيء قَدِيرٌ* تُولجُ اللّيلَ في النَّهارِ وتُولجُ النَّهارَ في اللَّيلِ وَتُخرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ وَتُخرِجُ المَيِّتَ مِنَ الحَيِّ وَتَرزُقُ مَن تَشَاء بِغَيرِ حِسَابٍ) (الايتان 26 ـ 27).
ما هي مشيئة اللّه في أمر الرزق؟
لقد مرّ بنا في بحث «جزاء الاعمال» أنّ اللّه سبحانه وتعالى جعل توسعة الرِّزق في صلة الرَّحم، وجعل الولد يرث أثر صلاح أبيه، كما مر بنا في خبر موسى والعبد الصّالح عندما بنى جدارا يريد ان ينقضّ ليبقى الكنز المدفون لليتيمين لانَّ أباهما كان صالحا وليستخرجاه عندما يبلغان أشدّهما، وهذان مثلان لمشيئة اللّه في أمر الرزق وإنّها تجري وفق سنن لا تتبدلّ.
ثالثا ـ مشيئة اللّه في الهداية
يأتي ذكر هداية الانسان في القرآن بمعنيين:
1 ـ بمعنى تعليم الانسان عقائد الاسلام وأحكامه:
ويسنده القرآن غالبا إلى الانبياء الذين بعثهم اللّه لتبليغ الانسان عقائد الاسلام وأحكامه.
وأحيانا يسنده إلى اللّه جلّ اسمه لانّه الذي أرسل الانبياء بدين الاسلام.
2 ـ بمعنى توفيق اللّه الانسان إلى الايمان بعقائد الاسلام والعمل بأحكامه. وهذا ما يسنده القرآن إلى اللّه وحده، تارة مع وصف أنّ هذه الهداية من مشيئة اللّه، وأخرى بدون ذكر مشيئة اللّه.
وفي ما يأتي أمثلة من مواردها في القرآن الكريم:
وقد اشترط اللّه لهذا النوع من الهداية أن يرضاها الناس ويختاروها ويباشروا العمل من أجل الوصول إليها كما يأتي بيانها في ثلاثة بحوث بحوله تعالى.
أسند القرآن هداية الناس بمعنى تبليغ الاسلام إلى الانبياء في مَوارِد منها الايات الاتية:
أ ـ في سورة الشورى:
(وَإِنَّكَ لَتَهدي إلى صِراطٍ مستَقيمٍ* صِراطِ اللّهِ الذي لَهُ ما في السَّمواتِ وما في الارضِ أَلاّ إلى اللّهِ تَصيرُ الاُمُور) (الايتان 52 ـ 53).
وأحيانا يأتي اسناد عن الانبياء في الهداية إلى اللّه تعالى كما قال سبحانه:
1 ـ في سورة الانبياء:
(وَجَعَلناهُم أئمَّةٌ يَهدونَ بِأمرِنا...) (الاية 73).
2 ـ في سورة الفتح:
(هُوَ الذي أَرسَلَ رَسولَهُ بالهدى وَدينِ الحَقّ) (الاية 28).
وبهذا المعنى ـ أيضا ـ اسندت الهداية إلى الكتب السماوية مثل قوله تعالى:
1 ـ في سورة البقرة:
(شَهرُ رَمَضانَ الّذي أُنزِلَ فيهِ القُرآن هُدىً للناسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الهُدى وَالفُرقان) (الاية 185).
2 ـ في سورة آل عمران:
(وَأَنْزَلَ التَوراةَ والانجيلَ* مِنْ قَبلُ هُدىً لِلناس) (الايتان 3 ـ 4).
وقد يأتي في القرآن اسناد الهداية التعليمية إلى اللّه جلّ اسمه مثل قوله تعالى:
1 ـ في سورة البلد في صوف الانسان:
(أَلَم نَجعَل لَهُ عَينَين* وَلِسانا وَشَفَتَين* وَهَدَيناهُ النَّجدَين) (الايتان 8 ـ 10).
2 ـ في سورة فصّلت:
(وَأَمّا ثَمُودُ فَهَدَيناهُم فَاسْتَحَبُّوا العَمى عَلى الهُدى) (الاية 17).
إذا فإنّ اللّه تبارك وتعالى يسند الهداية بمعنى تعليم الاسلام إلى أنبيائه وكتبه تارة، وإلى نفسه تبارك وتعالى تارةً اُخرى؛ لانّه الذي أرسل الرُّسُل بتلك الكتب لتعليم الناس، ثمّ يأتي بعد ذلك دوْرُ الانسان في قبول الهداية أو رفضها كالاتي بيانه بحوله تعالى.
ب ـ اختيار الانسان الهداية أو الضلالة وآثارهما:
بعدَ ارسال اللّه الانبياء بالكتب إلى الناس فإنّ الناسَ ينقسمون إلى فريقين: فريق يختارون الهداية على الضّلالة، وفريق يختارون الضلالة على الهداية كما أخبر اللّه سبحانه وتعالى عنهم في الايات الاتية وقال عزّ اسمه:
1 ـ في سورة النمل:
(وَأَنْ أتلُوَ القُرآنَ فَمَنِ اهتَدى فَإِنَّما يَهْتَدي لِنَفسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُل إِنَّما أَنا مِنَ المُنذِرين) (الاية 92).
2 ـ في سورة يونس:
(قُل يا أَيُّها الناسُ قَدْ جاءكُمُ الحقُّ مِن رَبِّكُم فَمَن اهتَدى فَإنَّما يَهتَدي لِنَفسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإنّما يَضلُّ عليها وَما أنا عليكم بِوَكِيل) (الاية 108).
ونظيرها في سورة الاسراء (15).
ويأتي بعد ذلك توفيق اللّه سبحانه وتعالى للمهتدي، كما أخبر اللّه عزّ اسمه وقال:
1 ـ في سورة مريم:
(وَيزيدُ اّللّهُ الّذينَ اهتَدَوا هُدىً) (الاية 76).
2 ـ في سورة محمّد:
(والّذينَ اهتدَوا زادَهُم هُدىً وَآتاهُمْ تَقواهُم) (الاية 17).
إنَّ الّذين اختاروا الهداية بعد ارسال الرسل، وجاهدوا في سبيل اللّه، استحقوا توفيق اللّه لهم، والذين كذّبوا الرَّسول واتّبعوا هوى النفس حقَّت عليهم الضلالة، كما أخبر اللّه سبحانه وتعالى عنهما وقال:
1 ـ في سورة العنكبوت:
(وَالذينَ جاهَدوا فينا لَنَهدِيَنَّهُم سُبُلَنا وَإنَّ اللّهَ لَمَعَ المحسنِين) (الاية 69).
2 ـ في سورة النحل:
(ولقد بَعَثنا في كُلِّ أُمَّةٍ رَسولا أنِ أعبُدوا اللّهَ وَاجتَنِبوا الطّاغُوتَ فَمِنْهُم مَن هَدى اللّهُ وَمِنهُم مَن حَقَّت عليهِ الضَّلالَةُ فَسيروا في الارضِ فانظُروا كَيفَ كانَ عاقبَةُ المكَذِّبين* إنْ تَحْرِص عَلى هُداهُم فَإنّ اللّهَ لا يَهدي مَنْ يُضِلُّ وَمالَهم مِن ناصِرين* وأَقسَموا بِاللّهِ جَهدَ أَيمانِهِم لايَبعَثُ اللّهُ مَن يَموت...) (الايات 36 ـ 42).
3 ـ في سورة الاعراف:
(فَريقا هَدى وَفَريقا حَقَّ عليهم الضَّلالَةُ إنَّهُمُ اتَّخْذوا الشَّياطينَ أولياء مِنْ دونِ اللّهِ وَيَحسَبونَ أنّهُم مُهتَدون) (الاية 30).
وهذا النوع من الهداية هي التي تأتي بمشيئة اللّه، كما يأتي بيانه بحوله تعالى.
____________
(1) توحيد الصدوق، ص 327، باب معنى قول اللّه عزَّ وجلَّ: (وسع كرسيّه السموات والارض).
(2) اُصول الكافي 2 / 398.
(3) عيون أخبار الرضا 1 / 303، ح 63، وسائل الشيعة 18 / 92 ج 13.
(4) مسند أحمد، 1 / 248.
(5) ذكرنا موجز ما ورد في مادّة عبد من كتاب الصحاح للجوهري، ومفردات القرآن للراغب، وقاموس اللّغة للفيروزآبادي، ومعجم ألفاظ القرآن الكريم للهيئة المصرية العامّة للتأليف، وأدمجنا عباراتهم وذكرناها سياقا واحدا.
ونقلنا حديث الرسول الاول من سنن ابن ماجة ص 1386، كتاب الزهد، باب في المكثوين، والحديث الثاني في مسند أحمد (1 / 248)، وقد قاله يوم الطائف، وما ذكرناه من المجموع هو الاغلب، وقد يأتي خلافه في القرآن والحديث مجازا.