ج ـ الهداية بمعنى توفيق الايمانِ والعمل مسندةٌ إلى مَشيئة اللّه
جاء ذكر الهداية بِمعنى توفيق الايمان والعمل مسنده إلى مشية اللّه في قوله تعالى:
1 ـ في سورة البقرة:
(وَاللّهُ يَهدي مَن يَشاء إلى صِراطٍ مُستَقيم) (البقرة 142 و213) و(النور 46) و(يونس 25).
2 ـ في سورة الانعام:
(... مَنْ يَشأ اللّهُ يُضْلِلهُ وَمَنْ يَشأْ يَجْعَلْه عَلى صِراطٍ مُسَتقيم) (الاية 39).
3 ـ في سورة القصص:
(إنَّكَ لا تَهدي من أَحبَبتَ وَلكِنَّ اللّه يَهدي مَن يشاء، وَهُوَ أعلَمُ بِالمُهتَدين) (الاية 56).
شرح الكلمات
صراط مستقيم:
الصراط من السبيل الواضح والمستقيم بلا التواء فيه.
والصراط المستقيم من أمر الدين ما شرحه اللّه تعالى في سورة الفاتحة وقال:
(صِراطَ الّذينَ أَنعَمتَ عَليهم غَيرِ المَغضُوبِ عليهم ولا الضَّالِّين) (الاية 7).
عليهم وقد بيّن اللّه تعالى مَنْ أنعمَ علهيم في سورة مريمَ وقال بَعْدَ ذكره خبر زكريّا ويحيى ومريم وعيسى (ع): واذكر في الكتاب إبراهيم... واذكر في الكتاب موسى... و.. إسماعيل و.. إدريس) ثمّ قال تعالى:
(أُوْلئك الذين أنعَمَ اللّهُ عليهم مِنَ النَّبِيِّين... وَممِنَّ هَدَينا واجتبينا) (مريم 1 و63).
وصراطهم هو دين الاسلام الذي كانوا يدعون إليه، وسيرتهم في عملهم بالاسلام.
والمغضوب عليهم هم اليهود خاصّة كما وصفهم اللّه تبارك وتعالى في سورة البقرة وقال عزّ اسمه:
(وضُرِبَت عليهِمُ الذلّةُ والمسكَنَةُ وَباءوا بِغَضَبٍ مِنَ اللّهِ ذلِكَ بِأَنّهم كانوا يَكفرونَ بآياتِ اللّهِ وَيَقتُلونَ النَّبِيِّينَ بِغَير الحَقّ ذلكَ بِما عَصَوا وَكانوا يَعتَدون) (الاية 61).
وكذلك في سورة آل عمران الاية (112).
و(ولا الضّالّين) الضّالّون هم الذين لا يتّخذون الاسلام دينا كافّة كما صرّح بذلك تبارك وتعالى في سورة آل عمران وقال عزّ من قائل:
(وَمَن يَبتَغِ غَيرَ الاسلامِ دينا فَلَن يُقبَلَ مِنهُ... وَأُولئك هُمُ الضّالّون) (الايات 85 ـ 90).
يهدي: راجع شرحه في بحث هداية ربّ العالمين للاصناف الاربعة من الخلق.
رابعا ـ مشيئة اللّه في العذاب والرحمة
قد جاء ذكر مشيئة اللّه في العذاب والرحمة في موارد من القرآن الكريم منها الايات الاتية:
أ ـ في سورة الاعراف حكاية قول كليم اللّه موسى (ع):
(وَأكتُب لَنا في هذِهِ الدُّنيا حَسنَةً وَفي الاخِرَةِ إِنَّا هُدنا إِليكَ قالَ عَذابِي أُصيبُ به مَنْ أَشاء وَرَحمَتي وَسِعَت كُلَّ شَيء فَسأَكتُبُها لِلَّذينَ يَتَّقُونَ وَيُؤتُونَ الزَّكاةَ والَّذينَ هُم بِآياتِنا يُؤمِنُون* الَّذينَ يَتَّبِعُونَ الرسُولَ النَّبيَّ الاُمّيَّ الَّذي يَجِدُونَهُ مَكتُوبا عِندَهُم في التَّوراةِ والانجيلِ يأمُرُهُم بِالمعرُوفِ وَيَناهُم عَنِ المُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عليهِمُ الخَبائثَ وَيَضَعُ عَنهُم إِصرَهُم والاغلالَ الَّتي كَانَت عَلَيهِم فَالَّذِينَ آمنوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنصرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذي أُنزِلَ مَعَهُ أُولَئكَ هُمُ المُفلِحُون) (الايتان 156 ـ 157).
ب ـ في سورة الانبياء:
(اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فيِ غَفلَةٍ معرضُونَ* مَا يَأتِيهم مِن ذِكْرٍ مِنْ ربّهِم مُحدَثٍ إلا استَمَعُوهُ وَهُم يَلعَبُونَ* لاهِيَةً قُلُوبُهُم وَأَسَرُّوا النَّجوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَِلْ هذا إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُم أَفَتَأتُونَ السِّحرَ وَأَنتُم تُبصِرُون* قَالَ رَبِّي يَعلَمُ القَولَ في السَّماء والاَرضِ وَهُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ* بَل قَالُوا أَضغاثُ أَحلامٍ بَلِ افتَراهُ بَل هُوَ شَاعِرٌ فَليَأتِنا بآيةٍ كَمَا أُرْسلَ الاَوَّلُون* مَا آمَنَت قَبلَهُم مِنْ قَريَةٍ أَهلَكنَاها أَفَهُم يُؤمِنُون * وما أَرسَلنا قَبلَكَ إِلاّ رِجالا نُوحي إليَهِم فَسْئَلُوا أَهلَ الذِّكرِ إِنْ كُنتُم لا تَعلَمُون* وَما جَعَلناهُم جَسَدا لا يَأكُلُون الطَّعَامَ وَما كانُوا خالِدينَ* ثُمَّ صَدَقناهُم الوَعْدَ فَأَنجَيناهُم وَمَن نَشاء وَأَهلَكنا المُسرِفِين* لقد أَنزَلنا إلَيكُم كِتابا فِيهِ ذِكْرُكُم أَفَلا تَعقِلُون) (الايات 1 ـ 10).
ج ـ في سورة الاسراء:
(مَن كانَ يُرِيدُ العاجِلَةَ عَجَّلنا لَهُ فِيها ما نَشاء لِمَن نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصلاها مَذمُوما مَدحُورا* وَمَن أَرادَ الاخِرَةَ وَسَعى لها سَعيَها وَهُوَ مُؤمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعيُهُم مَشكُورا* كُلاّ نُّمِدُّ هؤُلاء وَهؤُلاء مِن عَطاء رَبِّكَ وَما كانَ عَطاء رَبِّكَ مَحضُورا) (الايات 18 ـ20)
د ـ في سورة الانسان:
(إَنَّ هؤُلاء يُحِبُّونَ العاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءهُم يَوما ثَقِيلا* إِنَّ هذِهِ تَذكِرةٌ فَمَن شاء اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلا* وَما تَشاءونَ إِلاّ أَن يَشاء اللّهَ إنَ اللّهَ كانَ عَلِيما حَكيما* يُدخِلُ مَن يَشَاء فيِ رَحْمَتِهِ والظَّالمينَ أَعَدَ لَهم عَذابا أَليما) (الايات 27 ـ 31).
كان ذلك معنى مشيئة اللّه ربّ العالمين، ومن صفات اللّه تعالى أنّه يمحو ما يشاء ويثبت كما يأتي معناه في البحث الاتي بإذنه تعالى.
(17)
البَداء أو يَمْحو اللّهُ مايشاء وَيُثْبِت
1 ـ معنى البداء.
ب ـ البداء في مصطلحات علماء العقائد الاسلاميّة.
ج ـ البداء في القرآن.
د ـ روايات مدرسة الخلفاء في البداء.
هـ ـ روايات أئمة أهل البيت (ع) في البداء.
للبداء فياللّغة معنيان:
أ ـ بدا الامر بُدُوّا وبَداء: ظهر ظهورا بيِّنا.
ب ـ بدا له في الامر كذا: جدّ له فيه رأي، نشأ له فيه رأي.
ثانيا ـ البداء في مصطلح علماء العقائد الاسلامية
بدا اللّه في أمرٍ أي ظهر له في ذلك الامر ما كان خافيا على العباد.
وأخطأ من ظنّ أن المقصود من بدأ للّه في بداء جَدَّ له في ذلك الامر غير الامر الذي كان له قبل البدأ، تعالى اللّه عن ذلك عُلُوّا كبيرا.
أ ـ قال اللّه تعالى في سورة الرعد:
(وَيَقولُ الّذينَ كَفرُوا لَولا أُنزِلَ عَليهِ آيةٌ مِنْ رَبِّهِ) (الايتان 7 و27).
ثمّ قال تعالى:
(وَما كانَ لِرَسولٍ أنْ يأتَي بآيتةٍ ألاّ بأذنِ اللّهِ لِكُلِّ أَجْلٍ كتاب* يَمحو اللّهُ ما يَشاء وَيُثْبِتُ وعنده أُمُّ الكِتاب* وَأنْ ما نُرِينّكَ بَعضَ الّذي نَعِدُهُم أو نَتَوَفِّيَنَّكَ فَإنَّما عليكَ البَلاغُ وعلينا الحِساب) (الايات 38 ـ 40).
شرح الكلمات
1 ـ آية:
الاية في اللّغة: العلامة الظاهرة كما قال الشاعر:
وفي كلّ شيء له آيةتدلّ على أنَّه واحد وسُمِّيت معجزات الانبياء آيةً لانّها علامة على صدقهم وعلى قدرة اللّه الّذي مكّنهم من الاتيان بتلك المعجزة، مثل عصا موسى وناقة صالح، كما جاءت في الاية (67) من سورة الشعراء والاية (73) من سورة الاعراف.
وكذلك سمّى القرآن أنواع العذاب الذي أنزله اللّه على الاُمم الكافرة بالاية والايات، كقوله تعالى في سورة الشعراء عن قوم نوح:
(ثُمَّ أَغرَقنا بَعدُ الباقينَ* إنَّ في ذلكِ لايَة) (الايتان 120 ـ 121).
وعن قوم هود:
(فَكَذَّبوهُ فَأَهْلَكْناهُم إنَّ في ذلكَ لايَة) (الاية 139).
وعن قوم فرعون في سورة الاعراف:
(فَأَرسَلنَا عليهِمُ الطّوفانَ وَالجَراد والقُمَّلَ والضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلات) (الاية 133).
2 ـ أجل:
الاجل: مدّة الشيء والوقت الذي يحدّد لحلول أَمْرٍ وانتهائه، يقال: جاء أجله اذا حان موته، وضربت له أجلا: أي وقتا محدَّودا لعمله.
3 ـ كتاب:
للكتاب معانٍ، مُتَعَدِّدةٌ، والمقصود منها هنا: مقدار مكتوب أو مقدّر، ويكون معنى (لَكُلِّ أَجَلٍ كِتاب): لوقت إتيان الرسول بآية زمان مقدّر معيّن.
4 ـ يمحو:
محاه في اللّغة: أزاله وأبطله، أو أزال أثره مثل قوله تعالى:
أ ـ في سورة الاسراء:
(فَمَحَونا آيَةَ اللّيلِ وَجَعَلنْاه آيَةَ النَّهارِ مُبصِرَة) (الاية 12).
وآية اللّيل هي اللّيل، ومحو اللّيل: إزالته.
ب ـ في سورة الشورى:
(وَيَمْحُ اللّهُ الباطِلَ وَيُحِقُّ الحَقَّ بِكَلِماتِه) (الاية 24).
أي يذهب بآثار الباطل.
تفسير الايات
أخبر اللّه سبحانه وتعالى في هذه الايات أن كفار قريش طلبوا من رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) ان يأتيهم بآيات، كما بيَّن طلبهم ذلك في قوله تعالى في سورة الاسراء:
(وَقالوا لَنْ نُؤمِنَ لَكَ حَتّى تفْجرَ لَنا مِنَ الارضِ يَنبُوعا*... أَوْ تُسْقِطَ السَّماء كَما زَعَمْتَ عَليْنا كِسَفا أَو تَأْتَيِ بِاللّهِ وَالمَلائكَةِ قَبيلا) (الايتان 90 و92).
وقال في الاية (38) من سورة الرعد: (وَما كانَ لِرَسولٍ أَن يَأتيَ بِآيةٍ) مقترحةٍ عليه (إلاّ بَإذْنِ اللّهِ) وأنّ لكل أمرٍ وقتا محدّدا سجِّل في كتاب.
واستثنى منه في الاية بعدها وقال: (يَمحوا اللّهُ ما يَشاء) من ذلك الكتاب ما كان مكتوبا فيه من رزق وأجَل وسعادة وشقاء وغيرها (وَيُثْبِتُ مايَشأ) ممّا لم يكن مكتوبا في ذلك الكتاب (وَعنده اُمُّ الكتاب) أي أصل الكتاب وهو اللّوح المحفوظ الذي لا يتغيَّر ما فيه ولا يبدل.
وبناء على ذلك قال بعدها: (وَإن ما نُريَنَّكَ بَعضَ الّذي نَعِدُهُم) من العذاب في حياتك (أوْ نَتَوفَّيَنَّك) قبل ذلك (فَإنَّما عليكَ البَلاغ) فحسب... ويدلّ على ما ذكرناه ما رواه الطبري والقرطبي وابن كثير في تفسير الاية وقالوا ما موجزه:
إنّ الخليفة عمر بن الخطاب كان يطوف بالبيت ويقول: اللّهمّ ان كنت كتبتني في أهل السعادة فأثبتني فيها، وإن كنت كتبتني في أهل الشقاوة والذنب فامحني وأثبتني في أهل السعادة والمغفرة، فإنك تمحو ما تشاء وتثبت، وعندك أُمُّ الكتاب.
وروي عن الصحابي ابن مسعود أنّه كان يقول:
اللّهمّ إن كنت كتبتني في السعداء فأثبتني فيهم، وإن كنت كتبتني في الاشقياء فامحني من الاشقياء وأكتبني في السعداء، فإنّك تمحو ما تشاء وتثبت، وعندك أُمُّ الكتاب.
وروي عن أبي وائل أنّه كان يكثر أن يدعو: اللّهم إن كنت كتبتنا أشقياء فامح وأكتبنا سعداء، وإن كنت كتبتنا سعداء فأثبتنا، فإنّك تمحو ما تشاء وتثبت وعِنْدَكَ أُمُّ الكتاب(1) .
وفي البحار: وإن كنت من الاشقياء فامحني من الاشقياء واكتبني من السّعداء، فإنّك قلت في كتابك المنزّل، على نبيّك صلواتك عليه وآله: (يَمْحُو اللّهَ ما يَشَاء وَيُثْبِتْ وَعِنْدهُ أُمُّ الكِتَاب»)(2) .
واستدلّ القرطبي ـ أيضا ـ على هذا التأويل بما روى عن صحيحي البخاري ومسلم انّ رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) قال:
(مَن سَرَّهُ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ في رِزقِهِ وَيُنْسأَلَهَ في أَثَرِهِ ـ أَجَلهِ ـ فَلْيصلْ رَحِمَه).
وفي رواية: (مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَمُدَّ اللّهُ في عُمُرِه وَيَبْسُطَ لَهَ رِزْقَهُ فَلْيَتَّقِ اللّهَ وَلْيَصِلْ رَحِمَه)(3) .
ونقل عن ابن عبَاس أنّه قال في جواب من سأله وقال: كيف يزاد في العمر والاجل؟ قال اللّه عزّ وجلّ: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلا وَأَجَلٌ مَسَمَّىً عِنْدَه) فالاجل الاوّل أجل العبد من حين ولادته إلى حين موته، والاجل الثاني ـ يعني المسّمى عنده ـ من حين وفاته إلى يوم يلقاه في البرزخ لا يعلمه إلاّ اللّه، فإذا اتَّقى العبد ربّه ووصل رَحِمَه، زاده اللّه في أجل عمره الاوّل من أجل البرزخ ما شاء، وإذا عصى وقطع رَحِمَه، نقصه اللّه من أجل عمره في الدنيا ما شاء، فيزيده من أجل البرزخ... الحديث(4) .
وأضاف ابن كثير على هذا الاستدلال وقال ما موجزه:
وقد يستأنس لهذا القول ما رواه أحمد والنسائي وابن ماجة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال:
(إنَّ الرَّجُلَ لَيُحْرَمُ الرِّزْقَ بالذَّنب يُصيبُهُ وَلا يَردُّ القدر إلاّ الدُّعاء ولا يَزيدُ في العُمْرِ إلاّ البِرّ)(5) .
وقال: وفي حديث آخر:
(إنَّ الدُّعاء وَالقَضاء لَيَعْتَلِجان بينَ السَّماء والارض)(6) .
كان ما ذكرناه وجها واحدا مما ذكروه في تأويل هذه الاية وذكروا معها وجوها اُخر في تأويل الاية مثل قولهم:
إنّ المراد محو حكم وإثبات آخر، أي نسخ الاحكام، والصواب في القول، انّه يعمّ الجميع وهذا ما اختاره القرطبي ـ أيضا ـ وقال:
(.. الاية عامّة في جميع الاشياء وهو إلاّ ظهر واللّه أعلم)(7) .
وروى الطبري والسيوطي عن ابن عباس في قوله تعالى (يَمْحُو اللّهُ ما يَشاء وَيُثبْتُ وعنده اُمُّ الكِتابِ) قال: يُقَدِّرُ اللّهُ أَمر السَّنَةِ في لَيلِة القَدرِ إلاّ السعادَةَ والشَقاء(8) .
يمحو اللّه ما يشاء ويثبت قال: من أحد الكتابين هما كتابان يمحو اللّه من احدهما ويثبت وعنده أُمُّ الكتاب أي حملة الكتاب(9) .
ب ـ قال سبحانه وتعالى في سورة يونس:
(فَلولا كانَت قَريةٌ آمَنَتْ فَنفعَها إِيمانُها إلاّ قَومَ يُونسَ لّما آمَنوا كَشَفنا عَنهم عَذابَ الخِزي في الحَياةِ الدُّنيا وَمَتَّعناهُم إلى حِين) (الاية 98).
شرح الكلمات
أ ـ كَشَفْنَا:
كشف عنه الغمّ: أزاله، وكشف العذاب: أزاله.
ب ـ الخِزْيُ:
خَزيَ خِزْيا: هان وافتضح.
ج ـ حين:
الحين: الوقت والمدّة من غير تحديد في معناه بِقِلَّةٍ أو كَثْرَة.
تفسير الاية
قصة يونس بايجاز كما في تفسير الاية بتفسير الطبري والقرطبي ومجمع البيان(10) : أنّ قوم يونس كانوا بنينوى من أرض الموصل وكانوا يعبدون الاصنام، فأرسل اللّه إليهم يونس (ع) يدعوهم إلى الاسلام وترك ما هم عليه فأبوا، وتبعه منهم عابد وشيخ من بقية علمائهم وكان العابد يشير على يونس بالدعاء عليهم والعالم ينهاه ويقول له: لا تدعُ عليهم فانّ اللّه يستجيب لك ولا يحبّ هلاك عباده. فقبل يونس قول العابد فأخبر اللّه تعالى أنّه يأتيهم العذاب في شهر كذا في يوم كذا فاخبرهم يونس بذلك فلما قرب الوقت خرج يونس من بينهم مع العابد وبقي العالم فيهم وقال قومه:
لم نجرّب ـ يونس ـ عليه كذبا فانظروا فإنْ باتَ فيكم الليلة فليس بشيء وإن لم يبت فَاعلموا أنَّ العذاب مصبحكم فلما كان في جوف اللّيل خرج يونس من بين اظهرهم ولما علموا ذلك ورأوا آثار العذاب وأيقنوا بالهلاك ذهبوا إلى العالم فقال لهم: افزعوا إلى اللّه فانّه يرحمكم ويرد العذاب عنكم، فاخرجوا إلى المفازة وفرّقوا بين النساء والاولاد وبين سائر الحيوان وأولادها ثمّ ابكوا وادعوا، ففعلوا. خرجوا إلى الصعيد بأنفسهم ونسائهم وصبيانهم ودوابهم ولبسوا المسوح وأظهروا الايمان والتوبة وأخلصوا النيّة وفرّقوا بين كل والدة وولدها من الناس والانعام، فحنَّ بعضها إلى بعض وعلت أصواتها واختلطت أصواتها بأصواتهم وتضرّعوا إلى اللّه عزّ وجلّ وقالوا آمنّا بما جاء به يونس، فرحمهم ربّهم واستجاب دعاءهم وكشف عنهم العذاب بعدما اظلهم، بعد أن بلغ من توبتهم إلى اللّه، رَدّوا المظالم بينهم حتى أن كان الرجل ليأتي الحجر وقد وضع عليه أساس بنيانه فيقتلعه ويرده وكذلك محا اللّه العذاب عن قوم يونس بعد ان تابوا وكذلك يَمحُو اللّهُ ما يشاء وَيُثْبِتُ وعنده اُمُّ الكِتابِ.
ج ـ قال سبحانه وتعالى في سورة الاعراف:
(وَواعَدْنا موسى ثَلاثينَ لَيلَةً وَأَتْمَمناها بِعَشرٍ فَتَمَّ ميقاتُ رَبِّهِ أربَعينَ ليلة) (الاية 142).
وقال في سورة البقرة:
(وَإذْ واعَدْنا موسى أَربعينَ لَيلةً ثُمَّ اتَّخَذتُم العِجْلَ مِنْ بَعدهِ وَأنْتمُ ظالِمون) (الاية 51).
رابعا ـ البداء في روايات مدرسة الخلفاء
روى الطيالسي وأحمد وابن سعد والترمذي واللفظ للطيالسي بايجاز.
قال قال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم):
إنَّ اللّهَ أَرى آدَمَ ذُرِّيَّتَهُ فَرأى رَجُلا أزْهَرَ ساطِعا نُورُه.
قالَ: يارَبِّ مَنْ هذا؟
قالَ: هذا ابنُكَ داود!
قالَ: ياربِّ فما عَمْرُه؟
قالَ: ستّونَ سَنَة!
قالَ: يارَبِّ زدْ في عُمره!
قالَ: لا إلاّ أَنْ تزيدَهُ مِنْ عُمرِك!
قالَ: وما عُمْريِ؟
قالَ: أَلْفُ سَنَة!
قالَ آدم: فَقَدْ وَهَبتُ لَهُ أَربَعينَ سَنَةً مِن عُمري.
..... فَلمّا حَضَرَهُ الموتُ وَجاءتهُ المَلائكةُ قالَ: قَدْ بَقيَ مِنْ عُمري أَرَبعون سَنَة.
قالوا: إنَّكَ قَدْ وَهبتَها لِداود..(11) .
هذه الرواية بالاضافة إلى ماسبق إيراده من أخبار آثار صلة الرحم ونظائرها بمدرسة الخلفاء من مصاديق (يَمْحو اللّهُ ما يشاء وَيُثْبِتُ وعنده أُمُّ الكتاب).
وقد سمّى أئمة أهل البيت (ع) المَحْوَ والاثبات بالبداء كما سندرسه إن شاء اللّه تعالى في ما يأتي:
خامسا ـ البَداء في روايات أَئمِّةِ أهلِ البيت (ع)
في البحار عن أبي عبد اللّه (الامام الصادق) (ع) قال: (ما بَعَثَ اللّهُ عَزَّ وَجَلَّ نَبيّا حتّى يأخُذَ عليه ثَلاثَ خِصالٍ: الاقرارَ بالعُبوديّةِ، وَخَلْعَ الاندادِ، وَأنَّ اللّه يُقَدِّمُ مايَشاء وَيُؤخِّرُ مايَشأ)(12) .
وفي روايه اُخرى وصف الامام الصادق (ع) هذا الامر بالمحو والاثبات وقال: (ما بَعَثَ نَبيّا قَطُّ حَتّى يَأخُذَ عليه ثَلاثا: الاقرارَ للّهِ بالعُبوديّةِ وَخَلْعَ الاندادِ، وأنَّ اللّهَ يَمْحو ما يَشاء وَيُثْبِتُ ما يَشأ)(13) .
وفي رواية ثالثة سمّى المحو والاثبات بالبداء، وقال ما موجزه: (ما تَنَبَّأَ نَبيُّ قَطُّ حتّى يُقِرَّ للّهِ تَعالى... بَالبَداء) الحديث(14) .
وعن الامام الرضا (ع) انّه قال: (ما بَعَثَ نَبيّا قَطُّ إلاّ بِتَحريمِ الخَمْر، وَأَنْ يُقرَّ له بالبداء)(15) .
وفي رواية اخرى أخبر الامام الصادق (ع) عن زمان المحو والاثبات وقال: (إذا كان ليلة القدر نزلت الملائكةُ والروحُ والكتبةُ إلى سَماء الدنيا فيكتبون ما يكونُ من قَضاء اللّهِ تعالى في تِلك السنةِ فإذا أراد اللّهُ أن يقدّم شيئا أو يؤخّره أو ينقصَ شيئا أمرَ الملكَ أنْ يمحو ما يشاء ثمَّ أثبتَ الذي أراد)(16) .
وأخبر الامام الباقر (ع) عن ذلك وقال ما موجزه: (تنزل فيها الملائكةُ والكَتَبَةُ إلى سماء الدنيا فيكتبون ما هو كائنٌ في أمرِ السّنةِ وما يصيبُ العِبادَ فيها. قال: وأمرٌ موقوفٌ للّه فيه المشيئة يقدّمُ منه ما يشاء ويؤخِرّ ما يشاء، وهو قَوْله تعالى: يَمحو اللّهُ ما يشاء ويثبتُ وعِندَهُ اُمُّ الكِتاب)(17) .
وفي حديث آخر له قال: (في قول اللّه: (وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللّهُ نَفْسا إذا جاء أَجَلُها).
إنّ عند اللّه كتبا موقوتة يقدّمُ منها ما يشاء ويؤخِّرُ فإذا كان ليلةَ القدرِ أنزلَ اللّه فيها كلّ شي يكون إلى ليلة مثلها، وذلك قوله: (لَنْ يُؤخِّرَ اللّهُ نَفْسا إذا جاء أجَلُها) إذا أنزِلَ، وكتبهُ كتّاب السمواتِ وهو الذي لا يُؤخِّره)(18) .
وروى المجلسي في هذا الباب خبر هبة آدم (ع) أربعين سنة من عمره لداود (ع) الذي أوردناه آنفا في روايات مدرسة الخلفاء(19) .
هذا هو البداء في أخبار أئمة أهل البيت (ع) وأمّا البداء بمعنى أنّ اللّه جدّ له رأي في الامر لم يكن يعلمه ـ معاذ اللّه ـ فقد قال أئمة أهل البيت (ع) فيه ما رواه المجلسي عن الا مام الصادق (ع) أنّه قال: (مَن زَعَمَ أَنَّ اللّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَبدو له في شيء لم يعلمهُ أمسِ فابرؤوا مِنْهُ)(20) .
لو اعتقد الانسان أَنَّ مِنَ الناس من كتب في السعداء فلن تتبدل حاله ولن يكتب في الاشقياء، ومنهم من كتب في الاشقياء فلن تتبدل حاله ولن يكتب في السعداء، وجف القلم بما جرى لكل إنسان، عندئذ لا يتوب العاصي من معصيته بل يستمرّ في ما هو عليه لاعتقاده بأن الشقاء قد كتب عليه ولن تتغير حاله، ومن الجائز ان يوسوس الشيطان إلى العبد المنيب انّه من السعداء ولن يكتب في الاشقياء وتؤدي به الوسوسة إلى التساهل في الطاعة والعبادة، وعدم استيعاب بعض المسلمين معاني الايات والروايات المذكورة في المشيئة، اعتقد بعضهم أنّ الانسان مجبور على ما يصدر منه وآخرون على أنّ الامر كلّه مفوّض للانسان، كما سندرسه في البحث الاتي لنعرف الحق في ذلك بإذنه تعالى.
معنى الجبر والتفويض والاختيار
أ ـ الجبر في اللغة:
جَبَرَهُ على الامر وأجْبَرَهُ: قَهَرَهُ: عليه، وأكْرَهَهُ على الاتيان به.
ب ـ الجَبْرُ في مصطلح علماء العقائد الاسلامية:
الجَبْرُ: إجبارُ اللّه تعالى عبادَه على ما يفعلون، خيرا كان او شرا، حسنا كان أو قبيحا، دون ان يكون للعبد إرادةٌ واختيار الرفض والامتناع، ويرى الجبرية الجبر مذهبا يرى أصحابُهَ انّ كلّ ما يحدث للانسان قدر عليه أَزَلا، فهو مسيّر لا مخيّر وهو قول الاشاعرة(21) .
ج ـ التفويض في اللّغة:
فَوَّضَ إليه الامرَ تفويضا: جَعَلَ له التَّصَرُّفَ فيه.
د ـ التفويض في مصطلح علماء العقائد الاسلامية:
هو أنّ اللّه تعالى فوّض أفعال العباد إليهم، يفعلون ما يشاؤون، على وجه الاستقلال، دون ان يكون للّه سلطان على أفعالهم، (هو قول المعتزلة)(22) .
هـ ـ الاختيار في اللّغة:
خيّره: فوّض إليه الاختيار بين أمرين أو شيئين أو أكثر.
و ـ الاختيار في مصطلح علماء العقائد الاسلامية:
إنّ اللّه سبحانه كلّف عباده بواسطة الانبياء والرسل ببعض الافعال ونهاهم عن بعض آخر، وأمرهم بطاعته في ما أمَرَ به ونهى عنه بعد أن منحهم القوّة والارادة على الفعل والترك وجعل لهم الاختيار في ما يفعلون دون أن يجبر أحدا على الفعل، وسيأتي الاستدلال عليه بحوله تعالى.
أ ـ معاني القضاء والقدر.
ب ـ روايات من أئمة أهل البيت (ع) في القضاء والقدر.
ج ـ أسئلة وأجوبة.
تستعمل مادّتا القضاء والقدر لعدّة معان منها: في ما يخص البحث من مادّة القضاء.
أ ـ قضى أو يقضي بين المتخاصمين كقوله تعالى:
(إنَّ رَبَّكَ يَقضي بَينهم يَومَ القيامَةِ في ما كانوا فيهِ يَختَلفِون) (يونس 93) و(الجاثية 17).
ب ـ قضى اللّه الامر: أَنْبَأه بِهِ كقوله تعالى في ما أخبر به لوطا عن مصير قومه في سورة الحجر / 66: (وَقَضَيْنا إليه ذلِكَ الاِمرَ أنَّ دابِرَ هؤلاء مَقطوعٌ مُصبِحين) أي أنبأناه.
ج ـ قضى اللّه الشيء، وبه: أوجبه، أمر به كقوله تعالى في سورة الاسراء / 23: (وَقَضى رَبُّكَ ألاّ تَعْبُدوا إلاّ إيّاه).
أي أمر ربّك وأوجب عليكم ألاّ تعبدوا إلاّ إيّاه.
د ـ قضى اللّه الامر أو الشيء: تعلّقت إرادته به، قدّره كقوله تعالى في سورة البقرة / 117: (وَإذا قَضى أَمرا فَانَّما يَقولُ لَهُ كُنْ فَيَكون).
أي إذا أراد أمرا.
وقوله تعالى في سورة الانعام / 2: (هُوَ الّذي خَلقكُم مِن طينٍ ثمَّ قَضى أَجَلا).
أي قدّر لكل انسان مدّة يحيا فيها.
ومن مادّة القدر:
أ ـ قدر على الشَّيء أو العمل: استطاع أن يفعله، يتغلّب عليه فهو قادر، والقدير: ذو القوّة كقوله تعالى:
1 ـ في سورة يس:
(أَوَلَيسَ الذي خَلَقَ السمواتِ والارضَ بِقادِر على أنْ يَخْلُقَ مِثلَهُم) (الاية 81).
2 ـ في سورة البقرة:
(وَلَوْ شَاء اللّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وأبصارهم إِنَّ اللّهَ عَلى كُلِّ شَيء قَدير) (الاية 20).
أيْ ذو القدرة على فعل كل شيء على قدر ما تقتضي الحكمة.
ب ـ قَدَرَ:
1 ـ قَدَرَ الرِّزق عليه ويَقْدِر: ضيّقه كقوله تعالى في سورة سبأ:
(قُلْ إنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزقَ لَمِن يَشاء وَيَقْدِر) (الاية 36).
2 ـ قدر اللّه الامر بقدره: دبَّره او اراد وقوعه، كقوله تعالى في سورة المرسلات:
(فَقَدَرْنا فَنِعمَ القادِرون) (الاية 23).
ج ـ قدّر:
1 ـ قدّر اللّه الامر: قضى به أو حكم بأنْ يكون، كقوله تعالى في شأن زوجة لوط، في سورة النمل / 57: (فَأَنجَيناهُ وَأهلَهُ إلاّ امرَأَتهُ قدَّرْناها مِنَ الغابِرين).
أي حكمنا، أو قضينا عليها بأن تكون من الهالكين.
2 ـ قَدَّرَ في الامْرِ: تَمَهَّلَ وتروّى في إنجازه كقوله تعالى في سورة سبأ / 11 مخاطبا داود (ع): (وقَدِّرْ في السَّرْد).
أيْ تمهّلْ وتروَّ في صُنعه كي تحكم عمله.
د ـ القَدَر:
1 ـ القَدَر: المقدار والكميّة، كقوله تعالى في سورة الحجر / 21 (وَإنْ مِن شَيء إلاّ عِندَنا خَزائنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إلاّ بِقَدَرٍ مَعْلوم).
أيْ إلى زمانٍ محدّد معلوم.
أي بمقدار وكميّة معلومة.
2 ـ قدَرُ الشيء زمانه أو مكانه، كقوله تعالى في سورة المرسلات / 20 ـ 22: (أَلَمْ نخلُقكَم مِنْ ماء مَهينٍ فَجَعَلناهَ في قرارٍ مَكين، إلى قَدَرٍ مَعْلوم). (في الكتاب ص 454)
3 ـ قَدَرُ اللّهِ: قضاؤهُ المحكم، أو حكمهُ المُبرَم على خلقه، كقوله تعالى في سورة الاحزاب / 38: (سُنَّةَ اللّهِ في الّذينَ خَلَوا مِنْ قَبلُ وَكانَ أمرُ اللّهِ قَدَرا مَقدورا) أي قضاء محكما، وَحُكما مُبْرَما.
لَعلَّ تعدّدَ معاني ما يُنْسَبُ إلى اللّه من مادَّتَي القضاء والقدر، قد أدّى إلى لبسِ معنى ما ورد منهما في القرآن والحديث واعتقاد بعض المسلمين بأنَّ الانسان يسير في حياته، في كل ما يعمل من خير أو شرّ وفق ما قضى اللّه عليه وقَدَّرَ قبل أنْ يخلقَ. ويطلق في الاخبار لفظ القدري على الجبريّ والتّفويضي كليهما(23) . وعليه فإنّ القَدَرَ اسمٌ للشيء وضِدِّه كالقُرْ، اسمٌ للحيضِ والطُّهر معا. ولا نُطيل البحثَ بإيراد أقوال المعتقدين بذلك، والاجابة عليها، وانّما نكتفي بإيراد الاحاديث التي نجد فيها جوابا لتلكم الاقوال توضيحا وبيانا للامر بحوله تعالى.
2 ـ روايات من أئمة أهل البيت (ع) في القضاء والقدر
أوّلا: عن أوّل أئمّة أهل البيت عليّ بن أبي طالب (ع) روي في توحيد الصدوق بسنده إلى الامام الحسن (ع)، وفي تاريخ ابن عساكر بسنده إلى ابن عبّاس واللفظ للاوّل قال:
دخل رجل من أهل العراق على أمير المؤمنين (ع)، فقال: أخبرْنا عَنْ خروجنا إلى أهلِ الشامِ أبقضاء من اللّهِ وقدرٍ؟ فقال له أميرُ المؤمنين (ع): أجَلْ يا شيخ، فواللّهِ ما عَلَوتٌم تَلعةً ولا هبطتم بطنَ وادٍ إلاّ بِقضاء من اللّهِ وقدرٍ فقال الشيخ: عند اللّهِ أحتسبُ عنائي(24) يا أمير المؤمنين، فقال: مهلا يا شيخُ، لعلّكَ تظنُّ قضاء حتما وَقَدَرا لازِما(25) لَوْ كانَ كذِلك لبطلَ الثِّوابُ والعِقابُ والامرُ والنَهيُ والزَّجرُ، ولَسَقَطَ معنى الوعيد والوعد، ولم يكنْ على مُسيء لائمَةٌ وَلا لمُحسنٍ مَحمَدَةٌ، ولَكانَ المحسِنُ أُولى بِالّلائمَةِ من المذنبِ وَالمذْنب أولى بالاحسانِ من المُحسنِ(26) تلكَ مقالةُ عبدَةِ الاوثانِ وخُصَماء الرَّحمنِ وقدريّة هذهِ الاُمّةِ ومجوسيها. يا شيخُ إنّ اللّهَ عزَّ وجلَّ كلّفَ تخييرا، وَنَهى تَحذيرا، وأعطى على القليلِ كثيرا، ولم يُعْصَ مغلوبا، ولم يُطَعْ مُكرَها، ولم يَخلُق السمواتِ والارض وما بينهما باطلا ذلك ظنُّ الّذين كفروا فويلٌ للّذين كفروا من النّار(27) .
قال: فنهض الشيخ وهو يقول:
«أنت الامامُ الّذي نَرْجوا بـطاعته | يوم النّجاة من الرَّحمنِ غُفرانا» |
«أوضَحْتَ منْ ديِننا ما كان مُلْتَبسا | جـزاك ربـّك عنّا فيه إحسانا» |
«فَلَيْسَ مَعْذِرَةً في فِعْل فاحِـشَـةٍ | قَدْ كُنْتُ راكبها فسقا وَعِصْيانا» |
ورجلٌ يزعمُ أنّ الامْرَ مفوّضٌ إليهم فهذا قد أوهنَ اللّهَ في سلطانِهِ فهو كافر.
ورجل يزعمُ أنَّ اللّهَ كَلّفَ العِبادَ ما يطيقون ولم يكلِّفُهم مالا يُطيقونَ وإذا أحسنَ حَمِدَ اللّه وإذا أساء استغفر اللّهَ فهذا مسلمٌ بالغ(29)
ثالثا: وعن الثامن من أئمة أهلِ البيت الامام أبي الحسن الرضا (ع) قال:
أ ـ إِنَّ اللّهَ عزَّ وجلَّ لم يُطَعْ بإكراهٍ، ولم يُعْص بغَلَبَةٍ، وَلَم يُهْمِل العبادَ في مُلكه، هو المالِكُ لما ملّكهم والقادرُ على ماأقدرَهم عليه فإن ائتَمَرَ العبادُ بطاعته لم يكن اللّه منها صادّا، ولا منها مانعا وان ائتَمَرُوا بمعصيته فشاء أنْ يحولَ بينهم وبين ذلِك فَعَلَ وإنْ لم يَحُلْ وفعلوه فليسَ هو الذي أدخلهم فيه(30) .
يعني أن الانسان الّذي اطاع اللّه لم يكن مجبرا على الطاعة، والانسان الذي عصاه لم يغلب مشيئة اللّه بل اللّه شاء أنْ يكون العبد مختارا في فعله.
ب ـ قال:
قال اللّه تبارك وتعالى:
يا ابنَ آدمَ بمشيئتي كنتَ أَنت الذي تشاء لنفسك ما تشاء، وبقوَّتي أدَّيتَ إليَّ فرائضي، وبِنعمتي قويتَ على معصيتي، جعلتُك سميعا بصيرا قويّا، ما أصابك من حسنةٍ فَمِنَ اللّهِ وما أصابك من سَيِّئَةٍ فمنْ نفسك(31) .
وفي رواية عملت بالمعاصي بقوتي التي جعلتها فيك(32) .
وعن الامام أبي عبد اللّه الصادق (ع) قال:
أ ـ لا جبرَ ولا تفويض ولكِن أمرٌ بين أَمْرَين قال: قلت: وما أَمر بين أَمْرَين؟ قال: مثل ذلك رجل رأيته على معصية فنهيته فَلَم يَنْتَهِ فتركتَه ففعلَ تلك المعصيَة، فليس حيث لم يقبل منك فتركته كنت أنت الذي أمرته بالمعصية(33) .
ب ـ ما استطعت أنْ تلوم العبد عليه فهو منه ومالم تستطع ان تلوم العبد عليه فهو من فعل اللّه.
يقول اللّه للعبدَ لِمَ عَصَيْتَ؟ لِمَ فَسَقْتَ؟ لم شَرِبتَ الخَمر؟ لِمَ زنيت؟ فهذا فعْل العَبِد، ولا يقول له لِمَ مَرِضْتَ؟، لِمَ قَصُرْتَ؟ لِمَ ابيَضَضْتَ؟ لِمَ اسودَدْت؟ لانّه من فعلِ اللّه تعالى(34) .
إنّ للجبر والتفويض جانبين:
أ ـ ما كان منهما من صفات اللّه.
ب ـ ما كان منهما من صفات الانسان.
فما كان منهما من صفات اللّه فينبغي أخذه منه بوساطة الانبياء، وأوصياء الانبياء عن الانبياء، وما كان من صفات الانسان فان قولنا: افعل هذا اولا افعله دليل على أنا نَفْعَل ما نفعله باختيارنا، وقد عرفنا مِمّا سبقَ أنَّ سَير الانسان في حياته لا يشابه سير الذرّة والكواكب والمجّرات المسخّرات بأمر اللّه في كلّ حركاتها وما يصدر منها من آثار.
ولم يفوض اللّه إليه أمر نفسه وكلّ ما سخّر له ليفعل ما يشاء كما يَحبُّ، وكما تهوى نفسه، بل إنّ اللّه أرشده بوساطة أنبيائه كيف يؤمن بقلبه بالحقّ، وهداه إلى الصالح النافع في ما يفعله بجوارحه، والضّارِّ منه، فاذا اتبع هدى اللّه، وسار على الطريق المستقيم خطوة أخذ اللّه بيده وسار به عشر خطوات ثُمَّ جزاه بآثار عمله في الدنيا والاخرة سبعمائة مرّة اضعاف عمله واللّه يضاعف لمن يشاء بحكمته ووفق سُنَّتِه.
وقلنا في المثل الذي ضربناه في ما سبق، بانّ اللّه أدْخَلَ الانسانَ المؤمن والكافر في هذا العالم في مطعم له من نوع (سلف سرويس) كما قال سبحانه في سورة الاسراء / 20: (كُلاًّ نُمِدُّ هؤلاء وَهؤلاء مِنْ عَطَاء رَبِّك وَما كان عَطاء رَبِّكَ مَحظورا).
فلولا إمداد اللّه عبيده بكل ما يملكون من طاقات فكرية وجسديّة، وما سَخَّرَ لهم في هذا العالم لما استطاع المؤمن أن يعمل عملا صالحا، ولا الضالّ الكافر أن يعمل عملا ضارّا فاسدا، ولو سلبهم لحظة واحدة اي جزء ممّا منحهم من الرؤية والعقل وَالصحة و... و... لما استطاعوا أن يفعلوا شيئا، إذا فإنّ الانسان يفعل ما يفعل بما منحه اللّه بمحض اختياره، وبناء على ما بَيّنّاهُ، أنّ الانسان لم يفوّض إليه الامر في هذا العالم، ولم يجبر على فعلٍ بل هو أمر بين الامرين، وهذه هي مشيئة اللّه وسنّته في أمر أفعال العباد، ولن تجد لسنّة اللّه تبديلا.
وفي هذا المقام ترد الاسئلة الاربعة الاتية:
السؤال الاول والثاني: كيف يكون الانسان مختارا في ما يصدر منه من فعل، مع تسلّط الشيطان عليه من حيث لا يراه، واغوائه بما يوسوس إلى قلبه ويدعوه إلى فعل الشرّ!؟
وكذلك شأن الانسان الذي يعيش في المحيط الفاسد الّذي لا يرى فيه غير الشرّ والفساد أمرا!؟
السؤال الثالث: ماذا يستطيع أن يفعل الانسان الّذي لم تبلغه دعوة الانبياء في بعض الغابات؟
السؤال الرابع: ما ذنب ولد الزِّنا، وما جُبل عليه من حبّ فعل الشَّرِّ بسبب فعل والدَيه!؟
ونجد الجواب عن السؤالين الاوّل، والثاني في ما أوردناه في بحث الميثاق باوّل الكتاب، بأنّ اللّه تبارك وتعالى أَتَمَّ الحجّة على الانسان بما اودع فيهِ مِنْ غريزَةِ البحث عن سبب وجود كلِّ ما رآه والّتي توصله إلى معرفة مُسَبِّب الاسباب، ولذلك قال سبحانه وتعالى في سورة الاعراف / 172: (أنْ تَقولوا يَوْمَ القيامَةِ إنّا كُنّا عَنْ هذا غافِلين). فكما أنّ الانسان لن يغفل عن غريزة الجوع في حال من الاحوال حتى يملا جوفه بالطعام كذلك لن يغفل عن غريزة طلب المعرفة حتى يعرف مُسَبِّبَ الاسباب وفي الجواب عن السؤال الثالث نقول: قال اللّه سبحانه: (لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسا إلاّ وُسْعَها) (البقرة 286).
أمّا السؤال الرابع، فجوابه: إنّ ولد الزّنا ـ أيضا ـ ليس مجبورا على فعل الشرّ، وكلّ ما في الامر أنّ الحالة النفسيّة للوالدين في حال ارتكابها الزّنا وما يريان من نفسهما بأنّهما باشرا بفعلهما خيانة المجتمع وان المجتمع يتقذّر من فعلهما ويحتقرهما ويعاديهما لو اطّلع على فعلهما وأنّهما عند ارتكابهما الرذيلة في حالة معاداة للنزيهين من تلك الفعلة في المجتمع والذين هم أبرار المجتمع وأخياره والمتمسِّكون بفضائل الاخلاق والمعروفون بكل ذلك في المجتمع؛ وعليه فإنّ تلك الحالة النفسيّة العدائيّة منهما للمجتمع وأبراره تؤثِّر على النطفة حين انعقادها وتنتقل بالوراثة إلى ما يتكوّن من تلك النطفة، فأنّه يجبل على حبّ الشرّ والعداء للخيِّرين والمعروفين بالفضيلة في المجتمع، ومن الامثلة على ذلك زياد بن أبيه وولده ابن زياد في ما ارتكباه زمان امارتهما في العراق(35) ، وخاصّة ما فعله ابن زياد بعد استشهاد الامام الحسين (ع)، مع جسده الشريف وأجساد المستشهدين معه من آل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وأنصارهم من التمثيل بهم وحمله رؤوسهم من بلد إلى بلد وسوقه بنات الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) سبايا إلى الكوفة وسائر ما عاملهم بها في حين انّه لم يبق بعد استشهاد الامام الحسين (ع) أيّ مقاوم لحكمهم ولم يكن أي مبرِّر له عندئذ في كل ما فعل من ظلم واستهانة بمقامهم في المجتمع عدا حبّه في كسر شوكة أشرف بيت في العرب وأفضله وتوهينهم وحبّه للشرّ وعدائه الجبلِّي الفطري للاكرمين في المجتمع.
وبناء على ذلك يكون حبّ الشرّ والرغبة في إيذأ الخيِّرين والمعروفين بالفضيلة في المجتمع فطريّ في ولد الزّنا على عكس ولد الزواج الحلال والذي ليس من فطرته حبّ الشرّ والرغبة في إيذاء الخيِّرين في المجتمع ولكنّهما مع كلّ ذلك ليسا مجبورين على القيام بكلّ ما يفعلانه ويتركانه من خير وشرّ وانّما مثلهما في ما جُبِلا عليه مثل شابٌ مكتمل الرجولة في الجسد وما يتمتّع به من حيويّة دافقة وشهوة عارمة للجنس مع شيخ هرم ناف على التسعين وتهدّمت قواه، يعاني الفتور وفقدان القوى الجسديّة، منصرف عن الشهوة الجنسية وفي عدم تمكّن الاخير من ارتكاب الزّنا وتوفّر القوى الجنسيّة في الاوّل؛ فإنّ الشابّ القويّ مكتمل الرجولة ـ أيضا ـ غير مجبور على ارتكاب الزّنا في ما إذا ارتكب ذلك ليكون معذورا في ارتكابه الرذيلة، وأمّا إذا تيسّر له ارتكاب الزّنا وخاف مقام ربّه ونهى النفس عن الهوى فإنّ الجنّة هي المأوى(36) على عكس الشيخ الهرم فإنّه لا يُثاب على تركه الزّنا لانّه لم يترك الزّنا مع قدرته عليه.
وهكذا كلّما تعمّقنا في دراسة أي جانب من جوانب حياة الانسان، وجدناه مختارا في ما يصدر منه من فعل، عدا ما يصدر منه عن غفلة وعدم تنبّه.
إلى هنا كان محور البحوث في بيان عقائد الاسلام من آيات القرآن الكريم، وفي ما يأتي ندرس بإذنه تعالى سيرة المبلِّغين عن اللّه من القرآن الكريم أوّلا، وممّا نجد فيه شرحا وبيانا للايات الكريمة في التوراة والانجيل وكتب السيرة.
____________
(1) أخرج الاحاديث الثلاثة الطبري بتفسير الاية، وأبو وائل شفيق بن سلمة الاسدي الكوفي. قال في ترجمته بتهذيب التهذيب: ثقة مخضرم، أدرك عهد الصحابة والتابعين، مات في خلافة عمر بن عبد العزيز، وله مائة سنة، أخرج له جميع أصحاب الصِّحاح والسنن (10 / 354).
(2) البحار (98 / 162).
(3) صحيح البخاري (3 / 34) كتاب الادب، باب 12 و13، وصحيح مسلم ص 1982 الحديث 20 و21 من باب صلة الرحم، ومسند أحمد 3 / 156 و247 و266 و5 / 76.
(4) تفسير القرطبي (9 / 329 ـ 331).
(5) والرواية في سنن ابن ماجة، المقدّمة، باب 10، الحديث 90.
(6) تفسير ابن كثير (2 / 519).
(7) تفسير القرطبي (9 / 329).
(8) تفسير الطبري (13 / 111) والسيوطي واللفظ للطبري.
(9) تفسير السيوطي (4 / 65) عن ابن جرير الطبري والحاكم قال وصحّحه.
(10) مجمع البيان (3 / 135)، القرطبي (8 / 384)، الطبري (11 / 118)، والدرّ المنثور (3 / 317).
(11) الطيالسي ص 350، الحديث 2692، ومسند أحمد (1 / 251 و298 و371)، وطبقات ابن سعد ط. أوروبا (ج 1 / ق 1 / 7 ـ 9)، وسنن الترمذي (11 / 196 ـ 197) بتفسير سورة الاعراف.
وفي البحار (4 / 102 ـ 103) عن الامام الباقر (ع) باختلاف يسير في اللفظ.
(12) البحار (4 / 108) نقلا عن توحيد الصدوق.
(13) البحار (4 / 108) نقلا عن المحاسن.
(14) البحار (4 / 108) نقلا عن توحيد الصدوق.
(15) المصدر السابق نقلا عن توحيد الصدوق.
(16) البحار (4 / 99) عن تفسير عليّ بن إبراهيم.
(17) البحار (4 / 102) نقلا عن أمالي الشيخ المفيد.
(18) البحار (4 / 102) نقلا عن تفسير علي بن إبراهيم.
(19) البحار (4 / 102) عن علل الشرايع.
(20) البحار (4 / 111) نقلا عن اكمال الدين.
(21) راجع تعريف الاشاعرة في الملل والنحل للشهرستاني بهامش الفصل في الملل والاهواء والنحل لابن حزم (1 / 119 ـ 153).
(22) راجع تعريف المعتزلة في الملل والنحل للشهرستاني بهامش الفصل في الملل والاهواء والنحل لابن حزم (1 / 55 ـ 57).
(23) البحار (5 / 5).
(24) أي ان كان خروجنا وجهادنا بقضائه تعالى وقدره لم نستحق أجرا فرجائي ان يكون عنائي عند اللّه محسوبا في عداد أعمال من يتفضل عليهم بفضله يوم القيامة.
(25) بالمعنى الذي زعمته الجبرية.
(26) لانّهما في أصل الفعل سيان، اذ ليس بقدرتهما وارادتهما مع أن المحسن يمدحه الناس وهو يرى ذلك حقا له وليس كذلك فليستحق اللائمة دون المذنب، والمذنب يذمه الناس وهو يرى ذلك حقا عليه وليس كذلك فليستحق الاحسان كي ينجبر تحمّله لاذى ذم الناس دون المحسن.
(27) كما في سورة ص: 27.
(28) توحيد الصدوق (380) وترجمة الامام علي (ع) في تاريخ ابن عساكر (3 / 231) تحقيق الشيخ المحمودي.
(29) توحيد الصدوق 2 360 ـ 361.
(30) توحيد الصدوق 361.
(31) توحيد الصدوق 328 / 340، 344، 362 والكافي 1 / 160.
(32) التوحيد ص 362.
(33) الكافي 1 / 160 والتوحيد ص 362.
(34) الطرائف.
(35) راجع بحث استلحاق زياد في المجلدّ الاوّل من كتاب عبد اللّه بن سبأ للمؤلِّف، وبحث استشهاد الامام الحسين (ع) في المجلّد الثالث من معالم المدرستين.
(36) إشارة إلى قوله تعالى في سورة النازعات / 40: (وأمّا مَن خَافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النّفسَ عَنِ الهَوى فإنّ الجنّة هِيَ المَأوى).