الملحقات

الملحق رقم (1)
بدء الخلق وبعض صفات المخلوقين في الروايات

أوّلا ـ روى أحمد وابن سعد وأبو داود والترمذي بسندهم عن رسول اللّه قال:

(إنّ اللّه تعالى خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الارض فَجاء بنو آدم على قدر الارض فجأ منهم الاحمر والابيض والاسود وبين ذلك...) الحديث(1) .

وروى ابن سعد عن رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) ما موجزه:

(لّما ركب آدم الخطيئة بدت له عورته فكان لا يراها قبل ذلك)(2) .

ثانيا ـ ورد عن الامام عليّ في بدء الخلق:

أ ـ ما رواه المسعودي بسنده عن الامام علي (ع) في كلام اوجز فيه بدء الخلق وقال (ع):

(... فسطح الارضَ على ظهر الماء، وأخرج من الماء دخانا فجعله السماء، ثمّ استجلبهما إلى الطاعة فأذعنتا بالاستجابة، ثمّ أنشأ اللّه الملائكة من أنوار أبدعها، وأرواح اخترعها، وقَرَنَ بتوحيده نبوّةَ محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فشهرت في السماء قبل بعثته في الارض، فلما خلق اللّه آدم أبَانَ فضله للملائكة، وأراهم ما خصه به من سابق العلم من حيث عَرّفَه عند استنبائه إياه أسماء الاشياء، فجعل اللّه آدم محرابا وكعبة وبابا وقبلة أسجد إليها الابرار والروحانيين الانوار، ثمّ نبه آدم على مستودعه، وكشف له عن خطر ما ائتمنه عليه، بعدما سماه إماما عند الملائكة)(3)

ب ـ ذكر خلق الخلق مفصلا في الخطبة الاولى من نهج البلاغة وقال:

(... أَنشَأ الخَلْقَ إنشاء، وابتدأَهُ ابتِداء، بِلا رَوِيَّةٍ أَجالَها وَلا تَجرِبةٍ استفادَها، وَلا حَرَكة أَحدثَها، ولا هَمامَةٍ نَفْسٍ اضْطَرَبَ فيها أَحالَ الاَشياء لاَوقاتها وَلاَمَ بينَ مُختِلفاتِها غرَز وَغَرائِزَها، وأَلزَمَها أَشباحَها عالِما بها قَبْلَ ابتِدائِها، مُحيطا بِحُدُوِدها وانتِهائها عَارِفا بقرائِنِها وأَحنائها. ثُمَّ أَنشأَ سُبحانَهُ فَتْقَ الاَجواء وَشَقَّ الاِرجاء، وَسَكائكَ الهوأ فأَجرى فيها ماء مُتلاطما تَيّارُهُ مُتَرَاكِما زَخَّارُهُ. حَمَلَهُ على مَتْنِ الريحِ العاصِفَةِ، والزَّعْزَعِ القاصِفِةِ. فأَمرَها بِرَدِّهِ وَسَلّطَها على شَدِّهِ، وَقَرَنَها إلى حَدِّه. الهواء منْ تِحتهِا فَتيقٌ والماء من فُوْقها دَفيقٌ. ثُمَّ أَنشأَ سُبحانَهُ ريحا اعْتَقَمَ مَهَبَّها وأَدامَ مُرَبَّها، وأَعصَفَ مَجراها، وأَبعَدَ مَنشأَها، فأمَرَهَا بِتَصفيقِ الماء الزخاّر وإثارةِ مَوجِ البِحارِ، فَمَخَضَتْهُ مَخْضَ السِّقاء وَعَصَفَتْ بِهِ عّصْفا بالفضاء تَرُدُّ أَوَّلَهُ إلى آخِرِهِ وَساجيهُ إلى مائرهِ. حتى عَبَّ عُبابه. ورمى بالزَّبدَ رُكامَهُ فَرَفعَهُ في هُواء مُنْفَتقٍ وجوٍ فَسَوَّى مِنهُ سَبْعَ سَمواتٍ جَعَلَ سُفلاهُنَّ مَوْجا مَكفوفا وَعُلياهُنَّ سَقْفا مَحْفوظا وَسَمْكا مرفوعا بِغير عَمْدٍ يدعمها، ولا دِسارٍ يَنظمُها ثُمَّ زَيَّنَها بِزينَةِ الكَواكِبِ، وَضياء الثَّواقِبِ وأَجرى فيها سِراجا مُستَطيرا وَقَمَرا مُنيرا: في فَلَكٍ دائرٍ، وَسَقْفٍ سائرٍ، وَرَقيمٍ مائرٍ ثُمَّ فَتَقَ ما بينَ السمواتِ العُلا، فملأَهُنَّ أَطوارا مِن ملائكتِهِ منهم سُجُودٌ لا يركعون، وَرُكُوعٌ لا يَنْتَصِبُونَ، وصافُّونَ لا يتزايَلونَ، وَمُسَبِّحُونَ لا يَسْأمونَ. لا يغشاهُم نومُ العَين، وَلا سهوُ العقُولِ، وَلا فَتْرَةُ الايدانِ، وَلا غَفْلَةُ النِّسيانِ. وَمِنْهُمْ أُمَناء عَلى وَحيْهِ وَألْسِنَةٌ إلى رُسُلِهِ، وَمختلفونَ بِقضائهِ وَأَمرِهِ، وَمنْهُم الحَفَظَةُ لِعبادِهِ، والسَّدَنَةُ لابوابِ جنانِهِ. ومنهمُ الثَّابِتَةُ في الارضينَ السُّفلى أَقدامُهُم، والمارِقَةُ مِنَ السَّماء العُليا أَعْناقُهُم، والخارِجَةُ مِنَ الاقطارِ أَرْكانُهُم، والمُناسِبَةُ لِقَوَائم العرْشِ أَكتافُهُم. ناكِسَةٌ دُونَهُ أَبصارُهُم مُتَلَفِّعُونَ تحتهُ بأَجنحَتِهم، مَضْرُوبَةٌ بَينهُم وبينَ مَنْ دُونَهُمْ حُجُبُ العِزَّةِ، وأَستارُ القُدْرَةِ. لا يَتَوَهَّمُونَ رَبَّهُم بِالتصوير، ولا يُجرونَ عَليهِ صِفاتِ المَصنُوعينَ، ولا يَحِدّونَهُ بِالاماكِنِ، ولا يُشيرونَ إليه بِالنظائِرِ.

ثُمَّ جَمَعَ سُبْحانَهُ مِن حَزْنِ الارْضِ وسَهلِها، وَعَذْبِها وَسَبْخِها تُرْبَةً سَنَّها بِالماء حتّى خَلَصَتْ. وَلاطَهَا بالبَلَّةِ حَتّى لَزُبَتْ فَجَعَلَ مِنْها صُورَةً ذاتَ أَحناء وَوُصولٍ وأَعضاء وَفصولٍ: أَجْمَدَها حَتّى استَمْسكت واصلَدَها حتى صَلْصَلَت لِوقتٍ معدودٍ، وأَمدٍ معلومٍ، ثُمَّ نَفَخَ فيها مِنْ روحهِ فَمَثُلَت إنسانا ذا أَذهانٍ يُجيلُها، وَفِكرٍ يَتصَرَّفُ بِها، وَجَوارِحَ يَخْتَدِمُها، وأَدواتٍ يُقَلِّبُها، وَمَعْرِفَةٍ يفْرُقُ بها بَينَ الحَقِّ وَالباطِلِ والاذواقِ واَلمشامِّ، والالوانِ وَالاجْناسِ، معجونا بِطينَةِ الالوانِ المُختَلِفَة وَالاشباهِ المؤتِلفةِ، والاضدادِ المتعادِيَةِ والاخلاطِ المُتباينةِ، من الحَرِّ وَالبَردِ، والبَلَّةِ وَالجُمُودِ، وَاستَأَدى اللّه سُبْحانَهُ الملائِكَةَ وديعتَهُ لديهم وعهدَ وَصِيَّتِه إلَيهِم، في الاذعانِ بالسُّجودِ لَهُ، والخُشُوعٍ لتَكرِمَتِه، فَقَالَ سُبْحانَهُ:

(اُسْجُدُوا لاَِّدَمَ) فَسَجَدُوا إلا إبليسَ اعتَرَتْهُ الحَميَّةُ وغلبت عليهِ الشَّقوةُ وتَعَزَّزَ بِخِلْقَهِ النَّارِ وَاستهونَ خَلقَ الصَّلصالِ، فأَعطَاهُ اللّه النَّظْرَةَ استِحقاقا للسُّخطَةِ.... الخطبة.

ج ـ روى المجلسي في البحار في انّه (ع) ذكر تفصيل خلق الملائكة وقال (ع): وملائكة خلقتهم وأسكنتهم سماواتك، فليس فيهم فترة، ولا عندهم غفلة، ولا فيهم معصية هم أعلم خلقك بك. وأخوف خلقك منك، وأقرب خلقك إليك، وأعملهم بطاعتك ولا يغشاهم نوم العيون، ولا سهو العقول، ولا فترة الابدان، لم يسكنوا الاصلاب ولم تضمّهم الارحام، ولم تخلقهم من ماء مهين، أنشأتهم إنشاء فأسكنتهم سماواتك وأكرمتهم بجوارك وائتمنتهم على وحيك، وجَنَّبتَهم الافات، ووقيتهم البليّات وطهَّرتهم من الذنوب، ولولا تقويتك لم يقووا، ولولا تثبيتك لم يثبتوا، ولولا رحمتك لم يطيعوا، ولولا أنت لم يكونوا، أما إنّهم على مكانتهم منك وطواعيتهم إيّاك ومنزلتهم عندك وقلّة غفلتهم عن أمرك لو عاينوا ما خفي عنهم منك لاحتقروا أعمالهم، ولازروا على أنفسهم، ولعلموا أنّهم لم يعبدوك حقّ عبادتك، سبحانك خالقا ومعبودا ما أحسن بلاءك عند خلقك(4) .

شرح الكلمات

أ ـ الرَوِيَّة:

النظر والتفكير.

ب ـ هَمامة النفس:

أَهَمَّهُ الامر اذا اقلقه وأحزَنَهُ.

ج ـ أَحالَها:

حوّلها من العدم إلى الوجود في اوقاتها.

د ـ لاَمَ:

لاَمَ بين الشيئين: جمع بينهما ووافق كما قرن النفس الروحانية بالجسد المادّي في الانسان.

هـ ـ غَرَّزَ الغَرائزَ:

الغرائز جمع الغريزة: الطبيعة وغرّز، الغرائز: اودع في كل مخلوق طبيعته.

و ـ ألْزَمَها أشْباحَها:

شَبَحَ الشي‌ء: بدا غير جليّ والشبح ما بدا لك شخصه غير جليّ من بعد وشَبَح الشَي‌ء: ظلُّه وخياله، يقال: هم اشباح بلا ارواح.

والزم الغرائز أشباحها أي ألزم صاحب الطبيعة طبيعته فهي تلازمه ولا يكون الشجاء مثلا: جبانا.

ز ـ عارِفا بقرائنها وأحنائها:

القرائن جمع القرين المصاحب والاحناء جمع الحنو: الجانب وما اعوّج من كل شي‌ء، جسدا كان او غير جسد والحِنو عندئذ كناية عما خفي من الشي‌ء وأحناء الامور: مشتبهاتها ويكون المعنى عارفا بجميع ما يقترن بالخلق ويخفى فيهم من طبائع وصفات.

ح ـ انشأ سبحانه فتق الاجواء وشقّ الارجاء وسكاسك الهواء فتق الشي‌ء: شَقَّه.

والارجاء: جمع رَجأ: الجانب.

وَسَكائك جمع سُكاكة مثل ذَوائب: الهواء الملاقي عنان السماء والمعنى: خلق الفضاء المنبسط والهواء الذي علا الفضاء في جميع جوانب هذا الكون.

ط ـ فاجرى منها ماء متلاطما، تيارّه متراكما زخّاره.

والزخّار: شديد الجري والامتداد والارتفاع، والمعنى أجرى في الفضاء ماء يضرب بعض موجه بَعْضَا الاخر راكبا بعضهُ، فوق بعض الاخر الشديد الجري.

ي ـ حَمَلَهُ على مَتْنِ الرِّيحِ العاصِفَةِ والزَّعْزَعِ: زَعْزَعَهُ: حَرّكه بشدةٍ والزَعزَع: من الريح: الشَّديدة والقاصِفَةِ، قصف الرعد: اشتدّ صوته.

ك ـ فَأمرَها بردِّهِ، وسلّطها على شَدِّهِ وقرنَها إلى حدِّه: أي أمر الريح بردّ الماء من الهبوط وسلط الريح على شد وثاقه كأنّه سبحانه اوثق الماء بالريح وقرنها إلى حدّه اي جعل الماء مماسّا لسطح الريح.

ل ـ الهواء من تحته فتيق، والماء من فوقها دفيق فتق الشي‌ء: شقه فهو فتيق ودفق الماء: صبّه فهو دقيق والمعنى:

الهواء تحت الماء منبسط والماء فوق الهواء مصبوب.

م ـ أنشأ سبحانه ريحا اعتقم مَهَبَّها وَأدامَ مِرَبَّها وأغصفَ مجراها وَأبْعَدَ مَنْشأَها.

اعتقم: الريح العقيم التي لا تلقح سحابا وَلا شجرا أي جعل هبوب الريح لتحريك الماء حسب.

ومِرّبها: أرَيَّت الريح: دامت اي ادام هبوبها بلا توقف.

وَأعْصَفَ: عصفت الريح اشتد هبوبها والمعنى جعل سبحانه جريان الريح شديدا.

س ـ فأمرها بتصفيق الزخّار واثارة موج البحار:

صَفَقَ الشَّي‌ء: ضربه ضربا يسمع له صوت وصفّقة مبالغة في الضرب والاثارة. اثارهُ إثارةً: هيَّجه ونشره فمخضته مخض السقاء للماء.

ع ـ وعصفت بها عصفا بالفضاء تَرُدَّ أوّلَهُ إلى آخره وساجيه إلى مائره حَتّى عبّ عبابه ورمى بالزبد ركامه:

مخض السقاء التي فيها اللبن حركه تحريكا شديدا ليخرج الزبد من اللبن.

ساجيهِ: الساجي، الساكن والمائر الذي يذهب ويجي‌ء او المتحرك وعبّ عبابه: ارتفع اعالاه، وركامه ما تراكم مِنْهُ بَعْضُهُ على بعض المعنى عصفت الريح الماء بالفضاء ومخضته كما يُمْخَضُ اللبن بالسقاء ورمته بالفضاء تَرُدُّ أوَّلَهُ إلى آخره وساكنه إلى متحركه حتى ارتفع اعلاه ورمى بالزبد ما تراكم منه.

ف ـ فرفعه في هواء منفتق وجوّ منفهق فسوّى منهن سبع سموات.

منفهق: مفتوح واسع والمعنى: رفع زَبَدَ الماء في هواء مفتوقٍ وجوٍّ واسعٍ وسوى سبحانه من ذلك الركام سبع سماوات.

ص ـ جعل سفلاهن موجا مكفوفا وعلياهنّ سقفا محفوظا وسمكا مرفوعا بغير عمد يدعمها ولا دِسارٍ ينظمها.

المكفوف: الممنوع من السيلان، والسَّمْك: السّقف المرتفع والدِّسار جمع الدُسر: المسامير أو الخيوط تشد بها الواح السفينة من ليف ونحوه والمعنى جعل اللّه سبحانه الدنيا من أوّل أمره موجا ممنوعا من السيلان وعليا السموات: سقف: محفوظا عاليا بلا عمد ولا مسامير يشد بعضها إلى بعض.

ق ـ ثمَّ زيَّنَها بِزينَةٍ الكَواكبِ وَضياء الثَّواقبِ وأجرى فيها سِراجا مُستَطيرا وَقَمرا منيرا.

الثواقب: جمع الثاقب المنير المشرق والمستطير منتشر الضياء والمقصود منه الشمس.

ر ـ في فلك دائر وسقف سائر ورقيم مائر:

الرقيم: المرقوم: المكتوب والمائر: المتحرك أسْمَى مدار الكواكب ومنطقة سيرها من السماء فَلَكا والمعنى: جعل الشمس سراجا منيرا في فلكها أيْ مدارها في الجو والقمر كوكبا منيرا في فلكه اي مداره في الجوّ وسقف سائر ولعلَّ المعنى ان الشمس والقمر مع فلكيهما في سقف سائر اي في المجرّة التي تحويهما وتسير بهما في مجراها.

الملحق رقم (2)
أصل الكون في القران الكريم

مُقْتبس من مَقال لحافظ محمّد سليم في مجلّة الثقافة الباكستانية إصدار سفارة جمهورية باكستان الاسلامية في دمشق، العدد: 26 شباط ـ آذار / 1991 م.

أصول الكون في القرآن الكريم

الكون كلمة تعبِّر عمّا هو موجود خارجا عبر الظواهر الطبيعية بما في ذلك كافَّة الخلق والنجوم والكواكب وتوابعها وما إلى ذلك من ظواهر أُخرى. ويتألّف الكون، حسب ما هو مبيَّن في موسوعة ماكميلان (encyclopedia macmillan)، من كل الاجسام التي يمكن التعرّف عليها كالارض والشمس وأجسام المجموعة الشمسية والمجرّات وما بنيها من أشياء.

كما يضم الكون الصخور والمعادن والغازات والتراب والحيوانات والكائنات الانسانية وما إلى ذلك من أجسام ثابتة ومتحرّكه. ويلجأ الفلكيّون إلى استعمال كلمة «الكون» للاشارة إلى الفضاء وكل ما يحويه من أجرام سماوية. أمّا فيما يتعلّق باتّساع وفساحة الكون فإنّ الارض والشمس والكواكب ما هي سوى نقاط بالغة الصغر، والشمس هي نجم منفرد ضمن مجرّاتٍ تضمّ ما يُقارب المائة ألف مليون نجم.

أمّا الارض والكواكب الاُخرى التي تدور حول الشمس فتشكّل أبعادا دنيويّةً منتظمة تبدو في منظارنا البشري ضخمة هائلة.

فالارض تبعد عن الشمس بما يُقارب ثلاثة وتسعين مليون ميلا، وهذا الرقم في منظار البشر يشكّل مسافة هائلة؛ إلاّ أنّه صغير جدّا إذا ما قورِنَ بالمسافة التي تفصل الشمس عن أبعد الكواكب ضمن المجموعة الشمسية. فعلى سبيل المثال تقدّر المسافة بين بلوتو والارض بأربعة أضعاف المسافة بين الارض والشمس أي ما يَقارب 672ر3 مليون ميلا. إنّ مسافة كهذه إذا ما ضوعفت فإنّها تمثّل الابعاد الاكثر ضخامة لنظامنا الشمسي.

هناك نظريات عديدة معلنة حول أصل الكون غير أنّ أحدثها هي التي تُعرف بنظريّة بغ بانغ (theory bang big)، التي تقدّم بها جورج لاميتر عام 1920 م والتي تنصّ على أنّ كل المادّة والاشعاعات في الكون جاءت نتيجة إنفجار هائل تشكّل الكون بعده بصورته الفسيحة وما زالت تلك العملية في حالة إستمرار. وحسب هذه النظرية فإنّ الانفجار حدث قبل حوالي 10 ـ 20 ألف مليون سنة، ونظرا إلى أنّ درجة الحرارة الاوّلية العالية للهيدروجين والهيليوم كانت كافية لتشكيل الوفرة الكونية الملحوظة من الهيليوم، فإنّ ذلك يتوافق بشكل حسن مع القيمة التنبّؤية. وفي نهاية الامر حدث تفاعل لهذه المادّة ممّا أدّى إلى تشكّل المجّرات. وقد كانت تلك الكتلة الضخمة موجودة في الكون في الماضي السحيق، ثمّ لسبب ما انفجرت تلك المادّة، قاذفةً المواد المتفجرّة نحو الخارج كما يحدث عند انفجار القنبلة، وكان ذلك الانفجار أصل الخلق بالنسبة للكون.

وهناك اكتشاف مدهش آخر لافت للنظر حول الكون يُدعى قانون هوبل حول توسيع الكون (universe expanding of law s‍hubble). وحسب هذه النظرية فإنّ توسّع الكون عملية مستمرّة وأنّ هذا التوسّع موحّد الخواص أي أنّ خصائصه متساوية في كل الاتجاهات.

وتبيّن هذه النظرية أنّ الضوء القادم من المجرّات البعيدة خاضع لما يُعرف بالنقلة الحمراء (shift red)، أي الانزياح الشامل نحو أطوال موجات أكثر سعة لخطوط الطّيف المتعلّقة بالاجسام السماوية. وينجم ذلك عن ارتداد المجرّات عنّا.

وقد ظهر مؤخّرا أنّ العلماء كشفوا النِّقاب عن مجرّات عملاقة تبدو أكبر حجما بكثير من المجرّة التي تُعرف باسم درب اللَّبَّانة (milky way). وتبعد تلك المجرّات عن أرضنا عشر بلايين من السنين الضوئية. وقد تمّ التعرّف على هذه المجرّات للمرّة الاُولى، وربّما ساعدت العلماء على تحديد فيما إذا كان الكون في حالة من التوسّع اللاّنهائي أو أنّه محتوم عليه أن يتداعى نحو الداخل.

أمّا القرآن الكريم ـ وهو خاتمة الرِّسالات من جانب الخالق ـ فإنّه يكشف بوضوح كامل عن حقائق أساسية حول خلق الكون، وهو يشرح أنّ كل ما في الكون ناجم عن عملية الخلق التي قام بها الخالق عز وجلّ.

وقد خلق اللّه الشمس والقمر والسموات والارض وما بين ذلك بتقدير وتناسب. وحول ذلك يبيّن القرآن الكريم بقوله:

(بَديعُ السَّمواتِ والارْضِ وإذا قَضَى أمْرَا فإنّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُون) (البقرة / 117).

وتشير هذه الاية الكريمة إلى أنّ اللّه هو خالق السموات والارض.

وكلمة بديع تدلّ على وجود شي‌ء من العدم. وفي كتابه «المفردات» يبيّن العلاّمة راغب بأنّ كلمة بدع تعني تكوين شي‌ء ما دون الحاجة إلى مادّة أو نموذج. وعندما تستخدم كلمة بديع كصفة من صفات اللّه الحُسنى فإنّها تعني أنّ اللّه عزّ وجلّ هو الذي خلق الاشياء من العدم. والقرآن الكريم يقول في موضع آخر:

(وَهَُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمواتِ والارْضَ بالحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُون).

(الانعام / 73).

ويقول العلاّمة راغب أنّ كلمة الحق تستعمل للاشارة إلى شي‌ء جديد لا مثال له. لكنّها عندما ترتبط بوصف الخالق فإنّها تعني خلق شي‌ء جديدٍ من العدم: (هُوَ الَّذي خَلَقَ السَّمواتِ والارْضَ) كذلك يشير القرآن الكريم إلى خلق الظواهر الكونيَّة والفيزيائية بقوله:

(وَهُوَ الَّذي خَلَقَ اللَّيلَ والنَّهارَ والشَّمس والقَمَر) وفي موضع آخر: (هُوَ الَّذي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالقَمَرَ نُورَا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالحِسَاب ما خَلَقَ ذلكَ إلاّ بَالحَقِّ يُفَصِّلُ الاياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُون) (يونس / 5).

كما يبيّن اللّه عظمة خلقه بقوله:

(أَوَلَم يَرَوا أنّ اللّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمواتِ والارضَ ولَم يَعْيَ بخلقهنَّ بقادِرٍ على أن يُحيي الموتَى).(الاحقاف / 33)

إنّ الايات الكريمة التي تمّ ذكرها توضّح أنّ اللّه عزّ وجلّ خلق هذا العالم المحسوس بتقدير وميزان وهو قادر على أن يعيد خلقه، وأنّ أمره هو الاصل في خلق المادّة والطّاقة وكل القوانين الفيزيائية والقوى التي تتحكّم بحركتها.

طريقة الخلق

شرح القرآن الكريم طريقة خلق الكون في مواضع مختلفة.

غير أنّ الايات الاتية يمكن أن تقدّم تلخيصا موجزا للظواهر التي تشمل الطريقة الاساسية لخلق الكون.

(أَوَلَم يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمواتِ والارضَ كانَتا رتْقا فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ المَاء كُلَّ شَي‌ء حيّ) (الانبياء / 30)

وتتحدّث الاية الثانية عن تشكّل السّموات بعد خلق الارض وتعكس عملية التتالي في عملية الخلق:

(ثُمَّ استوى إلى السَّماء وهي دُخان فقالَ لَها وللارضِ ائتيا طوعا أو كرها قالَتا أتينا طائعين). (فصّلت / 11)

تكشف الاية الاُولى الحقائق التالية:

1 ـ أنّ المادّة التي دخلت في خلق الكون كانت ذات كينونة واحدة.

2 ـ أنّ الكون بأكمله كان مترابطا كقطعة واحدة.

الحقائق قبل 1400 سنة، في الوقت الذي لم يكن فيه أي أثر لايّة بحوثٍ علمية.

كما يكشف القرآن الكريم أيضا عن الحقائق المذكورة في نظرية هوبل حول توسّع الكون، في الاية الكريمة التي تقول: (والسَّماء بنيناها بأيدٍ وإِنّا لَمُوسِعُون) (الذاريات / 47).

وعندما نحاول فهم التوسّع الكوني على ضوء المعرفة الحديثة، نعرف أنّ الهيدروجين الموجود في الشَمس في حالة تحوّل مستمر إلى عنصر الهيليوم بفعل الانصهار النّووي، وأنّ الغبار النجمي (stardust) والذي هو عبارة عن كتل من النجوم تبدو بالغة الصِّغر وكأنّها ذرّات غبار، ما هو إلا وقودا نوويّا عالي الدرجة.

وهكذا فإنّ الكون بأكمله مؤلّف أو مبنيّ من قدرة أو طاقة محمّلة وهي في حالة توسّع مستمر. وترتكز هذه النتائج على الافتراض الذي يقول بأنّ الانتقال أو التحوّل الاحمر (shift red) ناتج عن تأثير دوبلر على الضوء من الاجسام المتراجعة مع إمكانية قياس سرعة التراجع.

وحول رحابة وتوسّع الكون نجد في القرآن الكريم كلمة على جانب كبير من الاهمية في هذا المجال وهي كلمة «العالمين» التي تظهر عشرات المرّات في القرآن الكريم كما في الايات التالية:

(ولكنَّ اللّهَ ذو فضلٍ على العَالَمين). (البقرة / 251)

(قُلْ إنَّ صَلاتي وَنُسُكي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للّهِ رَبِّ العَالَمين) (الانعام / 163)

(أَلا لَهُ الخَلْقُ والامْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ العَالَمين) (الاعراف / 54).

(وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إلاّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِين) (الانبياء / 107)

3 ـ أنّ الانفصال حدث بشكل منتظم كي ينتج عنه القوانين الفيزيائية وترتيب المادّة. وليس الامر مرتبطا بالنظام الذي يميِّز مجموعتنا الشمسية والكواكب الداخلة في مجرّتنا فحسب، بل أنّ المجرّات هي جزء في نظام أعلى. وبدلا من تناثر المجرّات بصورة عشوائية في أرجاء الكون، فإنّها مرتّبة على شكل مجموعات، وضمن تلك المجموعات تدور المجرّات حول كتلها المركزية المشتركة.

وقد نقل ابن كثير بعض التفسيرات المبكِّرة للاية، حيث ورد أنّ السَّماء كانت قطعة واحدة متكاملة، وقام اللّه عزّ وجلّ بتقسيمها إلى سبع سموات، وأنّ الارض كانت كذلك قطعة واحدة وأنّ اللّه عزّ وجلّ قسمها إلى سبعة أراضي. بينما أوضح بعضهم أنّ الارض والسَّماء كانتا كلاًّ واحدا وأنّهما انفصلا عن بعضهما بواسطة الغلاف الجوّي.

وقد تبنّى الدكتور موريس بوكيل في الاونة الاخيرة موقفا قريبا جدّا من موقف العلماء المسلمين حول تفسير تشكّل الكون على ضوء الايات القرآنية الكريمة. فهو يشير إلى «فكرة تفكّك الكل إلى أجزاء عديدة بمعنى أنّ عملية الانفصال من كتلة أحادية رئيسية التحمت عناصرها في بداية الامر (كانت رتقا).وكلمة فتق تعني الانفصال أو التفكّك والانتشار، بينما تعني كلمة (رتق) الارتباط والالتحام من أجل تكوين كل متجانس».

وطبقا للنظرية العلمية المعاصرة فإنّ ما يعرف بالانفجار الكوني (bang big) كان قد وقع نتيجة حدث تحفيزي واحد في وقت واحد وفي درجة حرارة عالية بشكل استثنائي. ويفترض بأنّه في تلك الاثناء من الانفجار كان الكون بأكمله عبارة عن جزء واحد في نقطة واحدة حدث فيها الانقسام. غير أنّ القوانين الفيزيائية لم تحدث نتيجة ذلك الانفجار. وهنا نجد أنّ هذه النظرية مشابهة من حيث معلوماتها للمعلومات الواردة في القرآن الكريم.

وممّا يدعو إلى الدهشة والغرابة أن نجد بأنّ القرآن الكريم كشف عن هذه (إِنِّي أنا اللّهُ رَبُّ العَالَمين) (القصص / 28)

إنّ الايات الانفة الذكر تشير إلى أنّ اللّه هو السيِّد والخالق والحافظ والمنظِّم للعالم بمعناه الواسع. فكلمة العالمين تضيف مفهوم التعدّد للكون.

وهناك بلايين من المجموعات الكواكبيّة وأنّ كل مجموعة من تلك المجرّات تضّم بلايين النجوم والكواكب. ولو أنّ نجما واحدا من بين 000ر100 من المائة ألف ميليون نجم الموجودة في ما يعرف بدرب اللَّبَّانة كان يضمّ كوكبا مثل كوكبنا الارضي، فسيعني ذلك وجود مليون كوكب يمكنه الاتّصال مع الارض. وعلى ضوء علم الكون الحديث يمكن التوقّع بحدوث اتّصالات ناشطة مع الكواكب الاُخرى في المستقبل المنظور.

لقد قدّم الدكتور موريس بوكيل معلومات علمية تتعلّق بضخامة الكون وسعته. فعلى سبيل المثال تحتاج أشعة الشمس كي تصل إلى بلوتو ما يُقارب الست ساعات رغم أنّ السرعة في تلك الرحلة تزيد على 000ر186 ميلا في الثانية. وبناء على ذلك فإنّ الضؤ القادم من النجوم التي تقع في نطاق عالمنا السماوي قد يستغرق بلايين السنين كي يصل إلينا.

إنّ هذا التحليل الموجز لعالم الطبيعة ربّما يساعدنا على فهم معنى الاية الكريمة: (والسَّماء بَنَيْناها بأيْدٍ وإِنّا لَموسِعُون) (الذاريات / 47).

وفي الحديث عن الرَّماد والدُّخان في بداية تاريخ الكون، يكشف القرآن الكريم عن ذلك بقوله: (ثُمَّ استوى إلى السّماء وهي دُخان).

إنّ وجود «الدُّخان» في بداية الكون يشير إلى الحالة الغازيّة للمادّة المكونّة له. وفي العلم الحديث يطرح الباحثون فكرة الغيمة السديميّة (nebula) التي كان عليها الكون في مراحله الاُولى.

وعندما نقرأ الايتين الكريمتين: (وَجَعَلْنا في الارضِ رَوَاسِيَ أن تَمِيدَ بِهِم وَجَعَلْنا فِيها فِجاجَا سُبُلا لَعَلَّهُم يَهْتَدُون) و(ثُمَّ استوى إلى السَّماء وهِيَ دُخان)، ندرك بأنّ عملية تشكّل الكون جأت نتيجة تكاثف الغيوم السديميّة الاوّلية ثمّ انفصالها. وهذا ما يكشف عنه القرآن بوضوح عندما يشير إلى العمليات التي أحدثت الالتحام ثمّ الانفصال الذي كان في الاساس «دُخانا» سماويّا. وهذا ما يحاول العلم الحديث شرحه حول أصل الكون.

ترجمة: فاروق مشهور

الملحق رقم (3)
الاصحاح الحادي عشر والثاني عشر من سفر صموئيل الثاني من التوراة

صَمُوئِيل الثَّانيِ 11

وَأَمَّا دَاوُد فَأقَامَ في أُورُشَلِيمَ.

وَكانَ في وَقْتِ الْمَسَاء أَنَّ دَاوُدَ قَامَ عَنْ سَرِيِرهِ وَتَمَشَّى عَلَى سَطْحِ بَيْتِ الْملِكِ فَرَأى مِنْ عَلَى السَّطْحِ امْرَأَةً تَسْتَحِمُّ. وَكَانَتِ الْمَرْأَةُ جَمِيلَةَ الْمَنْظَرِ جِدَّا. فَأَرْسَلَ دَاوُدُ وَسَأَلَ عَنِ الْمَرْأَةِ فَقَالَ وَاحِدٌ أَلَيْسَتْ هذِهِ بَثْشَبَعَ بِنْتَ أَلبِعَامَ أمْرَأَةَ أُورِيَّا الْحِثّيِّ. فَأَرْسَلَ دَاوُدُ رُسُلا وَأَخَذَهَا فَدَخَلَتْ إِليْهِ فَاضْطَجَعَ مَعهَا وَهي مُطَهَّرَةٌ مِنْ طَمْثِهَا. ثُمَّ رَجَعَتْ إلى بَيتْيِها. وَحبَلَتِ الْمَرأَةُ فَأَرْسَلَتْ وَأَخْبَرَتْ دَاوُدَ وَقاَلَتْ إِنّيِ حُبْلَى. فَأَرْسَلَ دَاوُدُ إلىَ يُوآبَ يَقُولُ أَرْسِلْ إِلي أُورِيَّا الْحِثّيَّ. فَأَرْسَلَ يُوآبُ أُورِيا إِلىَ دَاوُدَ. فَأَتَى أُورِيَّا إِلَيْهِ فَسَأَلَ دَاوُدُ عَنْ سَلاَمَةِ يُوآبَ وَسَلاَمَةِ الشَّعْبِ وَنَجَاحِ الْحَرْبِ. وَقَالَ دَاوُدُ لاِورِيا انْزِلْ إِلىَ بَيتِْكَ وَاغْسِلْ رِجْليَكَ. فَخَرَجَ أُورِيَّا مِنْ بَيْتِ الْمَلِكِ وَخَرَجَتْ وَرَاءهُ حِصَّةٌ مِنْ عِنْدِ الْمَلِكِ. وَنَامَ أُورِيَّا عَلَى بَابِ بَيْتِ الْمَلِكَ مَعْ جَمِيعِ عَبِيدِ سَيّدِهِ وَلَمْ يَنْزلْ إِلى بَيْتِهِ. فَأَخْبرُوا دَاوُدَ قَائِليِنَ لَمْ يَنْزِلْ أُورِيَّا إِلىَ بَيْتِهِ. فَقَالَ دَاوُدُ لاِورِيَّا أَمَا جِئتَ مِنَ السَّفَرِ. فَلِمَاذَا لَمْ تَنْزِلْ إِلى بَيْتِكَ. فَقَالَ أُورِيَّا لِدَاوُدَ إِنَّ التَّابُوتَ وَإسْرائِيلَ وَيَهَوُذَا سَاكِنُونَ في الْخِيَامِ وَسَيّدي يُوآبُ وَعَبِيدُ سَيّدِي نَازِلُونَ عَلَى وَجْهِ الصَّحْرَاء وَأَنَا آتيِ إلى بَيْتِي لاَِّكُلَ وَأَشْرَبَ وَأَضْطَجِعَ مَعَ امْرَأَتِي. وَحَيَاتِكَ وَحَيوةِ نَفْسِكَ لاَ أَفْعَلُ هذَا الاَمْرَ. فَقَالَ دَاوُدُ لاُِورِيَّا أَقِم هُنَا اليَومَ أَيْضا وَغَدا أُطْلِقُكَ.

فَأَقَامَ أُورِيَّا فِي أُورُشَلِيمَ ذلِكَ الْيَوْمَ وَغَدَهُ. وَدَعَاهُ دَاوُدُ فأَكَلَ أَمَامَهُ وَشَرِبَ وَأَسْكَرَهُ. وَخَرَجَ عِنْدَ الْمَسَاء لِيَضْطَجِعَ فِي مَضْجَعِهِ مَعْ عَبِيد سَيِدِّهِ وَإِلى بَيْتِهِ لَمْ يَنْزِلْ.

وَفي الصَّبَاحِ كَتَبَ دَاوُدُ مَكْتُوبا إِلى يُوآبَ وَأَرْسَلَهُ بِيدَ أُورِيَّا. وَكَتَبَ في الْمَكْتُوبِ يَقُولُ. اجْعَلُوا أُورِيَّا في وَجْهِ الْحَرْبِ الشَّدِيدَةِ وَارْجِعُوا مِنْ وَرَائِهِ فَيُضْرَبَ وَيَمُوتَ. وَكَانَ في مُحَاصَرَةِ يُوآبَ الْمَدِينَةَ أَنَّهُ جَعَلَ أُورِيَّا في الْمَوضِعِ الَّذِي عَلِمَ أَنَّ رِجَالَ الْبَأسِ فِيهِ. فَخَرَجَ رِجَالُ الْمَدِينَةِ وَحَارَبُوا يُوآبَ فَسَقَطَ بَعْضُ الشَّعْبِ مِنْ عَبِيدِ دَاوُدَ وَمَاتَ أُورِيَّا الْحِثّيُّ أَيْضا. فَأَرْسَلَ يُوآبُ وَأَخْبَرَ دَاوُدَ بَجميِعِ أُمُورِ الْحَرْبِ. وَأَوْصَى الرَّسُولَ قَائِلا عِنْدَمَا تَفْرُّغُ مِنَ الْكَلاَمِ مَعَ الْمَلِكِ عَنْ جَمِيعِ أُمُورِ الْحَربِ فَإِنِ اشْتَعَلَ غَضَبُ الْمَلِكِ وَقَالَ لَكَ لِمَاذَا دَنَوْتُمْ مِنَ الْمَدِينَةِ لِلْقِتَالِ. أَمَا عَلِمْتُم أَنَّهَّمُ يَرْمُونَ مِنْ عَلَى الُّسورِ. مَنْ قَتَلَ أَبِيمَالِكِ بْنَ يَرُبّوشَثَ. أَلَمْ تَرْمِهِ امْرَأَةٌ بِقَطْعَةِ رَحّى مِنْ عَلَى السّورِ فَمَاتَ فِي تَابَاصَ. لِمَاذَا دَنوْتُمْ مِنَ السّورِ. فَقُلْ قَدْ مَاتَ عَبْدُكَ أُورِيَّا الْحِثّيُّ أَيْضا فَذَهَبَ الرَّسُولُ وَدَخَلَ وَأَخْبَرَ دَاوُدَ بِكُلّ مَا أَرْسَلَهُ فِيهِ يُوآبُ. وَقَالَ الرَّسُولُ لِدَاوُدَ قَدْ تَجَبِّرَ عَلَيْنَا الْقَوْمُ وَخَرَجُوا إِلَيْنَا إِلىَ الْحَقْلِ فَكُنَّا عَلَيْهِمْ إِلى مَدْخَلِ الْبَابِ. فَرَمَى الرُّمَاةُ عَبِيدَكَ مِنْ عَلَى السُّورِ فَمَاتَ الْبَعْضُ مِنْ عَبِيدِ الْمَلِكِ وَمَاتَ عَبْدُكَ أُورِيَّا الْحِثّيُّ أَيْضا. فَقَالَ دَاوُدُ لِلرَّسُولِ هكَذَا تَقُولُ لِيُوآبَ. لاَ يَسُوّفِي عَيْنَيكَ هذَا الاَمْرُ لاَنَّ السَّيْفَ يأكُلُ هذَا وَذَاكَ. شَدِدْ قِتَالَكَ عَلَى الْمَدِينَةِ وَأَخْرِبْهَا. وَشَدِّدْهُ.

فَلَمَّا سَمِعَتِ امْرَأَةُ أُورِيَّا أَنَّهُ قَدْ مَاتَ رَجُلُهَا نَدَبَتْ بَعْلَهَا. وَلَمَّا مَضَتِ الْمَنَاحَةُ أَرْسَلَ دَاوُدُ وَضَمَّهَا إِلى بَيْتِهِ وَصَارَتْ لَهُ امْرَأَةً وَوَلَدَتْ لَهُ ابْنا.

وَأَمَّا الاَمْرُ الَّذِي فَعَلَهُ دَاوُدُ فَفَجَ في عَيْنَيِ الرَّبِّ.

الاَصْحَاح الثَّاني عَشَرَ

فَأَرسَلَ الرَّبُّ نَاثانَ إِلى دَاوُدَ. فَجَاء إِليْهِ وَقَالَ لَهُ. كَانَ رَجُلاَنِ في مَدِينَةِ وَاحِدَةِ وَاحِدٌ مِنْهُمَا غَنيُّ وَالاخَرُ فَقِيرٌ. وَكَانَ لِلْغَنيِّ غَنَمٌ وَبَقَرٌ كَثِيرَةٌ جِدا. وَأَمَّا الْفَقيِرُ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَي‌ء إلاّ نَعجَةٌ وَاحِدَةٌ صَغِيِرَةٌ قَدِ اقْتَنَاهَا وَرَبَّاهَا وَكَبُرَتْ مَعْهُ وَمَعَ بنِيهِ جَمِيعا. تأكُلُ مِنْ لُقْمَتِهِ وَتَشْرَبُ مِنْ كأسِهِ وَتَنَامُ فيِ حِضْنِهِ وَكَانَتْ لَهُ كَابْنَهِ. فَجَاء ضَيْفٌ إلىَ الرَّجُلِ الْغَنيّ فَعَفَا أَنْ يَأخُذَ مِنْ غَنَمِهِ وَمِنْ بَقَرِهِ لِيُهَي‌ء لِلضَّيْفِ الَّذِي جَاء إِلَيْهِ فَأَخَذَ نَعجْةَ الرَّجُلِ الْفَقيِرِ وَهَيَّأَ لِلرَّجُلِ الَّذِي جَاء إلَيْهِ. فَحَمِيَ غَضَبُ دَاوُدَ عَلَى الرَّجُلِ جِدا وَقَالَ لِنَاثَانَ حَيُّ هُوَ الرَّبُّ إِنَّهُ يُقْتَلُ الرَّجُلُ الْفَاعِلُ ذلِكَ وَيَرُدُّ النَّعْجَةَ أَرْبَعَةَ أَضْعَافِ لاِنَّهُ فَعَلَ هذَا الاَمْرَ وَلاِنَّهُ لَمْ يُشْفِقْ.

فَقَالَ نَاثَانُ لِدَاوُدَ أَنْتَ هُوَ الرَّجُلُ. هكَذا قَالَ الرَّبُّ إِلهُ إِسْرَائِيلَ. أَنَا مَسَحْتُكَ ملِكا عَلَى إِسْرَائِيلَ وَأَنْقَذْتُكَ مَنْ يَدِ شَاوُلَ وَأَعْطَيْتُكَ بَيْتَ سَيّدِكَ وَنِسَاء سَيّدِكَ في حِضْنِكَ وَأَعْطَيْتُكَ بَيْتَ إِسْرَائِيلَ وَيَهُوذَا وَإنْ كَانَ ذلِكَ قَلِيلا كُنْتُ أَزِيدُ لَكَ كَذَا وَكَذَا. لَمَاذَا احْتَقَرْتَ كَلاَمَ الرَّبِّ لِتَعْمَلَ الشَّرَّ في عَيْنيْهِ. قَدْ قَتَلْتَ أُورِيَّا الْحِثّيَّ بِالسَّيْفِ وَأَخَذْتَ امْرَأَتَهُ لَكَ امْرَأَةً وَإِيَّاهُ قَتَلْتَ بِسَيْفِ بَني عَمّونَ. وَالانَ لاَ يُفَارِقُ السَّيْفُ بَيْنَكَ إِلى الاَبَدِ لاِنَّكَ احْتَقَرْتَنِي وَأَخَذْتَ امْرَأَةَ أُورِيَّا الْحِثّيّ لِتَكُونَ لَكَ أمْرَأَةَ. هكذَا قَالَ الرَّبّ هأَنَذَا أُقيِمُ عَلَيْكَ الشَّرَّ مِنْ بَيْتِكَ وَآخُذُ نِسَاءكَ أَمَامَ عَيْنَيْكَ وَأُعْطِيهِنَّ لِقريبِكَ فَيَضْطَجِعُ مَعَْ نِسَائِكَ في عَيْنِ هذِهِ الشَّمْسِ. لاَِنَّكَ أَنْتَ فَعَلْتَ بِالسّرِّ وَأَنَا أَفْعَلُ هذَا الاَمْرَ قُدَّامَ جَمِيعِ إِسْرَائِيلَ وَقُدَّامَ الشَّمْسِ. فَقَالَ دَاوُدُ لِنَاثانَ قَدْ أَخْطَأتُ إلى الرَّبِّ. فَقَالَ نَاثَانُ لِدَاوُدَ. الرَّبُّ أَيْضا قَدْ نَقَلَ عَنْكَ خَطِيَّتَكَ. لاَ تَمُوتُ. غَيْرَ أَنَّهُ مِنْ أَجْلِ أَنَّكَ قَدْ جَعَلْتَ بِهذَا الاَمْرِ أَعْدَاء الرَّبِّ يَشْمَتُونَ فَالاِبْنُ الْمَوْلُودُ لَكَ يَمُوتُ. وَذَهَبَ نَاثَانُ إلى بَيْتِهِ.

وَضَرَبَ الرَّبُّ الْوَلَدَ الَّذِي وَلَدَتْهُ امرْأَةُ أُورِيَّا لِداوُدَ فَثَقِلَ. فَسَأَلَ دَاوُدُ اللّهَ مِنْ أَجلِ الصَّبِيِّ وَصَامَ دَاوُدُ صَوْما وَدَخَلَ وَبَاتَ مُضْطَجِعا عَلَى الاَرْضِ. فَقَامَ شُيُوخُ بَيْتِهِ عَلَيْهِ لِيُقِيمُوهُ عَنِ الاَرضِ فَلَمْ يَشَأ وَلَم يأكُلْ مَعْهُمْ خُبْزا. وَكَانَ في الْيَومِ السَّابِعِ أَنَّ الْوَلَدَ مَاتَ فَخَافَ عَبِيدُ دَاوُدَ أَنْ يُخْبِرُوهُ بِأَنَّ الْوَلَدَ قَدْ مَاتَ لاَنَّهُمْ قَالُوا هُوَ ذَا لَمْا كَانَ الْوَلَدُ حَيا كَلَّمْنَاهُ فَلَمْ يَسْمَعْ لِصَوْتِنَ. فَكَيْفَ نَقُولُ لَهُ قَدْ مَاتَ الْوَلَدُ. يَعْمَلُ أَشَرَّ. وَرَأَى دَاوُدُ عَبِيدَهُ يَتَناجَوْنَ فَفَطِنَ دَاوُدُ أَنَّ الْوَلَدَ قَدْ مَاتَ. فَقَالَ دَاوُدُ لِعَبَيِدهِ هَلْ مَاتَ الْوَلَدُ. فَقَالُوا مَاتَ. فَقَامَ دَاوُدُ عَنِ الاَرْضِ وَاغْتَسَلَ وَادَّهَنَ وَبَدَّلَ ثِيَابَهُ وَدخَلَ بَيْتَ الرَّبِّ وَسَجَدَ ثُمَّ جَاء إِلى بَيتْهِ وَطَلَبَ فَوَضَعُوا لَهُ خُبْزا فَأَكَلَ. فَقَالَ لَهُ عَبِيدُهُ مَا هذَا الاَمْرُ الَّذِي فَعَلْتَ. لَمَّا كَانَ الْوَلَدُ حَيا صُمْتَ وَبكَيْتَ وَلَمَّا مَاتَ الْوَلَدُ قُمْتَ وَأَكَلْتَ خُبْزا. فَقَالَ لَمَّا كَانَ الْوَلَدُ حَيّا صُمْتُ وَبَكَيْتُ لاِنّي قُلْتُ مَنْ يَعْلَمُ. رُبَّمَا يَرْحَمُني الرَّبُّ وَيَحيَا الْوَلَدُ. وَالانَ قَدْ مَاتَ فَلِمَاذَا أَصُومُ. هَلْ أَقْدُرُ أَرُدَّهُ بَعْدُ. أنّا ذَاهِبٌ إلَيْهِ وَأَمَّا هُوَ فَلاَ يَرْجِعُ إِلَيَّ.

الملحق رقم (4)
مناهج البحث في العقيدة الاسلامية وتفوق منهج أهل البيت (ع)

مقالة لفضيلة الشيخ عباس علي براتي في مجلة رسالة الثقلين

أصدار المجمع العلمي لاهل البيت (ع) في طهران

العدد العاشر ـ السنة الثالثة ـ 1415 هـ. ق

العقيدة الاسلامية كانت ولا تزال موضع بحث ودراسة المسلمين، والباحثين عن الاسلام، وبمرور السنين والقرون ظهرت اختلافات في الاراء حول العقيدة الاسلامية، مع الاتفاق على أن مصدرها هو القرآن والحديث، وإنما جاء الاختلاف نتيجة أسباب عديدة(5) نشير إلى بعضها:

1 - الاختلاف في منهج البحث والاجتهاد.

2 ـ انخراط الاحبار والرهبان في صفوف المسلمين ودسّ قصصهم (الاسرائيليات) في الروايات.

3 ـ البدع والتأويلات الفاسدة.

4 ـ النزعات القبلية والاهواء السياسية.

5 ـ الجهل وعدم العثور على النصوص.

وفي هذا المقال نحاول بيان السبب الاوّل، ونستعرض المناهج الموجودة في دراسة العقيدة مقارنة بمنهج آل البيت (ع) ونبيّن تفوق المنهج الاخير.

جذور الخلافات الاعتقادية وتاريخها

ظهرت الخلافات الفكرية والعقائدية في عصر صاحب الرسالة (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولكن لم تصل إلى حدّ تكونّ المذاهب الكلامية والمدارس الفكرية،لانّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يعالجها بنفسه ولا يسمح لها بالاستفحال، وكانت الصداقة تحلّ محلّها، والاخاء والودّ والتعاطف يخيّم على المجتمع الرسالي بشكل لم يوجد له مثيل في التاريخ، إلاّ في فترات قصيرة.

وكمثال على ذلك نشير إلى مسألة «القَدرَ» التي شغلت بال الصحابة، ودار النقاش والحوار حولها حتى وصل إلى الجدال والمراء، وعندما سمع رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) أصواتهم خرج من البيت ونهاهم عن ذلك، كما جاء في كتب الحديث:

روى أحمد بن حنبل عن عمروا بن شعيب عن أبيه عن جدّه قال: خرج رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) ذات يوم والناس يتكلّمون في القدر. قال: وكأنّما تفقّأ في وجهه حبّ الرّمان من الغضب قال: فقال لهم: «مالكم تضربون كتاب اللّه بعضه ببعض؟ بهذا هلك من كان قبلكم»(6) .

والقرآن والسنّة تركا للامّة اُصول العقيدة وأمّهاتها، وطرحت بعض الاسئلة فيما بعد، حيث لم يكن لها جواب صريح في القرآن والسنّة فكانت تحتاج إلى استنباط واجتهاد، فصار ذلك من مسؤولية الفقهاء والمجتهدين في العقيدة والشريعة ولذلك نجد الصحابة يختلفون فيما بينهم في المسائل الاعتقادية، وهناك فرقٌ بين اختلافهم في عصر الرسول الاعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) وبين اختلافهم بعد وفاته، ففي حياته كان هو الحكم بينهم وكلماته كانت تحسم الخلاف(7) . ولكن بعد وفاته كانوا يحكّمون اجتهاد واحد من الصحابة أو فئة منهم حسب اختيار الخلفاء والحكّام، وإن كان للصحابة الاخرين آراؤهم ونظرياتهم، ومن أمثلة ذلك الامران التاليان:

1 ـ الخلافة أو الامامة الكبرى بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)(8) .

2 ـ قتل مانعي الزكاة وأن عملهم هذا هل أوجب الردّة ؟

وكان كل خلاف مبدأ نشوء آراء وطوائف ومذاهب كلامية واعتقادية، وبطبيعة الحال، فإن كل واحد منها كان يشكل مجموعة مدونّة من الاراء والعقائد مرفقة بمنهج خاص في الاستدلال والاستنباط. وأهم المناهج ـ حسب ما أدّت إليه دراستنا تنحصر فيما يلي:

1 ـ المنهج النقلي المحض.

2 ـ المنهج العقلي المحض.

3 ـ المنهج الذوقي والاشراقي.

4 ـ المنهج الحسّي والتجريبي (العلمي).

5 ـ المنهج الفطري.

المنهج النقلي المحض

ويعتبر الامام أحمد بن حنبل (ت: 241 هـ) رائدا لتلك المدرسة في ذلك الوقت، ومن أقدم شخصياتها، وهذا المنهج يمثله «أهل الحديث» الذين لا شأن لهم عدا المحافظة على التراث الروائي ونقله دون التدبّر والتعمّق في مغزاه، وتمييز غثه من سمينه، وصحيحه من سقيمه، ويسمّى هذا الاتجاه في العصور الاخيرة باسم «السلفية» وينحو الحنابلة في الفقه هذا المنحى. إنّ هؤلاء حرّموا الرأي والنظر في المسائل الدينية، وعدّوا السؤال بدعة، والكلام والحجاج فيها ابتداعا وانحيازا لاهل الاهواء، وعكفوا على دراسة السنّة دراسة خالية من التعمّق، وسمّوا منهجهم هذا «اتّباعا» وغيره «ابتداعا».

وقصارى جهد هؤلاء أن يدونّوا الاحاديث الواردة في المسائل الاعتقادية، أو يبوّبوها أو يشرحوا ألفاظها أو يذكروا أسانيدها، كما فعله الامام البخاري وأحمد بن حنبل وابن خزيمة والبيهقي وابن بطّة، وبلغ بهم الامر إلى أن حرّموا علم الكلام والنظر العقلي في مسائل العقيدة، وأفرد بعضهم رسالة في تحريمه، كما فعل ابن قدامة في رسالته المسمّاة «رسالة تحريم النظر في علم الكلام».

قال أحمد بن حنبل: «لا يفلح صاحب الكلام أبدا، ولا تكاد ترى أحدا نظر في الكلام إلاّ وفي قلبه دغل». وبالغ في ذمّه حتى هُجر الحارث المحاسبي مع زهده وورعه بسبب تصنيفه كتابا في الردّ على المبتدعة، وقال له: ويحك ألست تحكي بدعتهم أوّلا ثمّ تردّ عليهم؟!

ألست تحمل الناس بتصنيفك على مطالعة البدعة والتفكّر في تلك الشبهات فيدعوهم ذلك إلى الرأي والبحث؟

وقال أحمد: علماء الكلام زنادقة!

وقال الزَعفراني: قال الشافعي: حكمي في أصحاب الكلام أن يُضربوا بالجريد ويُطاف بهم في القبايل والعشائر ويقال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنّة وأخذ في الكلام.

وقد اتّفق أهل الحديث من السلف على هذا، ولا ينحصر ما نقل عنهم من التشديدات فيه، وقالوا: ما سكت عنه الصحابة ـ مع أنّهم أعرف بالحقائق وأفصح بترتيب الالفاظ من غيرهم ـ إلاّ لعلمهم بما يتولّد منه من الشرّ، ولذلك قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): «هلك المتنطّعون، هلك المتنطّعون، هلك المتنطّعون». أي المتعمّقون في البحث والاستقصاء(9) .

وهؤلاء كانوا ينحون في العقيدة منحى التجسيم والتشبيه والقول المطلق بالقدر وسلب الحرية عن الانسان(10) .

وهذه الطائفة جوّزت التقليد في العقيدة وحرّمت النظر كما مرّ، يقول الدكتور أحمد محمود صبحي:

«بما أن العقيدة لا يمكن فيها التقليد ولا يجوز، خلافا لعبيد اللّه بن الحسن العنبري والحشوية والتعليمية(11) . وكذا للرازي في المحصّل(12) .

ورأي جمهور العلماء على عدم جواز التقليد فيه، وأسنده الاستاذ أبو إسحاق في «شرح الترتيب» إلى إجماع أهل العلم من أهل الحق وغيرهم من الطوائف، وقال إمام الحرمين في «الشامل»: لم يقل بالتقليد في الاصول إلاّ الحنابلة. ولكن الامام الشوكاني يعتبر التكليف بوجوب النظر في العقائد تكليفا بما لا يطاق، ويقول بعد سرده لاقوال الائمة: فياللّه العجب من هذه المقالة... فإنها جناية على جمهور هذه الامّة المرحومة، وتكليف لهم بما ليس في وسعهم ولا يطيقونه، وقد كفى الصحابة الذين لم يبلغوا درجة الاجتهاد ولا قاربوها الايمان الحملي... بل حرّم على كثير منهم النظر في ذلك وجعله من الضلالة والجهالة...»(13) .

ومن ثمّ، فعلم المنطق أيضا حرام عند هؤلاء، ولا يعتبر منهجا في الوصول إلى المعرفة البشرية، على الرغم من أن علم المنطق من أشهر المقاييس وأقدمها، وهو ما وضعه ارسطوا في كتاب سمّاه أيضا الارغانون وسماه علم الميزان.

وعلم المنطق في رأي أصحاب هذا الاتجاه لا يكفي وحده لصون الفكر عن الخطأ، فإن كثيرا من مفكري الاسلام برعوا في المنطق، كالكندي والفارابي وابن سينا والامام الغزالي وابن ماجة، وابن طفيل، وابن رشد، ولكن اختلفوا في أفكارهم وآرائهم ونزعاتهم اختلافا جوهريا، فلا يكون المنطق ميزانا بين الحق والباطل!

ولكن موقف هذا الاتّجاه اعتدل كثيرا تجاه علمي المنطق والكلام في العصور المتأخرة، مثلا نشاهد ابن تيمية مضطربا في موقفه عن علم الكلام، فلا يحرّمه تحريما باتّا بل يجوزّه إذا دعت إليه الضرورة، واستند إلى الادلة العقلية والشرعيّة وصار سببا لوضع حدّ لشبه الملاحدة والزنادقة(14) .

ولكنه في الوقت نفسه يحرّم علم المنطق ويؤلّف رسالة اسمها «رسالة الردّ على المنطقيّين» ويقول أتباعه: نجد ديكارت الفرنسي (1596 ـ 1650 م) اخترع مقياسا للفصل بين الخطأ والصواب بدلا عن المنطق الارسطاطاليسي، وكان يؤكّد على أنّ الانسان لو اتبع في تفكيره المقياس الذي اخترعه خطوة خطوة فإنّه لا مناص سينتهي إلى الصواب وستكون ثمرة السير مع المنهج الديكارتي، اليقين، ولكن انتهى الامل في منهج ديكارت كما انتهى الامل في منطق ارسطو بالنسبة إلى الانسان المعاصر وبقيت المسائل التي بحثت قبل الميلاد كما كانت(15) .

وهذا ما دفع جمعا من المفكرين المسلمين القدماء إلى رفض الطريقة العقلية كما هو الحال بالنسبة إلى الامام الغزالي (450 ـ 505 هـ) في كتابه «تهافت الفلاسفة» حيث هدّم في هذا الكتاب آراء الفلاسفة بأدلة عقلية، والتأمّل في كتابه هذا يشهد بأن رأي الامام الغزالي هو:

أن العقل الذي يبني هو العقل الذي يهدم.

والامام الغزالي يثبت أن العقل الانساني في عالم الالهيات والاخلاق لا يتأتى منه إلاّ ظنون لا تصل إلى اليقين. وقد ردّ عليه الفيلسوف الاسلامي ابن رشد الاندلسي (ت: 595 هـ) في كتابه «تهافت التهافت». وابن رشد هو الذي يثبت أن العقل الصريح والنقل الصحيح ليس بينهما أيّ تعارض، وهذا ما يبدو من كتابه «فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال» والعجيب أنّه في هذا الموقف يلتقي بابن تيمية في كتابه «موافقة صريح المعقول لصحيح المنقول».

فكيف يمكن الجمع بين موقفي ابن تيمية هذين يا ترى؟!

إنّ منهج أهل الحديث لدى السنّة، والاخبارية لدى الشيعة(16) اتّباع ظواهر النصوص الشرعيّة من الايات والروايات ومحاولة اجتناب الرأي والقياس حسب الامكان(17) . وينتشر المذهب السلفي أو مذهب أهل الحديث في عصرنا هذا في الجزيرة العربية (بلاد نجد) وتوجد جماعات قليلة منهم في العراق والشام ومصر(18) .

المنهج العقلي المحض:

يتميز هذا المذهب باعتماده على العقل البشري كأداة للمعرفة، وهم أصحاب مدرسة الرأي في الفكر الاسلامي، وفي العقيدة يمثلهم «المعتزلة»، وقد بدأ هذا المنهج من عصر مبكّر من تاريخ الاسلام، ويعتبر المؤسس الاول لهذه المدرسة «واصل بن عطاء» (80 ـ 131 هـ) وزميله «عمرو بن عبيد» (80 ـ 144 هـ) المعاصر للمنصور الدوانيقي، ثمّ من روّادها أحمد بن أبي دؤاد وزير المأمون العباسي والقاضي عبد الجبار بن أحمد الهمذاني (ت: 415 هـ) ومن أكابرهم النظّام وأبو الهذيل العلاّف والجاحظ والجُبائيّان.

هذا الاتجاه يعطي العقل البشري قيمة كبرى ودورا مهما في معرفة اللّه سبحانه وصفاته، والشريعة الاسلامية في رؤيتهم لا يتمّ إدراكها وتطبيقها إلاّ بالعقل الانساني.

ولكن لا يوجد لهذا المذهب في عصرنا الحاضر أتباع وأنصار بهذا الاسم، وإنما دخلت عناصر من فكرهم في المذهب الزيدي والاباضي.

وبإمكاننا أن نقول إنّ هؤلاء مشتركون مع المعتزلة في عدّة مواقف فكرية، وتلتقي ـ المعتزلة ـ أيضا بالشيعة الاثني عشرية والاسماعيلية في بعض الجوانب، وأهل الحديث يطلقون على المعتزلة لقب «القدرية» لقولهم بحريّة الارادة الانسانية.

ومن أهمّ كتبهم التي جاءت فيها عقائدهم، كتاب «شرح الاصول الخمسة» للقاضي عبد الجبار المعتزلي و«رسائل العدل والتوحيد»

تأليف جماعة من زعماء المعتزلة، كالحسن البصري والقاسم الرسّي وعبد الجبار بن أحمد.

كان المعتزلة إذا واجهوا آيات قرآنية أو سنّة مروية على خلاف معتقداتهم يؤوّلونها، ولذلك يعتبرون من أتباع مدرسة «التأويل»، وفي نفس الوقت قدّموا خدمات كبيرة للاسلام وتصدّوا للهجوم الفكري العنيف المضاد للاسلام في العهد العباسي الاول. وقد مال إليهم بعض الخلفاء كالمأمون والمعتصم، ولكن سرعان ما انقلب الامر عليهم في عهد المتوكل، وتتابع صدور أحكام الكفر والضلال والتفسيق عليهم، كما كانوا يؤذون مخالفيهم في عهد سيطرتهم على البلاط العباسي، ويعذّبون من لا يرى رأيهم.

ومن أراد التفصيل فليرجع إلى المؤلفات الحديثة والقديمة في هذا المجال(19) .

وكان للمعتزلة خمسة أصول يعرفون بها:

1 ـ التوحيد، بمعنى تنزيه اللّه سبحانه عن صفات المخلوقين، وعدم إمكان رؤيته بالابصار مطلقا.

2 ـ العدل، بمعنى أنّه سبحانه لا يظلم عباده ولا يجبر خلقه على المعصية.

3 ـ المنزلة بين المنزلتين، أي ان مرتكب المعصية الكبيرة لا مؤمن ولا كافر بل فاسق.

4 ـ الوعد والوعيد، بمعنى أنّه يجب الوفاء على اللّه في وعده بالجنّة للمؤمنين وفي وعيده بالنار للكافرين.

5 ـ الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، أي وجوب مخالفة الحكّام الظلمة إذا لم يرتدعوا عن ظلمهم(20) .

مكانة المذهب الاشعري والمذهب الماتريدي بين المناهج

المذهب الاشعري ـ ويمثله اليوم غالبية أهل السنّة في العالم ـ مذهب معتدل بين المعتزلة وأهل الحديث، فإن الشيخ أبا الحسن الاشعري (ت: 324 هـ) كان في بداية أمره معتزليا وعاش على هذا المذهب قرابة أربعين سنة، ونحو سنة (300 هـ) أعلن على منبر الجامع بالبصرة براءته من الاعتزال، ورجوعه إلى مذهب السنّة والجماعة، وأراد أن يسلك في الجمهور مسلكا وسطا على الظاهر بين الطريقة العقلية للمعتزلة وطريقة أهل الحديث، وأراد أن ينتصر لاهل الحديث ولكن بنفس أسلوب المعتزلة، أعني بالاستدلال العقلي والبرهنة.

وبسبب ذلك نفاه المعتزلة عنهم ورفضه أهل الحديث، وهم إلى الان يؤاخذونه بملاحظات أساسية يعدّونها انحرافا جذريا في العقيدة، حتى إن بعض المتطرفين منهم يكفّرونه.

كان رجل آخر معاصرا للاشعري يريد أن ينتهج نفس المنهج دون أن يكون بينهما صلة ولا علاقة، وهو أبو منصور الماتريفي السمرقندي (ت: 333 هـ) وهو أيضا إمام لطائفة من أهل السنّة في العقيدة، وأحيانا توجد بين آراء الزعيمين اختلافات أنهاها بعضٌ إلى أحد عشر فارقا أساسيا(21) .

وأهم ميزات مدرسة الاشعري أنّه كثيرا ما يتجنّب عن تأويل ظواهر الايات والروايات ويحاول أن يهرب عن الوقوع في مهاوي التشبيه والتجسيم بالقول «بلا كيف» في صفات الباري، وعن مهاوي الجبر في مسألة القدر بقوله «بالكسب» وإن كان منهجه هذا يعتبر لدى فريق آخر من العلماء عجزا وقصورا عن حلّ المسائل الفكرية والاعتقادية. وتدريجيا استطاع المذهب الاشعري الصمود أمام حملات أهل الحديث وانتشر في العالم الاسلامي(22) .

المنهج الذوقي

من هنا ننقل الحديث إلى اتجاه آخر متمايز، يضع المسائل الكلامية على طاولة البحث والنقاش ويسلك فيها المسالك الرمزي الذوقي الخاص بالصوفية، وهو مسلك يختلف تماما عن مسلك الفلاسفة والمتكلمين القائم على العقليات ثمّ السمعيات. ويعتبر الحلاّج (ت: 309 هـ) مؤسسا لهذه المدرسة في بغداد، والامام الغزالي من أكبر روّاد هذه الطريقة، فهو يقول في كتابه «إلجام العوام عن علم الكلام» إن هذه طريق «الخاصّة» وما دونها طريق «العامّة» ومن لا يفترق عنهم سوى أنّه يعرف «الادلّة» وليس الاستدلال(23) .

وقد أفرد بعض الباحثين كتابا خاصا في منهج الامام الغزالي والصوفية في دراسة العقيدة الاسلامية(24) .

وقد نبّه على منهجه الدكتور صبحي قائلا:

«وإذا كان الغزالي قد حرّم النظر في حقيقة الذات الالهية على العامة وذلك ما لا ينكره أحدٌ عليه، فانّه أدرج ضمن العوام الادباء والنحاة والمحدّثين والفقهاء والمتكلمين، وجعل التأويل مقصودا على الراسخين في العلم، وهم في نظره الاولياء الغارقون في بحار المعرفة، المتجردون عن دنيا الشهوات، وهي عبارة تعدّ قرينة لصحّة دعوى من رأى من الباحثين للغزالي معتقدا خاصّا في الحكمة الاشراقية وفي الفيض، وفي نظرية المطاع مغايرا لمعتقده العامّ الذي أصبح به في نظر جمهور المسلمين حجة الاسلام».

ويتساءل الدكتور صبحي:

«هل الراسخون في العلم هم الصوفيّة دون الفقهاء والمفسرين والمتكّلمين؟! وإذا كان الشر قد ثار منذ فشت صناعة الكلام، ألاّ يفتح هذا الاستثناء المجال للصوفيّة أن يكون لهم وحدهم السبيل إلى الشطحيات والدعاوى؟! ونظريات التصوّف الفلسفي كالفيض والاشراق وأصولها الاجنبّية واضحة، وشرورها على العقيدة الاسلامية ليست بأهون من شرور المتكلمين»(25) .

ولكن مع ذلك كلّه فقد تركوا تراثا ضخما في العقيدة الاسلامية على النهج الصوفي ومن أمثلة ذلك كتاب «الفتوحات المكيّة»(26) .

المنهج العلمي التجريبي

هذا منهج حديث في الفكر الاسلامي، وقد تبع فيه بعضُ العلماء المسلمين في القرن الاخير روّادَ الفكر الاوروبي المعاصر، ويوجد أتباعه في مصر الحديثة وفي الهند والعراق، وجميع البلدان الاسلامية التي احتك أهلها بالاستعمار الغربي وبالتيّارات الفكرية الوافدة من الغرب إلى العالم الاسلامي.

ولهم رأي خاصّ في أدوات المعرفة البشرية، ومن ميزاتهم الاعتماد التامّ على الاساليب الحسيّة والتجريبية، ورفض المنهج العقلي القديم والمنطق الارسطاطاليسي رفضا باتا، وحاولوا البحث عن المعارف الالهية و(الميتافيزيقا) والدين بأساليب العلوم العملية والتجربة الميدانية(27) .

ومن آثار هذا المذهب الكلامي تفسير المعجزات تفسيرا مادّيا وتفسير النبوّة بالنبوغ والعبقرية البشرية، وقد أفرد بعض الباحثين دراسته لهذا الاتجاه(28) وتوجد أمثال هذه الاراء في آثار السيد أحمد خان الهندي(29) وهو ممن يقترب إلى هذا الاتجاه وإن لم يكن بامكاننا أن نعدّه من أتباع هذه المدرسة، وسبب تقاربه إلى هذا المنهج أنّه بطرحه آراء العلماء المحدثين الغربيين في تفسير القرآن وحشد تفسيره بها يحاول أن يثبت أن القرآن موافق تماما للمكشفات الحديثة، ولا يعدو أحمد خان الهندي أيضا القول بأن القرآن ينطبق تماما مع معطيات العلوم الحديثة، دون أن يضع لهذه النظرية حدّا أو إطارا، ويبيّن الموضوع والمنهج والمرمى في المسائل الدينية والدراسات العلمية الحديثة(30) .

منهج آل البيت (ع) أو المنهج الفطري

الملامح الاصلية لهذا المنهج موجودة في تعاليم آل البيت (ع) وهم بيّنوا للناس أن الفهم الصحيح للعقيدة الاسلامية لا يمكن بدون تطبيق هذا المنهج، وهو في الاساس مأخوذ عن الكتاب والسنّة، حيث جاء في الكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه:

(فطرة اللّه التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق اللّه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون) (الروم / 30).

وقد نوه الباري الكريم أنّ خير طريقة للوصول إلى المعارف الدينّية هي الفطرة الانسانية السليمة التي لم تتغيّر ولم تتبدّل بالبيئة الفاسدة وسوء التربية، ولم تنطمس بالاهواء والمجادلات، وأن أكثر الناس لا يستطيعون الوصول إلى الحقّ والحقيقة (لا يعلمون) بسبب أنّ العصبية أطفأت نور فطرتهم، والطغيان حال بينهم وبين الاهتداء بفطرتهم إلى الحقائق والعلوم الحقيقية الالهية.

وكذلك جاءت السنّة المطهرة لتؤكد هذه الظاهرة، فقد روي عن رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: «كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه»(31) .

وليس منهج الفطرة بعيدا عن استخدام العقل والنقل والشهود والاشراق والطريقة العلمية، والمهمّ في هذا المنهج عدم حصره لادوات المعرفة في واحد منها، بل استخدام كل واحد في مكانه بحسب هداية اللّه سبحانه وتعالى كما تحدّث عنه الكتاب العزيز بقوله:

(يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا عليّ إسلامكم بل اللّه يمن عليكم أن هداكم للايمان إن كنتم صادقين) (الحجرات / 17).

ويقول في آية آخرى:

(ولولا فضل اللّه عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحدٍ أبدا) (النور / 21).

ومن ميزات هذا المنهج أن أتباعه يتجنبون الوقوع في المناظرات الكلامية والشكوك والشبهات المعقّدة، ويحتّجون بأحاديث أهل البيت (ع) في النهي عن الخصومات في الدين والجدال، ويرون أنّ المتكلمين الذين لم يهتدوا إلى هذا المنهج قد يصل اختلافهم في مذهب واحد على مسائل العقيدة إلى قرابة مائة مسألة(32) .

وقد يعبّر بـ «الطينة» في روايات أهل البيت (ع) عن هذه الفطرة التي خلق اللّه الانسان عليها، وقد يعبّر عنها بالعقل المطبوع، ومن أراد ذلك فليراجع المجاميع الحديثية لشيعة أهل البيت (ع) الذين احتفظوا بتراثهم المجيد(33) .

أصول منهج أهل البيت (ع) في دراسة العقيدة الاسلاميّة

من أهمّ المباحث في العقيدة، البحث عن مصادرها. ومصادر العقيدة كما ذكرنا سابقا تنحصر في الكتاب والسنّة، ولكن الفارق الاساس هنا بين منهج أهل البيت وغيرهم، أنهم يظلون أوفياء لهذه المصادر، ولا يؤثرون عليها هوى ولا عصبيّة، وإنّما يراعون في استقاء العقيدة عن هذين المصدرين الاصول العامّة للاجتهاد المأثورة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وعن القرآن الكريم، ومن ذلك:

1 ـ لا يقدّمون الاجتهاد على النصّ، إذا كان النصّ خاليا عن المعارض، أو أن المعارض لا يقوى على مقاومة النصّ، بخلاف بعض أرباب الاهواء والمذاهب، فإنّهم يريدون أن يتخلّصوا من بعض النصوص بتأويلات واهية ومبرّرات ضعيفة سنوافيك بنماذج منها، ونبّه إلى ذلك أمير المؤمنين علي (ع) في كلامه للحارث بن حوط: «... إنك لم تعرف الحق فتعرف من أتاه ولم تعرف الباطل فتعرف من أتاه»(34) .

2 ـ ويمكن استخلاص أصل آخر من ذلك وهو: «أنّ أتباع أهل البيت (ع) لا يقدّمون على النص والرواية شيئا، حينما يكون النص متواترا قطعيا»، وهذا أصل هام في العقيدة الاسلامية، فإنّ الظنون والاهوام لا مجال لها في العقيدة، وهذا ما يجب أن ينتبه إليه الاتجاه السلفي الذي يقبل الروايات الضعيفة وأخبار الاحاد في العقيدة، ويدافع عنها دفاع المستميت، ويكفّر عليها المسلمين. فعليه أن ينتبه أن في الروايات صدقا وكذبا، وعامّا وخاصّا، ومحكما ومتشابها، وحفظا ووهما(35) . وسيوافيك مزيد من الشرح والابانة عن هذا الموضوع.

3 ـ العقائد الاسلامية تنقسم إلى قسمين: ضروري ونظري. والضروري مالا ينكره أحدا إلاّ خرج من الدين، لبداهة اندراجه في الدين كالتوحيد والنبّوة والمعاد. والنظري ما يحتاج إلى الفحص والبرهان والشاهد والدليل، ويمكن أن يختلف فيه أرباب المذاهب وأصحاب الاراء. ومنكر الضروري يكفَّر ولا يمكن تكفير منكر النظري.

4 ـ عدم القول في العقيدة بالقياس والاستحسان.

5 ـ الايمان بموافقة صريح المعقول لصحيح المنقول، بشرط مراعاة توفر الاوصاف فيهما، ولا يعامل الظن كالقطع، ولا يؤخذ بالمنقول الضعيف ولا بخبر الواحد مكان الصحيح المتواتر.

6 ـ وجوب الاجتناب عن الاجتهادات وعدم استخدام التعابير التي تعدّ من «البدعة».

7 ـ عصمة الانبياء والائمة الاثني عشر (ع) بالادلّة القطعية، فإذا صحّ عنهم شي‌ء وجب الايمان به، والمجتهد قد يصيب وقد يخطى‌ء، ولكنه إذا راعى شروط الاجتهاد وبذل جهده واستفرغ وسعه فهو معذور.

8 ـ يوجد في الامة من يسمى «مُحدَّثا» و«ملهما»، ومن يرى الرؤيا الصحيحة ويهتدي إلى الحقائق، ولكن كلّ ذلك يحتاج إلى الاثبات، وله مجاله في العقيدة، والعمل لا يعدو عنه بوجه من الوجوه.

9 ـ المناظرة والنقاش في العقيدة إذا كانا بقصد الافهام والتفهم المقترن بالادب والتقوى فهو أمر مرغوب فيه، ولكن على المءر أن لا يقول ما لا يعلم، وإذا وصلا إلى المراء واللّجاج ورافقا المنكرات القولية والخلقية فهو أمر قبيح يجب الاجتناب عنه صونا للعقيدة.

10 ـ «البدعة» ما يخترع باسم الدين دون أن يكون منه، أو يكون له أصل في الشريعة، وقد يسمّى شي‌ء بدعة وليس ببدعة عند الامعان والتدقيق، وقد يسمى أمرٌ سنة وليس الامر كذلك فيجب التثبت أولا ثمّ الافتاء(36) .

11 ـ وجوب التدقيق والتمعّن في «التكفير» وما لم يثبت كفر أحد بإقراره أو بقيام البيّنة عليه بحيث لا يمكن تطرّق شبهة عليه فلا يجوز الحكم بتكفيره، لان التكفير موجب للحدّ الشرعي، والقاعدة في الحد الشرعي: «ان الحدود تدرأ بالشبهات»، وإن التكفير من أعظم الذنوب إلاّ أن يكون بحق(37) .

12 ـ وجوب ردّ الخلافات إلى الكتاب والسنّة والعترة كما أمر به رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) امتثالا لقوله تعالى: (ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الامر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ولولا فضل اللّه عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلاّ قليلا) (النساء / 83).

13 ـ منهجهم في الصفات: أن اللّه عزّ وجلّ حيّ لنفسه لا بحياة وأنّه قادر لنفسه وعالم لنفسه لا بالمعنى الذي ذهب إليه المشبهة من أصحاب الصفات والاحوال المبتدعات، كما أبدعه أبو هاشم الجبائي وفارق به سائر أهل التوحيد وارتكب أشنع من مقال أهل الصفات. وهذا مذهب الامامية كافّة والمعتزلة ـ إلاّ من سمّيناه ـ وأكثر المرجئة وجمهور الزيدية وجماعة من أصحاب الحديث والحكمة(38) ، فهم بذلك بين أهل الاثبات والتعطيل.

14 ـ يعترفون بالحسن والقبح العقليين وأن العقل يدرك حسن بعض الاشياء وقبحها بالضرورة.

تطبيقات لمنهج أهل البيت (ع) في العقيدة

يبرز هذا المنهج عندما يطبق في مباحث العقيدة معلومات واضحة ومعطيات يقينية راقية، وهذه نماذج منها:

في باب التوحيد:

يعطي منهج أهل البيت (ع) في هذا الباب: التنزيه المطلق، عملا بقوله تعالى:

(ليس كمثله شي‌ء وهو السميع البصير) (الشورى / 11).

وكذلك يثبت بها نفي الرؤية البصرية للّه سبحانه وتعالى مطلقا، عملا بقوله تعالى:

(لا تدركه الابصار وهو يدرك الابصار وهو اللطيف الخبير) (الانعام / 103).

وكذلك يبيّن عدم إمكان وصفه تعالى بصفات المخلوقين ومن قبل المخلوقين، عملا بالاية الكريمة:

(سبحانه وتعالى عمّا يصفون) (الانعام / 100).

والاية: (سبحان ربك رب العزة عمّا يصفون) (الزخرف / 82).

في باب العدل:

نتيجة التطبيق العملي لمنهج آل البيت (ع) في العقيدة هي نفي الظلم عن اللّه سبحانه وتعالى وإطلاق العدل عليه، كما قال تعالى: (إنّ اللّه لا يظلم مثقال ذرة) (النساء / 40).

وقال: (إنّ اللّه لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون) (يونس / 44).

في باب النبوة:

منهج آل البيت (ع) في مبحث النبوّة يؤدي إلى القول بعصمة الانبياء مطلقا، عملا بقوله تعالى: (وما كان لنبي أن يُغلَّ ومن يغلل يأت بما غلّ يوم القيامة) (آل عمران / 161).

وقال تعالى: ا(قل إنّي أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم) (الانعام / 15).

وكذلك يعتقدون بعصمتهم في أداء الوحي، عملا بقوله تعالى: (ولو تقول علينا بعض الاقاويل* لاخذنا منه باليمين* ثمّ لقطعنا منه الوتين) (الحاقة / 44 ـ 46).

وكذلك القول بعصمة الملائكة لقوله تعالى: (عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون اللّه ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون) (التحريم / 6).

في باب الامامة:

كذلك يقولون في باب الاملامة بأنها عهد إلهي، ولا يصل إلى غير المعصوم، وذلك في الامامة الكبرى، أي النيابة عن النبي في أمور الدنيا والدين، عملا بقوله تعالى: (وإذا ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إنّي جاعلك للنّاسِ إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين) (البقرة / 124).

وبذلك نصل إلى نتيجة وهي: أن منامات الرسل والانبياء والائمة (ع) صادقة لا تكذب، وأن اللّه تعالى عصمهم عن الخطأ في الاحلام(39) .

وكانت هذه نماذج من التطبيقات لمنهجهم (ع) في العقيدة.

دور العقل في الاستنباط على ضوء منهج أهل البيت (ع) هذا المنهج متوسط بين التطرّف المعتزلي والجمود الظاهري وطريقة أصحاب الحديث.

يقول الشيخ المفيد (ت: 413 هـ):

«ليس يضرّ الامامية في مذهبها الذي وصفناه عدم التواتر في أخبار النصوص على أئمتهم (ع). ولا يمنع الحجّة لهم بها كونها أخبار آحاد، لما اقترن إليها من الدلائل العقلية فيما سميّناه وشرحناه من وجوب الامامة وصفات الائمة (ع) بدلالة أنها لو كانت باطلة على ما توهم الخصوم لبطلت بذلك دلائل العقول الموجبة لورود النصوص على الائمة...»(40) .

ويقول أيضا: «فإني بتوفيق اللّه ومشيئته مثبت في هذا الكتاب ما اُثر إثباته من فرق ما بين الشيعة والمعتزلة، وفصل ما بين العدليّة من الشيعة ومن ذهب إلى العدل من المعتزلة»(41) .

ويقول الشيخ الصدوق، محمد بن بابويه (ت: 381 هـ) «... إنّ اللّه لا يدعو إلى سبب إلاّ بعد أن يصّور في العقول حقائقه، وإذا لم يصوّر ذلك لم تتّسق الدعوة، ولم تثبت الحجّة، وذلك أنّ الاشياء تألف أشكالها وتنبو عن أضدادها، فلو كان في العقل انكار الرسل لما بعث اللّه عزّ وجلّ نبيا قط»(42) .

ويقول أيضا: «القول الصواب في هذا الباب هو أن يقال: عرفنا اللّه باللّه، لانّا إن عرفناه بعقولنا، فهو عزّ وجلّ واهبها، وإن عرفناه بأنبيائه ورسله وحججه (ع) فهو عزّ وجلّ باعثهم ومرسلهم ومتخذهم حججا، وإن عرفناه بأنفسنا فهو عزّ وجلّ محدثها. فبه عرفناه»(43) .

وهذا الاسلوب من استخدام العقل، أي تشفيعه بالثقل وبالائمة المعصومين لانكاد نراه في أيّ منهج إسلامي غير منهج آل البيت (ع).

وفيما يلي نصّ رواية عن صادق آل محمد (ع) في هذا المجال:

قال الصادق (ع): «لولا اللّه ما عُرِفنا، ولولا نحن ما عُرف اللّه»(44) .

ويقول ابن بابويه في شرحه: معناه لولا الحجج ما عرف اللّه حق معرفته، ولولا اللّه ما عرف الحجج(45) .

موقفهم من المناظرات الكلاميّة

مرّ بنا فيما سبق أن هناك اتجاها متطرفا ينهى عن المناقشة والمناظرة والجدل في الدين بتاتا، وهناك منهج معتدل يفصّل ويفرّق بين أقسام المناظرة. إنّ منهج آل البيت (ع) في هذا أيضا منهج وسط، وهو ـ تبعا للكتاب العزيز ـ يُفرّق بين قسمين من الجدال:

1 ـ الجدال الحسن.

2 ـ الجدال القبيح.

يقول تعالى: (أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ظل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين) (النحل / 125).

وفي ذلك يقول الشيخ المفيد:

«وقد أمر الصادقون (ع) جماعة من أشياعهم بالكفّ والامساك عن إظهار الحقّ، والمباطنة والستر له عن أعداء الدين، والمظاهرة لهم بما يزيل الريب عنهم في خلافهم، وكان ذلك هو الاصلح لهم. وأمروا طائفة أخرى من شيعتهم بمكالمة الخصوم ومظاهرتهم ودعائهم إلى الحق، لعلمهم بأنّه لا ضرر عليهم في ذلك»(46) .

والمقصود من الصادقين في كلامه، هم الائمة المنصوصون من العترة النبويّة الذين شهد اللّه بطهارتهم في كتابه، وبرّأهم عن الذنوب والمعاصي بقوله:

(إنما يريد اللّه ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) (الاحزاب / 33).

وأمر الامة بتقوى اللّه وملازمتهم وعدم مفارقتهم في العقيدة والعمل بقوله:

(يا أيها الذين آمنوا اتّقوا اللّه وكونوا مع الصادقين) (التوبة / 119).

وهم الائمة الذين نصّ عليهم رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) وكلّ إمام منهم كان ينصّ على الامام التالي، حتى اثني عشر إماما، وقد جاء التنويه عليهم وعلى عددهم وعلى أوّلهم في السنّة المطهّرة، ومن أرادها فليرجع إلى مظانّها(47) .

وجوب النظر في معرفة اللّه

وممّا يؤكد ملازمة العقل والشرع في منهج أهل البيت (ع) ما جاء عن محمد بن علي بن بابويه (الشيخ الصدوق)، وهذا نصه:

«وأمّا استدلال إبراهيم الخليل (ع) بنظره إلى الزهرة ثمّ إلى القمر ثمّ إلى الشمس وقوله لمّا أفلت: (يا قوم إنّي بري‌ء ممّا تشركون) فانّه (ع) كان نبيّا ملهما مبعوثا مرسلا بإلهام اللّه عزّ وجلّ إيّاه، وذلك قوله عزّ وجلّ: (وتلك حجتتنا آتيناها إبراهيم على قومه)، وليس كلّ أحد كإبراهيم (ع) ولو استغنى في معرفة التوحيد بالنظر عن تعليم اللّه عزّ وجلّ وتعريفه لما أنزل عزّ وجلّ ما أنزل من قوله: (فاعلم أنّه لا إله إلاّ اللّه)(48) .

يقصد ابن بابويه أن العقل لا يستطيع أن يتوصّل إلى معرفة اللّه بصورة تامّة دون مساعدة السمع (الوحي) علما بان هذا لا يعني أن النتائج التي يتوصل إليها العقل فاقدة للاعتبار.

وكذلك الشيخ المفيد يقول بأن العقل محتاج إلى الوحي في مقدّماته ونتائجه(49) . وفي الوقت نفسه يدعم الشيخ المفيد استعمال العقل في فهم العقيدة الاسلامية ويقول: «فامّا النهي عن الكلام في اللّه عزّ وجلّ فانما يختصّ بالنهي عن الكلام في تشبيهه بخلقه وتجويزه في حكمه»(50) .

ويحتج على المخالفين لاستعمال العقل والنظر، ويصفهم بضعف الرأي ويقول: «في العدول عن النظر المصير إلى التقليد المذموم باتفاق الكلمة»(51) .

دور النقل

ذكرنا سابقا أن العقل في منهج آل البيت (ع) على الرغم من دوره البارز في المعرفة الدينيّة، لا يستقلّ بالمعرفة مالم يهتد بنور الوحي، وهذا ما لا ينكره أحد من المذاهب الاسلامية والمدارس الكلاميّة، وإنما الاختلاف في حدود الاعتماد على النقل، لان النقل (المقصود به الحديث هنا لانّ القرآن الكريم منقول بالتواتر) قد يصل إلينا بشكل حديث متواتر، أي مالا يبقى أيّ مجال للشك فيه، لكثرة الناقلين والرواة، بحيث يطمئن الانسان بصدور الحديث عن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أو العترة الطاهرة (ع) أو الصحابة الكرام، وقد لا يصل إلى هذا الحدّ، ويحصل منه ظنّ قوي أو ضعيف، وقد يصل إلى درجة يسمّونه خبر الواحد أي ما رواه شخص واحد وادّعى صدوره راوٍ منفرد، فعند ذلك يحصل منه ظنّ، لا يبتعد عن الشك والجهل كثيرا.

إن منهج أهل البيت (ع)، في هذه الحالة عدم الركون والاعتماد على هذه الرواية، ما لم تنضمّ إليها قرينة ووثيقة تثبت صدقها.

عدم الاعتماد على خبر الواحد في العقيدة

ويشتدّ الاحتياط عندهم حينما يتعلّق الامر بمسائل العقيدة، فأنّها لاهميتها لا يمكن أن يستدلّ لاثباتها بدليل ضعيف وحجّة واهية، خاصّة أن زماننا يبتعد عن زمن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والسلف الصالح بكثير، فعلينا أن نجتهد ونسعى في الاجتناب عن القول بالظن والخرص ونتمسّك باليقينيات أو ما يقاربها حذرا من الوقوع في الفتن والخلافات الجدليّة التي تشكل أكبر خطر على دين الامّة وعلى وحدتها.

وفي ذلك يقول الشيخ المفيد:

«وأقول: إنّه لا يجب العلم ولا العمل بشي‌ء من أخبار الاحاد ولا يجوز لاحد أن يقطع بخبر الواحد في الدين إلاّ أن يقترن به ما يدل على صدق راويه على البيان، وهذا مذهب جمهور الشيعة وكثير من المعتزلة والمحكّمة وطائفة من المرجّئة وهو خلاف لما عليه متفقّهة العامة وأصحاب الرأي»(52) .

وهذا يدلّ على احتياط اتباع آل البيت (ع) في مسائل العقيدة، فإنهم (ع) أمروا أتباعهم بالاحتياط، وقالوا: «أخوك دينك فاحتط لدينك»، وقالوا: «أورع الناس من وقف عند الشبهة».

خاتمة المطاف

وبذلك نصل إلى نهاية جولتنا في منهج آل البيت (ع) في العقيدة الاسلامية فإنّ منهجهم كما تبيّن في الصفحات السابقة منهج متكامل، ولا يَدَع أداة من أدوات المعرفة إلاّ ويستخدمها في مجالها الخاص، فلا يتعدى مثلا بالتجربة إلى مجال المسائل الالهية، وصفات الباري، لانّها خارجة عن متناول هذه الاداة، ولا يجمد على واحدة من هذه الادوات، مثلا على الاشراق الباطني والذوق الصوفي، ولا يغالي في قيمة واحدة منها كالعقل ولا يجازف في كفائتها لادراك جميع الامور بالاستقلال حتى إذا تعلّق الامر بالمغيّبات وتفاصيل المعاد، ولا يدّعي أن النقل (الوحي) يمكن أن يدرك بدون الاستضاءة بنور العقل، وكذلك لا يبادر إلى قبول كلّ ما جاء في صورة رواية وسنّة ونقل، ما دام لم يتحقق من صحّة انتسابه إلى الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أو إلى الصحابة أو الائمة (ع)، وما لم يقارن بينه وبين سائر النصوص الثابتة وبين الكتاب العزيز، ويعرف الخاصّ من العامّ والناسخ من المنسوخ والمحكم من المتشابه والحقيقة من المجاز، وبتمام معنى الكلمة يؤكّد على «الاجتهاد» الذي هو بمعنى بذل الجهد واستفراغ الوسع في فهم المراد الشرعي من النصوص، وأخيرا لا يتحاشى النقد والمناظرة والمناقشة إذا خلت من إثارة لعواطف أو إيقاع لعداوة، بل هو دعوة إلى سبيل الرب، وجدال بالتي هي أحسن، وحكمة وموعظة حسنة، كما قال تعالى:

(والذين آمنوا وعملوا الصالحات لا نكلف نفسا إلاّ وسعها أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون* ونزعنا ما في صدورهم من غل تجري من تحتهم الانهار وقالوا الحمد للّه الذي هدانا لهذا وما كنّا لنهتدي لولا أن هدانا اللّه لقد جاءت رسلُ ربنا بالحق ونودوا أن تلكم الجنة اُورثتموها بما كنتم تعملون) (الاعراف / 42 ـ 43).

____________

(1) سنن الترمذي (11 / 26) ج 1 من تفسير سورة البقرة وسنن أبي داود كتاب السنّة باب 16 ومسند أحمد (4 / 400 و4006) وطبقات ابن سعد ط ـ‍ اروبا (1 ق 1 / 605) واللفظ للترمذي.

(2) طبقات ابن سعد ط ـ اروبا ج 1 / ق 1 / 10.

(3) مروج الذهب (1 / 43).

(4) البحار (59 / 175 ـ 176) نقلا عن تفسير القمّي (583)

(5) الدكتور أحمد محمود صبحي، في علم الكلام: ج 1 المقدمة، ص 46، ط. 5، دار النهضة الحديثة، بيروت 1405 هـ / 1985 م.

(6) مسند أحمد 3 / 178 ـ 196.

(7) ابن هشام، السيرة النبوية 1 / 341 ـ 342، الدكتور محمد حميد اللّه، مجموعة الوثائق السياسية، 1 / 7.

(8) الاشعري، مقالات الاسلاميين، واختلاف المصلين 1 / 34 و39، ابن حزم، الفصل في الملل والاهواء والنحل 2 / 111، أحمد أمين، فجر الاسلام.

(9) الدكتور عبد الحليم محمود، التوحيد الخالص، أو الاسلام والعقل، ص 4 ـ 20.

(10) الصابوني، أبو عثمان اسماعيل، رسالة عقيدة السلف وأصحاب الحديث، (في الرسائل المنيرة).

(11) الامدي، الاحكام في أصول الاحكام 4 / 300.

(12) الشوكاني، ارشاد الفحول، ص 266 ـ 267.

(13) الامام الجويني، الارشاد إلى قواطع الادلة، ص 25؛ الغزالي، إلجام العوام عن علم الكلام، ص 66 ـ 67؛ الدكتور أحمد محمود صبحي، في علم الكلام 1: المقدمة.

(14) ابن تيمية، مجموع الفتاوى 3 / 306 ـ 307.

(15) الدكتور عبد الحليم محمود، التوحيد الخالص، ص 5 ـ 20.

(16) الشيخ المفيد، أوائل المقالات.

(17) السيوطي، صون المنطق والكلام عن علمي المنطق والكلام، ص 252؛ الشوكاني، ارشاد الفحول، ص 202؛ علي سامي النشّار، مناهج البحث عند مفكري الاسلام ص 194 ـ 195؛ علي حسين الجابري، الفكر السلفي عند الثناعشرية، ص 154 و167 و204 و240 و424 و439.

(18) القاسمي، تاريخ الجهمية والمعتزلة، ص 56 ـ 57.

(19) زهدي حسن جار اللّه، المعتزلة، ط 2، بيروت، دار الاهلية للنشر والتوزيع 1974 م.

(20) القاسم الرسي، رسائل العدل والتوحيد ونفي التشبيه عن اللّه الواحد الحميد 1 / 105.

(21) راجع في ذلك المصادر التالية: محمد أبو زهرة، تاريخ المذاهب الاسلامية، قسم الاشاعرة والماتريدية، الشيخ جعفر السبحاني: الملل والنحل، 1، 2، 4، والفرد بل، الفرق الاسلامية في الشمال الافريقي: 118 ـ 130، أحمد محمود صبحي، في علم الكلام1.

(22) السبكي، طبقات الشافعية 3 / 391؛ اليافعي، مرآة الجنان 3 / 343؛ ابن كثير، البداية والنهاية 14 / 76.

(23) إلجام العوام عن علم الكلام ص 66 ـ 67.

(24) الدكتور سليمان دنيا، الحقيقة في نظر الغزالي.

(25) الدكتور أحمد محمود صبحي؛ في علم الكلام 2 / 604 ـ 606.

(26) راجع في ذلك: الشعراني، عبد الوهاب بن أحمد، اليواقيت والجواهر في بيان عقائد الاكابر، وسميح عاطف الزين، الصوفية في نظر الاسلام، ط 3، دار الكتاب اللبناني، 1405 هـ/ 1985 م.

(27) الدكتور عبد الحليم محمود، التوحيد الخالص، أو الاسلام والعقل، المقدمّة.

(28) الدكتور عبد الرزاق نوفل، المسلمون والعلم الحديث. فريد وجدي، الاسلام في عصر العلم.

(29) ترجمة تفسير القرآن 1 / 6 ـ 25.

(30) راجع: محمود شلتوت، تفسير القرآن الكريم، الاجزاء العشر الاولى 11 ـ 14؛ اقبال اللاهوري، إحياء الفكر الديني في الاسلام، مترجم إلى الفارسية بقلم أحمد آرام: 147 ـ 151؛ السيد جمال الدين الاسد آبادي، العروة الوثقى 7 / 383، روما، ايطاليا.

(31) صحيح البخاري، كتاب الجنائز، وكتاب التفسير 30، 1، قدر، 3، صحيح مسلم، كتاب القدر ح 22، 23، 24. وأحمد بن حنبل، المسند 2 / 233، 275،

393، 410، 481، و3 / 353؛ وراجع صراط الحق لاصف محسني.

(32) علي بن طاووس، كشف المحجة لثمرة المهجة: 11 ـ 20، مكتبة الداوري، قم، بدون تاريخ.

(33) الكليني، الكافي 1 / 310، (باب الهداية) و3 / 2 (باب طينة المؤمن والكافر) ط 4، الاسلامية، طهران، 1392 هـ.

(34) نهج البلاغة، الحكمة: 262.

(35) نهج البلاغة، الخطبة: 210.

(36) الشريف المرتضى، علي بن الحسين الموسوي (ت: 436 هـ): رسائل الشريف المرتضى، رسالة الحدود والحقائق.

(37) تكفير القائلين بانّ للّه تعالى صفات كان موصوفا بمفاهيمها وبذلك بالغوا في الاثبات إلى حدّ التشبيه.

(38) الشيخ المفيد، أوائل المقالات: 18.

(39) الشيخ المفيد، أوائل المقالات: 41.

(40) الشيخ المفيد، المسائل الجارودية: 46، طبع المؤتمر العالمي للذكرى الالفية للشيخ المفيد، قم، 1413 هـ.

(41) الشيخ المفيد، أوائل المقالات في المذاهب والمختارات.

(42) ابن بابويه، كمال الدين وتمام النعمة، الطبعة الحجرية، طهران، 1301 هـ.

(43) كتاب التوحيد، ص 290.

(44) المصدر نفسه.

(45) المصدر نفسه.

(46) المفيد، تصحيح الاعتقاد ص 66.

(47) ابن عيّاش الجوهري، مقتضب الاثر في النص على عدد الائمة الاثني عشر، ابن طولون الدمشقي، الشذرات الذهبية في أئمة الاثنا عشرية، المفيد: المسائل الجارودية، ص 45 ـ 46، المؤتمر الالفي لذكرى الشيخ المفيد، قم، 1413 هـ، وراجع: الحر العاملي، محمد بن الحسن، اثبات الهداة بالنصوص والمعجزات، تحقيق أبو طالب تجليل، 1401 هـ.

(48) التوحيد، ص 292. والايات: الانعام / 78 و83 ومحمد / 19.

(49) أوائل المقالات، ص 11 ـ 12.

(50) تصحيح الاعتقاد بصواب الانتقاد، ص 26 ـ 27.

(51) تصحيح الاعتقاد بصواب الانتقاد، ص 28، مطبوع مع أوائل المقالات، تبريز، 1370 هـ.

(52) أوائل المقالات في المذاهب والمختارات، ص 100، تبريز، ايران، 1370 ش.